احدث المواضيع

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

جينالوجيا التوتاليتارية

تقديم:

يحتل كتاب "أسس التوتاليتارية" منزلة متميزة في متن" حنا أرندت"لاعتبارات عديدة نذكر منها:

ـ يبدو هذا المؤلف متكاملا من حيث تناوله لحظة أساسية وحاسمة في تاريخ أوربا المعاصر، وكل المؤلفات الأخرى لأرندت تنهل قضاياها أو جزء منها من هذا المؤلف. فالدراسة التحليلية التي أولتها "أرندت" لتجربة التوتاليتارية التي أفرزها التطور السياسي والتاريخي لأوروبا ما بين نهاية الحربين العالميتين أصبحت مرجعا أساسيا بالنسبة لأغلب الأبحاث والدراسات في الفكر السياسي المعاصر.

ـ لعل الشهرة التي تمتعت بها "حنا أرندت" وإن كانت محصورة في دائرة نخبة مثقفة، تعود في مجملها إلى هذا المؤلف الذي اعتبر دراسة على قدر كبير من الفطنة والحياد عن المؤثرات الوجدانية والإيديولوجية.

على أساس هذه الاعتبارات وجدنا أنفسنا ملزمين في بحث الفكر السياسي لحنا أرندت بضرورة اعتبار هذا الكتاب مدخلا أساسيا لاستجلاء أهم تصوراتها ومفاهيمها المركزية، لكونه أخضع بجرأة فائقة لحظة حرجة من تاريخ أوروبا والعالم لتركيز تأملي انطلاقا من كم هائل من الوثائق والشهادات التاريخية قصد إبراز العوامل والكيفيات والبنيات التي تحكمت في ميلاد ظاهرة التوتاليتارية وتطورها كمنتوج خاص بالقرن العشرين.

تميزت الفترة التي أمضتها أرندت في كتابة مؤلفها الذي تطلب منها حوالي خمس سنوات، أربع سنوات، بعد سقوط النازية في ألمانيا وأربع سنوات قبل وفاة ستالين بالاتحاد السوفياتي، هي أول فترة اتسمت بالهدوء النسبي بعد حقبة طويلة مليئة بالصخب والتوثر والخوف (1). لم يتح لجيل "حنا أرندت" أن يفكر بهدوء في مسار هذه الأحداث المروعة التي طبعت مسار حياة أوروبا على وجه الخصوص ، فلا يزال الخوف يجثم على النفوس، وكأن لا أحد اقتنع بعد أن ما وقع أصبح في طي الماضي، والعواطف لا تزال ملتهبة جراء مشاعر الألم والحقد والخجل(2).

إن هذا الجيل الذي تمثله "أرندت" كتب عليه أن يعيش هول هذه الأحداث دون أن يكون من حقه حينها أن يفكر فيها أو يناقشها، نظرا لما أشاعته الأنظمة التوتاليتارية من ممارسات قهرية منظمة لأجل قتل كل حيوية فكرية أو اجتماعية في الإنسان الأوربي (3).

يكون كتاب "أرندت" "أسس التوتاليتارية" في ظل تلك الظروف المشحونة عملا استيعاديا لتلك الأحداث ليس بعين المتأمل الترانسندنتالي للتاريخ وإنما بعين المؤرخة أو المنظرة السياسية(4). وهذه الدعوى التي تصرح بها" أرندت" في مقدمة كتابها ليست في الواقع مجرد زعم أو فرض نظري فقط، بل إن متابعة الكتاب بتأن تجعلنا نكتشف أن هذه السيدة اليهودية والمثقفة المؤمنة بالحرية والعدالة تحلل وتبحث المآسي التي عاشها اليهود والمثقفون ضمن عموم الشعوب التي خضعت للطغيان الكلياني النازي والبولشفي، بنوع من برودة الأعصاب وحياد الذهن، لأجل أن تقدم نتائج في مستوى الشروط العلمية التي راجت في بداية القرن العشرين.

إلى جانب الحياد كانت "أرندت" حريصة علىأن تنطلق دراستها من الوثائق والشهادات التاريخية التي تم الإفراج عنها بعد انهيار النازية الألمانية، وبعض الوثائق التي سربها المعارضون الشيوعيون في روسيا، وهذا الكم الكبير من المعطيات تطلب منها قسطا وافرا من الوقت والجهد قصد إعادة بناء الأحداث في تسلسلها الكرونولوجي وتقاطعها العلائقي (5). وإن كانت "أرندت" تهدف تقديم نظرية تفسيرية للظاهرة التوتاليتارية في مطلع القرن العشرين، إلا أنها ركزت في واقع الأمر على تجربتي ألمانيا وروسيا لكون أن الوثائق المتوفرة تتيح فقط بحث هذين النموذجين باعتبارهما القطبين الرئيسين للحركة التوتاليتارية. وعلى الرغم من أن ا الشيوعية الصينية والفاشية الإيطالية مع موسوليني كانتا تندرجان في خانة الأنظمة التوتاليتارية إلا أنهما لم تحضا باهتمام بارز من طرف أرندت لاعتبارين: الأول، هو ندرة الوثائق التي تخص الحزب الشيوعي الصيني الذي بدا في نظرها كبنية متراصة بدون مداخل ومخارج، فلم يكتب للمعارضين الصينيين أن غادروا البلاد ولم يكتب للمخبرين الغربيين أن اخترقوا المجتمع الصيني ولا الحزب الشيوعي(6). الثاني، أن هذه الأنظمة وإن كانت تدور في فلك التوتاليتارية النازية بالنسبة للفاشية الإيطالية و فلك التوتاليتارية البلشفية بالنسبة للشيوعية الصينية فإنها مع ذلك لم تصل إلى مستوى الطغيان الكامل أو الشر الجذري الذي بلغته التوتاليتارية النازية والشيوعية السوفيتية. فالنظام الصيني كان يعتمد ديكتاتورية الحزب الوحيد كما هو شأن روسيا وألمانيا لكنه مع ذلك لم يقترف مجازر عبثية وبحجم عدد الضحايا الذي خلفته وراءها الآلة الهتلرية والتسالينية(7).

تظهر مورفولوجية كتاب "أسس التوتاليتارية" أن مسعى أرندت العلمي محكوم بطموح كبير في الكشف عن العوامل التي ساهمت في تبلور التوتاليتارية النازية والبولشفية. إذ أنها عمدت إلى تقسيم تاريخ هذه الدينامية إلى مرحلتين:

1ـ مرحلة الحركة وهي الفترة التي كانت فيها النزعات التوتاليتارية مجرد حركات في المشهد السياسي الأوروبي الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث نلفي أرندت تبحث عن المعطيات الوجدانية والإيديولوجية التي عملت هذه الحركات على استثمارها في تهيئة الجماهير بواسطة الدعاية الإيديولوجية. كما نلاحظ النباهة في التحليل التي قادت أرندت إلى التمييز في إطار النشاط الدعائي بين الدعاية في مرحلة الحركة وفي المرحلة اللاحقة عليها.

2ـ مرحلة السلطة والمرتبطة بالاستيلاء على مقاليد الحكم، ويسعنا أن نلاحظ هنا مع "أرندت" أن آليات العمل والتنظيم والفعل ستعرف انقلابا جذريا، لتتجه أساسا نحو خيانة كل القواعد التي رسختها المرحلة الأولى. أما الفصل الأخير من الكتاب فهو مخصص لبحث طبيعة البنية الإرهابية وكل بنيات العنف السياسي والاجتماعي كركائز تستند عليها الإيديولوجيا التوتاليتارية.(8)

1 – الحملة الدعائية :

تمثل الحملة الدعائية أهمية خاصة في استراتيجية الحركات التوتاليتارية قبل أن تستحوذ على السلطة، حيث تكون مطالبة بأن تستثمر نفس الأدوات كما هو شأن الأحزاب و الحركات التي تحضر في المشهد السياسي للدولة القائمة، و حالما تصل الحركة إلى السلطة و أن تتوفر لها الشروط الكافية للانتقال إلى النظام التوتاليتاري يتم استبدال الدعاية بالتلقين الإيديولوجي و الإرهاب.

من الصعب جدا في نظر " حنا أرندت" فك الارتباطات القوية بين الحملة الدعائية التوتاليتارية و عمليات الإرهاب المنظم، و إن كانت هذه الحركات تسعى عبر الحملة الدعائية توسيع وعاء قاعدتها فهي لا تراهن بشكل كبير على آليات الإقناع و إثبات مزاعمها. سرعان ما يتدخل العنف الممنهج ليعطي لهذه الحملة الدعائية مفعولا قويا أو ليحل محلها.

ما هي مرتكزات الحملة الدعائية التوتاليتارية ؟ و كيف يتحول الإرهاب إلى بديل دعائي؟

تتوجه الحملة الدعائية التوتاليتارية في نظر"أردنت" نحو الجماهير أو النخبة و إلى العالم الخارجي. فيما يتعلق بالمجال الداخلي الوطني لا تستهدف الحملة الدعائية مجموع الرعاع لأن هذه الكتلة الديموغرافية الخام ليست في حاجة لأي إقناع أو دلائل نظرية. لقد أدركت الحركات التوتاليتارية كما بيناه في الفصل السابق، أن الرعاع جموع بشرية تعيش حالة من البؤس الاجتماعي و الاقتصادي، و قد فقدت كل أمل في تغيير أوضاعها، فلم يتبق لها سوى الاعتقاد في بعض الأعمال الأسطورية القائمة على التدمير و التخريب. كانت تستهدف الحملة الدعائية بالدرجة الأولى الجماهير المحايدة التي ظلت متحفظة بشأن العمل السياسي أو تلك التي كانت تتعاطف مع بعض الأحزاب. تحتاج هذه الفئات إلى تصورات تميل إلى الاطلاقية تكون فيها أحداث التاريخ منظمة و مرتهنة بقوى كبرى مرتبطة بسلسلة قدرية.

أما الحملات الدعائية الموجهة نحو الخارج كانت تقصد دوما تقديم صورة عن الحركة للجماهير في الدول المجاورة على وجه الخصوص، باعتبارها مشروعا ثوريا علميا قادرا على حل مشاكل المستضعفين و اليائسين، لاسيما و أن الحركة التوتاليتارية تطمح دوما نحو التوسع و بسط نفوذها على العالم، فإن الحملات الدعائية الخارجية تسهل مهمتها الإمبريالية، إذ تكون الجماهير خارج الحدود مهيأة لتقبل سلطة هذه القوى التوتاليتارية.

استندت ممارسة الإرهاب المنظم على خلفية إيديولوجية تبرر عمليات التصفية التي تلحق الأفراد قبل وصول الحركة إلى السلطة و تلحق الجماعات أيضا حينما تستولي على السلطة. كانت النازية توظف مقولة " قوانين الطبيعة" كأساس يجب أن تنتظم وفقه الحياة لكي تبلغ الكمال المطلوب: " كلما ازددنا معرفة في قوانين الطبيعة و الحياة و تتبعناها... ازددنا امتثالا لإرادة الكلي. و كلما رقينا في معرفة إرادة الكلي-القدرة، تعاظمت نجاحاتنا".

يستهدف هذا الاهتمام بالعلوم في صياغة المشروع الإيديولوجي تقديم صورة حداثية عن هذه الحركات من جهة مواكبتها لتطور علوم العصر، و من جهة ثانية إقناع الناس برؤيتها كحقيقة عملية مضمونة النتائج. و الواقع إن "العلموية" التي تتسم بها الحملة الدعائية الجماهيرية باتت في حكم التداول العالمي في السياسة المعاصرة: إذ يمكن اعتبارها علامة على انتشار التمييز العلمي الذي تخلق به العالم الغربي مند انطلاقة العلوم في القرن السادس عشر.

هكذا تصبح التوتاليتارية مرحلة أخيرة في تاريخ تطور العلم حيث يتحول إلى إيديولوجية شاملة تعد الناس بحل مشاكلهم و إضفاء الانسجام على حياتهم الاجتماعية و على علاقتهم بالطبيعة و الكون.

لكن هذا الادعاء العلموي يفتقد لأدلة واقعية تسند صدقيته، فالحركات التوتاليتارية تجنبت أي نقاش ممكن لإيديولوجيتها سواء عن طريق نهج الإرهاب أو جعل الناس ينصاعون لرؤيتها بالخوف أو عن طريق الادعاء بأن رؤيتها مخالفة تماما لمعطيات الواقع الحاضر و بالتالي فإن المستقبل هو الوحيد الذي يكفل صدق مشروعها.

كانت الحركات التوتاليتارية تقدم مشروع رؤيتها كنبوءة تتجاوز قدرات الفهم العادي أو العلمـي، و هي وحدها تمتلك فك ألغاز الحياة و التحكم في مسار تطورها نحو الكمال. تستجيب هــذه « العلموية النبوية" لحاجات الجماهيرالتي فقدت كل تعلق لها بواقعها المتردي و فقدت الأمل في المستقبل. و حدها هذه الإيديولوجية النبوية هي التي يمكن أن تحمل هذا الإنسان الغارق في العدمية و البؤس على أن يستعيد بعض الأمل و الثقة في الذات عن طريق الانخراط في خضم هذه الحركة الثورية دونما تساؤل حول الضمانات الموضوعية و الواقعية لهذه المزاعم.

فالجماهير لا تقتنع بالوقائع طالما أن الواقع المزري الذي تعيش فيه لا يمتلك أي قيمة مرجعية، بل إن تماسك الحركة التوتاليتارية و الانسجام الداخلي الذي يطبع مزاعمها يقويان تعلق الجماهير بمشروعها و يقضي على كل صلة لها بالواقع. ذلك أن الجماهير "المقتلعة" إذ تدخل إلى هذا العالم " الطوباوي" بمحض مخيلتها تستشعر فيه الآمان و تجد نفسها في منأى عن الضربات التي تكيلها لها و لآمالها الحياة الواقعية و الاختبارات الحقيقية.

أهم توهم في نظر " حنا أردنت" في الحملة الدعائية النازية هو ادعاء وجود مؤامرة يهودية عالمية تكون ألمانيا ضحيتها الأولى و العالم بأسره في نهاية المطاف، فراح النازيون يبحثون عن مبررات وهمية أحيانا أو باصطناع تأويل تعسفي لبعض الوقائع بالعودة إلى كتاب " بروتوكولات صهيون". جعلت هذه المبررات الجماهير تطمئن إلى أن أولى الأمم التي اتضحت لها لعبة اليهودي و قاتلته، سوف تحتل مكانه في سيادة العالم. مكن هذا الوهم الجماهير من اكتشاف شكل جديد للهوية و الفعالية التاريخية، حيث أن ادعاء النازيين بأن العرق الآري يسمو عن باقي الأعراق الأخرى ولد في نفوس الرعاع و الجماهير على حد سواء متعة الانتماء إلى هذه الهوية العرقية، و قوى لدى الناس غريزة التوحد. و من جهة ثانية انصرف كل واحد من الألمان إلى البحث عن طهارة نسبه من كل لوثة يهودية.

حينها اكتشف كل فرد تائه و تافه و بلا جذور في ظل الوضع القائم وسيلة تعريف ذاتي من شأنها أن ترمم احترامه لنفسه و لو بصورة جزئية و أن تمنحه الأمان الهستيري.

و في روسيا استطاع ستالين أن يخلق ادعاءا وهميا أقرب في درجته إلى الوهم النازي بوجود مؤامرة يهودية: ادعى ستالين بوجود مؤامرة "تروتسكية" للاستحواذ على السلطة، و قد نجح في إقناع الجماهير من خلال اصطناع تأويل لبعض المعطيات الواقعية.

و بفضل تعميمات وهمية مثل هذه تمكنت الحركات التوتاليتارية من خلق عالم توهمي متماسك و إيجابي ينافس العالم الواقعي الفوضوي و يصعب إثبات بطلانه، و طالما أن الجماهير استمسكت بهذه الأوهام أصبح من الممكن تبرير كل الأعمال الإجرامية مهما كانت درجات عنفها تتجاوز حدود العقل. هكذا شرع هتلر إبادة اليهود و ستالين في تصفية التروتسكيين.

2 – التنظيم التوتاليتاري:

يشكل التنظيم التوتاليتاري البنية الداخلية للحركة بعد توليتها السلطة و في نفس الوقت الهيئة الخارجية التي تبتدئ من خلالها للعالم الخارجي. فالحركة تسعى إلى تنظيم ذاتها على شاكلة جهاز دولة يقنع الأفراد بانتمائهم إلى جسم عقلاني و منظم يضمن لهم السبل الواقعية و الإجرائية لتحقيق مصالحهم التي طالما حلموا بها. و من جهة ثانية، فإن هذا التنظيم يضفي الشرعية على الحركة و يمنحها نوعا من الوقار في نظر العالم الخارجي. تميز " حنا أرندت" في التنظيم التوتاليتاري بين ثلاثة استراتيجيات أساسية :

1 - خلق تنظيمات الواجهة . 2 - خلق التشكيلات الموازية . 3 - التماهي بين الزعيم والتنظيم.

1 – 2 تنظيمات الواجهة :

يتعلق هذا المستوى الأول بعقلنة الصفوف الداخلية للحركة بعد استكمال مشروع الدعاية الذي وفر للحركة جيشا من المتعاطفين و المناضلين، فهذه الجموع تحتاج إلى تنظيم من جهة مواقعها ووظائفها داخل الحركة. كان هتلر أول من أعلن أن كل حركة ينبغي لها أن تقسم الجماهير إلى فئتين " المتعاطفين" و "المنتسبين" حيث أن الأقلية هي التي تكون ملتزمة بمبادئ الحركة و مستعدة للنضال من اجلها في حين أن الأكثرية على درجة من الكسل

و الخوف. لم يكن يخفى على هتلر أن الحركة النازية بلغت من العظمة الجماهيرية التي لم تتحقق لأي حركة سابقة ، و في نفس الوقت كان يدرك أن غالبية المتعاطفين و المنتسبين منضوون في الحركة لدافع الخوف و طلبا للأمن و السلامة. يمكن أن نميز داخل الحركة بين ثلاثة فئات من المنتسبين:

- المنتسب العادي الذي يحتفظ بكل علاقاته بالعالم الخارجي منها العلاقات المهنية و الاجتماعية التي لم تكن قد خضعت كليا لانتمائه للحزب.

- العضو المناضل يتماها بصورة مطلقة مع الحركة و يفقد الصلة مـع العالـم الخارجــي والواقعي، إذ ليس لهذا العضو أية مهنة و لا حياة خاصة يمكن أن تكون مستقلة عن الحركة.

- المتعاطف و هو منتسب بالقوة للحركة و يؤمن بأطروحتها لكنه لا يملك أي ارتباط تنظيمي مباشر معها.

تقوم هذه التشكيلات الثلاثة بوظيفة عزل إزاء العالم الخارجي و تخفيف الصدمة في حال التعارض معه، فالتشكيلات تحيط بعضها ببعض كغشاء حماية. توجد فئة المناضلين كنواة تحيط بها فئة المنتسبين و تحيط بهما فئة المتعاطفين. هذه البنية من شأنها أن تقلص تأثيرات العالم الخارجي على أعضاء الحركة ترسخ في اعتقادهم التقسيم الثنائي للعالم: حيث ينقسم العالم إلى الحركة و ما ليس بالحركة، و على أساس هذا التقسيم يكون من الواجب على المناضلين و المنتسبين تجريم العالم و مقاتلته بلا هوادة.

غير أن هذه التشكيلات ليست ثابتة، فهي قابلة للاستنساخ إلى ما لا نهاية و تسمح بإدخال شرائع جديدة و تحديد درجات جديدة من النضالية. على ذلك يمكن اختصار تاريخ الحزب النازي كله في تأريخ للتشكيلات الجديدة داخل الحزب، كانت فصائل الهجوم (S.A) التي أنشئت عام 1922 أولى التشكيلات النازية التي كان يجدر بها أن تكون أكثر نضالية من الحزب نفسه. و في العام 1926 أنشئت فرق الحماية و المراتب (S.S) باعتبارها تشكيلات تضم في صفوفها نخبة فرق الهجوم السالفة. و بعد ذلك بثلاث سنوات انفصلت فرق الحماية و المراتب عن فرق الهجوم ووضعت تحت قيادة " هتلر"، و لم يتوان هذا الأخير في تكرار عملية التبديل داخل فرق المخابرات نفسها.

و راحت تتوالد بصورة متوالية تنظيمات كانت كل منها أكثر نضالية من سابقتها: أول الأمر كانت فرق " الصدم" ثم وحدات" طليعة الموت" ( وحدات الحرس في معسكرات الاعتقال) و التي اندمجت فيما بعد لتشكل فرق الحماية و المراتب (S.S) المسلحـة، و في آخر المطاف جهاز الأمن ( جهاز المخابرات الإيديولوجي للحزب النازي) و ذراعه المدنية ( جهاز المخابرات من أجل سياسة السكان السلبية ) و المكتب الخاص بمسائل العرق و الأعمار.

تسمح هذه التراتبية المائعة باستمرار بإعادة ترتيب الحركة و المنتسبين لها و الصلاحيات المفوضة باستمرار. فكل فريق جديد يعني إقصاء فريق آخر إلى الخلف، ليس لاعتبار التقصير في المهام و إنما للحيلولة دون تركيز السلطة زمانيا و سيكولوجيا في يد فئة معينة. كما يسمح هذا التبديل المستمر بخلق تنظيمات أكثر تطرفا تزايد على بعضها البعض في الولاء للحركة و تنفيذ مبادئها.

2 -2 ) التشكيلات الموازية :

لم يعمد النازيون حين بلغوا السلطة لحل الإدارات القائمة أو إلغائها بل اعتمدوا خطة تدريجية لإفراغها من محتواها عن طريق إنشاء تشكيلات من المصالح الإدارية الموازية. حيث أنهم أدركوا خطورة إلغاء هذه الإدارات على الحركة ذاتها، لأن الفراغ الإداري الذي ستسببه من شأنه أن يعمم الاضطراب و الفوضى في التدبير، يقلل من شأن الحركة اجتماعيا و وظيفيا. كما إن استمرار هذه الإدارات في أداء مهامها و لو شكليا سيسمح لأعضاء الحركة بامتلاك خبرة إدارية و تدبيرية من خلال الاحتكاك و الانتساب إليها.

أنشأ النازيون من هذا المنطلق وزارات بديلة مثل وزارة الشؤون الخارجية، و وزارة الثقافة و الرياضة... ولم يكن لهذه الوزارات أية قيمة مهنية تذكر سوى أنها تشكيلات بديلة أو انتقالية تسمح بتلغيم نشاط المؤسسات القديمة في أفق تدميرها حينما يستدعي الأمر ذلك.

إلى جانب خلق تشكيلات إدارية موازية اهتم النازيون بخلق تشكيلات مهنية موازية لتنظيمات المعلمين و الأطباء و المحامين تضم أعضاء ينتمون للحركة. و أمكنهم بذلك فيما بعد تصفية كل المنتسبين للتنظيمات القديمة باعتبارهم يشكلون خطرا على الحركة، أو يمثلون " العدو الموضوعي" كما شاع في الحركة البلشفية الروسية.

3-2) الزعيم التوتاليتاري:

تقدم حنا أردنت مفهوم " الزعيم التوتاليتاري" كحالة تاريخية فريدة لم يسبق أن أفرزها التاريخ السياسي الأوروبي و الإنساني عامة، حتى و اكتشفنا بعض المواصفات المشتركة بين ستالين و هتلر من جهة و بعض القادة الديكتاتوريين الذين برزوا في نفس الفترة التاريخية في أوربا مثل الجنرال " فرانكو" بأسبانيا أو" موسوليني" بإيطاليا أو غيرهم. فإن الزعيم التوتاليتاري ينفرد بكونه دفع بزعامته إلى أقصى الحدود ليبتلع في ذاته كل بنيات الدولة والصلاحيات و القوانين و المسؤولية. يكون الزعيم في مركز الحركة التوتاليتارية القائد المحرك الأول الذي يحرك البنية كلها دون أن يكون متحركا.

يقوم المبدأ الأساسي المنظم لأخلاقيات الحركة التوتاليتارية أن الزعيم هو عاصم الحركة من الانهيار و ضامن رشدها و نجاحها. يكون القائد محاطا بدائرة من المريدين ينشرون من حوله هالة من الأسرار العصيبة على النفاذ، على أن المهارة الأساسية التي يتعين على القائد احترافها بإتقان هي نسج الدسائس بين أعضاء نخبته و تبديل أفراد القيادة باستمرار حتى يدفعهم بلا انقطاع نحو بدل المزيد من الولاء و الجهد لضمان رضاه و استحسانه.

تكمن السمة الثانية للقائد في التماهي الكلي بالتنظيم إذ يتبنى كل الأعمال و الإساءات التي يرتكبها أي موظف من قبيل الاغتيالات و الوشايات حتى يتبدى لكل موظف أنه امتداد للزعيم و تجسيد له في أرض الواقع. و الحال من هذا الشعور الوجداني الغريب يدفع أبسط الموظفين نحو المزيد من الإساءات لأجل تنمية رصيدهم الوهمي و الهستيري من عطف القائد.

تشكل خاصية التماهي المطلق بالتنظيم ميزة فارقة للزعيم التوتاليتاري عن القائد المستبد أو الديكتاتوري، فالمستبد شأنه شأن الديكتاتوري يحافظ على مساحة فاصلة بينه و بين مأموريه و لا يتبن مطلقا أعمالهم حتى يعتمدهم أكباش فداء حينما يكون الحكم موضع انتقاد أو استهجان من طرف الشعب أو بعض القوى الداخلية أو الخارجية. أما القائد التوتاليتاري فلا يسمح مطلقا أن يكون موظفوه موضوع لوم أو انتقاد طالما أنهم يعملون تحت رعايته و إمرته، و النتيجة الأساسية لهذا التبني المطلق هي ألا تكون لأحد مسؤولية على أفعاله انطلاقا من ذاته.

لا تكون علاقة الزعيم بأعضاء الحركة على نفس الدرجة و بنفس الكيفية، فأعضاء بطانة الزعيم حتى و إن كانوا يظهرون الولاء التام له مثل بقية الأفراد الآخرين إلا أنهم يدركون في قرار أنفسهم مدى فساد قراراته وطيش إرادته و زيف أقواله، لكنهم يكرسون في نفس الوقت مقولة " الزعيم دوما على حق"،لما فيها من مصلحة لهم و للتنظيم الذي يحتلون فيه موقعا. كما إن إمكانية التشكيك في أفكار الزعيم أو معارضة قراراته تعني مباشرة تعريض التنظيم ككل لفوضى المعارضة و التي تقود حتما إلى الإعدام. في حين أن فئات المتعاطفين و الجماهير و المنتسبين هي التي كانت تثق بالزعيم و تقدس أفكاره و أفعاله، هي وحدها التي صدقت هتلر حين أقسم بيمينه الشهيرة بأن يحترم الشرعية أمام المحكمة العليا في جمهورية " ويمار" لحظة توليه السلطة، بينما كان المقربون، من أعضاء الحركة، يدركون انه يكذب لكنهم مجدوا قدراته الخارقة على خداع الجميع.

يتحول الزعيم التوتاليتاري في تماهيه بالتنظيم ككل إلى قوة خارقة و فريدة غير قابلة للخلافة والتعويض، كما أن الولاء للقائد هو الولاء إلى التنظيم. على عكس الأنظمة الديكتاتورية و الاستبدادية حيث يكون القائد يقوم بوظيفة صورية إزاء وظائف الأجهزة التنظيمية، كما يمكن خلافته أو قلب نظامه، في حين يبلغ الزعيم التوتاليتاري من "الكاريزمية" شأنا يجعل كل الأتباع لا يتصورون موته أو وجود شخص بشري مماثل له، و حتى و إن تصوروا فإنهم يتصوروا الخراب الذي سيلحقهم من جراء ذلك.

تربط"حنا أردنت" الاعتماد على الإرهاب في علاقته بالحملة الدعائية بحجم الحركة التوتاليتارية: فكلما كانت الحركة ضعيفة أو صغيرة زاد اهتمامها بالدعاية و الاستقطاب عن طريق الخطاب،أما حينما تتقوى الحركة لا تعود الدعاية ذات أثر فعال و لا تتماشى مع منطق الحركة حيث يتضاءل الاهتمام بالإقناع و النقاش و تقديم الأدلة و الحجج للرد على الخصوم و استقطاب عناصر جديدة. إذا بلغت سيادة الإرهاب حدها الأمثل تلاشت الحملة الدعائية،في حالة النازية تبين أن كان أكثر فعالية لما أصبح شأن الحركة النازية أكبر من كل الأحزاب الأخرى، اقتنع الجميع أنه من المفيد جدا للفرد أن ينتسب إلى الحركة حتى يضمن أمنه و سلامة حياته. عمل النازيون على ترسيخ هذا الخوف في نفوس الجماهير عن طريق الاعتراف العلني و جرأتهم و إصرارهم على تصفية كل المخالفين لتوجهات حركتهم الثورية، فالقاعدة التي اعتمدها النازيون تقول: "من هو ليس معنا فهو ضدنا"جعلت كل فرد موضوع إرهاب محتمل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق