(((باروخ سبينوزا)))
..ولد سبينوزا عام 1632 في مدينة امستردام بهولندا، وذلك في عائلة يهوديةمهاجرة من البرتغال، وقد التجأت عائلته وعائلات اخرى عديدة الى هولندا لان الاضطهادالمسيحي لليهود كان شديدا في اسبانيا والبرتغال في ذلك العصر.. وهولندا كانت اكثرالبلدان الاوروبية ليبرالية وتسامحا مع الاديان الاخرى غير المسيحية. ولذلك سمحواللجالية اليهودية في امستردام بأن يكون لها كنيسها ومدارسها الخاصة، وكذلك طقوسهاوشعائرها. وقد تربى سبينوزا داخل التراث اليهودي، ودرس التوراة باللغة الاصلية، ايبالعبرانية، بل وكانوا يحضرونه لكي يصبح حاخاما! وما كانوا يعرفون انه سوف ينقلبعلى كل ذلك لاحقا ويعتنق الفلسفة دينا.. والواقع انه كان نجيبا ومطيعا لرجال الدينفي البداية، وكان يتردد على الكنيس لاداء الصلوات مع بقية ابناء طائفته. ثم درسالفلسفة اليهودية في القرون الوسطى، وبخاصة كتب الفيلسوف اليهودي العربي: ابنميمون. في الواقع ان فضوله المعرفي كان كبيرا. وكان متوقعا ان يقوده عاجلا، او اجلاالى الخروج على التراث اليهودي الذي ارادوا حبسه فيه كما تفعل كل الطوائف والاديانمع ابنائها. فحاخامات اليهود ما كانوا يقلون تزمتا او تشددا عن رهابنة المسيحيين فياسبانيا! ولكن ما كان بامكان الطائفة اليهودية ان تنغلق على نفسها كليا في مدينةكامستردام، فالتأثيرات الخارجية كانت حتما ستدخل اليها بشكل، او بآخر. نقول ذلكوبخاصة ان هولندا كانت تعج بالطوائف والمذاهب آنذاك. وكانت الدولة تمنح جميعالاديان حرية كبيرة. صحيح ان المذهب الرسمي المسيطر كان هو المذهب المسيحيالبروتستانتي على طريقة كالفان. ولكن المذهب المسيحي العادي، اي الكاثوليكيالروماني، كان مسموحا به ايضا، وكانت كنائسه مفتوحة ويمارس طقوسه وشعائره في وضحالنهار. وهذه الحرية المذهبية كانت مستحيلة في فرنسا آنذاك. فالمذهب الكاثوليكيالمهيمن كان يقمع المذهب البروتستانتي ويعاقب اتباعه ويلاحقهم في كل مكان وهنا كانيكمن الفرق بين المملكة الفرنسية المستبدة والاصولية، وهولندا الليبرالية ولكن كانتفي هولندا اديان اخرى ومذاهب مختلفة غير اليهودية والكاثوليكيين الرومانيينالتابعين للبابا. فقد كانت توجد مذاهب بروتستانتية اخرى غير المذهب الكالفانيالمسيطر. كان هناك المذهب اللوثري، والمذهب السوسيني نسبة الى القديس سوسين (1525 ـ 1562)، وهو مصلح بروتستانتي وصل به الامر الى حد انكار التثليث والوهية المسيح، وهومن اكثر المذاهب عقلانية في المسيحية. وكان هناك افراد شيعة الصاحبيين الذيناختزلوا الدين الى جوهره: اي السلام، والبساطة، وحب البشر ايا يكونون... وكانت هناكمذاهب بروتستانتية اخرى. وكلها كانت تتعايش بشكل او باخر داخل الدولة الهولندية. هذه التعددية الدينية والمذهبية ساهمت في التخفيف من حدة الدوغمائية الدينيةالاحادية التي توجد عادة في البلدان ذات المذهب الواحد او الدين الواحد الذي يفرضنفسه كحقيقة مطلقة بالتالي. ومن بين الاسباب التي ساهمت في التحرير الفكري لسبينوزاتردده على مدرسة مسيحية في مدينة امستردام. ويقال انه وقع في حب ابنة مدير المدرسةولكنهم رفضوا تزويجها له، فاخذها منافسه اللوثري الذي كان اغنى منه والذي اعتنقمذهبها الكاثوليكي وتخلى عن عقيدته البروتستانتية لكي يحظى بها فمذهب الحبيبة هوالاجمل! وفي هذه المدرسة تعلم سبينوزا اللغة اللاتينية، لغة العلم في ذلك الزمان. واتاح له ذلك ان يطلع على مؤلفات الفلاسفة المحدثين من امثال فرانسيس بيكون (1561 ـ 1626)، وتوماس هوبز (1588 ـ 1679)، ورينيه ديكارت (1596 ـ 1650، ومعلوم ان انصارالفلسفة الديكارتية وخصومها كانوا يخوضون معارك حامية مع بعضهم بعضا في ذلك الزمان. وكانت هولندا مركزا للمناظرات الفلسفية الاكثر خصوبة. ان تعلم سبينوزا اللغةاللاتينية ساعده على الخروج من تراثه اللاهوتي الضيق وفتح له ابواب العلم والفلسفةالحديثة على مصراعيها. ولكن تردده على البيئات الفلسفية جعله يبدو مشبوها في نظرالكنيس اليهودي والطائفة بشكل عام. ومعلوم ان الطائفة اليهودية كلها كانت تتحلق حولالكنيس الذي يجمعها ويحافظ على تماسكها ووحدتها. كما ويحافظ على نقل الايمانالتقليدي من الجيل القديم الى الجيل الجديد. وسبينوزا اصبح تردده على الكنيس قليلابسبب انشغاله بالمسائل الفلسفية. وكلما اوغل في الفلسفة اكثر ابتعد عن الدين اكثر. وهذا ما اقلق زعماء الطائفة الذين وجهوا له عدة انذارات قبل تكفيره وفصله. ويبدو انهذا التكفير لم يزعجه كثيرا. بل رأى فيه وسيلة تحرير لكي يتخلص من الارثوذكسيةالدينية، ولكي ينطلق حرا من اجل البحث عن الحقيقة بامكانياته الخاصة وحدها. بعد اناطلقوا الفتوى اللاهوتية بتكفيره عام 1656 فقد حقه في الارث العائلي، بل اصبحتاقامته مستحيلة في امستردام نتيجة تواطؤ زعماء المسيحية مع زعماء اليهود في المدينةعلى عزله وطرده. ويبدو انه واجه صعوبات مادية انذاك، فتعلم مهنة صقل النظارات،ولكنه لم يعش منها على حد قول كارل ياسبرز. وانما عاش على المساعدات الشخصية التياتته من بعض الاصدقاء الاغنياء. وفي عام 1660 هاجر الى قرية بضواحي «لايدين» وقبلهاكان قد عاش اربع سنوات في ضواحي امستردام ذاتها.. وكانت مركزا للمسيحيينالليبراليين الذين احتضنوه ورحبوا به بعد ان توسموا فيه العبقرية. وكانوا يشكلوناكثر فئات المسيحية تحررا في ذلك الزمان. فكانوا ينكرون العقائد والطقوس ويمارسونالتدين الداخلي الحر القائم فقط على الفكر، والاخلاق، والروحانية الصافية.. وكان منالطبيعي ان ينسجم معهم سبينوزا ويعتبرهم اقرب الناس اليه. وبقي هناك حتى عام 1663،تاريخ نشر اول كتاب له. وهو الكتاب الوحيد الذي يحمل اسمه، وكان بعنوان «مبادئفلسفة رينيه ديكارت». وكان نشر هذا الكتاب في مدينة امستردام السبب في شهرته. فحتىذلك الوقت لم يكن معروفا الا من قبل حلقة ضيقة من الاصدقاء. وفي عام 1663 غادرضواحي «لايدين» لكي يستقر في ضواحي لاهاي، عاصمة هولندا في ذلك الزمان او مقرحكومتها على الاقل. وعندئذ دخل في علاقات ومراسلات مع عالم الفيزياء الكبير هويجين،ومع شخص يدعى اولدينبرغ، سكرتير الجمعية الملكية البريطانية ومع الاوساط السياسية. عندئذ تعرف على زعيم الحزب الليبرالي وحاكم هولندا «جان دوفيت» الذي صرف له مرتباشهريا لكي يستطيع مواصلة بحوثه وتأملاته الفلسفية. وفي ذلك الوقت توقف، مؤقتا، عنمواصلة تأليف كتابه الاساسي «الاخلاق»، لكي يكرس نفسه لكتابات اكثر انخراطا فيالمعمعة السياسية. وعندئذ اصدر كتابه الشهير «مقالة في اللاهوت السياسي»، بدونتوقيع ومع اسم مزور للناشر.. ولكي يحمي نفسه من الاعتداءات والملاحقات فانه غيرسكنه وجاء الى لاهاي حيث كان يسكن صديقه الكبير جان دوفيت، رئيس الحكومة في ذلكالزمان. لكن قتل هذا الاخير مع اخيه في وسط الشارع من قبل الغوغائية المتعصبة افقدسبينوزا صوابه، وكانت نكسة كبيرة بالنسبة له. وبعدئذ ازداد عزلة وانكفاء على نفسهفكرس جهوده كلها لاكمال كتاب «الاخلاق» ووضع اللمسات الاخيرة على فلسفته. ولذلك رفضعرضا مغريا من قبل احد امراء الالمان من اجل التدريس في جامعة هايدلبرغ، وفضل انيعيش حياة الزهد والكفاف. وعلى الرغم من انهم وعدوه باكبر قدر ممكن من الحرية فيالقاء دروسه الا انه قال لهم: ليس للحرية الفلسفية حدود، فاما ان نفكر بكل حرية،واما الا نفكر ابدا.. وفي عام 1675 ذهب الى امستردام من اجل طبع كتاب «الاخلاق». ولكن عندما سمع بان تحالف اللاهوتيين يستعد لاطلاق فتوى ضده بتهمة الالحاد، سحبالكتاب من المطبعة. وفي عام 1677 مات سبينوزا في يوم احد بعد الظهر بمرض السلالرئوي الذي كان مصابا به منذ زمن طويل. ولم يكن عمره يتجاوز خمسة واربعين عاما،ومع ذلك فقد سجله التاريخ كاحد كبار الفلاسفة على مر العصور. فالساعة التي يعيشهاسبينوزا تساوي سنة بالنسبة للاخرين، او كما يقول الشاعر هنري ميشو: في كل ثانيةمحيط من القرون..! وبعد موته بخمسين سنة كتب احد اللاهوتيين المسيحيين العبارةالتالية لكي توضع كشاهدة على الضريح: هنا يرقد سبينوزا. ابصقوا على قبره!.. فيالواقع ان رجال الدين لم يغفروا له كتابه: «مقالة في اللاهوت السياسي». فقد وصفهاحدهم على النحو التالي: انه الكتاب الاشد كفرا في التاريخ! فالمؤلف يستهزئ فيهبالرسل والحواريين. وفي رأيه انه لم تحصل ابدا معجزات، ومن المستحيل ان تحصل. فهناكنظام صارم في الطبيعة لا يفلت منه احد. في الواقع ان سبينوزا كان فضيحة العصر، ولمير فيه معاصروه، الا ملحدا مقنَّعا. وظل فضيحة العصور اللاحقة حتى بعد مائتي سنة منوفاته. نقول ذلك على الرغم من ان كلمة «الله» لم تستخدم في اي كتاب فلسفي بنفسالكثرة والتكرار مثلما استخدمت في كتاب «الاخلاق»! ولكن الهولنديين فهموا بعدئذقيمته وراحوا يرفعون له تمثالا في اشهر ساحاتهم العامة بالقرب من البيت الذي كانيسكنه في سنواته الاخيرة. ويرى البروفيسور جوزيف مورو الذي استفدنا كثيرا من كتابهفي تحضير هذه النبذة التاريخية، ان ارنست رينان وجه اليه ثناء حارا في خطاب التدشينللتمثال وكان قد دعي اليه مع حشد كبير من العلماء والمفكرين وختم خطابه بالكلماتالتالية: ربما لم ير احد الله عن كثب مثلما رؤي هنا من قبل سبينوزا!! فهذا الشخصالذي اتهموه بالالحاد كان حتما اقرب الى الله، اي الى الحقيقة ـ من معظم رجال الدينفي عصره.. وكان في استقامته، ونزاهته، وزهده في الحياة، مثلا اعلى على الفكرالفلسفي. ان عبارة رينان رائعة وموفقة جدا ضمن مقياس ان مشكلة الله كانت الشغلالشاغل لسبينوزا. صحيح انه قدم عنها تصورا مخالفا لتصور اللاهوت التقليدي، ولكنهتصور جدير بالتمعن والتأمل. يضاف الى ذلك ان دفاع الفيلسوف عن حرية الفكر والتعبيروالمعتقد، ودعوته لفصل الدين ورجالاته عن السياسة، وتمجيده للعقل والفكر الفلسفي،كلها اشياء سوف تصبح لاحقا احد المكتسبات الاساسية للحداثةالاوروبية
وهو أكثر بكثير مما ورد هنا ..
لأنه فيلسوف منكبار الفلاسفة العظماء
فيلسوف بحجم كانت وديكارت وهيغل ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق