عبد المنعم الشقيري
تبرز أهمية السوسيولوجيا الدينية، داخل التراث الفيبري، في ارتكازها على نقطتين أساسيتين:
1- اعتبار كل ممارسة مُحفَّزة، عبر العوامل السحرية أو الدينية، هي ممارسة نحو العالم الأرضي وليست كما درجت عليه السوسيولوجيا الكلاسيكية، بأنها تختص فقط بالعالم الماورائي.
2- النقطة الثانية والتي نعتبرها ذات أهمية، تخصنا في هذا الموضوع، وهي القطيعة التي أحدثها فيبر من خلال رفضه لتعريف الديني باللاعقلاني(1). إذ يعتبر طرق كبح الشهوات، أو مناهج الزهد السحري أو التأملي في أشكاله المتناسقة كاليوجا والبوذية، أي كل أنواع الأخلاق العملية ذات الصبغة النسقية في توجهها نحو أهداف الخلاص، هي عقلانية(2).
وهذا مخالف للسوسيولوجيا الكلاسيكية بصفة عامة، نخص بالذكر كونت/دوركايم.
على هذا الأساس انطلق فيبر Weber من رؤية مركزية، مفادها أن المسيحية الغربية كانت مؤهلة لعملية العقلنة. إذ يقول: "ليس من قبيل الصدفة كون المسيحية الغربية قد استطاعت أن تبني لاهوتها بشكل منهجي أكثر، وبطريقة معاكسة لعناصر اللاهوت الذي نجده عند اليهودية. بل إنها أعطته تطورا ذا معنى تاريخي... فاللاهوت هو "عقلنة" فكرية للإلهام الديني"(3). ذلك أنه بالوقوف على السوسيولوجيا الدينية الفيبرية، وبالضبط الدين المسيحي، يمكننا فهم منطق العقلنة الدينية وتحليلاتها. وقد أكد هذه الأطروحة مارسيل كوشي Gauchet حينما اعتبر أنه لا يمكن كتابة التاريخ الحقيقي للعقل الغربي إلا من خلال ومن زاوية التحول البنيوي الذي وقع، والمتمثل في ظهور وخضوع كلية الكائن لمبدأ واحد منظم في تعارضه مع المنطق المتعدد للأسطورة(4). إنه يرهن الوقوف على طبيعة العقل الغربي، انطلاقا من الفهم الحقيقي للتحولات التي وقعت داخل الرؤى الدينية. لذلك لا نستغرب إذا قادنا هذا التوجه وهذا التطور إلى المعادلة التالية، وهي اعتبار العقلنة الدينية إحدى العناصر المساهمة في بروز الحداثة الغربية.
ما هي إذا هذه العقلنة التي عرفها الفكر الديني الغربي؟ وما هي خصائصها؟ وما هي المفاهيم التي ارتبطت بها؟
كيف ستصبح رؤية العالم مع هذه العقلنة الدينية؟
كيف يمكن الوقوف من خلال هذه العقلنة على التاريخ الحقيقي للعقل الغربي؟
لكن قبل الإجابة على هذه الأسئلة نود طرح السؤال التالي:
ما هي طبيعة السلوك الديني داخل التصور الفيبري؟
يجيبنا فيبر بأن السلوك الديني هو الذي ينظم العلاقة بين الوجود الإنساني والقوى فوق الطبيعية. فكل الديانات بما في ذلك السحر تعتقد في وجود عالم فوق طبيعي، أي خلف هذا العالم المرئي. كما أن أول بديهيات هذا الاعتقاد، هو التمييز الذي يضعه الفاعلون بين القوى العادية، والقوى الخارقة، متمثلة في الأشياء والأشخاص. إذ أن مصدر هذا التمييز هو اتصاف هذه العناصر الأخيرة بالقوة والعظمة، وعليه يصبح السلوك الديني هو "سلوك الإنسان إزاء هذه القوى فوق الطبيعية، ومادامت تستعصي على المعاينة، فقد انساق الإنسان إلى خلق مجموعة من الرموز للاتصال بها، وتصورها وفهم عملها بالفعل"(5). بل إن فيبر يرى أن الحوافز العملية وراء هذه السلوكات، والممارسات الدينية، هو التأثير على القوى الخارقة، وذلك من أجل الحصول على مكاسب مادية ومعنوية، مستنتجا أن الأفعال والسلوكات الدينية والسحرية، وإن كانت ترتكز على افتراض تأثير الفعل الإنساني على هذه القوى فوق الطبيعية. فإنها لا تمارس هذا التأثير إلا إذا اتخذت خاصية العبادة، أي إذا كانت تعطي معنى لذاتها"(6).
ما هي طبيعة العقلنة التي عرفها الفكر الديني؟
قبل الإجابة عن هذا التساؤل، لابد من تحديد نظري لإحدى المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها هذه العقلنة الدينية. إنه مفهوم التخلي عن الآليات السحرية للخلاص، أو ما يسمى بالفرنسية Désenchantement du monde المرادفة Entzauberung der Welt باللغة الألمانية الفيبرية، وهو مفهوم فيبري استقاه من ماكس شيلر. إذ تجمع جل الدراسات على معنى "التخلي عن الآليات السحرية للخلاص". فنجد فيبر يؤكد ذلك حين يقول: "استطاع الورع الديني أن يتموقع داخل العالم كأداة الإله بقطعه الصلة مع كل الوسائل السحرية للخلاص. لقد تم الانتقال من "وسيلة سحرية" إلى "وسيلة عقلانية"(7). نجد كذلك مارسيل كوشي يعرف Désenchantement بإقصاء السحر من حيث كونه "تقنية للخلاص"(8).
لقد عرف إذا هذا المفهوم الفيبري تحولات دلالية كبرى مرافقة للتغيرات التي عرفها الفكر الديني ذاته والتي يمكن إجمالها في أربع مراحل أساسية:
المرحلة الأولى: حيث لعب السحر دورا مهيمنا على الحياة الاجتماعية مشكلا إحدى عوائق عملية العقلنة. يكفي أن نذكر المثال الذي يطرحه فيبر: العوائق التي واجهتها عملية بناء المصانع في الصين القديمة، باعتبار أن بناء الطرق ورسم الخطوط يخرق قواعد ضرب الرمل. مع إقرار فيبر بالتقاء التوحيد مع اليهودية، حيث لعبت في نظر فيبر دورا حاسما في نقل التوحيد ومعاداتها للسحر إلى المسيحية التي تعتبر مهدا للديانة العقلانية.
المرحلة الثانية: حيث أعطى فيبر أهمية للاتجاهات النبوية الكبرى العقلانية داخل سيرورة تحطيم السحر عبر فرضها شكلا من عقلنة السلوك ورؤية العالم والإله.
المرحلة الثالثة: عملية عقلنة الدين واستبعاد السحر. تم التعبير عنها، عبر الوحدة النسقية لعلاقات الإله بالعالم. وتمثل البروتستانية الزهدية الدرجة الأسمى في هذا التعبير، يقول فيبر: "لقد قام الطهري بلفظ الحقل الديني وتركه على جنبات القبر، لقد دفن أقرباءه بدون غناء ولا موسيقى، حتى لا تظهر من جديد أية شعوذة أو فعالية لممارسات الخلاص السحرية المقدسة"(9).
إلى حدود هذه المرحلة الثالثة يمكن القول إن مفهوم Désenchantement المرادف للعبارة الألمانية Enzauberung der Welt يسير في أفق التخلي عن كل ما هو سحري، سواء كرؤية للعالم أو كطقوس وممارسات هذا التحول وهذا الإقصاء للآليات السحرية الذي وجد أوجه في الأخلاق البروتستانية. فعوض الاعتماد على السحر في تحصيل الخلاص، أرضيا كان (التطهر، الصحة، رفع الألم...) أو أخرويا (ضمان السعادة الأبدية)، فالشحنة الدلالية التي يحملها المفهوم Entzauberung هي شحنة دينية، تحيل إلى تلك النقلة من اللامعقول السحري إلى المعقول الديني، والذي ساهمت فيه ثلاث عناصر، الديانة اليهودية عبر مفهوم التوحيد، ديانة النبوة عبر الرؤية العقلانية والأخلاق البروتستانية عبر نسقية الحياة مع توظيف وسائل عقلانية ذاتية للخلاص. نفس التصور نجده عند كاترين كوليو حيث ترى أنه للخروج من التباسات هذا المفهوم فإنه يقتضي تحديد مجال استعمالاته والمعاني المواكبة. فقد ظهر انطلاقا من كتاب الأخلاق البروتستانية وروح الرأسمالية سنة 1905 حيث استخدم للدلالة على استبعاد السحر كتقنية للخلاص. وقد تم هذا الاستبعاد مع التساوق لمسيرة علمية، حدد فيبر بدايتها بالعصر اليهودي القديم، ونهايتها بظهور الفرق الطهرية الكلفينية والتقوية(10).
في حين تم توظيف نفس المصطلح في النصوص الموضوعة بين 1913 و1919 بحيث أصبح يكتسي معنى أكثر عمومية. إنه يشير إلى احتقار كل ما هو ديني على التمثلات العامة التي يتبناها الناس في عالم وجودهم(11).
أصبح يدل مفهوم Désenchantement على قدرة العلم على الإحاطة بالقوانين ومعرفتها، يقول فيبر في هذا الصدد: "بقدر ما تتقدم العقلنة والفهم العلمي بقدر ما ينفك السحر عن العالم ويفقد المعنى السحري. إن حوادث العالم تجري وتحدث لكن دون أن تعني شيئا"(12).
إننا بصدد تحول المصطلح، وهي المرحلة الأخيرة من سيرورة تحول مفهوم "التخلي عن الآليات السحرية للخلاص". فقد تم تخويل الصلاحية للعلم ولعملية العقلنة مهمة الاستمرار في تعرية العالم. وقد غبر عنها فيبر في كتابه العالم والسياسي كالتالي: "إن عملية العقلنة المتزايدة، تعني الإثبات لأنفسنا مبدئيا عدم وجود أي قوة غامضة لا يمكن التنبؤ بها تتدخل في مسار حياتنا، وباختصار إن باستطاعتنا "السيطرة" على كل شيء بالدراسة المسبقة... هذا هو مغزى الفكرنة أو العقلنة"(13).
على هذا الأساس، ما سنوظفه في هذا الموضوع، هو الدلالة الدينية لمفهوم Entzauberung der Welt. إنه عبور من رؤية أسطورية سحرية إلى رؤية مبنية على تصورات دينية عقلانية، بل إن هذه الأخيرة ستنحو اتجاه التحقيق داخل مسارات الحياة في إطار العقلنة الاقتصادية، السياسية، القانونية. لكن قبل الوصول إلى هذه التحققات العلمية، كيف حدثت القطيعة بين رؤية العالم السحرية ورؤية العالم الدينية الجديدة؟
عقلنة رؤية العالم بين السحر والدين:
ربما هناك اتفاق بين فيبر ودوركايم على أن الكاريزمية تشكل أحد أنماط الديانات البدائية، حيث مثلت الشكل الأولي، والذي على أساسه ستتطور الديانات بشكل معقد. يقول فيبر في هذا السياق: "لا يتصف بالكاريزمية السحرية إلا أولئك الذين لديهم حرفة الساحر المحترف على عكس الإنسان العادي "الدنيوي" بالمعنى السحري للكلمة"(14). فالكاريزمية هي قوة لا تختلف عن المانا Mana التي هي أصل الخصائص الكاريزمية.
يرى فيبر أنه باستطاعتنا أن نميز انطلاقا من وعينا ورؤيتنا الحديثة، وبشكل موضوعي، بين إسناد سببي صحيح عن وتلك الإسنادات الخاطئة، وتلك التي تحيل إلى ما هو عقلاني بما في ذلك الأفعال السحرية -كمثال ليست كل حجرة تستطيع أن تمثل موضوعا فيتشيا. كما أنه ليس لكل شخص القدرة على تحصيل وتحقيق حالة الوجد والإنخطاف والتي ينظر إليها من منظور بدائي كشروط مسبقة لإنتاج تأثيرات في الطقس أو إحداث علاج أو تنجيم. إذ يلزم كلا من الحجرة أو الشخص تمتعهم بقوى خارقة، والتي تعطاها أسماء خاصة مثل المانا Mana/ أراندا Aranda/ ماكا Maga الإيرانية، والتي اشتق منها مصطلح Magic بحيث يجمعهما فيبر في مفهوم واحد ألا وهو الكاريزم(15). ذلك أن هناك روحا Spirit تسكن في الأشياء والنبات وكل موضوعات الطبيعة والأحياء، بحيث تعطيها قوة خارقة وتمنحها قوة خاصة، تجعل الساحر قادرا على استحضار الأرواح ونقلها من موضوع لآخر.
مهد مفهوم الروح Spirit، في نظر فيبر، للانتقال إلى النزعة الإحيائية كمرحلة ثانية، حيث الانتقال بالسحر إلى درجة من التجريد. فقد أصبحنا أمام كائنات حية من أشجار ونباتات تدب فيها الروح ولها قوانينها غير المرئية الخاصة بها. لذلك بدأ بالانتقال إلى مستوى المرحلة الإحيائية Animist يتبلور مفهوم أساسي هو عالم (فوق حسي) Suprasensible، إنه يتحكم في مصير الناس بنفس الطريقة التي يؤثر بها إنسان على الرمزي من أجل الإمساك بتلك الأرواح بل والواصل معها.
يرى فيبر أن الرمزية تمثل أوج الفكر الأسطوري داخل المرحلة السحرية. هذا إذا لم تخف تطور الفكر الديني في علاقته بالتحولات الخارجية، وعلى رأسها البعد السياسي، ودوره في ظهور مجمع الأرباب Panthéon الذي يرمز إلى مرحلة تعدد الآلهة. خصوصا حينما أصبح الموضوع الديني يكتسي صبغة نسقية من حيث علاقة الآلهة بمفهوم الاستقرار، واتخاذهم الصبغة الرمزية التصنيفية للقبائل التي ينتمون إليها. يقول فيبر في هذا السياق: "لقد عمل تطور الآلهة المحليين على توطيد وترسيخ الخصوصية السياسية داخل المجمع السياسي Polis"(16). أصبح عالم السحر على وشك الانهيار بظهور قوة متحركة غير سحرية. لقد أصبح الإله بمثابة سيد كبير لا نستطيع أن نتقرب إليه إلا بواسطة الرجاء والهدايا، وليس بإكراهه كما هو الحال بالنسبة للطرق السحرية.
عوض الاحتياج إلى توحيد الإله كأعلى قوة، علاقة الإنسان بالطقوس السحرية، حيث أصبحت العبادة والصلاة هي الأداة ووسيلة الارتباط بكل ما هو غيبي أي ما فوق طبيعي. وهو ما يشكل نقلة أساسية للدخول في العالم الديني. فإذا كان العالم السحري يقتضي الإكراه، فإن العالم الديني يقتضي الصلاة والقربان والتعبد، كما أن موضوع الصلاة والعبادة هم الآلهة عكس الشياطين والأرواح التي تكره عبر السحر(17).
ومع ذلك يرى بورديو Bourdieu أن هذا التسلسل التاريخي يخفي وجود مصالح خاصة، تلعب دورها داخل حقل الممارسة الدينية، وهي مصالح محددة عبر شروط وجود الفاعلين الدينيين. من ثم هناك علاقة بين الاحتياجات الدينية وشروط تعبيرها عبر السند الديني وفعل المحترفين الدينيين: "فالمصالح السحرية تختلف عن طبيعة المصالح الكامنة خلف الممارسة الدينية الخالصة، كونها تامة ومباشرة، أي بدون وسائط، كذلك كونها تحدث داخل التراتب الاجتماعي، وهي مرتبطة أساسا بالطبقات الاجتماعية الشعبية، وبالخصوص الفلاحين، حيث هناك علاقة متينة مع الطبيعة رهينة بسيرورة عضوية، وأحداث طبيعية. كما أن اقتصادها أقل ميلا نحو النسقية العقلانية"(18). في الوقت الذي نجد ارتباط الدين والممارسة الدينية الخالصة بالبورجوازية، خصوصا وأن عملها يتعارض مع الخاصية الموسمية المشجعة على الممارسة السحرية. فهي تقيم علاقة تطابق بين الوسائل والغايات، النجاح والفشل.
يسجل كوشي Gauchet في هذه الوثبة من السحري إلى الديني، خاصيتين أساسيتين، ستحددان فيما بعد خصوصية العقل الغربي وهما: موضوعية العالم: إذ عوض تذويب الأشياء، فقد تم فرز ما هو مرتبط بالطبيعة وممتد لها وإدخالها في عالم الموضوعية، عما هو منتم إلى عالم فوق الطبيعة بحيثياته.
هكذا أصبح بالإمكان استكناه العالم وتفهمه في شموليته، بل والغوص في تمفصلاته الأكثر حميمية(19). إنه تعبير عن عقلنة الغيب أمام موضعة العالم.
الخاصية الثانية: الذاتية والتفرد: ذلك أن عقلنة الإله جعلت العلاقة مع هذه القوة العليا من جهة مباشرة ومن جهة أخرى مسألة داخلية تخص الفرد ذاته وليست مسألة جماعية.
الديانة النبوية وعقلنة رؤية العالم
يعتبر فيبر أن تجربة التخلي عن التقنيات السحرية للخلاص قد صاحبت ظهور النزعة النبوية خصوصا بعد أن تجمدت صيغ وأشكال الحياة، التقليدية في قوالب سحرية، بحيث لم تعد الضوابط السحرية قادرة على تزويد الحياة، من ثم برزت أهمية النزعة النبوية(20). فالنبي هو فرد حامل لكاريزم شخصي أو لصفة كاريزمية، متمثلة في مذهب ديني أو أوامر إلاهية. فهناك النبي النموذجي Examplary prophet وهو ذلك الشخص الذي يظهر ويوضح الطريق التي ينبغي اتباعها، والتي تقود نحو الخلاص. أما النبي الأخلاقي Ethical prophet هو ذلك الشخص الذي يعتبر ذاته كأداة الإله. فهو يعلن أنه ذو مهمة إلهية عليا تتطلب الطاعة من خلال الوصايا التي يحملها. فنمطا النبوة هذان لهما خصائص تتمثل في كونها تبعث على رؤية متناغمة للعالم والتي تحيل إلى المعنى والاتساق. فلم تعد الأشياء توجد ببساطة بل بفضل افتراض وجود علاقة تربطها بما فوق الطبيعة. إذ تدل وتؤشر على أشياء أخرى. لهذا أصبحت الأحداث الاجتماعية والكونية تستقبل كجزء لا يتجزأ من وحدة متناسقة متجهة نحو السلوك الإنساني.
- تكمن قيمة الديانة النبوية في ارتباطها بمفهوم "المذهب". وهو أساس تطور أخلاق نسقية دينية متناغمة ثابتة تقدم كـ"وحي" على شاكلة الإسلام في تمايزه عن الوثنية.
فالمذهب يحمل صفتين أساسيتين: أولاهما اتخاذه لطابع عقلاني منطقي من حيث الإقرار بوحدانية الإله مقابل التعدد، ثانيهما إمكانية استقلاليته في تأويل الوحي والنصوص المقدسة، علما بأن من بين مهام الديانة النبوية هو دعوتها للتوحيد كمعقول ديني أمام لا معقولية تعدد القوى فوق الطبيعية. وهذا يقودنا إلى مفهوم التوحيد كما عرفته ديانة النبوة.
- يرجع هذا التدرج والانتقال من تعدد الآلهة إلى الميل نحو إله عالمي، يهيمن على هذا المجمع Pantheon بفعل تشكل الإمبراطوريات العالمية كالفرس، الرومان، الفراعنة... من جهة ثانية التقاء التوحيد مع عبادة يهودا Yahweh. فالتوحيد العالمي للمسيحية، مرتبط تاريخيا بتطور اليهودية"(21).
إن السر وراء هذا التوحيد وإثبات عظمة إله واحد قابل للعقلنة لدليل على قدرة الإنسان على التحرر والتخلص من التبعية المجسمة التي كانت ترسمها كل أشكال الطقوس البدائية السحرية، وكأن هناك قانونا لتحرر الإنسانية عبر تأكيد إنسان متعالي مستقل عن كل المقتضيات المادية، عبر عنه كوشي Gauchet بالمعادلة التالية: "بقدر ما تكون الآلهة عظيمة، بقدر ما يتحرر الإنسان"(22).
الديانة النبوية والمشكل اللاهوتي:
ينقلنا مفهوم التوحيد، الذي دعت إليه الديانة النبوية، أو عملت على تكريسه، إلى إثارة مجموعة من القضايا ستمثل تحديا للديانات النبوية. إذ بالإجابة عنها، تكون الديانة النبوية قد ساهمت مرة أخرى في عملية العقلنة الدينية لهذه القضايا التي تدخل في إطار ما عرف باللاهوت Problem of theodicy(23). يقول فيبر في هذا السياق: "بقدر ما تتطور عملية تسامي تصور إله موحد كوني وفوق دنيوي، بقدر ما تطرح المسألة التالية: كيف تتصالح عظمة الإله وكماله مع عيوب ونواقص هذا العالم المخلوق"(24). هكذا يطرح فيبر المشكل اللاهوتي والذي يختزله في سؤالين:
- لماذا خلق الله الكون والعالم مادام الإنسان معرضا للألم؟
- إذا كان ثمة إله واحد خالق الناس والكون، لماذا هذا الشر؟
تكمن إذن إجابات الديانة النبوية على المشكل اللاهوتي، في كونها موقعت الإله فيما وراء المقتضيات الأخلاقية لمخلوقاته. فأوامره وقوانينه غير قابلة للفهم الإنساني. كما أن عظمته وقوته بدون حدود. ولذلك يستحيل تطبيق المعايير الإنسانية للعدالة على سلوكه. بذلك تم إلغاء المشكل اللاهوتي كما هو.
لقد وظفت الديانة النبوية ثلاثة مفاهيم مركزية: مفهوم العناية الإلهية، مفهوم الجزاء ومفهوم القدر، حاسمة بذلك العلاقة اللاعقلانية التي تربط الإله بالوجود، والتي أثارها لمشكل اللاهوتي.
على هذا الأساس اقترن الخروج من الإشكال اللاهوتي بتحرير عالم الإنسان، عبر إبعاده عن عالم الإله. إذ لكل خصوصيته ومقاييسه. لقد حدث نوع من الاستقلالية الموضوعية لنفس العالم، مع تعليق معناه من كل ذاتية إلاهية عبر عنها كوشي Gauchet بأن إقامة المسافة مع الإله جعلت العالم قابل للمعقولية يقول: "إن موضوعية العالم هي الخلاصة النهائية للافتراق عن الإله، حيث تحرير الإنسان وتشكله كذات عارفة ومستقلة عن العقل الإلهي"(25).
أصبحت ديانة النبوة بإيجاباتها على هذه الإشكالات اللاهوتية، تحث الدين والأخلاق على إيجاد حلول مناسبة عبر نشاطات معقلنة ومبررة من طرف العقل. بخلاف هذا المنهج الفيبري، يرى بورديو، أنه عوض التركيز فقط على متن الخطاب النبوي وعلى نجاح العلاقة التواصلية بين النبي وأتباعه ودرجة التأثير عليهم كمصدر من مصادر العقلنة الدينية، يرى بورديو أن سر نجاح هذه العلاقة يرجع أساسا إلى شروط اجتماعية، مستعيرا أطروحة Marcel Mauss، والتي مضمونها أن نجاح أي خطاب نبوي رهين بمرحلة التحولات المورفولوجية والاقتصادية، المحددة للانهيار والأفول واضمحلال التقاليد وأنساق القيم التي تمد بمبادئ رؤية العالم، فالمجاعات والحروب مثلا تؤدي إلى صعود الأنبياء(26). بل إن الدعوة النبوية هي صنيع المجتمع ومرآته لكونها تختزل صورته ومعناه، فالتقاء النبي مع المجتمع ليس إلا تعبيرا عن الدليل Signe الذي مثله دوسوسير بالورقة النقدية أي التحام الدال النبي بالمدلول المجتمع. إذ أن أي تمزيق في الدال (النبي) يؤدي إلى تمزيق المدلول (هيئة المجتمع وبنيته). وهي أطروحة تخالف التصور الفيبري الذي يرى أن الدعوة النبوية ليست من إنتاج المجتمع بدرجة كبيرة، بقدر ما تحتفظ لنفسها بخصائص داخلية تتعالى عليه وقد تتقاسم معه مفهوم "الاحتياج الديني" وهو مفهوم سيكولوجي بالأساس وليس اجتماعيا.
علاقة رؤية العالم بالمصالح المادية والمعنوية:
تخفي هذه المصالح المادية والمعنوية، محاولة التفكير الديني طريقة تعامله مع الكون والإله بشكل نسقي ومعقول. فرؤية العالم مخلوقة عبر أفكار، ومحددة بفعل دينامية المصالح والتي أرجها فيبر في مفهوم مركزي وأساسي وهو "الاحتياج الديني"، وهو ظاهرة سيكولوجية توجد مع الإنسان. صحيح أنها قد تخضع للمؤثرات الاجتماعية والخارجية، لكنها تظل متفردة كظاهرة إنسانية. يقول فيبر في هذا الشأن: "ليست المصلحة داخل الحقل الديني انعكاسا لوضعية اجتماعية أو لشريحة ما، كإيديولوجيا أو انعكاس مصالح مادية أو أخلاقية"(27). بهذا فالمصلحة تنفلت لكل تحديد اجتماعي أو وضعية أو مكانة. فليس هناك تمايز بين (المصلحة والرؤية)، فالأسئلة التي تطرح من قبيل:
- كيف يمكن النجاة؟
- كيف يمكن التخلص من تعفن الروح؟
- كيف يمكن تحقيق جمالية أخلاقية وجسدية ووجود روحي؟
- كيف يمكن التحرر من عبودية الشر الأصيل والخطيئة؟
شكلت الإجابة عن هذه الأسئلة نتائج، تمثلت في عقلنة الكون بعد إفراغ العالم من خاصيته السحرية. وأن طريق الخلاص لا يعني الهروب من هذا العالم، ولكن تنميطه: "سيكون المتدين مطالبا بإعطاء براهين وحجج أمام الإله. وهي في الحقيقة أمام ذاته عبر الخاصية الأخلاقية لفعله ونشاطه داخل مختلف دوائر العالم"(28).
مثال الكنيسة
أصبح التدين ذا صبغة فردية أخلاقية، باعثا على عقلنة وبشكل عام كل السلوكات اليومية. تجلى هذا بشكل واضح في الورع الديني Riligion virtuos. وهو ما جعل الطهري يسوي حياته بطريقة مستقلة، اتباعا لأخلاق معينة، بدون المرور من طرف تجويز العفو عبر سلطة القديسين، أو من طرف رحمة كاريزمية متمثلة في سلطة الكنيسة، كما عبر عن ذلك هابرماس Habermas، بدون أن يقسم أو يوزع حياته بين ميدان مرتبط بالمقدس وباقي المجالات. إنها إرهاصات الممارسة اللائكية على حد تعبيره أو ما سماه بالحدث L’événement(29) حيث يصبح الفرد مستقلا بشؤونه الدينية.
يزداد الأمر وضوحا حينما نعلم مع فيبر أنه تم استبدال هذه الكنائس بالطوائف التي ستقوم باستقبال هؤلاء الطهريين، وهي بمثابة تجمع طوعي إرادي لا يعتمد على سلطة خارجة عنه.
البروتستانية والرؤية الدينية العقلانية
لابد من الإشارة قبل التطرق إلى طبيعة المذهب البروتستاني المتمثل في الرؤية الدينية الكالفينية إلى خصوصية الإصلاح Reforme. يرى پول وليام Paul William أن الإصلاح قد مهد الطريق بشكل مباشر للعلمانية، لثلاث أسباب رئيسية:
الأولى: نزع الصبغة الإكليروسية عن المسيحية مع المساهمة في إضعاف السلطة الاجتماعية للإكليروس الكنسية.
الثانية: نزع الصبغة القدسية عن السلة الدينية، الأمر الذي سهل نزع الصبغة القدسية عن السلطة السياسية وجعلها ذات صبغة دهرية Sécularisation.
الثالثة: تم تأكيد الحقوق للفرد، وإعطاء مشروعية للتعددية والمساهمة في الاعتراف بحرية الوعي والفصل بين الكنيسة والدولة(30).
نلاحظ التقاء هذا المسار النقدي الداخلي مع تصورات أحد رواد النزعة الإنسانية إيرازم Erasme في كتابه الموجز الصغير لاستعمال المناضل المسيحي (1503) حيث يدعو العلمانيين إلى تقوى داخلي موسوم بالصفات الأخلاقية والشخصية للمسيح، لذلك لا نستغرب أن تأخذ كلمة لائكي Laïc دلالة إيجابية، بعدما كانت تحيل إلى دلالة الجاهل في العصر الوسيط.
يقودنا هذا إلى الحديث عن خصوصية الرؤية الدينية الكالفينية داخل المذهب البروتستاني، حيث نجد فيبر يحدد خصوصية هذه الرؤية من خلال النص التالي: "وحدها الدعوة الأخلاقية للزهد البروتستاني قد أنتجت مبدءا نسقيا، ووحدة للعالم الداخلي الغير القابل للتحطيم مع ضمان الخلاص الديني. هذا العالم الداخلي الزهيد له عدة خصائص ونتائج لا يمكن إيجادها في أية ديانة أخرى"(31). يمكن إجمال رؤية العالم الخفية المتضمنة في التصور الكالفيني في خمس أطروحات مستلهمة من اعترافات ويستمنستر Westminster (1547):
الأولى: يوجد إله مطلق متعالي خلف هذا العالم، يحكمه ويسيره ولكن الذهن البشري قاصر عن إدراكه والإمساك به.
الثانية: لقد حدد هذا الإله القوي لكل منا مآله ومصيره، إما الجنة الخلاص أو العذاب.
الثالثة: خلق الله العالم من أجل عظمته ولعظمته.
الرابعة: إن نجاة الإنسان من العذاب رهينة بعمله المتواصل لتأكيد عظمة الله وخلق مملكته على الأرض.
الخامسة: كل الأشياء الأرضية الطبيعية بمثابة عناصر تنتمي إلى نظام المحرمات والموت. لذلك لا يمكن أن يكون الخلاص هبة وعطاء إلهيا(32).
نستنتج من هذه الاعترافات أن مفهوم المصير الكالفيني أساس وأصل هذه الأخلاق. لذلك كانت رؤية العالم محض دينية. فنموذج "الزاهد" بمثابة إحدى الإجابات العلمية والأخلاقية لهذه الرؤية، فهو غير متأكد من الاختبار الإلهي وما عليه القيام به هو العمل، لأن كل ضعف غير مقبول مع رفض لكل أصناف صكوك الغفران لشراء الأخطاء، وعليه يجب أن يراقب ذاته بجدية وصرامة.
الخلاص والعقلنة الدينية
شكل مفهوم الخلاص عنصرا أساسيا في العقلنة الدينية، يقول فيبر في هذا السياق: "لا يتم التأكد من الذات فقط انطلاقا من الحياة اليومية، ولكن انطلاقا من نشاط عقلاني اعتيادي من العمل في خدمة الإله. بهذا تتصاعد العقلانية داخل الاستجابة لهذا النداء الداخلي Calling أي الدعوة، حيث يصبح السلوك اليومي معيار البرهنة على حالة الخلاص"(33). يأخذ الخلاص شكل سيرورة داخلية، تلقي بظلالها على الحياة في العالم السفلي، وهي سيرورة تتخذ صبغة تطهيرية، فالديانة الأخلاقية بخلاف كل أشكال الطقوس الأخرى كالعربدة، والوجد، والتأمل والإغراق الصوفي، تدعو إلى نوع من الحذر المستمر. وهو أمر يرجع إلى طبيعة تصور عالم الغيب الإلهي، خصوصا إذا أراد الزاهد أن يصبح أداة للإله وهو أقرب طريق للوصول إليه. كانت من نتائج هذه التصورات المرتبطة بمسألة الخلاص:
1- عملية العقلنة ومسألة الضبط وتخطيط الممارسات التي تضمن بقاء السمت الديني L’habitus مع إقصاء كل التقنيات اللاعقلانية.
2- أصبحت مناهج الخلاص مرتبطة بنظام منهجي للفكر والعمل، حيث التحكم والسيادة الإرادية أكثر حذرا وأكثر عداءا للغرائز، وذلك عبر ضبط السيرورة الجسدية والروحية، وإخضاعها للغايات الدينية في إطار ما يسمى بالعفة(34).
يجسد كوشي Gauchet هذه الصورة التأكيدية للذات، ضمن مفهوم الخلاص وأمام الانهيار الإكليروسي بقولته التالية: "تحت الكائن الاجتماعي الذي يخضع لإكراهات وأوامر جماعية اتجاه القيصر، هناك إنسان داخلي مستقل في النهاية بذاته في علاقته مع الإله"(35). لم تعد العلاقة بين الإنسان والإله تخضع لوسائط أو لمؤسسات، تدعي احتكارها لعملية التوسط، بقدر ما أصبحنا أمام ذات معزولة بباطنيتها وحقوقها وضماناتها الدينية. ما حدث إذا هو ظهور إرهاصات مبدأ الفردانية وهو من إحدى خلاصات العقلنة الدينية علما بالتحول الذي سيقع عبر المرور من الفردانية الدينية إلى الفردانية الاجتماعية وهو سر انطلاق العقلنة في المجالات الاقتصادية والسياسية والقانونية.
العقلنة الدينية وتقوية الذات الفردية
ما هو مآل وموقع الفرد والذات داخل هذه العقلنة الدينية؟
يرى فيبر أن الدعوة الطهرية، قامت بتزويد الذات بالقوة، حيث يعتبر بمثابة العجلة الوحيدة للتحكم في عملية عقلنة العالم. فقد ساهمت الديانة النبوية في تجديد نمط الذات الغربية. حيث من خلال قدرتها على المزج بين الفكر والممارسة، عبر نسقيتها وقدرتها على مقاومة رغباتها. هذا التجديد سماه تارة برجل الدعوة في كتاب الأخلاق البروتستانية وتارة بالشخصية الغربية في كتابيه سوسيولوجيا الأديان والعالم والسياسي، إنها أشكال متعددة لمضمون واحد، ألا وهو الشخصية الغربية الحديثة ذات الجذور الدينية العقلانية. وهو أمر يقودنا إلى عناصر نظرية فيبرية جديدة في التجديد التاريخي. فالتحول الاجتماعي لا يقتصر في نظره على الشروط المادية والسياسية، ولكن أيضا بروز وتوسط الذوات القوية المتجذرة في السلوكات والخصائص الزهدية. وهو ما سيؤهل الفرد أو الذات الفردية للعب دور تحويل مجتمع بأكمله نحو سيرورة العقلنة وأو ما عبر عنه Wolfgang Mommsen في هذا الإطار: "إن عملية عقلنة سلوكات الحياة غالبا ما قادت المجتمع الغربي إلى حالة معينة، حيث استطاع الفرد والجماعة التي ينتمي إليها، بفعل مراكمة القدرة، على الفعل. فقد ساهمت هذه القوة المستمدة من مجموعة الشروط إحداث ثورة في النتائج المنعكسة على طبيعة النسق التي تعتبر جزءا منه"(36).
هكذا درس فيبر العقلنة كرؤية للعالم انطلاقا من العقلنة الأخلاقية لديانات الخلاص، عبر رجوعه إلى الأخلاق الطهرية النظرية والعملية والتي ظلت تستهدف الخلاص.
يفضي بنا هذا إلى سؤال مركزي: هل العقلنة الدينية تتحدد بتحول يقع في الشكل أم في المضمون، أي هل العقلنة الدينية هي تحول وقع في العمليات المنطقية، أم هي تغير في طبيعة مفاهيم ومضامين تلك العمليات؟
إذا كان فيبر يربط هذه العقلنة الدينية بالخصائص المنطقية والدلالية، انطلاقا من مسألة حضور المعنى الذي أصبح يؤطر الوجود والكون، كنسق مقابل الفوضى، ومقدرة الإنسان على التجريد والقيام بعمليات صورية إجرائية مقابل الفكر الأسطوري الملموس الذي يظل مرتبطا بالسطح المرئي للعالم، فإن هابرماس Habermas يرى أن عقلنة صور العالم لا تقاس بالخصائص المنطقية أي الشكل، وإنما بالمفاهيم والتصورات، أي المضمون الذي يتوفر عليه الأشخاص لتأويل عالمهم(37)، فمعيار المعنى الذي اعتمد عليه فيبر لم يسعفه، ولم يمكنه من فهم السؤال المركزي الذي طرحه الأنتربولوجيون والمتمثل في البحث عن الأسباب التي تجعل التفكير الأسطوري لا يؤدي إلى توجهات في الفعل قابلة لأن تكون عقلانية خصوصا وأن هذا النمط من التفكير السحري الإحيائي لا يفرق بين عالم الأشياء والعالم الاجتماعي، أو بعبارة أخرى بين عالم الطبيعة وعالم الثقافة. ولذلك فإن انغلاق الرؤية الأسطورية السحرية للعالم ترجع بالأساس في نظر هابرماس إلى:
1- خطأ التمييز بين السلوكات اتجاه العالم الموضوعي/العالم الاجتماعي/والعالم الذاتي.
2- انعدام الوعي بالصورة أو رؤية العالم وتحديدها كصورة للعالم.
وحتى يكون الفعل ذا توجه عقلاني، فإنه يتوجب التمييز بين هذه العوالم الثلاث:
ستصبح العقلنة ذلك "التطور المعرفي" الذي يحصل بفعل الاحتكاك بالعالم الخارجي الذي يؤدي ويعطي إمكانية نشأة تطورات ذاتية سواء حول العالم الداخلي أو العالم الخارجي، بحيث تصبح أمام عالم خارجي مدرك يتميز بكونه عالم الموضوعات وقابل للتصرف من جهة، وعالم العلاقات بين الأشخاص والمنضبط بقيم ومعايير. وبعد هذا التفاعل ينشأ عالم الذاتية، ثالث العوامل، وتنشأ استقلالية كل مجال بمنطقه وخصوصيته. حيث يصير الفعل العقلاني حسب الصلاحية المناسبة للمجال الذي وضع فيه ذلك الفعل. يقول هابرماس بهذا الصدد: "بالمقياس الذي تقود وتؤدي إليه عقلنة صور العالم إلى اختلاف وتباين المكونات والمركبات المعرفية المعيارية، التعبيرية للثقافة، بمقياس ما تؤدي بنا إلى الفهم الحديث للعالم بالمعنى الذي نفهمه"(38).
تلك إذن هي بنية وخصوصية العقل الديني الغربي، المتحكم في تطوراته لمتغيرات ثقافية ورمزية، مرتبطة برؤى العالم، أكثر من محددات موضوعية مادية ملموسة.
ولأنه عقل ديني فقد قلب أطروحة غرامشي بتعاليه عن التاريخ وخروجه من الممارسات الإنسانية كعنصرين موجهين ومؤطرين له.
********************************************
الهوامش:
(1) William, Jean-Paul: Sociologie de la religion, PUF, 1995, Que sais-je? P.62.
(2) Weber, Max: The social psychology of the world religion, P.293-294.
(3) ماكس فيبر: رجل العلم ورجل السياسة، ترجمة نادر ذكرى، دار الحقيقة، 1982، ص39.
(4) Gauchet, Marcel: Le Désenchantement du Monde – Une histoire politique de la religion, Gallimard, 1985.
(5) جوليان فروند: سوسيولوجيا ماكس فيبر، ترجمة عربية، ص95.
(6) Burger, Thomas: Max Weber’s Theory of Concept Formation, University press, Durham Duke, 1987, P.184.
(7) Weber, Max: The social psychology of the world religion in From Max Weber, Essays in sociology, Edited. Gerth. And Mills Routledge, 1995, P.200.
(8) Gauchet, Marcel: Le Désenchantement du monde, p.1.
(9) Sylivain, Aurouy : Encyclopédie Philosophique Universelle, PUF, 1990, P.604.
(10) كاترين كوليو: ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، طبعة 1994، ص79.
(11) كاترين كوليو: ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية، ص80.
(12) كاترين كوليو: ماكس فيبر والتاريخ، ترجمة جورج كتورة، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ص81.
(13) ماكس فيبر: رجل العلم ورجل السياسة، ترجمة نادر ذكرى، ص20-19.
(14) Weber, Max: Economy and Society, University of Californie Press, p.401.
(15) Weber, Max: Economy and Society, p.401.
(16) Weber, Max: Economy and Society, p.414.
(17) Weber, Max: Economy and Society, p.424.
(18) Bourdieu, Pierre : (Legitimation and Structured Intersts in Weber’s Sociology of Religion) in Max Weber Rationality and Modernty, by Sam Whimster, 1987.
(19) Gauchet, Marcel: Le Désenchantement du Monde, p.74.
(20) Weber, Max: From Max Weber, p.286.
(21) Weber, Max: Economy and Society, p.419.
(22) Gauchet, Marcel: Le Désenchantement du Monde, p.53.
(23) كلمة تيوديسي باليونانية تعني الإلاه وهو مصطلح من إبداع ليبنتز كعنوان لكتابه سنة 1710.
Essais sur la bonté de dieu, la liberté de l’Homme et l’origine du mal
يخص تبرير وجود الله ونطاق الخلق انطلاقا من المشكل المطروح أمام الحضور المكثف للشر داخل العالم وذلك ضد فكرة عدم وجود إلاه أمام شراسة العالم. بل على العكس إثبات طيبوبته ودلالة الحرية الإنسانية.
(24) Weber, Max: Economy and Society, p.519.
(25) Gauchet, Marcel, p.56.
(26) Bourdieu, Pierre : Legitimation and Structured Interest, p.130.
(27) Weber, Max: (Morales économiques des grandes religiuons), Archives de sociologie des religions, p.10.
(28) Weber, Max: (Morales économiques des grandes religiuons), p.27.
(29) Habermas, Jurgen: Théorie de l’argir communicationnel, Tome 1, p.236.
(30) William, Jean-Paul: Encyclopédie du protestantisme, Paris, Genéve-Le cerf, 1996, P.843.
(2) Weber, Max: The social psychology of the world religion, P.293-294.
(31) Weber, Max: Economy and Society, p.556.
(32) Aron, Raymond: Les étapes de la pensée sociologie, Gallimard, p.537.
(33) Weber, Max: The social psychology of the world religion in From Max Weber, P.291.
(34) Weber, Max: Economy and Society, p.539.
(35) Gauchet, Marcel: Le Désenchantement du Monde, p.76.
(36) Mommsen Wolfgang: (Personal Conduct and Social Change) in Max Weber Rationality and Modernity, Ed Whimster, p.40.
(37) Habermas, Jurgen: Théorie de l’argir communicationnel, Tome 1, p.61.
(38) Habermas, Jurgen: Théorie de l’argir communicationnel
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق