احدث المواضيع

الأحد، 13 ديسمبر 2009

المنطق في الفكر المغربي الوسيط

                                                               عبد السلام بن ميس

         أود في البداية التنبيه إلى أن كلمة "مغرب" الواردة في العنوان أريد بها الإشارة إلى شمال إفريقيا والأندلس معا، أي ما كان ممثلا في الإمبراطورية الموحدية في العصر الوسيط. هذا من الناحية الجغرافية. أما من الناحية التاريخية فإن المقصود بالفكر المغربي في العنوان هو النشاط الثقافي الذي أفرزته الحضارة المغربية منذ بداية اتصالها بالأندلس العربية الإسلامية. وحددنا هذه البداية بالنسبة للمنطق في القرن العاشر الميلادي. وبذلك نكون قد أهملنا الفكر المغربي القديم حيث اتصل المغاربة مباشرة باليونان والرومان، لعدم تمكننا من الإطلاع على مصادر تحيل على هذه الفترة، خاصة في ميدان المنطق.

لماذا وقع اختيارنا على هذا الموضوع؟

        إن السبب الرئيسي لهذا الاختيار هو كون موضوع "المنطق في الفكر المغربي" غير معروف بما فيه الكفاية، لا فقط عند عامة المثقفين، بل أيضا عند أغلبية الذين أرخوا للمنطق العربي الإسلامي بشكل عام. لكم كانت دهشتنا كبيرة عند رجوعنا إلى كتب تاريخ المنطق العربي الإسلامي ووجدنا مؤلفيها لا يعيرون للمنطق المغربي أي اهتمام. ففي كتابه تطور المنطق عند العرب(1) يعرض نيكولا ريشر قائمة بأسماء المناطقة العرب منذ الفارابي 950م حتى الأخضري 1575م، أي منذ القرن 9م حتى القرن 16م، دون أن يذكر من بينهم ولو منطقيا واحد من المغرب الأقصى. تحتوي قائمته هذه على 166 منطقيا عربيا إسلاميا من بينهم 14 مفكرا أندلسيا كتبوا في المنطق وواحد من المغرب الأدنى وهو ابن خلدون وأربعة مفكرين من المغرب الأوسط، أي الجزائر الحالية وهم: محمد بن أحمد التلمساني 1379م ومحمد بنمرزوق العجيسي التلمساني 1438م وأبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي 1488م وأبو زيد عبدالرحمان بن محمد الأخضري 1575. وفي كتابه منطق العرب(2) لا يحيل عادل فاخوري على أي منطقي مغربي، ويعتبر الجزائريين السنوني والأخضري مجرد شراح ولا أصالة لهم. إن هذه المواقف من تاريخ الفكر المغربي بشكل عام ومن الإنتاج المغربي في المنطق بشكل خاص هي التي دفعتنا إلى محاولة التحقق من هذه الأحكام والرجوع إلى المصادر التاريخية للفكر المغربي لمحاولة فحص هذه المواقف وتقويمها إن اقتضى الحال.

تطور المنطق العربي الإسلامي بشكل عام

        من المعروف أن المنطق في الفكر العربي الإسلامي بشكل عام مر بمجموعة من المراحل نجملها فيما يلي:

        1 – فترة الترجمة ودامت طيلة القرن 9م.

        2 – فترة الشروح الأولى ودامت كل القرن 10م. وفي هذه الفترة نشأت مدرسة بغداد المعروفة التي تمركز فيها المنطق العربي بصفة عامة خلال القرن 10م. ولكن، رغم هذا التمركز للمنطق في بغداد، فإن الأندلس أيضا، في نفس القرن، عرفت مناطقة أكفاء مثل الحمار 1010م وابن بدر الأندلسي 1020م وابن البغونش الطليطلي 1052م. أما المغرب في القرن 10م فلم يكن يولي أي اهتمام للدراسات الفلسفية والمنطقية حسب نيكولا ريشر نفسه(3).

        3 – فترة ابن سينا: وهي التي دامت كل القرن 11م. وفيها ظهر بن حزم الأندلسي 1064م والدارمي الأندلسي 1070م. وبقدر ما كان ابن سينا مسيطرا على الفكر المشرقي بقدر ما كان ابن حزم مستقلا عند ابن سينا وحتى عن الغزالي الذي ظهر في نفس الفترة. ومنذ القرن 11م تم إدخال المنطق في التعليم الديني تحت تأثير الغزالي بالمشرق وابن حزم بالمغرب والأندلس.

        4 – الفترة الأندلسية: وهي المتمثلة في القرن 12م. وفيها ظهر ابن رشد 1198م وأبو الصلت 11 ?4م وابن حسداي 1140م وابن باجة 1138م وابن زهر 1162م وابن ميمون 1204م وابن بندود 1200م. وسمي القرن 12م بالفترة الأندلسية لكون الأندلس ساهمت بنصف مناطقة العرب لهذا القرن. وكان أغلبهم من المستوى الرفيع.

        5 – الفترة الذهبية في تاريخ المنطق العربي الإسلامي. وهي التي تمثلت في القرن 13م. فقد كان عدد المناطقة وعدد المؤلفات في المنطق لهذه الفترة أكثر منها في أية فترة أخرى. وفيها انفصل المنطق عن الطب وارتبط بعلم الكلام وبالموضوعات العلمية خاصة الرياضيات والفلك. وفي هذه الفترة فتر نشاط مدرسة بغداد ونشط المنطق بفارس. أما الأندلس فلم تساهم إلا بمنطقيين هما: ابن طملوس 1223م وابن سبعين 1270م ويمكن تفسير هذا التراجع بالعداء الشعبي والديني للمنطق العربي الإسلامي قمة تطوره مع ظهور الخونجي 1265م والقزويني الكاتبي 1292م وابن تيمية 1328م.

        6 – فترة بداية الجمود التي تنطلق ابتداء من القرن 14م. وفيها توقف التعامل المباشر مع النصوص الأرسطية خاصة بالمشرق. وأصبح العلماء والدارسون يلتمسون المنطق من المختصرات والشروح المحلية، وهي ظاهرة سبق لابن خلدون أن اشتكى منها في مقدمته. وانطلاقا من هذه الفترة، لم يبق أي إبداع في المنطق العربي الإسلامي حسب ريشر وفاخوري وغيرهما من مؤرخي المنطق العربي. وأصبح المهتمون بهذا الأخير مجرد معلمين يشرحون النصوص ويضعون عليها حواشي. وفي هذه الفترة وبعدها سيطرت على دارسي ومدرسي المنطق أمهات الكتب التالية:

        أ – مطالع الأنوار للأرموي 1198م-1283م.

        ب – الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية للقزويني الكاتبي 1277م. وعلى هذا الكتاب شروح كثيرة أهمها: تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية للتحتاني 1365م وشرح الشمسية في المنطق لمسعود بن عمر التفتازاني 1390م. ويعتبر عادل فاخوري كتاب الرسالة الشمسية من أهم وأكثر كتب المنطق شهرة عند العرب ويصفه بكونه الصورة الأكمل للمنطق عند العرب. وفيه معظم الموضوعات المستحدثة في هذا الميدان إلى جانب تلك التي عرضت في كتاب مطالع الانوار للأرموي وهي: إحصاء شامل للقضايا المقيدة بالجهة والزمان وبناء صارم لنظرية المجموعات وبحث مستوف للقضايا الشرطية مع محاولة نظمها في نسق استنباطي وإشارات أولى إلى منطق العلاقات.

        ج – كتاب إساغوجي في المنطق للأبهري 1264م. وعلى هذا الكتاب أيضا شروح كثيرة نذكر منها.

شرح على إيساغوجي لأحمد بن عبد الرحمان الأبدي البجائي ق13م؛ سروجي المشرق على إيساغوجي المنطق لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن عبد القادر التادلي الرباطي 1893م؛ شرح على الكليات المعروفة بإيساغوجي لزكرياء الأنصاري؛ شرح إيساغوجي في المنطق لمحمد بن يوسف السنوسي 1428م-1490م؛ شرح إيساغوجي لعلي بن محمد القلصادي الأندلسي؛ فوائد في الرسالة الأثيرية لمحمد بن حمزة الفناري.

        د – مختصر في علم المنطق للسنوسي 1428م-1490م. وعليه شروح مختلفة أهمها: شرح المختصر في علم المنطق للسنوسي نفسه؛ نفائس الدرر في حواشي المختصر لابن مسعود اليوسي؛ حاشية على شرح مختصر السنوسي في المنطق للحسن اليوسي 1102هـ؛ الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية لأحمد بن عبد العزيز السجلماسي الهلالي 1761م.

        هذه باختصار هي أهم المراحل التي مر بها المنطق في العالم العربي الإسلامي بشكل عام.

تطور المنطق في الفكر المغربي الوسيط

        أما فيما يخص الكتابات المغربية في المنطق فإن مؤرخي هذه المادة لا يولونها الاهتمام الذي تستحقه في نظرنا. لقد بدأ مغاربة العصر الوسيط يكتبون في المنطق مباشرة بعد فترة انحطاط المنطق العربي الإسلامي المشرقي والأندلسي. وحسب المصادر التي اطلعنا عليها وجدنا أن الفكر المغربي الوسيط أفرز أكثر من ستين منطقيا لا تزال أغلب مؤلفاتهم عبارة عن مخطوطات في خزانات مغربية مختلفة. وعنهؤلاء المناطقة المغاربة سوف نتحدث الآن.

        حسب المعلومات التي مدتنا بها مصادر تاريخ الفكر المغربي،لم يظهر أي مؤلف في المنطق بالمغرب على عهد المرابطين 1070م-1147م. ففي هذا العصر اهتم الناس بالعلوم الدينية واللغوية فقط. وحسب الأستاذ بن شريفة(4)، يمكن اعتبار أبي علي الماكري 1270م، صاحب كتاب أسهل الطرق إلى فهم المنطق أول مغربي ألف في المنطق(5). والماكري هذا تلميذ لأبي الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي 1228م صاحب كتاب لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول(6). ولقد عاصر ميلاد هذا الفيلسوف المغربي ظهور الدولة الموحدية 1147م-1269م. في هذه الفترة ظهرت مؤلفات مغربية أندلسية في المنطق على شكل مداخل، منبينها:

        كتاب أسهل الطرق إلى فهم المنطق للماكري؛

        كتاب الضروري في المنطق لابن رشد 1198م؛

شرح منظومة ابن سينا في المنطق لابن بندود 1200م؛

مقال في صناعة المنطق لابن ميمون 1204م؛

        كتاب المدخل لصناعة المنطق لابن طلموس 1223م؛

        كما ظهر بالمغرب شخصيات أخرى اشتهرت بإتقانها للعلوم العقلية. ومن بين هؤلاء أبو عمر عثمان بن عبد الله السلالجي 1179م وأبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بن الكتاني الفاسي 1202م وأبو محمد عبد الله بن محمد بن حجاج بن الياسمين الفاسي 1204م وأبو الحجاج يوسف بن سمعون 1270م وأبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي ق13م وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى الأغماتي ق13م وأبو الحسن علي بن أحمد التجيبي الحرالي ق13م الذي يقول عنه الأستاذ المنوني بأنه كان أعلم الناس بالمنطق على عهد الموحدين.

        وهكذا يمكن ملاحظة أن القرن الثالث عشر الميلادي الذي يعتبره مؤرخوا المنطق العربي الإسلامي بداية لفتور الاشتغال بالمنطق في العالم الإسلامي بصفة عامة، هو في المغرب، على العكس من ذلك، قرن ازدهار ونشاط ثقافي مكثف فيما يخص العلوم العقلية بشكل عام والمنطق بشكل خاص. وقد يقول قائل بأن هذا الإنتاج الثقافي في ميدان العلوم العقلية راجع إلى التشجيع الذي قدمته السلطة الموحدية لرجال الفكر بصفة عامة. هذا صحيح، ولكن ينبغي أن لا ننسى، منجهة أخرى، أن فقهاء هذه الفترة عرقلوا ما أمكنهم النشاط الفكري في ميدان المنطق على الخصوص وذلك بتحريم الاشتغال به. وهذا ما فعله ابن جبير وأبو زيد الفازازي وابن قسوم الإشبيلي وجابر بن محمد المالقي وأبو زيد عبد الرحمان الركراكي(7). بل حتى الصوفية، وعلى رأسهم ابن سبعين، صارعوا المنطق في صورته الأرسطية. ولكن، رغم كل تلك العراقيل، نشط التأليف في المنطق ودافع عنه مفكرون كثيرون.

        أما القرن الرابع عشر الميلادي، الذي يعتبره مؤرخوا المنطق العربي الإسلامي فترة جمود، فيمثل بالنسبة للمغرب فترة ازدهار في ميدان العلوم العقلية. ففي هذه الفترة ظهر كتاب الكليات في المنطق لابن البناء المراكشي 1322م وشرح لمختصر الخونجي لابن مرزوق التلمساني 1379م وملخص في المنطق لابن خلدون 1406م لم يحفظه الزمن،لكنه خصص فصلا للمنطق في مقدمته. كما برع في هذا الميدان دون التأليف فيه كل من محمد بن محمد بن علي بن البقال 1325م وأبو العباس أحمد بن شعيب الجزنائي 1349م وأبو زيد عبد الرحمان بن أبي الربيع للجائي 1372م.

        أما في القرن الخامس عشر الميلادي فقد تقوت سلطة الفقهاء أكثر وتقلصت سلطة الفلسفة بالمغرب، وزامن كل ذلك بداية اختفاء المؤلفات الأندلسية، وبالتالي عرف التأليف في ميدان المنطق بالمغرب خمولا واضحا بحيث لن يظهر في قرن بكامله. وهو القرن 15م، إلا كتابان هما: شرح إيساغوجي لعلي بن محمد القلصادي 1486م ومختصر في المنطق لأبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي 1428م-1488م. وباختفاء المؤلفات الأندلسية أصبح التدوين في ميدان المنطق متمغربا أكثر لكنه أيضا أصبح مدرسيا أكثر. فانتشرت المنظومات الرجزية المعدة للطلبة وكثرت الشروح وشروح الشروح. ومن النصوص التي كانت لها شهرة كبيرة على عهد السعديين (أي القرنين 16م و17م) أرجوزة الذرر المنطقية لعبد العزيز بن عبد الواحد المراكشي 1572 وأرجوزة السلم المرونق للأخضري 1585م ومنظومة رجزية في المنطق لأبي زيد عبد الرحمان البوعقيلي الجزولي 1598م وشرح سلم الأخضري لحسن بن يوسف الفاسي الزياني 1614م والطالع المشرق في أفق المنطق لمحمد العربي الفاسي 1642م. كما اهتم بالمنطق أيضا دون التأليف فيه كل من المغيلي التلمساني 1503م وأبو العباس أحمد بن علي المنجور الفاسي 1587م وأحمد التقليتي المراكشي 1590م وأبو القاسم بن سودة الفاسي 1595م وعلي الياصلوتي 1630م وييبورك السملالي 1648م وياسين العليمي 1561م وغيرهم. ومنخواص الفكر المغربي في هذه الفترة إقحام الدين في كل أشكال الفكر حتى في العلوم التجريبية والرياضيات والمنطق. ولقد عرف عهد السعديين مزيدا من الإقبال على علوم القرآن والدراسات اللغوية والأدبية. أما كتب العلوم العقلية فقليلة جدا. ففي المنطق مثلا لم يتعد عدد النصوص التي ألفت في هذا العلم خمسة وهي المذكورة آنفا. وفي هذه الفترة أيضا عمت ظاهرة الاختصار وقل الإبداع. وبعد وفاة المنصور الذهبي أصاب الحركة الفكرية، بشكل عام، فتور كبير. ولما جاء المولى محمد بن عبد الله حرم الاشتغال بعلم الكلام والمنطق والفلسفة. ومن تم اتجه اهتمام الشغوفين بالعلوم العقلية إلى الاشتغال بالرياضيات والهندسة. ومن بين المبرزين في هذه العلوم نذكر ابن سليمان الروداني 1684م وأبو زيد الفاسي 1685 وأحمد بنمبارك اللمطي وعبد الوهاب أدراق وعبد الله بن عزوز المراكشي. أما فيما يخص مادة المنطق، فرغم الحصار الذي ضربه عليها الفقهاء والسلطة السياسية فقد ظهرت فيها مؤلفات لا يستهان بقيمتها العلمية. نذكر من بينها كتاب: القول الفصل في تمييز الخاص عن الفصل لأبي علي حسن بن مسعود اليوسي 1691م الذي يصفه الهلالي بكونه "أعجوبة الزمان وعلامة الأوان"، ثم حاشية على مختصر السنوسي لنفس اليوسي وتقييد في النسبة الحكمية بين الطرفين الموضوع والمحمول له أيضا، والجواهر المنطقية لعبد السلام بن الطيب القادري الفاسي 1698م وشرح سلم الأخضري لمحمد بن مدين السوسي 1709م وشرح آخر لسلم الأخضري لأبي بكر الفرجي السلاوي 1726م.

        وفي هذا العصر أيضا، أيام السلطان محمد بن عبد الرحمان، أسست المطبعة الحجرية بفاس وكان اختيار كتاب لطبعه بالمطبعة الحجرية هو في حد ذاته مقياسا لأهمية الكتاب. وبها طبع لأول مرة مؤلف مغربي في المنطق وهوكتاب: الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية لأحمد بن عبد العزيز الهلالي 1761م. ومن مؤلفات هذه الفترة أيضا كتاب تحرير النظر في بعض مسائل المختصر لعمر بن عبد الله الفاسي 1773م وحاشية على مختصر السنوسي في المنطق لأبي عبد الله محمد بن الحسن بناني 1780م وشرح السلم المرونق لنفس بناني وتقييد في الفرق بين الدلالة العادية والوضعية له أيضا وشرح منظومة الجرادي البوعقيلي لمحمد بن عبد الله بن يعقوب، وشرح إيساغوجي لعالم من إيلالن وتقييد في الفرق بين النسبة والحكم للطيب بن عبد المجيد بن كيران 1812م وحاشية على شرح السلم المرونق لمحمد بن الحسن الفاسي أقصبي 1834م وحاشية على شرح بناني للسلم لعلي بن إدريس قصارة الحميري 1843م وسروجي المشرق على إيساغوجي المنطق لإبراهيم بن محمد التادلي الرباطي 1893م وشرح على السلم لأحمد بن الطالب بن سودة 1919م وختم سلم الأخضري في المنطق للمكي البطاوري الرباطي 1936م وهو كتاب طبع أيضا بالمطبعة الحجرية بفاس. وبالإضافة إلى هذه الشروح المحلية كان المغاربة يتعلمون ويعلمون المنطق حتى الخمسينات من القرن العشرين اعتمادا على المصادر الأساسية التالية:

        - كتاب إيساغوجي في المنطق لأثير الدين الأبهري 1265م.

        - كتاب السلم المرونق للأخضري 1575م وهوكتاب طبع غير ما مرة بالمطبعة الحجرية بفاس نظرا لقيمته العلمية.

        - كتاب الجمل للخونجي 1294م.

        - مختصر في المنطق لسنوسي 1428م-1490م الذي كان أهم كتب التدريس بالقرويين منذ القرن 15م.

        - الرسالة الشمسية للقزويني الكاتبي 1256م.

        - شرح السلم المرونق للقويسني. وهو أشهر الكتب المتداولة بمدارس سوس العتيقة(8).

ما هي القيمة العلمية لما كتبه المغاربة في المنطق؟

        هذه عجالة تاريخية حول تطور التأليف في المنطق بالمغرب. ولقد لاحظنا أن ما دون في المنطق بالمغرب من حيث الكم، كثيرا فعلا، رغم المعارضة الشديدة التي كان يبديها، من حين لآخر، بعض الفقهاء وبعض رجال السلطة ضد المنطق باعتباره مدخلا للفلسفة والفلسفة شر. ولكن مؤرخي المنطق العربي الإسلامي لم يأخذوا بعين الاعتبار الإنتاج الفكري المغربي في ميدان المنطق لاعتقادهم أن هذا الإنتاج لا يتعدى مستوى الشروح والحواشي. وبالتالي فلا إبداع فيه ولا أصالة. وهذا، في اعتقادنا، حكم يقتضي المراجعة. إذ يكفي أن نأخذ كتابا من بين الكتب المذكورة أعلاه، وليكن على سبيل المثال كتاب الهلالي الأنف الذكر أو كتاب السنوسي المعروف لنرى مدى الحاجة إلى مراجعة هذا الحكم الذي يطلقه بعض مؤرخي المنطق العربي الإسلامي، عربا كانوا أم أجانب، على الفكر المغربي العلمي. يقول المرحوم عبد الله كنون في كتابه: النبوغ المغربي(9) عن الهلالي، مؤلف الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية(10) ما يلي: "أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الهلالي السجلماسي هو أحد الأئمة في المنطق والحساب والهندسة، وفاق جميع أقرانه في تحقيق هذه العلوم. هوصاحب الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية، وهو شرح للمنظومة القادرية في المنطق لأبي الفضل عبد السلام القادري. وشرحها هذا أقل أن يكون له نظير. استقى من بحره من أتى بعده". ولما رجعنا إلى هذا الكتاب وجدناه فعلا مؤلفا يستحق أن يقارن بما يعتبره عادل فاخوري قمة العطاء العربي الإسلامي في المنطق المتمثل في كتابي مطالع الأنوار للأرموي 1283م والرسالة الشمسية للقزويني الكاتبي 1256م. فكتاب الهلالي هذا ليس مجرد تقييد أوحاشية. ولكنه مؤلف تحتوي طبعته الحجرية، وهي في 272ص، على إحصاء شامل لكل القضايا. وفي مبحث القضايا بالذات استفاض الكاتب على الخصوص في القضايا الشرطية. وله أيضا في مبحث الدلالة كلام طويل وملاحظات أساسية لا تخلو من أصالة. بل نجده أحيانا يمر من علم المنطق إلى فلسفة المنطق فيحلل ويناقش مفهوم الصدق ومفهوم الكذب ومفهوم التناقض ومفهوم الخبر في الجمل الخبرية، ويربط كل ذلك بمبحث الدلالة. ونجده أيضا يمارس نوعا من علم النفس المعرفي فيميز بين الكلام النفسي والكلام اللساني والتصديق النفسي والتصديق اللساني. أما مبحث الموجهات فيعتبر في اعتقادنا من أغنى المباحث وأكثرها أصالة عند الهلالي وأثناء حديثه عن القضايا الحملية وأصنافها تعرض الكاتب إلى أحوال المحمول في علاقته بالسور وهو أمر قل من يتحدث عنه من المناطقة العرب(11).

        وهكذا نلاحظ أن المغاربة الذين اشتغلوا بالمنطق منذ القرن 13م ليسوا مجرد معلمين للمنطق أو شارحين فقط للمشارقة الذين سبقوهم. فإذا كان المنطق بالمشرق قد دخل مرحلة الانحطاط منذ القرن الرابع عشر الميلادي، فإن المنطق بالمغرب قد دخل في نفس القرن مرحلة الازدهار. وها هو الأمر الذي دعانا إلى إعادة النظر في تاريخ المنطق العربي ككل والمغربي خاصة.

        إن للمنطق في الفكر المغربي أصالة تتعارض ومبدأ تعميم الأحكام التي تقال عادة على الفكر العربي الإسلامي بصفة عامة. وهذه الأصالة لا تقال فقط على المنطق كعلم مستقل، بل أيضا على المنطق كتقنية طبقها المغاربة في ميادين أصول الفقه وأصول الدين والكلام واللغة. ولقد كتب المغاربة في هذه الميادين ما لا يسمح المقام بإدراجه. يكفي أن نعرف أن الفكر المغربي احتضن مدارس في هذه الميادين تختلف إلى حد كبير من مدارس المشرق العربي في نفس الميادين. فمدرسة ابن حزم في الأصول على الكلام الإلهي القديم أقرب إلى الواقعية الرشيدية منها إلى العقلية المشرقية. وتصور علاقة المنطق باللغة عند ابن حزم يختلف عن تصور هذه العلاقة عند الفارابي مثلا.

        وإلى جانب هذه المدارس الأصولية الكلامية،ظهرت أيضا مدرسة فلسفة مغربية أخرى استفادت من الفكر اليوناني بطريقة أصيلة لتطوير الدراسات البلاغية. تشكلت هذه المدرسة خلال القرنين 13م و14م. ثم انتشرت بمراكز ثقافية مغربية مثل سبتة وفاس وسجلماسة مراكش . وهي مدرسة لها مميزات تجعلها تختلف عن المدارس المشرقية في ميدان الدراسات اللغوية. ومن بين روادها يمكن الاكتفاء بذكر ابن البناء المراكشي في كتابه: الروض المريع في صناعة البديع، وحازم القرطاجني 1286م في كتابه: مناهج البلغاء وسراج الأدباء، والسجلماسي في كتابه المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، وابن عميره في كتابه: التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات، وغيرهم. لقد استطاعت هذه المدرسة أن تتجاوز الإرث اليوناني والأندلسي معا وتجعل من المنطق تقنية في خدمة اللغة(12).

        ومما يزيد تميز الفكر المغربي الوسيط وجود اتجاه معرفي بالمغرب يتبنى منطقا جديدا غير مؤسس على التمييز الكلاسيكي بين قيمتي الصدق والكذب كما هو معتاد في منطق أرسطو، أو على مبدإ التناقض الذي هو أساس المنطق الصوري الثنائي القيم. ويمثل هذا الاتجاه على الخصوص الفيلسوف المغربي محيي الدين ابن سبعين 1270م. فهو مفكر يبني منطقه على نفي الزمان ونفي العلية ونفي المتناقضات. ويذكر موقفه هذا بنظرية هيكل في التصور وبالاتجاه الحدسي في المنطق المعاصر وبموقف الفيلسوف بول فايرابند من مفهوم العقل وبموقف بعض الفيزيائيين المعاصرين من مفهوم الوعي. لقد حمل ابن سبعين على الفلاسفة لقولهم بعالم العقل وعالم النفس وعالم الطبيعة ولقولهم أيضا بالأول والعلة والواجب بذاته. فهذه التمييزات بالنسبة له كلها أوهام. أما الفقهاء فلا مرتبة لهم بالنسبة لابن سبعين. وأما خصمه الألذ فهو ابن سينا. ويرى أن هذا الأخير "مموه ومسفسط، كثير الطنطنة، قليل الفائدة، وماله من التأليف لا يصلح لشيء". أما عن الغزالي فيقول ابن سبعين: "إنه لسان دون بيان، وصوت دون كلام، وتخليط بجميع الأضداد، وحيرة تقطع الأكباد، مرة صوفي وأخرى فيلسوف وثالثة أشعري ورابعة فقيه وخامسة محير. وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت" ويؤاخذ ابن سبعين على الفارابي كونه يتناقض ويضطرب. فهو يقول آراء مختلفة بحسب الكتب المختلفة. وينتقد أيضا ابن سبعين الفيلسوف ابن رشد لشدة تقليده لأرسطو إلى درجة أن ابن رشد لو سمع أرسطو يقول إن القائم قاعد في زمان واحد لقال هو أيضا بذلك واعتقده. لا يرغب ابن سبعين في اعتبار نفسه متأثرا بأي فيلسوف آخر مشرقيا أكان أو مغربيا. وهو فعلا شخصية غريبة تستحق فلسفته كل العناية لما فيها من أصالة. يقول عنه بعض المستشرقين إنه قام بأول محاولة لنقد نفساني لتاريخ الفلسفة الإسلامية.

        هذه باختصار بعض مميزات المنطق في الفكر المغربي الوسيط، نتمنى أن ينصفه مؤرخوا الفكر العربي الإسلامي عامة وأن يعوا أن الفكر المغربي فكر قائم بذاته وليس مجرد امتداد أو ترداد للفكر المشرقي.

علاقة المنطق بالفكر الديني بالمغرب الوسيط

        من المعروف أن مادة المنطق في شكلها الأرسطي على الأقل، مادة دخيلة بالنسبة للعالم العربي الإسلامي. أضف إلى ذلك أن المنطق، باعتباره علما وضعيا، يشوش على العقائد الإيمانية التي غالبا ما تتأسس على معطيات غير برهانية. جعل هاذان العاملان الفقهاء وعامة الناس وبعض الفلاسفة ينفرون وينفرون من المنطق ويصدرون فيه فتاوى تصل أحيانا إلى حد تحريمه، سواء بالمشرق أو المغرب. ففتاوى ابن الصلاح وابن تيمية ضد الاشتغال بالمنطق معروفة. ومعروفة كذلك بالغرب الإسلامي مواقف ابنجبير وابن قسوم المعادية للفلسفة والمنطق. وكم من مفكر لقي حتفه نظرا لتعاطيه للفلسفة وللمنطق: فلقد أعدم المكولي وحوكم ابن خميس واضطر الآبلي إلى الفرار وحصلت نكبة ابن رشد لأسباب أهمها تعاطي هؤلاء المفكرين للفلسفة وترجيح المعقول على المنقول.

        لقد كانت علاقة المنطق بالدين علاقة صعبة منذ ترجمة كتب أرسطو في القرن التاسع الميلادي. في هذه الكتب عرض أرسطو المنطق كمقدمة للفلسفة. وبما أن الفلسفة شر، حسب الرأي السلفي، فإن المنطق أيضا لا يمكن أن يكون إلا شرا. وبهذه السذاجة تم إبعاد المنطق من حظيرة الفكر الإسلامي لمدة غير قليلة. ولكن، رغم كل ذلك، استطاع المنطق أن يشق طريقه عبر كل العراقيل الفقهائية بفضل علماء أجلاء أدركوا كنه هذا العلم واستغلوه بذكاء في بناء مناهجهم المعرفية. وبذلك عمموا معيارية المنطق لتشمل كل المعارف البشرية بما فيها المعارف الدينية. فلم يعد المنطق مقصورا على الفلسفة وحدها، بل يمكن اعتباره مدخلا لكل العلوم البشرية. وهكذا نجد أبا علي الماجري، وهو أول مغربي مسلم كتب في المنطق الصوري، يعتبر هذا الأخير هبة من الله. ونجد ابن حزم الأندلسي يشترط معرفة المنطق في كل من يرغب في ممارسة الاجتهاد. ونجد أيضا ابن طملوس يؤلف كتابا بكامله فيه يحث على تداول المنطق والاستعانة به لفهم النص الديني سواء من حيث كونه بناء لغويا أو فكريا. ويقول الشيخ السنوسي في شرحه لكتاب مختصر في المنطق: "منيحرم المنطق لا معرفة له بالحقيقة".

        وهكذا نخلص إلى القول بأن دور المغاربة في تطوير المنطق العربي الإسلامي دور حاسم سواء على مستوى المضمون أوعلى مستوى تداول العلم كتقنية. لقد ساهموا مساهمة لا يستهان بها في رد الاعتبار إلى علم المنطق وإلى كل العلوم العقلية الأخرى وذلك بإلحاحهم على إعمال العقل والاهتمام بعلومه واعتبار المنطق مادة مكملة لعلوم الدين وليست مادة معارضة لها. لهذا لابد من إعادة النظر في تاريخ المنطق العربي الإسلامي والأخذ بعين الاعتبار ما دونه المغاربة في هذا العلم منذ القرن 14م.

هوامش ومراجع

1- نيكولا ريشر: تطور المنطق العربي، ترجمة محمد مهران، دار المعارف،1985، صدر الأصل الإنجليزي سنة 1964 تحت عنوان: The Development of Arabic logic, Univ. of Pittsburgh Press.

2- عادل فاخوري، منطق العرب (من وجهة نظر المنطق الحديث)، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980.

3- نيكولا ريشر، المرجع السابق، ص: 163.

4- محمد بن شريفة، "أول تأليف مغربي في المنطق" المناظرة، عدد 2، 1989، ص: 27-56.

5- تم تحقيق كتاب الماجري من طرف الأستاذ بن شريفة، أنظر الهامش (4) أعلاه.

6- أبو الحجاج يوسف بن محمد المكلاتي، لباب العقول في الرد على الفلاسفة في علم الأصول، تحقيق فوقية حسين محمود، القاهرة: دار الأنصار، 1977. ننبه هنا إلى أن التحقيق الذي قامت به فوقية حسين سيئ جدا.

7- انظر محمد بن شريفة، المرجع السابق، هامش (4) أعلاه.

8- انظر المختار السوسي، سوس العالمة، مطبعة فضالة، المحمدية، 1960.

9- عبد الله كنون، النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الثالثة، 1975.

10- أحمد بن عبد العزيز الهلالي، الزواهر الأفقية في شرح الجواهر المنطقية، طبع بالمطبعة الحجرية بفاس سنة 1313هـ، في 272 صفحة.

11- نجده مثلا عند الخونْجي في كتابه: الجمل في المنطق.

12- انظر تفاصيل هذه المسائل في كتاب: محمد مفتاح، التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1994.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق