احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

إشكال المحرك الأول في شرح السماع الطبيعي لابن باجة

                                                                       جواد العمارتي

         قد لا تغالي في القول إذا أكدنا منذ البداية على أن موضوع المحرك الأول يشكل مبحثا فلسفيا هاما ضمن الخطاب الفلسفي الطبيعي لابن باجة. ذلك أن اهتمام فيلسوفنا بهذا المبحث يتجلى في أهم مؤلفاته في العلم الطبيعي وخاصة منها شروح السماع الطبيعي وكتاب الحيوان وكتاب النفوس ورسالته في النفس النزوعية. بل إن هذا الاهتمام قد امتد إلى أعماله الفلسفية المتأخرة، وخاصة منها تدبير المتوحد ورسالة الوداع. ومن المؤكد أن الأهمية الخاصة التي أولاها ابن باجة لمسألة المحرك الأول لابد أنها تحمل دلالة هامة يصبح من المشروع الكشف عنها، غير أن هذه الدلالة لن تنكشف إلا بعد التحليل المفصل لمضامين المبحث الباجي من هذه المسألة وربطها بمجمل المباحث الفلسفية الطبيعية بشكل عام. بل إن هذه الدلالة تنسحب على مجمل الخطاب الفلسفي الباجي بشكل أعم. ومن المؤكد أن مقام هذا العرض المركز والمتواضع لن يتسع لهذا التحليل المعمق لقضايا وإشكالات مبحث المحرك الأول، ولا للكشف عن الدلالة البعيدة لهذا المبحث. بل سأركز اهتمامي في هذا العرض على تحليل موقف ابن باجة من بعض إشكالات المحرك الأول كما ورد في المقالتين السابعة والثامنة من شروح للسماع الطبيعي

        إشكالية المحرك الأول بين المقالتين السابعة والثانية:

I- حل الإشكال الخاص بالمحرك الأول:

        يبدأ ابن باجة تحليله لموضوع المحرك الأول بإبراز أهم المقاصد والأغراض المعرفية لبعض مقالات السماع الطبيعي، بشكل خاص مقاصد المقالتين الأخيرتين منه أي السابعة والثامنة، ويرجع سبب ذلك إلى ما عرفته الشروح الفلسفية لأرسطو من جدل طويل حول مطالب هاتين المقالتين. ونحن لا نود التعرض مفصلا إلى مضمون هذا الجدل، بل وكعادتنا دائما، سنحاول الارتباط بسياق النص الباجي، مادام فيلسوفنا نفسه لا يهتم كثيرا بمضمون هذا الجدل، بل هدفه من الإشارة إليه هو حسم مسألة مقاصد المقالتين، وهذا من شأنه حل ذلك الإشكال الذي طالما شغل شراح أرسطو والمتعلق بمفهوم المحرك الأول:

        يتمثل هذا الإشكال في أن هناك من الشراح من عبر عن شكه في انتساب المقالة السابعة إلى كتاب السماع الطبيعي لأرسطو اعتقادا منهم أن معطياتها تختلف عن بقية مقالات السماع الأخرى، ومن ثم يستنتجون أن هناك اتصالا بين قضايا المقالة السادسة والمقالة الثامنة، ومن هنا تصور بعض الشراح إمكانية اعتبار المقالة السابعة تكرارا لما جاء في المقالة الثامنة. يلخص ابن باجة مضمون الإشكال المعرفي في مطلع شرحه للمقالة السابعة من السماع فيقول: "وقد وقع فيما قاله أرسطو في هذه المقالة للنظار اختلاف آراء. فإن بعضا ذهب إلى أن ظنها فضلا وبعضا إلى أن ظنها مكررة. وتامسطيوس حذف منها كل ما في أولها لأنه رأى أن تلك المعاني قد تبينت في الثامنة بالبراهين الخاصة بها. حتى بلغ اختلاف الآراء فيها أن ألف في ذلك جالينوس مقالته المشهورة في قلب أقاويل أرسطو المكتوبة فيها، ونحن ننظر في ذلك على ما وضعناه في المقالة المنتقدة على أرسطو في السادسة، لنقض به هل ذلك اتفق على أرسطو فأصاب مناقضوه، أو ذلك لتقصير الجميع عن بعد غوره في النظر كعادتهم معه"(2). ويعرض ابن باجة نفس الإشكال في إحدى مقالاته القصيرة وهي رسالته للطيب الأندلسي أبو جعفر يوسف بن حسداي حيث يقول: "... والمسألة الأخرى هي في السابعة وذلك قوله: كل متحرك فله محرك، فأول ما يجب أن يعلم أنه لم يرد أن يبين المحرك الأول بإطلاق كما يذكره المفسرون الذين رأينا لهم قولا. ولذلك رأوا أن هذه المقالة فضل، حتى أن تامسطيوس ترك أكثرها فلم يحفل بها، بل إنما أدرك المحرك الأول بالإضافة إلى حركة مفروضة، وذلك أن الأول في المحركات يقال على نحوين"(3).

        من خلال هاذين النصين يتضح أن ابن باجة يؤاخذ شراح أرسطو في طليعتهم تامسطيوس وجالينوس على تصورهم في فهم أغراض المقالة السابعة من السماع كعادتهم معه، حسب تعبيره. كيف يحل فيلسوفنا هذا الإشكال، ومن ثم ما المقصود بمفهوم المحرك الأول في كل من المقالتين السابعة والثامنة؟ من الواضح أن النصين السابقين يمهدان لهذا الحل، بل إن أبا بكر في النص الثاني خاصة قد أكد صراحة أن المقالة السابعة لم تركز بحثها على المحرك الأول بإطلاق، كما اعتقد بذلك بعض الشراح. ويختم مؤكدا على أن المحرك الأول يطلق على معنيين، فما هما هاذان المعنيان؟ يجيب أبو بكر بقوله؟ "أحدهما البريء من كل حركة جملة، وهذا المذكور في الثامنة وهو الذي شعر به المفسرون. والنحو الثاني هو المحرك من حيث هو ساكن، فإن القلم يحرك المداد وهو متحرك في حين تحريكه، ونسبة يدي إلى القلم تلك النسبة، فسينتهي ضرورة إلى محرك يحرك بحال ثابتة لا بأن يحتاج في حال تحريكه إلى أن يتحرك. وهذا الضرب يوجد في الأجسام، فإن كل جسم يحرك جسما حركة جسمانية، فإنه يحرك بأن يتحرك"(4). يتضح إذن من خلال هذا النص أن ابن باجة يضع حدا فاصلا بين مفهومين للمحرك الأول: المفهوم الأول هو المحرك الأول المطلق، أو المحرك الأول الأقصى البعيد والبريء من كل حركة، وهذا هو الذي شكل الموضوع الأساسي للمقالة الثامنة والأخيرة. أما المفهوم الثاني فهو المحرك الأول الذي يحرك وهو ساكن، غير أن هذا الصنف الثاني يمكن للحركة أن تحدث فيه، وهذا يعني أن مفهوم المحرك الأول بهذا المعنى الثاني يمكن أن ينحل في الواقع إلى معنيين: ففي الأجسام الطبيعية والصناعية من الممكن أن يكون محركها الأول إما ساكنا أو متحركا. وذلك حسب طبيعة هذه الأجسام: فإذا كان القلم يحرك المداد وهو في حالة حركة، واليد بدورها تحرك القلم وهي تتحرك، فإن سلسلة المحركات هذه ستنتهي بالضرورة عند محرك أول لا يحتاج إلى أن يتحرك، ولعل فيلسوفنا يقصد به في هذا المقال النفس النزوعية. ورغم أن كل حركة جسمانية كما يؤكد أبو بكر يكون محركها متحركا، فإن هناك من الأجسام الطبيعية والصناعية ما يحرك أجساما أخرى دون أن يتحرك، حيث يقول في هذا الصدد: "وقد توجد أجسام تحرك من غير أن تتحرك كالمغناطيس للحديد. فإنه يظن أنه يحرك لا بأن يتحرك، فالمغناطيس إذن محرك أول لأنه لا يحتاج في حين تحريكه إلى محرك، وإن لحقه تحرك فبوجه آخر، فأما سائر المحركات، فأمرها بين أن المحرك الأول فيها هو المحرك الأقرب"(5). وعلى أي -وكما أشرنا آنفا- فقد جاءت مقدمة شرح المقالة السابعة من السماع الطبيعي لتحسم هذا الإشكال بشكل نهائي، إذ يميز ابن باجة بين ثلاثة أصناف من المحركات حيث يؤكد "أن المحرك أمر موجود. وإن منه محركا لا يحرك بأن يتحرك إلا بالعرض كالصناعة"(6). وهكذا فإن مفهوم المحرك الأول يقال -حسب ابن باجة- على أنحاء ثلاثة: أحدهما المحرك الذي يحرك لا بأن يتحرك، كالثلج الذي يبرد الإناء ولا يتبرد، وقد يمكن للثلج أن يتحرك بأنحاء من التحرك الأخرى ونستطيع القول بأن هذا الصنف الأول، هو الذي شكل موضوع الأول الذي يحرك ويتحرك، ولا يمكنه أن يتحرك إلا بالعرض، فهو الذي يتمثل في المحرك الصناعي. فالصناعة -حسب أبي بكر- تحرك ولا تتحرك إلا بالعرض، وهذا الصنف الثاني من المحرك الأول قد شكل بالفعل أحد المحاور المعرفية لمقالة الثامنة. أما الصنف الثالث وهو المحرك الأول الذي يحرك ولا يتحرك لا بالذات ولا بالعرض، فهو الذي شكل موضوع القسم الأخير من المقالة الثامنة. وكما يؤكد ابن باجة، فإنه إذا كان الصنف الأول يعتبر حدا لأنه بين الوجود، والثاني يعد معنى الوجود، فإن المعنى الثالث للمحرك الأول "ليس يتبين وجوده إلا ببرهان، فهو حد بالقوة لأنه قول شارح، فبين أن الفحص عن هذه وعن لواحقها أنواع ثلاثة يعمها لواحق، ويختص كل واحد منها أيضا بلواحق، فأما الفحص عن الأول فهو في هذه المقالة(7) وأما الفحص عن الثاني فهو في الثامنة، وأما الفحص عن الثالث، وهو الغاية من المقالات السبع، ففي آخر الثامنة حسبما تقدمنا فقلناه في أقاويلنا في عرض هذا الكتاب، فقد بان بأن المعاني المكتوبة في هذه المقالة ليست تكريرا، ولا معانيها معادة ولا المكتوبة هنا هو المكتوب هناك، فإن المطلوب ليست واحدة(8).

        يتبين لنا إذن من خلال كل هذه النصوص التي أثبتناها هنا أن فيلسوفنا يؤكد أكثر من مرة أن التمايز والاختلاف القائم بين الأصناف الثلاثة للمحرك الأول يجعل مطالب وأغراض المقالتين السابعة والثامنة تختلف إحداهما عن الأخرى، بل إن أبا بكر يؤكد أن هذا الاختلاف لا يقتصر فقط على موضوع المقالتين، بل ينسحب أيضا على مسألة المنهج أو طريقة البرهان المستعملة في كليهما، ويتجلى هذا بشكل واضح في التساؤل الأساسي التالي: "أما هل البرهان الموضوع هاهنا(9) منطقي، أو برهان وجود؟ فنحن ننظر فيه"(10). ولكي يجيب عن هذا التساؤل يدعونا إلى التأمل في المكانية، وفي الوقت نفسه يبرز طبيعة المحرك في كل من هذه الحركات الثلاث: فبالنسبة لحركة الكم في النمو والنقصان، فالظاهر أن المحرك فيهما لا يتحرك أي لا يني بأن يني، ولا يذبل بأن يذبل". ففي هذا الجنس من الحركة محرك أول ضرورة ينتهي إليه لا يتحرك بتلك الحركة ضرورة"(11). أما بالنسبة لحركة الاستحالة، فكما يرى ابن باجة فقد يظن أنه يوجد فيها محرك أول متحرك. فالنار مثلا تسخن الإناء، والإناء يسخن الماء، إلا أن النار لا تسخن، ذلك أنه لو كانت النار تسخن فسوف لن تكون محركا أولا. بل وستمتد سلسلة المحركات والمتحركات إلى ما لا نهاية وكما يقول أبو بكر: "فإن كان ذلك فقد تمكن استحالا متعاقبة غير متناهية ومتحركات متواليات"(12). أما بالنسبة لحركة النقل أو الحركة في المكان فإن فيلسوفا يرى أن أمرها يثير الكثير من الصعوبات والإشكالات، ذلك أن المحرك الأول فيها يحرك غيره وهو متحرك بذاته لا بالعرض. وإذا كان من قبيل المحال افتراض وجود متحركات غير متناهية فنكون -حسب ابن باجة- بالضرورة أمام افتراضين: أما وجود "محرك يحركه غيره، فإن كان لا يتحرك فقد انتهى الأمر إلى وجود محرك أول لا يتحرك، على ما وجد في سائر أجناس التغير. فإن كان متحركا فليس يحركه غيره، بل هو يحرك ذاته"(13). وينبهنا ابن باجة إلى أن الحركة الذاتية غير ممكنة في الاستحالة بالمقارنة مع الحركة في المكان. فادعاء القول بإمكانية وجود شيء ما يحيل أو يغير نفسه لاسيما في الأجسام الطبيعة. والمتحرك من تلقائه داخل في هذا الجنس. ولا يمكن وجود ذلك في الاستحالة"(14). يبقى في النهاية أن نجيب عن ذلك التساؤل الهام الذي تركناه معلقا والخاص بنوعية البرهنة المعتمدة في هذا المبحث. إذ يمكن أن نستخلص في كل النصوص السابقة أن نوع البرهان المستخدم لإثبات تلك الأصناف الثلاثة من الحركة هو البرهان المعروف باسم برهان الوجود(15) الذي يعتمد أساسا على الحس مادام هذا الأخير هو الذي يثبت لنا معاينة وجود الشيء أو عدمه.

  مفهوم المحرك الأول

المحرك الأقصى المطلق                         المحرك الأول الجسماني

                   البعيد                                         القريب

                                         محرك أول لا متحرك             محرك أول متحرك

الأصناف الثلاثة للمحرك الأول:

المحرك الأول

محرك أول لا متحرك                محرك أول جسماني                 محرك أول صناعي

لا بالذات ولا بالعرض             متحرك بالذات                      متحرك بالعرض

2- البرهنة على وجود المحرك الأول:

        بعد أن حسم ابن باجة أمر ذلك الإشكال المعرفي الذي أثاره شراح أرسطو بخصوص المقالة السابعة مؤكدا على أن أغراضها المعرفية تختلف تماما عن أغراض المقالة الثامنة. وبعد أن أكد على الأطروحة الأرسطية التي ترى أن لكل متحرك محركا مميزا بين المفاهيم الثلاث التي يمكن أن نتصور بها المحرك الأول، ينتقل فيلسوفنا الآن إلى محاولة البرهنة على وجود هذا المحرك الأول:

        يمكننا التأكيد على أن ابن باجة يحاول بناء برهنته هذه استنادا إلى ما جاء في معطيات المقالة السادسة وبشكل خاص الاعتماد على مبدأ شيوع الحركة في المتحرك وانقسامها بانقسامه وامتدادها بامتداده. يقول أبو بكر: "ولما كانت الحركة على ما بيناه في السادسة شائعة في المتحرك ومنقسمة بانقسامه وممتدة بامتداده، كانت حركة غير المتناهي غير متناهية سواء كانت في طول متناه أو طول غير متناه. والذي لزم عن القول الأول هو وجود حركة غير متناهية فهذا النحو في زمان متناه، والمحال لم يلزم من أجل ذلك، وإنما هو من أجل أن غير المتناهي لا يتحرك في زمان متناه بل لا يتحرك أصلا"(16). إن ابن باجة يستند إذن في برهنته هذه على بعض الثنائيات التي تعرضنا لها سابقا. ومن أهمها ثنائية المتناهي واللامتناهي وثنائية المنقسم واللامنقسم: فإذا كان كل متحرك منقسم ومتناه، فإن المحرك الأول اللامتناهي لا يتحرك في الزمان المتناهي فقط، بل لا يتحرك أصلا، لأن اللامتناهي غير قابل للانقسام أصلا. ومن هنا يخلص أبو بكر إلى التأكيد على أنه من الضروري في كل متحرك عن غيره أن ينتهي إلى محرك أول لا يحركه غيره. "فإن كان محرك ما أول يحرك لا بأن يتحرك عن غيره فذلك يتحرك بذاته. فإلى هنا انتهى النظر بأفلاطون. ولذلك يرسم النفس أنها شيء يحرك ذاته(17).

        نستنتج من خلال هذا النص أن قولنا بمبدإ لكل متحرك محرك لا يؤدي بنا بالضرورة إلى استخلاص أن هذا المحرك الأول هو فقط المحرك الأقصى اللامتحرك. بل هناك أيضا المحرك الأول المتحرك بذاته لا عن غيره بالمعنى الطبيعي. وأبرز مثال على ذلك النفس التي اعتبرها أفلاطون شيئا يحرك ذاته.

                المحرك الأول المطلق           المحرك الأول القريب

¹

        لا متناه-لامنقسم-لامتحرك         متناه-منقسم-متحرك بذاته

        ومع ذلك فإن ابن باجة ينبهنا إلى مسألة أساسية، وهي أن التسليم بوجود محرك أول يحرك ذاته كالنفس، لا يؤدي بالضرورة إلى القول إن مثل هذا المحرك الأول لا يحركه غيره بشكل مطلق. وهذا يؤدي بنا إلى أن نستنتج أن ليس هناك قطيعة بين المستويين الطبيعي الفيزيائي والميتافيزيقي على صعيد الحركة الكونية المطلقة: مادام المحرك الأول اللامتحرك هو المتحكم في هذه الحركة. بل كل ما يلزم عن ذلك هو أن هذا المحرك الأول المتحرك بذاته لا يحركه محرك طبيعي خارج عنه.

3- إشكالات الحركة الأولى

        إذا كان المحرك الأول الذي عالجته المقالة السابعة هو المحرك الأول الطبيعي الفيزيائي القريب القائم في العالم الطبيعي، فإن المحرك الأول الذي تعرض له أرسطو في آخر المقالة الثامنة والأخيرة هو المحرك الأول الأقصى البعيد اللامتحرك والذي تحكم في الحركة الكونية المطلقة. وهنا ننتقل من مستوى الحركة الطبيعية الفيزيائية القائمة في العالم الطبيعي إلى مستوى الحركة الميتافيزيقية أو ما يسميه أبو بكر بالحركة الواحدة المتصلة اللانهائية. وهكذا بانتقال فيلسوفنا من المقالة السابعة إلى المقالة الثامنة وبالضبط في قسمها الأخير، ينقل مبحثه الفلسفي الطبيعي إلى مستوى أعلى، إنه الانتقال أو التدرج المعرفي من المستوى الطبيعي إلى المستوى ما بعد الطبيعي الميتافيزيقي في إطار مبحثه حول الحركة عموما ومبحثه حول المحرك الأول خاصة. وهنا لابد من الإشارة إلى إحدى الصعوبات الهامة التي تواجهنا في هذا العرض وهي أن الإشكالات التي يطرحها توجد على تخوم مبحثي الفلسفة الطبيعية وما بعد الطبيعة. وحتى لا نتيه في العديد من القضايا والإشكالات التي تتضمنها العلاقة بين المبحثين، سأحاول أن أقارب مقاربة مركزة على بعض إشكالات ما يمكن اعتباره المحور الأساسي الذي يشكل نقطة التقاطع والتداخل بين المستويين الطبيعي الفيزيائي والميتافيزيقي، ألا وهي الإشكالات المتعلقة بتحديد طبيعية الحركة الكونية الأولى: هل هي محدثة أم قديمة؟ منفصلة أو متصلة؟ كائبة أم فاسدة؟ متناهية أم لامتناهية؟ فعن هذه التساؤلات والإجابة عنها يتوقف تأسيس علم ما بعد الطبيعة. وعلى أي -وكما سنرى فيما بعد- فإن أرسطو صاحب المنظومة الفلسفية الطبيعية يلح هو نفسه على ذلك الاتصال بين معطيات كل من العلم الطبيعي وما بعد الطبيعة. بل ويؤكد جازما على أن المبادئ الأساسية التي ينبني عليها علم ما بعد الطبيعة مستمدة من العلم الطبيعي.

        أ- إشكال الحركة بين القدم والحدوث

        يبدأ أبو بكر شرحه للمقالة الثامنة في صياغتها الأولى بتحديد أغراضها المعرفية الأساسية منطلقا من ذلك التساؤل الهام الذي انطلق منه أرسطو نفسه في هذه المقالة. يقول ابن باجة: "قال أرسطو ليت شعري هل حدثت الحركة ولم تكن من قبل؟ إلى قوله: لجميع ما قوامه بالطبيعة". وتجدر الإشارة هنا إلى أن ابن باجة يختصر الفقرة الأولى التي تشكل بداية المقالة الثامنة مكتفيا بذلك التساؤل الهام الذي أثبته والذي يوجد مبحث أرسطو في هذه المقالة. أما النص الكامل للفقرة فهو التالي: "ليت شعري هل حدثت الحركة ولم تكن من قبل؟ وهل تفسد أيضا فإذ لا يكون معه شيء أصلا يتحرك؟ أم الحركة لم تحدث ولا تفسد، لكنها لم تزل فيما مضى ولا تزال أبدا. وهذا الأمر لا يزال له، وليست تفتقر في الموجودات بل كأنها حياة ما لجميع ما قوامه بالطبيعة"(18).

        وينبهنا ابن باجة في البداية إلى أن عبارة ليت شعري المرفقة بالسؤال المطروح تمنح لهذا المبحث خصوصيته الفريدة. فهذه العبارة تستعمل كما يقول "فيما لا رأي فيه للقائل ولا ظن ولا يقين. وقد تستعمل عندما تتساوى عند القائل كل الظنون في أمر ما. وما تساوت عنده الظنون فهو عرف مجرى الجهل على طريق السلب، لأن النقيضين عنده متساويا إمكان الصدق"(19). ويقيم ابن باجة أهمية هذا المبحث حيث يؤكد أنه مادام أن أحدا من الفلاسفة الطبيعيين لم يتقدم أرسطو إلى البحث في مسألة فدم الحركة أو حدوثها، ومن ثم البحث في موضوع ر الأقصى. ومادام بادئ الرأي كما يقول: "يوجب في النقيضين، فقد أخرج أرسطو القول فيه هذا المخرج. ومعظم الأمر عنده، فإن العلم بهذا الأمر من الحركة عظيم الغناء في العلم الطبيعي، فهو مبدأ يشتمل على جميع ما يقال في أنواعه"(20).

        وليحدد ابن باجة بدقة الغرض المعرفي الذي ترومه المقالة الثامنة، يبرز أن أرسطو يسعى أن يبين طبيعة نوع معين من الحركة وهي تلك التي لا تخص الأقسام الأخرى التي لا يحصيها بعد ذلك. "وهي أن يقول هل الحركة متصلة سرمدا أو لا حركة كما يرى زينون، إلى سائر الأقسام. وإنما بدا بما هو معلوم في بعضها، فإن الحركات المحسوسة كلها حدثت ولم تكن قبل، وتفسد فهل جميعها كذلك؟"(21). إن فيلسوفنا في هذا النص في الوقت الذي يكشف فيه عن الغرض المعرفي الأساسي الذي تهدف إليه المقالة الثامنة من السماع الطبيعي، وهو البحث في قدم الحركة أو حدوثها، ومن ثم البحث في طبيعة المحرك الأول الأقصى، يكشف فيه أيضا عن ذلك المبدأ المنهجي الذي تبناه أرسطو في معالجته لهذا المبحث الهام، ألا وهو الانطلاق من المعلوم إلى المجهول، من المحسوس المشخص إلى المجرد الغيبي. ومن ثم الانتقال من الطبيعي إلى ما بعد الطبيعي. ففيلسوفنا يؤكد بوضوح أن أرسطو قد انطلق في مبحثه من الحركة الطبيعية المحسوسة أو كما يسميها الحركة الكائنة الفاسدة إلى الحركة الأزلية السرمدية المتصلة. وهذا يعني بالنسبة لنا شيئا هاما ألا وهو أن البرهنة على وجود هذه الحركة الأزلية وطبيعتها، وكذا وجود المحرك الأول الأقصى وطبيعته يستند أساسا إلى معطيات العلم الطبيعي، أي تلك المقدمات المعرفية التي تم إثباتها في المقالات السابقة عن المقالة الثامنة. ولا عجب في ذلك فأرسطو نفسه يؤكد صراحة هذه الحقيقة حيث يقول: "وقد يجب أن ننظر في ذلك حتى نعلم كيف الحال فيه، فإن ذلك ليس إنما ينتفع به في الوقوف على حقيقة الأمر في العلم الطبيعي فقط، بل قد ينتفع به أيضا في السبل المؤدية إلى النظر في المبدأ الأول"(22) ونحن مبتدئون أولا من الأشياء التي فحصناها فيما تقدم من الأمور الطبيعية"(23). وبذلك تشكل المبادئ المعرفية للعلم الطبيعي، أسسا معرفية لا غنى عنها لبناء المنظومة المعرفية لعلم ما بعد الطبيعة. وهكذا يحاول ابن باجة - واتباعا لنفس المنهج الأرسطي البرهنة على قدم الحركة وأزليتها استنادا لنفس المعطيات التي تم إثباتها في العلم الطبيعي غايته من ذلك هي البرهنة على وجود محرك أول أقصى يشكل المبدأ الأول للحركة الطبيعية الكونية.

        أهم ما يمكن ملاحظته في البداية هو أن فيلسوفنا يتجاوز تحليل ومناقشة مواقف الفلاسفة الطبيعيين الأوائل متبينا المنظور النقدي لأرسطو اتجاه أطروحاتهم حول العالم الطبيعي بشكل عام وحول مبحث الحركة بشكل خاص. فقد "كان الأقدمون من الطبيعيين يوجهون النظر نحو العالم، فإن ذلك كان غرضهم الذي يقصدونه بهذا النوع من العلم، فلذلك لم يلخصوا الحركة بما يخصها، بل من جهة ما تدعوهم إليه الضرورة فيها، فأرسطو فارق ذلك النظر بجهتين: أحدهما أنه جعلها مطلبا بنفسه. وهذا لم يعرض له الطبيعيون أصلا. فلذلك يقول ليت شعري هل حدثت الحركة؟. والثانية أنه رأى أن الفحص عنها يتقدم في التربة الفحص عن العالم فلا يمكن الفحص عن العالم قبل الفحص عنها"(24). وبعد أن يشير ابن باجة -بشكل سريع وموجز- إلى بعض آراء الفلاسفة الطبيعيين مثل زينون واناكساغوراس وانباذو قليدس بالإضافة إلى أفلاطون يعقب قائلا: "وليس في أحد من هذه الآراء ما يؤخذ منه مبدأ النظر في الحركة والنظر فيها من هذه الجهة"(25).

        ب- الحركة بين القوة والفعل

        من أهم المقدمات والمبادئ المعرفية التي ينطلق منها ابن باجة في معالجته لمسألة الحركة بين القدم والحدوث ذلك التحديد المعروف لمفهوم الحركة حيث يتم توظيفه لمحاولة البرهنة على قدم الحركة الكونية وأزليتها مستفيدا بشكل خاص من تلك الثنائية التي تؤطر هذا التحديد والتي تتمثل في مفهومي القوة والفعل أو الوجود الإمكاني والوجود الفعلي. يقول ابن باجة: "ولما كانت الحركة كمال ما هو بالقوة مقابلا لما هو بالفعل، حتى لا يمكن أن يجتمعا في موضوع، فقد يجب ضرورة أن يوجد ما بالقوة، فإذا كان ما بالقوة قد وجد زمانا بلا نهاية، فالقوة تتقدم الكمال في الموضوع، وإن كانت القوة حادثة فلا تتقدم بالزمان، فإن كان وجودها تماما فليس يمكن أن تكون القوة والكمال حدثا معا لأنه يكون بالقوة والكمال معا، وذلك ما لا يمكن"(26). يتبن لنا إذن كيف أن أبا بكر يوظف تحديد مفهوم الحركة في المسألة التي نحن بصددها (أي قدم الحركة وأزليتها). فما دامت الحركة تتوسط طرفين اثنين وهما الوجود بالقوة (الوجود الممكن)، والوجود بالفعل (الوجود الكامل الفعلي)، فهذا يعني أن هذين الطرفين لا يمكنهما أن يجتمعا معا في زمان واحد، ذلك أن القوة أو الإمكان، كما يؤكد فيلسوفنا تتقدم الكمال في الموضوع، أما إذا افترضنا حدوث القوة، فهذا سوف يؤدي بنا إلى اعتبارها غير متقدمة زمانيا، ومن ثم القول بحدوثها متزامنة مع الوجود بالفعل أو الكمال. وهذا من قبيل المحال، وبذلك ينتهي أبو بكر إلى التأكيد على أن "القوة متقدمة للكمال بالزمان، وهذا لازم ضروري يقيني، واتفق له إن كان مشهورا ذائعا، فمن المعروف عند الجميع أنه إنما يتحرك ما يمكن أن يتحرك لا ما لا يمكن أن يتحرك، وأنا فصل تبين أكثر، فإنه يسخن ما يمكن أن يسخن لا ما لا يمكن أن يسخن، ويقطع ما يمكن أن يقطع لا ما يمكن أن يقطع"(27).

        يجدر بنا أن نثبت هنا أن هذا المبدأ الذي يتمسك به ابن باجة قد أثار خلافا هاما بين أحد شراح الفلسفة الأرسطية المتأخرين وبعض الفلاسفة المسلمين قبل عصر ابن باجة وبعده، ومن أهمهم الفرابي وابن رشد. أما مصدر هذا الخلاف فهو موقف الشارح الاسكندري يحيى النحوي الذي شكك في هذا المبدأ الأرسطي القائل بأسبقية الوجود بالقوة على الوجود بالفعل بالزمان. ونحن لا يهمنا بالدرجة الأولى أن نعرض لتفاصيل هذا الخلاف. بل ما يهمنا أساسا هو تحديد موقف ابن باجة ومدى تميز هذا الأخير عن المواقف الأخرى. يعرض فيلسوفنا لموقف يحيى النحوي في عدة مواضع من شرحه للمقالتين السابعة والثامنة. يقول في إحداهما: "وأما ما قاله يحيى النحوي في مناقضة أرسطو فهو على ما يقوله أبو نصر(29) غلط فاحش أو مغالطة قبيحة، وقد ذكر أبو نصر في مناقضته ما فيه كفاية". ولنقل فيه على طريق الرسم، فإن في الرسم أمورا يستعملها فيما نقصده، فنقول أن يحيى النحوي يروم أن ينقض رأي أرسطو فيما قاله من تقدم القوة للفعل بالزمان، ليلزم في الحركة المستديرة الأولى ما يلزم الحادثة، فقال: "فإن نارا تكونت أسفل ولم يكن لها عائق حال كمالها، ففي حين كمالها تتحرك إلى فوق. وظاهر أنه لم يكن في مادة النار، كأنك قلت الزيت، قوة للفوق بل له بالطبع الأسفل، فقد وجدت الحركة دون أن تتقدمها قوتها بالزمان، بل قد توجدان معا"(30). ويقول فيلسوفنا في موضوع آخر: "وقد عرض ذلك ليحي النحوي فيما يقوله في كتابه، فلذلك يستعمل صنفا مكان صنف، فيعارض بذلك ما وضعه أرسطو في أن القوة تتقدم الفعل بالزمان غلطا أو مغالطة"(31). يتضح إذن من خلال النصين معا أن ابن باجة، يرفض تماما موقف الشارح الاسكندري يحي النحوي متهما إياه بالمغالطة الفاحشة، كما اعتبره كذلك الفرابي نفسه، وبذلك فإن أبا بكر ذهب في هذه المسألة مذهب سلفه الفارابي متبينا تأويله لذلك المبدأ كما ورد في رسالة له بعنوان الموجودات المتغيرة(32) إن فيلسوفنا يرى شأنه في ذلك شأن الفارابي أن يحيى النحوي في مناقضته لرأي أرسطو يستعمل صنفا من الحركة مكان صنف آخر، وبعبارة أدق، أنه يلزم الحركة المستديرة الأولى ما يلزم الحركة الحادثة: فمن خلال المثال الذي استشهد به يحيى النحوي والذي يتمثل في النار يعتقد أنها تتكون في الأسفل دون أن تجد عائقا يحول دون كمالها، ففي وقت كمالها تصعد تتحرك نحو الأعلى. وهذا يعني -بمنظور يحيى النحوي- أن النار كجسم طبيعي لم تتضمن قبل حركة صعودها قوة أو إمكانا لهذا الصعود. ومن هنا يستنتج أن حركة النار تحدث دون أن تسبقها -زمانيا- قوة ما. وهكذا فليس من الضروري أن تكون كل حركة مسبوقة بقوتها، بل قد تتواجدان معا.

        كيف يرد أبو بكر على موقف يحيى النحوي؟

        الحقيقة أن ابن باجة قد رد على هذا الموقف في العديد من المواضع التي تتخللها الصياغات الثلاث للمقالة الثامنة من السماع. ورغم تعدد الوقفات التي ناقش فيها ابن باجة موقف يحيى النحوي، فنحن نجد دائما أن هناك تمسكا بنفس الموقف الحازم الرافض لمغالطة هذا الشارح الاسكندري، يقول أبو بكر: "فنقول إن القوة ليست مما يفارق، بل تكون أبدا في موضوع مشار إليه، وتكون إما مقرونة بموجود كالأضداد، وإما غير مقرونة بموجود كالإعدام، كالفقر والغنى، وهذه للموضوع كالزيت، إما بالطبع وإما بالقسر، وإما أولا وإما ثانيا. فإن كون الفوق هو في الزيت، وهو زيت بالقسر، فلننزل أجزاء من الزيت في بسيط الهواء المقعر، فهو في مكانه بالطبع، وليس فيه قوة على الحركة بالطبع، لكن هذا الجزء قد يتحرك إلى فوق بالقسر، وفيه فوق بالقسر، فليزج به إذا حصل فوق، صوت قوة الأسفل بالطبع، لأن قوة الأين أبدا تقترن بموجود، إذا كانت أولا في الشيء. ففي الحركة الطبيعية يضطر الجسم أن يكون له أن خارج عن الطبع. ولذلك كل جسم طبيعي كان له الأين بالطبع لم يكن أن تكون له حركة بالطبع، فلذلك يحتاج كل متحرك طبيعي إلى ألا يكون في موضعه الطبيعي"(33). من خلال هذا النص الهام يتبين لنا أن ما يهدف إليه ابن باجة هو الكشف عن طبيعة القوة التي شكك فيها يحيى النحوي معتقدا أنها لا تتقدم الحركة بالزمان، بل توجد بوجود الموضوع. إن فيلسوفنا يؤكد على حقيقة أساسية، ألا وهي عدم مفارقة (القوة) للموضوع الطبيعي، كل ما في الأمر هو أن هذه (القوة) إما أن تقترن بالموجود كما هو الحال في الأضداد (قوة العلم المقابلة للجهل)، أو لا تقترن بالموجود كالإعدام (الفقر والغنى). غير أن هذه القوة بالنسبة للموضوع كما ينبهنا ابن باجة، إما أن تكون بالطبع أو بالقسر. ويتضح هذا الفرق بين طبيعة كل قوة من هاتين القوتين من خلال المثال الطريف الذي يستشهد به أبو بكر، وهو مثال (الزيت). فهذا الجسم الطبيعي إما أن يكون في مكانه (اينه) الطبيعي، وهو ما يسميه ابن باجة بـ(بسيط الهواء المقعر)، وفي هذه الحالة لا يمتلك أية قوة على الحركة بالطبع، وإما أن تأتي قوة أخرى خارجة عنه أو قاهرة تجبره على الحركة القسرية نحو الأعلى، وهكذا فإذا وضع هذا الجسم (فوق)، صارت له قوة السقوط نحو الأسفل بالطبع، لأن قوة الأين أبدا تقترن بموجود كما يقول ابن باجة. وهكذا فإن النتيجة التي ينتهي إليها هي التأكيد على أن "القوة التي ظنها يحيى النحوي أنها لا تتقدم الحركة بالزمان، فهي توجد بوجود الموضوع معا، فهي القوة بالقسر"(34).

        هكذا يتضح إذن من خلال هذا النص، والنصوص التي سبقته، أن فيلسوفنا يظل متمسكا بحقيقة ذلك المبدأ الذي يفصل بين طرفي الثنائية التي تؤطر التحديد الأرسطي لمفهوم الحركة، أي التمييز بين الوجود بالقوة (أو الوجود الممكن) والوجود بالفعل (الوجود الفعلي الكامل). فلا يمكن إطلاقا تصور تزامن أو تواجد لهذين الصنفين من الوجود، ومن ثم لابد أن يسبق أحدهما الآخر.

        وفي الختام يبقى من الضروري التأكيد على أن هذه المداخلة المتواضعة لم تركز سوى على جانب أساسي من جوانب مبحث المحرك الأول كما أشارته المقالتان السابعة والثامنة من شرح السماح الطبيعي، وهو الجانب المعرفي الإشكالي المتعلق بالتساؤل عن القصد أو الغرض المعرفي لكلا المقالتين، ومن ثم إبراز حقيقة الموقف الباجي الدقيق من إشكال المحرك الأول والإشكالات المتفرعة عنه. تظل هناك عدة قضايا وإشكالات هامة أخرى يضيق هذا العرض المركز عن معالجتها رغم ارتباطها الوثيق بهذا المبحث، نذكر من أهمها إشكال علاقة المحرك بالمتحرك واللواحق الناجمة عن هذه العلاقة، وإشكال الحركة والمتحرك، والفروق الكائنة المميزة بين المتحرك بذاته والمتحرك بغيره، بل يظل التساؤل الأساسي والهام والذي طرحناه في بداية هذا العرض حين تساءلنا عن الدلالات التي تكمن وراء هذه القضايا والإشكالات التي طرحناها هنا. ذلك مبحث آخر سنترك له مناسبة أخرى.

*************************************************

الهوامش:

1- تجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم المحرك الأول -كما نعالجه هنا- مفهوم عام شامل. وبالمعنى المنطقي الدقيق كاسم كلي يشمل العديد من المحمولات ومن تم المحركات الأولى العديدة والمختلفة التي عالجتها المباحث الفلسفية التي اندرجت -في التقليد الفلسفي الأرسطي والإسلامي- ضمن الفلسفتين الطبيعية والإلهية الميتافيزيقية. وإذا شئنا هنا استعمال الألفاظ المنطقية للفرابي أمكننا القول إن مفهوم المحرك الأول في بعض الأعمال والمؤلفات الطبيعية الباجية المذكورة هنا يقال باشتراك لا بتواطؤ.

2- ابن باجة: شروح السماع الطبيعي، تحقيق معن زيادة، دار الفكر، دار الكندي، بيروت 1978، المقالة السابعة، ص107-106.

3- رسائل فلسفية لأبي بكر بن باجة، تحقيق جمال الدين العلوي، دار الثقافة، بيروت، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1983، ص80.

4- المصدر السابق، ص ن.

5- المصدر نفسه، ص ن.

6- ابن باجة: شروح السماع الطبيعي، المقالة السابعة، ص107.

7- يقصد المقالة السابعة من السماع الطبيعي.

8- المصدر السابق، ص108-107.

9- انظر ما أثبتناه في الهامش 7.

10- المصدر نفسه، ص108.

11- المصدر نفسه، ص ن.

12- المصدر نفسه، ص ن.

13- المصدر نفسه، ص109.

14- المصدر نفسه، ص109.

15- انظر مقالنا حول (القول البرهاني عند ابن باجة) حيث تعرضنا لأصناف البراهين ومن ضمنها برهان الوجود، مجلة مدارات فلسفية، العدد الرابع، 2000، ص139-131.

16- شروح السماع الطبيعي، م م، ص110-109.

17- المصدر نفسه، ص110.

18- أرسطو: السماع الطبيعي أو الطبيعة، نشرة عبد الرحمان بدوي.

19- ابن باجة: شروح السماع الطبيعي، المقالة الثامنة، ص150.

20- المصدر نفسه، ص ن.

21- المصدر نفسه، ص151-150.

22- يقصد المحرك الأقصى.

23- أرسطو: السماع الطبيعي، م م الجزء 2، ص804.

25- المصدر نفسه، ص153.

26- المصدر نفسه، ص ن.

27- المصدر نفسه، ص154-153.

28- نقصد المبدأ القائل بأسبقية القوة على الفعل.

29- يقصد أبا نصر الفارابي.

30- ابن باجة: المصدر السابق، ص180.

31- المصدر نفسه، ص170.

32- تعتبر هذه الرسالة من النصوص الفلسفية المفقودة للفارابي، ورغم عدم إدراج هذا النص ضمن قائمة كتاب مؤلفات الفارابي لجعفر آ يسين وعلي محفوظ، فالراجح أنه نص مفقود منسوب بالفعل إلى المعلم الثاني. وما يرجح هذا الاحتمال هو كثرة الإحالات التي نجدها في شروح السماع الطبيعي لابن باجة انظر على سبيل المثال ص ص180، 184، 195...، كما أن ابن رشد قد أحال إليه في إحدى مقالاته وهي في المقالة السابعة والثامنة من السماع انظر بهذا الصدد: ابن رشد: مقالات في المنطق والعلم الطبيعي، تحقيق: جمال الدين العلوي دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1983، ص.ص231، 232.

33- ابن باجة: المصدر نفسه، ملحق في معاني السابعة والثامنة، ص.

34- المصدر نفسه، في متقدم قوله في معاني الثامنة خاصة، ص195-194

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق