احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

دور النموذج الطبي في القولين العلمي والفلسفي عند ابن رشد

                                                                       د. محمد المصباحي

         منذ أفلاطون وأرسطو صار الطب نموذجا (paradigme) يُحتذَى لحل صعوبات القولين العلمي والفلسفتين علاوة على القول الإنساني المتصل بمجالات النفس والأخلاق والسياسة. وقد انتقل هذا التقليد إلى ابن رشد، حيث يتوسع في استخدام استعارة الطب والصحة في تبيين عدة قضايا أونطولوجية وإبستيمولوجية ودلالية وسياسية، وقضايا تهم علاقة الحكمة بالشريعة، كمسألة تعدد معاني الموجود، وقضية علاقة النص بالتأويل وبالجمهور، ومسألة قدرة الأحلام على التنبؤ بالمستقبل، ومسألة إثبات العلية ونفي الصدفة الخ.

        ويحملنا استعمال ابن رشد لمثال الصحة والطب، وهو المعروف بتعلقه الشديد بالبرهان - على طرح جملة أسئلة من بينها: كيف يجوز للبرهان أن يستنجد بأساليب كالتشبيه والتناسب والتمثيل والاستعارة لتوضيح قضاياه النظرية والعملية، وهي أقل إعطاء لليقين وأعجز عن الوصول بالإنسان إلى الوقوف على الحق من البرهان؟ هل معنى هذا أن البرهان غير كاف بنفسه لإحداث اليقين والطمأنينة المعرفية في النفس، أن الأمر يتعلق فقط بعملية بيداغوجية يلجأ إليها الفيلسوف قبل البرهنة، أو بعدها، لتقريب المعنى من ذهن المتلقي؟ ثم كيف يجوز لعلم قائم على المبادئ البيّنة بنفسها، وعلى المفاهيم النظرية المجردة أن يستأنس باستعارات وأمثلة محسوسة تنتمي إلى جنس القولين الخطابي والشعري، أليس معنى ذلك رجوع بالفيلسوف إلى كهف الظلال والشابيح المحاكية للحقيقة؟ بل كيف يجوز للعلم البرهاني بامتياز -وهو الفلسفة الأولى- أن يستعير من "علم" أقل رتبة منه على مستوى أدواته المنهجية، وعلى صعيد طبيعته العملية، وهو علم الطب، الذي لم يكن يعتبره ابن رشد حتى "من العلم الطبيعي"(1)؟ كيف يجوز للفلسفة الأولى، التي توجد على رأس العلوم النظرية، أن تستأنس في بيان دلالة أسمائها بعلم يوجد على رأس العلوم العملية؟ أما فيما يتصل باستعمال التمثيل الطبي لتقريب دلالة علاقة الحكمة بالشريعة، أو علاقة النص بالتأويل، فنتساءل كيف يمكن تبرير استعمال أدوات ومقتضيات علم وضعي، -علم الطب- في تبيين مسائل الشريعة المنزلة؟

        إن ما يشفع لنا وضع هذه الأسئلة هو أن الاستعارة والتشبيه والتمثيل تدخل في جنس القول الشعري، الذي يَقصُد إما إحداث تخييل ولذة وانفعال في نفس المتلقي، أو تعبئة الجمهور بالشوق نحو غاية عملية ودفعه دفعا إلى تحقيقها، بينما يتوخى القول البرهاني على العكس من ذلك الابتعاد بالإنسان ما أمكن عن كل ما من شأنه أن يثير انفعاله، أو يجعله منساقا لهوى الآراء والظنون والتشيعات. وحتى إن قيل لنا بأن ابن رشد لم يكن يلجأ إلى التمثيل بصناعة الطب إلا تحت إلحاح ضرورة التوضيح والتبيين، أي من أجل غاية بيداغوجية لا غير، فإن ذلك يعني في نظرنا اعترافا بعجز للبرهان وعدم كفايته بنفسه في إيصال معارفه إلى الآخر، مما يعيد الاعتبار للقول الشعري الذي طالما هاجمه ابن رشد، ووصف به كل قول أو خصم زل أو زاغ عن طريق الصواب.

        من أجل البحث عن مسوغات اللجوء إلى التمثيل والاستعارة في خضم البرهنة العلمية والفلسفية، سنعمل على تحليل نوعين من التمثيلات الطبية، نسمي الأول منهما "بالتمثيل الدلالي-التحليلي"، الذي استعمل لتوضيح قضايا علمية وفلسفية، كقضية تعدد ووحدة معاني الموجود؛ ونسمي الثاني "بالتمثيل التأويلي التركيبي" الذي استعمله ابن رشد لإظهار حدود ومخاطر التأويل الكلامي للشريعة وانعكاس ذلك على المدينة والجمهور.

مثال الأشياء المنسوبة إلى الصحة وإشكالية الالتباس الدلالي لاسم الموجود

        لقد ضرب أرسطو نفسه مثال الطب والصحة لحل مشكلة تعدد ووحدة دلالات اسم الموجود. لكننا نجد ابن رشد يتوسع بعض التوسع في استعمال هذه الاستعارة. فمن المعروف أن ابن رشد كان من المدافعين عن الوضعية الحرجة لاسم "الموجود"، الذي يقع في برزخ يتردد فيه بين "الأسماء المشتركة" و"الأسماء المتواطئة"، وهو برزخ "الأسماء المشككة" "التي تقال على أشياء منسوبة إلى شيء واحد، وهي التي تعرف في صناعة المنطق بالتي تقال بتقديم وتأخير"(2). في مقابل ذلك، يستعمل العلم أسماءه في دلالة متواطئة لا تقبل التفاوت والمغايرة، بينما تستعمل السفسطة أسماءها في دلالة مشتركة ترفض الوحدة والثبات في الدلالة. لكن بالرغم من الطابع التعددي والملتبس لأسماء "علم الموجود بما هو موجود"، وبعدها عن الدلالة المتواطئة للأسماء العلمية، فهي، في نظر ابن رشد، تنطوي على نوع من الحمل الذاتي الذي يضمن اليقين لقضايا علم الوجود. إلا إن ابن رشد، كأرسطو، كان يشعر بعدم الاطمئنان إلى الوضعية "المتضادة" لدلالة أسماء "علم الموجود بما هو موجود"، لذلك لجأ إلى الاستئناس بمثال الطب أو الصحة لتبرير الجمع بين الوحدة والتعدد في أسماء هذا "العلم". هكذا تم تشبيه المقولات التسع العرضية في علاقتها بمقولة الجوهر بالأشياء المنسوبة إلى الصحة أو البرء: "ولما كانت الأشياء المبرئة تنسب إلى البرء بجهات مختلفة، كما المقولات التسع تنسب إلى الوجود من قبل وجودها في الموجود الحقيقي وهو الجوهر بجهات مختلفة، أخذ يعرف اختلاف الجهات التي توجد في أمثال هذه الأسماء ليعرف أن الأمر كذلك في اسم الموجود مع الجوهر ومع سائر المقولات"(3). فالأشياء تنسب إلى الطب أو الصحة بجهات مختلفة، إلا أن ابن رشد اكتفى بذكر أربع جهات منها هي: حفظ الصحة، وفعلها، والدلالة عليها، وقبولها، أما عند تطبيق هذا النموذج على الموجودات، فإنه وجد أنها تنسب إلى الوجود بجهات عشر هي المقولات المعروفة.

        وكما أن الأشياء الصحية تنسب إلى الطب من خلال نسبتها إلى الصحة، فإن الموجودات تنسب إلى الوجود عن طريق الجوهر. مما يعني أن الجوهر هو الذي صار يمثل الوجود، وعن طريق توسطه تتوصل كل مقولة بمقدارها الخاص من الوجود بحسب قربها أو بعدها من الجوهر. أما عندما أراد ابن رشد تحديد علاقة المقولات التسع جملة بمقولة الجوهر من أجل بناء الوحدة التي يقوم عليها "علم الموجود بما هو موجود"، فقد اختار علاقة موضوع بمحمول، أي العلاقة الحملية، واستبعد مؤقتا علاقة الفاعل بالمفعول(4)، والعلاقة الغائية(5). وبهذا النحو صيغت وحدة علم الموجود على نموذج الصحة.

تعدد ووحدة علم الطب مثالا لتعدد ووحدة العلم المدني:

        لقد أشرنا إلى أن الفلاسفة اتخذوا ما يقوم به الأطباء حيال الجسم البشري من حفظ للصحة وإزالة المرض، عبر الأدوية والأخلاط ومجموعة من الأفعال والانفعالات، نموذجا لفهم ما يفعله الخطيب-السياسي في نفوس الجمهور من تغيير لآرائهم وتحويل لاتجاه أفعالهم، وتعديل لتوازن مدينتهم. ونجد هذا الاستعمال متواترا في مجموعة من أعمال ابن رشد، وبخاصة في تلخيصه لسياسة أفلاطون. ولكن ليس هذا الموضوع هو ما يهمنا في بحثنا هذا، وإنما الذي يهمنا هو ذكر وجه آخر لاستعمال مثال الطب أراد به أبو الوليد إثبات وحدة جزئي العلم المدني، وربما تبرير شرحه لمحاورة أفلاطون في العدالة السياسية.

        ففي مستهل تلخيصه لكتاب سياسة أفلاطون نجد أبا الوليد يستأنس بالقسمة الثنائية لعلم الطب لتحقيق ثلاثة أغراض، أولها إثبات انتماء جزئي العلم المدني، وهما علم الأخلاق وعلم السياسة، إلى المجال العملي لا النظري، شأنه في ذلك شأن صناعة الطب؛ وثانيها التأكيد على وحدة علمي الأخلاق والسياسة في إطار علم واحد هو العلم المدني؛ وثالثها إثبات وجه العلاقة بينهما، معتبرا علم الأخلاق علما نظريا بالقياس إلى علم السياسة الذي عدّه علما عمليا(6). فكما أن علم الطب ينقسم إلى جزئين، أحدهما نظري يبحث في كليات الصحة والمرض، والآخر عملي يستنبط الوسائل العملية والتجريبية لحفظ الصحة أو إزالة المرض واستعادة الصحة، فكذلك العلم المدني ينقسم إلى علمين، علم نظري ينظر في المبادئ العامة للسلوك، وعلم عملي ينظر في كيفية صناعة السلوك وإخراجه إلى الفعل في فئات الجماعة المدنية. ومن الواضح أن تقسيم العلم المدني إلى جزأين ينتج عنه تبعية علم السياسة لعلم الأخلاق، مما يعني، من ناحية، عدم انفصال السياسي عن الأخلاقي موضوعا وممارسة، ومن ناحية ثانية ضرورة تسلم علم السياسة لمبادئه، أي لتوجيهه، من علم الأخلاق، بسبب أسبقية هذا الأخير النظرية.

        ونشير بسرعة إلى التناظر الذي يقيمه بين عمل الطبيب وعمل السياسي. فإذا كانت الغاية من صناعة الصحة هي الحفاظ على التوازن في جسم الفرد بين العناصر والكيفيات والأخلاط، أو استعادة هذا التوازن إن فقد، بالعمل على سيطرة المزاج المعتدل، فإن غاية رجل الدولة تكمن أيضا في العمل على حفظ العدل والتوازن في جسم المدينة بين فئاتها المختلفة ووظائفها المتباينة، أو استعادة العدالة والتوازن إن زال، بإخضاع أقسام الدولة ودواليبها وأفعالها لإمرة العقل.

مثال "الدواء الأعظم": النص، التأويل والجمهور:

        نصل الآن إلى المعنى الثاني للتمثيل، وهو التمثيل التأويلي-البرهاني بنموذج الطب، الذي استعمله ابن رشد لتوضيح علاقة الشريعة بالمتأولين والجمهور. هكذا نجده يشبه الشريعة "بالدواء الأعظم"، وعلماء الكلام بأشباه الأطباء الذين يغيرون باستمرار تركيب المركب الدوائي الأعظم، ويشبه وحدة الجمهور العقدية والسياسية بالصحة. وينطلق في تمثيله من مقدمة تقضي باشتراك ل من الطب والشريعة في غاية واحدة هي فعل الصحة. لكن إذا كان الطبيب يهتم بصحة الأبدان بدنا بدنا، فإن صاحب الشريعة يهتم بصحة الأنفس اهتماما جماعيا، سواء تعلق الأمر بحفظ صحة المدينة أو باستردادها إذ فُقدت.

        ويتخذ التشبيه بالطب أو الطبيب شكلين مختلفين، أحدهما يظهر على هيئة "دواء أعظم" في كتاب مناهج الأدلة، ويقوم على تقابل بين الدلالة الحقة والدلالة المجازية البعيدة؛ والثاني يظهر على شكل "الطبيب الماهر" في كتاب فصل المقال ويتأسس على التقابل بين "الأقوال المشتركة التصديق" والقول البرهاني من جهة، والأقوال الجدلية التي لا تفيد لا تصديقا مشتركا ولا تصديق خاصا.

        ففي كتاب مناهج الأدلة نجد ابن رشد يمثل الشريعة "بالطبيب الماهر" الذي ركب "دواء أعظم" قصد به أن "يحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر"(7)، ويمثل المتكلم المتأول بالمريض الذي له تركيب بيولوجي ناذر في الناس. إذن منذ البداية يؤطر ابن رشد تمثيله بتقابلين، من ناحية بين "المزاج المعتدل" و"المزاج الرديء"، ومن جهة أخرى بين "جميع الناس أو الأكثر"، و"الأقل من الناس"(8). ومن البيّن أن التقابل الأول ينتمي إلى مجال الطب، لأنه تقابل بين الاعتدال بين الكيفيات الأربع (الحرارة والبرودة، الرطوبة واليبوسة) وهو الصحة، والخروج عن حد المزاج المعتدل وهو المرض. أما التقابل الثاني فينتمي إلى مجال الميتافيزيقا والمنطق، لأنه تقابل بين الضرورة والصدفة. وكأن صحة الجميع، ومصلحة الأكثر من الناس، تطرح على مستوى الضرورة الميتافيزيقية التي لا تقبل أي مس أو تعديل بسبب استثناءات وهوامش طائشة.

        ويستمر ابن رشد في رواية حكايته بالإشارة إلى رجل من المرضى، "لم يلائمه دواء "المركب الأعظم"، لرداءة مزاج كان به، ليس يعرض إلا للأقل من الناس"(9)، يزعم أن دلالة بعض أسماء الأدوية التي تدخل في تركيب "المركب الأعظم" ليست تلك التي يفهمها الجمهور منها، فيقوم بتعديلها بإضفاء استعارة بعيدة عليها. فينشأ من ذلك "مركب جديد"، يؤدى استعماله إلى مرض كثير من الناس؛ ثم يجئ رجل ثان يستنكر ما قام به الرجل الأول، ويروم إصلاح ما آل إليه المركب الثاني، فيستبدل أحد أدويته بدواء آخر يعتقد أنه هو الذي يوفي بالدلالة الحقيقية لاسم الدواء المغير، فيؤدى هذا الاستبدال بدوره إلى فساد أمزجة كثير من الناس ومرضهم؛ ثم جاء رجل ثالث فرابع.. وكل واحد منهم يزعم أنه هو الذي يتأول اسم الدواء المعدل التأويل الصحيح، فتنشأ عن ذلك مركبات جديدة لا تعمل سوى على انتشار أمراض جديدة بين كثير من الناس. وهكذا يستمر التأويل والتغيير والتبديل في دلالات أسماء الأدوية المكونة للمركب الأعظم بدلالات واستعارات بعيدة، إلى أن "عرض منه للناس أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بهذا "الدواء المركب" في حق أكثر الناس"(10). وهذا هو ما حصل للشريعة مع المتأولين من الفرق الكلامية والصوفية فأفسدوها بتأويلاتهم، فلم تعد قادرة على إحداث الصحة لجميع الناس أو لأكثرهم، بل صارت تجلب الأمراض دون أن تشفي أحدا. فتعطلت بهذه التأويلات وظيفة الشريعة، التي هي ضمان اطمئنان الجمهور ووحدة عقيدتهم(11). إن الشريعة -أي "المركب الأعظم" الذي يتكون من الأصول الأولى- لا تحتاج إلى تأويل، أي إلى تغيير دلالة مكوناته وإخراجها عن معناها الأصلي والفطري، لأن أصولها الأولى "إذا تُؤملت وجدت مطابقة للحكمة مما أول فيها"(12).

        ويعود مفهوم "الطبيب الماهر" الذي "يقصد حفظ صحة جميع الناس وإزالة الأمراض عنهم" للظهور في فصل المقال، غير أنه لا يرد مرفوقا "بالمركب الأعظم"، أي بوسيلة طبية علاجية، وإنما بأداة خطابية هي "الأقاويل المشتركة التصديق"(13)، وقد استعملها بإزاء الأقاويل البرهانية التي يختص بتصديقها ذوو الفطرة الفائقة، في مقابل الأقاويل الجدلية التي لا تجلب لا التصديق المشترك ولا التصديق الخاص. إن وضع "الأقاويل المشتركة التصديق" و"الأقاويل البرهانية بإزاء بعضهما البعض يشير إلى وجود ضرب من التقابل يتخذ هو الآخر شكل تشبيه بين نوعين من الطب، طب جمهوري في متناول الجميع، لأن تصديقه لا يحتاج إلى عناء التعلم أو إلى فطرة فائقة، طالما أنه قائم على أقاويل يشترك الجميع في تصديقها، ويقصد به الشريعة في وضعها الفطري غير المؤوَّل؛ والطب الثاني هو طب الخواص الذي لا يمارسه إلا الراسخون في العلم، لأنه يقتضي أقوالا برهانية مستعصية لا يستطيع أن يسايرها إلا من له دربة وفطرة فائقة، وهذا الطب هو طب الحكمة. وقد لجأت الشريعة إلى الطب الجمهوري، الذي يتميز كما أشرنا بكونه عاما ينفتح به جميع الناس، خواصا وجمهورا، لأنه من غير الممكن تصيير جميع الناس أطباء بالمعنى البرهاني. لكن بالرغم من اختلاف الطب الجمهوري عن الطب البرهاني، فإنهما يلتقيان في العمق، أي في الأصول والغاية، وهي الحفاظ على الصحة، واستعادتها إذا زالت(14).

        أما الوصفات الطبية للمتأولين من المتكلمين والمتصوفة فلا تستطيع لا نفع الجمهور ولا إفادة الخواص. فالمتأول ينتهي إما إلى إبطال الطرق التي وضعها الطبيب الماهر، أو إعطائها تأويلات لا يفهمها الجمهور ولا يقع لهم بها التصديق الذي يدفعهم إلى العمل(15)، فيؤول بهم الأمر "إلى أن لا يروا أن هاهنا صحة يجب أن تُحفظ ولا مرضا يجب أن يزال، فضلا عن أن يروا أن هاهنا أشياء تَحفِظ الصحة وتزيل المرض. وهذه حال من يصرح بالتأويل للجمهور"(16). وهكذا ينتهي المتأولون إلى إبطال الطب الشرعي وإفساد صحة الناس وإتلاف سعادتهم الدنيوية والأخروية.

        وبينما جرى التركيز في مثال "المركب الأعظم" في كتاب مناهج الأدلة على الصراع على الدلالات أو التصورات، فإن الصراع في مثال "الطبيب الماهر" في فصل المقال يجري على مستوى على الأقوال أو التصديقات. يصف ابن رشد المتأول بقوله: "فتصدى هذا إلى الناس وقال لهم إن هذه الطرق التي وضعها لكم هذا الطبيب ليست بحق، وشرع في إبطالها حتى بطلت عندهم، أو قال إن لها تأويلات، فلم يفهموها، ولا وقع لهم من قبلها تصديق في العمل. أفَتَرى الناس الذين حالهم هذه الحال يفعلون شيئا من الأشياء النافعة في حفظ الصحة وإزالة المرض؟ أو يقدر هذا المصرح لهم بإبطال ما كانوا يعتقدون فيها أن يستعملها معهم، أعني حفظ الصحة؟ لا، بل ما يقدر هو على استعمالها معهم، ولا هم يستعملونها، فيشملهم الهلاك"(17).

        وفيما يخص تبرير ابن رشد لاستعماله التمثيل بالطب، يكتفي في مناهج الأدلة بالتصريح بأن مثال "الدواء الأعظم" هو "مثال صحيح"، بينما نجده في فصل المقال يقدم تبريرا منطقيا لتمثيل الشريعة بالطب في عرضه لعلاقة النص بالتأويل، وعلاقة المؤول بالجمهور. فقد دافع عن مشروعية استعماله للتمثيل بأن أبعد عنه تهمة استعماله التمثيل الشعري الذي طالما وجهها لخصومه، مبينا أن التمثيل الذي استعمله ليس تمثيلا شعريا بل هو تمثيل برهاني يجلب اليقين، لأنه صحيح التناسب: "وإنما كأن هذا التمثيل يقينيا وليس بشعري -كما لقائل أن يقول- لأنه صحيح التناسب، وذلك أن نسبة الطبيب إلى صحة الأبدان نسبة الشارع إلى صحة الأنفس، أعني أن الطبيب هو الذي يطلب أن يحفظ صحة الأبدان إذا وجدت، ويستردها إذا ذهبت، والشارع هو الذي يبتغي هذا في صحة الأنفس، وهذه الصحة هي المسماة بالتقوى"(18). وبهذا النحو يكون ابن رشد بجهة ما قد رفع التمثيل إلى مرتبة البرهان، لكن لا التمثيل الشعري الذي غايته اللذة والتخييل، وإنما التمثيل البرهاني الذي هدفه الوقوف على المعرفة العلمية. ونلاحظ أن هذه القسمة للتمثيل إلى شعري وبرهاني موازية لقسمة التأويل إلى جدلي يقصد الوصول إلى آراء مقنعة ومشهورة في صدقها، وتأويل برهاني غايته العلم والمعرفة اليقينية. فقد كان ابن رشد يعارض تأويل الشريعة معارضة شديدة، ولكنه لم يكن يعارض أي تأويل كان، بل التأويل الجدلي الكلامي، وإلا فإنه كان يعتبر ممارسة التأويل واجبا على الفيلسوف. وبنفس الموازنة يمكن أن نفهم موقفه من التمثيل، فهو كان يعارض التمثيل الشعري، ولكنه كان لا يتردد في الاستئناس بالتمثيل البرهاني.

استعمالات أخرى لمثال الصحة:

        قبل أن نختم نشير إلى استعمالات أخرى لمثال الطب من قبل ابن رشد، نذكر منها استعماله له من أجل توضيح جوانب من نظرية المعرفة، كقدرة العالم-الطبيب على فعل الأضداد، أي تصيير الأشياء الممكنة بالطبيعة، وهي التي لا عقل لها، ممكنة الوجود بالعقل، "مثال ذلك يصيّر البرء الممكن عن الطبيعة ممكن الوجود عن النطق، وهو صناعة الطب"(19).

        كما استعمل ابن رشد مثال إنذار الطبيب الماهر لتفسير قدرة الأحلام على التنبؤ بالمستقبل: "وأما في هذا الإدراك الروحاني الذي يكون في النوم أو في ما يشبهه، فهو يعطي النفس المتخيلة الكمال الأخير، وكما أن الطبيب الماهر منا ينذر بما يحدث لجسم زيد ونفسه وفي وقت محدود -بمقدمتين إحداهما كلية معقولة، والأخرى جزئية محسوسة- كذلك هذا الإنذار. والعلم يلتئم من الكلي الذي يعطيه العقل، ومن المعنى الجزئي، الذي تأتي به النفس المتخيلة، المناسب لذلك الكلي"(20).

        واستأنس أبو الوليد بمثال الطب للاستدلال على وجود العلية الذاتية ونفي البخت: "وخليق كما أنه لا يكون البخت هو الفاعل لجميع الأشياء الموجودة في صناعة الطب، يعني الصحة، بل شيء له قوة على أن يفعل الصحة بالذات، وهذه هي القوة المبرئة، كذلك الأمر في جميع المفعولات، أي ليس فاعلها البخت، وإنما فاعلها القوة التي تتنزل منها منزلة القوة المبرئة من صناعة الطب"(21).

        كما استخدم ابن رشد مثال الطبيب في الدفاع عن ضرورة الصفح عن خطأ أهل العلم الذين قد يخطئون في حكمهم على الموجودات، وعدم التماس العذر لمن ليس هو من أهلها: "كما يُعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب، والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم، ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن"(22).

        نستخلص إذن، أن طبيب قرطبة استعمل المثال الطبي لأغراض دلالية وقولية وعملية شتى لأنه ينطوي على فكرة التناسب الحملي، أو التناسب "البرهاني". فقد استعمله استعمالا تحليليا لتوضيح وحدة "المنسوب إلى شيء واحد" بالنسبة لمعاني أسماء ما بعد الطبيعة وبخاصة معاني اسم الموجود؛ كما استعمله لتوضيح علاقة النص بالتأويل، وعلاقة الشريعة بالجمهور، ومجموعة من القضايا المعرفية. هكذا نصل إلى أنه بالرغم من انتقاد ابن رشد للخيال وللقول الشعري والخطابي، فإنه كان مضطرا للجوء إلى أدواتهما لتبيين القول البرهاني وتدعيم اليقين العقلي. من هنا يبدو لنا أن العقل وحده بدون خيال لا يستطيع أن يبلغ أغراضه كما يجب، والبرهان بعيدا عن التشبيهات والأمثلة الخيالية لا يستطيع أن يحدث التواصل الممكن حتى بين أهل البرهان. ولذلك يمكن القول بأن المعرفة الفلسفية غير قادرة على الاستغناء عن الخيال والقولين الشعري الخطابي، لا فقط لتوضيح أفكارها ومعانيها وأطروحتها، بل وأيضا "للبرهنة" على قضاياها. وإذا كان الخيال ضروريا في نظر ابن رشد كمصدر وأداة لإنجاز مسلسل المعرفة العقلية، لأنه بدون خيال لا وجود لمعرفة علمية، فقد بدا الخيال ضروريا أيضا على مستوى "البرهنة" على تلك المعرفة. وغني عن البيان بأن تقدم التصورات العلمية والفلسفية رهن بتجديد وابتكار التصورات الخيالية.

*****************************************

المصادر:

ابن رشد، تلخيص ما بعد الطبيعة، تحقيق عثمان أمين، القاهرة، 1958.

ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق موريس بويج، ط2، بيروت، 1973.

ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق موريس بويج، ط2، بيروت، 1987.

ابن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مع ضميمة العلم الإلهي، تحقيق ودراسة م.عمارة، بيروت، 1981.

ابن رشد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق مصطفى حنفي، بيروت، 1998.

ابن رشد، تلخيص الحس والمحسوس، تحقيق هاري بلومبرج، كامبردج، ماساسوتش، 1972.

ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، نقله عن العبرية، أحمد شحلان، بيروت، 1998.

مداخلة ألقيت في مؤتمر قرطبة في الذكرى المئوية الثامنة لوفاة ابن رشد، 1998/12/11-9.

1- ابن رشد، تهافت التهافت، ص4-3 :510.

2- ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، مقالة ج، ص2-1 :303.

3- نفسه، ص13-9 :303؛ وتعم هذه الوضعية المترددة بين الوحدة والتعدد على كل الأسماء التي تنظر فيها صناعة الفلسفة كالواحد والمبدأ والجوهر والعلة والصورة والقوة والمادة والفعل والكمال الخ.

4- نشير إلى استعمال آخر لمثال الصحة في سياق أسبقية العلم على الأشياء التي ينظر فيها أو يصنعها. فعندما قارن بين الصحة التي في نفس الطبيب، وهي صناعة الطب، والصحة الموجودة في بدن المريض، جعل الصحة الأولى التي في نفس الطبيب مقولة بتقديم، لأنها صورة فاعلة للصحة في بدن المريض وليست موضوعا لها. ومن الواضح أن الاستعمال الأول للصحة يندرج ضمن علاقة الإضافة، إضافة ونسبة المقولات التسع إلى مقولة الجوهر،، أي علاقة جوهر بعرض أو موضوع بمحمول، في حين أن الاستعمال الثاني يندرج ضمن علاقة الإخراج إلى الفعل، إذ الصحة التي في نفس الطبيب هي علة الصحة في نفس المريض، لأنها صحة بإطلاق ولأنها هي التي تخرج صحة العليل إلى الفعل، بعد أن كانت موجودة فيه بالقوة. ومن البيّن بنفسه أن هذه الأسبقية لا تجوز إلا في الصنائع العملية، وإلا ففي الصنائع النظرية تعطى الأسبقية للموجودات على المعرفة. ولابد من الإشارة أيضا بأن ابن رشد عندما كان يقوم بتفسير وتحليل فعل الصحة باعتباره يدخل في جنس الخلق الصناعي، كان حريصا على إظهار الجانب التواطؤي لا الجانب التناسبي في علاقة ماهية الصحة الموجودة في نفس الطبيب، والصحة الموجودة في البدن. كما كان هذا التحليل مناسبة لتمييز الصور الطبيعية عن الصور الصناعية، سواء في وجودها أو في صيرورتها أو في علاقة ماهيتها بوجودها في الخارج. أنظر نفسه، مقالة ز، ص17-16 :846؛ ل12 :1491؛ ل16 :1479.

5- انظر نفسه، مقالة ج10-7 :304؛ 10-7:305.

6- انظر ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، ص73-72.

7- مناهج الأدلة في عقائد الملة، ص149؛ وعن تعليم الجميع يقول في فصل المقال: "وكان الشرع إنما مقصوده تعليم الجميع"، ص56؛ ويضيف: "وكان الشرع مقصوده الأول العناية بالأكثر، من غير إغفال تنبيه الخواص.."، نفسه، ص56.

8- عن التقابل بين الجمهور والفلاسفة من جهة، والجدليين المتكلمين من جهة ثانية يقول: "فيعرض لبعض الناس أن يأخذ الممثل به هو المثال نفسه، فتلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يسمى متشابها في الشرع. وهذا ليس يعرض للعلماء ولا للجمهور، وهم صنفا الناس بالحقيقة، لأن هؤلاء هم الأصحاء، والغذاء الملائم إنما يوافق أبدان الأصحاء. وأما أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل، ولذلك قال تعالى "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام" مناهج، ص148.

9- نفسه، ص149.

10- نفس الصفحة.

11- يقول عن مضار التأويل السياسية والعقدية: "وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة مع الشريعة. وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده الشرع، حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جدا عن موضعه الأول" نفسه، ص150؛ وفي كتاب الفصل يقول في هذا المعنى: ".. والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر، وإثبات المؤول. فإذا بطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده، أداه ذلك إلى الكفر، إن كان في أصول الشريعة"، ص58؛ وعن مخاطر التصريح بالتأويل للجمهور يجزم بقوله "وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر، لمكان دعائه للناس إلى الكفر، وهو ضد دعوة الشارع، كما عرض ذلك لقوم من أهل زماننا، فإنا قد شاهدنا منهم أقواما ظنوا أنهم تفلسفوا، وأنهم قد أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه، أعني لا تقبل تأويلا، وأن الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور، فصاروا بتصريحهم بتلك الاعتقادات الفاسدة سببا لهلاك الجمهور، وهلاكهم في الدنيا والآخرة"، نفسه، 60-59.

12- انظر مناهج، ص185-180.

13- عن مبرر لجوء الشارع إلى الأقوال مشتركة التصديق يقول: "ومثال مقصد هؤلاء مع مقصد الشارع مثل من قصد إلى طبيب ماهر، قصد حفظ صحة جميع الناس وإزالة الأمراض عنهم، بأن وضع لهم أقاويل مشتركة التصديق في وجود استعمال الأشياء التي تحفظ صحتهم وتزيل أمراضهم، وتجنب أضدادها، إذ لم يمكنه فيهم أن يصير جميعهم أطباء، لأن الذي يعلم الأشياء الحافظة للصحة والمزيلة للمرض بالطرق البرهانية هو الطبيب"، الفصل، ص60.

14- يقول عن الوظيفة الصحية للشريعة: "فالشارع إنما يطلب بالعلم الشرعي والعمل الشرعي هذه الصحة، وهذه الصحة هي التي تترتب عليها السعادة الأخروية، وعلى ضدها الشقاء الأخروي" الفصل، ص62.

15- وهذا هو المقصود بالظاهر من الشريعة ".. فإن المقصود الأول في حق الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا، أعني العلم والعمل" مناهج، ص149.

16- الفصل، ص61؛ ويقول عن آثار التأويل على المدينة "ومن قبل التأويلات، والطن بأنها يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام، حتى كفر بعضهم بعضا، وبدع بعضهم بعضا، وبخاصة الفاسدة منها... فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق" نفسه، ص63.

17- نفسه، ص60.

18- نفسه، ص61.

19- تفسير ما بعد الطبيعة، مقالة ط، ص10-6 :1123.

20- انظر تلخيص الحس والمحسوس، ص80.

21- تفسير ما بعد الطبيعة، مقالة ط، ص1169.

22- الفصل، ص45.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق