تعتبر الحقيقة في معناها الفلسفي الكلاسيكي هي مطابقة الحكم للواقع أو مطابقة الحكم لموضوعه. وفي معجمه الفلسفي، يحدد لالاند مجموعة من المعاني للحقيقة؛ فهي خاصية ما هو حق، وهي القضية الصادقة، وما تمت البرهنة عليه، وشهادة الشاهد الذي يحكي ما شاهده أومافعله، والحقيقة بمعنى أعم هي الواقع.
1-الحقيقة والواقع:
الإشكال: ماهي علاقة الحقيقة بالواقع؟ هل الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع أم مطابقته لذاته؟ ما هو معيار ما هو حقيقي؟ وهل الحقيقة موضوعية أم ذاتية؟ مطلقة أم نسبية؟
1 - أفلا طون: الحقيقة بما هي واقع مفارق.
يتحدث أفلاطون عن وجود عالمين؛ عالم المثل وهو عالم عقلي مفارق، إنه مستودع الحقائق المطلقة والخالدة والتي لا تدرك إلا عن طريق التأمل العقلي الفلسفي. أما العالم الثاني فهو العالم المادي الحسي الذي هو عالم الأشباح والظلال وأشباه الحقائق الفانية. وهكذا فإدراك الحقيقة يتطلب حسب أفلاطون تجاوز ما هو حسي وظاهري، وممارسة التأمل الفكري لإدراك الحقائق الموضوعية التي توجد في استقلال عن الذات العاقلة، في عالم سماه أفلاطون عالم المثل.
2- أرسطو: الحقيقة بما هي واقع محايث.
خلافا لأفلاطون يرى أرسطو أن الحقيقة لا توجد في عالم مفارق للعالم الحسي بل هي محايثة له، أي متضمنة فيه. ويميز أرسطو في العالم المحسوس بين ظاهر وباطن، أو بين عرض وجوهر. لذلك فالحقيقة توجد على مستوى الجوهر، وهي حقيقة موضوعية ثابتة ومطلقة لا تدرك إلا عن طريق الاستدلال العقلي باستخدام عمليتين عقليتين رئيسيتين هما التعميم والتجريد. من هنا فأرسطو لم يقصي الحواس نهائيا مثل أفلاطون، بل اعتبرها الوسيط الضروري الذي يمر منه العقل لإدراك الجوهر. هكذا فنحن لا نملك من الحقيقة إلا الأحكام العقلية.
3- ديكارت: الحقيقة بما هي مطابقة الفكر لمبادئه الذاتية.
معيار صحة الحقيقة عند ديكارت هي البداهة؛ فكل ما هو بديهي ومتميز في الذهن فهو حقيقي. كما اتخذ ديكارت الشك كمنهج لبلوغ الحقيقة. واعتبر أن مصدر الحقيقة الوحيد هو العقل الذي هو أعدل قسمة بين الناس شريطة أن يحسنوا استخدامه. والعقل عنده قادر على إدراك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها. ومادام العقل واحد، فإن الحقيقة واحدة يكفي لإدراكها الالتزام بالقواعد الصحيحة في التفكير.
4- جون لوك: الحقيقة بما هي مطابقة الفكر للواقع الحسي . العقل عند جون لوك صفحة بيضاء والتجربة هي التي تخط عليها الأفكار والمعارف. ومادامت التجارب مختلفة، فإن الحقيقة تبعا لذلك متعددة ومختلفة. ويميز جون لوك بين نوعين من الأفكار؛ أفكار بسيطة وهي التي تنفذ إلى الذهن عبر الحواس كشكل الشيء أو طعمه أو رائحته، وأفكار مركبة وهي التي يؤلفها العقل انطلاقا من الأفكار البسيطة. وهكذا فمصدر كل أفكارنا، سواء كانت بسيطة أو مركبة، هي التجربة التي تعتبر المعيار الوحيد لصحة الأفكار.
5- إيمانويل كانط: الحقيقة بما هي انبناء الواقع تبعا لمبادئ الفكر.
يرى كانط أن معرفة الحقيقة لا تكون بالحس وحده ولا بالعقل وحده ، بل هي نتاج تضافر وتكامل بين العقل والتجربة معا. هكذا فالحدوس الحسية بدون مبادئ عقلية عمياء وغامضة، والمبادئ العقلية بدون حدوس حسية جوفاء وفارغة. إن للمعرفة عند كانط مصدران أساسيان هما الحساسية والفهم. فالحساسية تقوم بتلقي الانطباعات الحسية ويعمل الفهم انطلاقا من مقولاته القبلية على تنظيمها وتحويلها إلى معرفة كلية وضرورية. ويميز كانط بين الفينومبن والنومين حيث أن العقل بإمكانه أن يدرك الفينومين (الظاهر) أما النومين(الشيء في ذاته) فلا يمكن للعقل أن ينتج بصدده أية معرفة صحيحة.
الحقيقة إذن عند كانط هي مطابقة الفكر لذاته ومطابقته للواقع. فالعقل ينتج الحقيقة انطلاقا من إعادة بنائه للواقع بواسطة ما يمتلكه من صور ومقولات قبلية.
6- مارتن هيدجر: الحقيقة بما هي انكشاف وحرية. يتجاوز هيدجر المفهوم التقليدي للحقيقة الذي يحددها في فكرة المطابقة، إذ يستحيل وجود مطابقة بين المنطوق والشيء وهما من طبيعتين مختلفتين. إن الحقيقة عند هيدجر هي كشف وحرية، إنها انكشاف الوجود أمام فكر منفتح عليه. ولذلك فالحقيقة تتميز عنده بالانفتاح والحرية، ما دام أن الحقائق لا تفرض على الإنسان بل يكشف عنها بمحض إرادته وأثناء وجوده الإنساني.
والحقيقة عند هيدجر ترتبط باللغة والخطاب بحيث لا يمكن تصور وجودها خارجا عنهما. وما دامت هناك عدة لغات وخطابات، فإنه يمكن القول أنه لا وجود لحقيقة واحدة بل هناك عدة أنواع من الحقيقة.
2- أنواع الحقيقة :الإشكال: هل الحقيقة واحدة أم متعددة؟ مطلقة أم نسبية؟ وهل توجد الحقيقة بمعزل عن أضدادها كالخطأ والوهم مثلا؟ وهل يمكن تصور الحقيقة خارج إطار السلطة والإكراه المؤسساتي؟
1- أطروحة ابن رشد :
يرى ابن رشد أن الحقيقة الدينية واحدة ولكن طرق تبليغها تختلف باختلاف طرق الناس في التصديق؛ فمنهم من يصدق بالبرهان ومنهم من يصدق بالجدل ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية. والحقيقة الفلسفية لا تتعارض مع الحقيقة الدينية مادام أن" الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له". ويرى ابن رشد أنه إذا ما حصل تعارض بين نتائج البرهان الفلسفي وبين ظاهر الشرع، وجب اللجوء إلى تأويل هذا الظاهر حتى يتناسب مع نتائج البرهان الفلسفي.
2- أطروحة باشلار :
إن الحقيقة العلمية في نظر باشلار هي خطأ تم تصحيحه ، وتاريخ العلوم هو تاريخ أخطاء ذلك أن كثيرا من النظريات العلمية تم الاعتقاد لمدة طويلة بأنها صحيحة إلى أن ظهر بعض العلماء فيما بعد وكشفوا عن الأخطاء الكامنة فيها وعوضوها بنظريات أخرى. وهكذا فإنتاج الحقائق داخل العلم يتم من خلال تجاوز الأخطاء السابقة من جهة، ومن خلال تجاوز الأخطاء الشائعة المرتبطة بالتمثلات الاجتماعية من جهة أخرى، والتي تمثل حسب باشلار عوائق ابستملوجية يجب تجاوزها من أجل الوصول إلى الحقيقة العلمية. وعموما فالحقيقة العلمية هي حقيقة نسبية ومتطورة لأنها ترتبط بتطور الأدوات والمناهج العلمية من جهة، كما ترتبط بنوعية المجال العلمي الذي يتم الاشتغال فيه من جهة أخرى.
3- أطروحة نيتشه :
اعتبر نيتشه أن ما اعتقد الناس لأزمان طويلة أنها حقائق إن هي في واقع الأمر إلا أوهام منسية. وللوهم عند نيتشه مصدران أساسيان هما: حاجة الإنسان إلى السلم والهدنة الاجتماعية للإبقاء على وضعه فيلجأ إلى الكذب والتحايل والنفاق، ثم استخدام الإنسان للغة كوسيلة أساسية للإخفاء والخداع لما تشتمل عليه من تشبيهات ومجازات واستعارات.
وما يمكن ملاحظته هنا هو ارتباط الحقيقة عند نيتشه بأضدادها كالوهم والكذب من جهة، وارتباطها بالمصلحة الاجتماعية من جهة أخرى. وهكذا فالإنسان لا يبتغي الحقيقة من أجل ذاتها بل يطمع في النتائج الممتعة التي تترتب عنها. وعلى العموم، فارتباط الحقيقة بالمنفعة وباللغة والخطاب هو مؤشر يدل على تنوعها وتعددها.
4- أطروحة فوكو :
الحقيقة عند فوكو ليست نتيجة خلوات التأمل الطويلة، إنها من هذا العالم تنتج فيه بفعل عدة إكراهات. وهكذا فالحقيقة لا توجد بمعزل عن السلطة، وهو الأمر الذي يعني أن لها طابعا اجتماعيا ومؤسساتيا. إن لكل مجتمع نظام خاص لإنتاج الحقيقة، وهيئات ومؤسسات وأناس يوكل إليهم مهمة نشر وترسيخ المنطوقات الصحيحة ومحاربة تلك التي تعتبر خاطئة.
ويحدد فوكو خمس سمات أساسية تميز الحقيقة في المجتمعات الغربية المعاصرة؛ تتمثل الأولى في ارتباط الحقيقة بالعلم والمؤسسات العلمية، والثانية في ارتباط الحقيقة بالأهداف الاقتصادية والسياسية للمجتمع، و السمة الثالثة تتمثل في أن الحقيقة أصبحت موضوع نشر واستهلاك على نطاق واسع بفضل تطور وسائل الإعلام والاتصال المختلفة،أما الرابعة فتتجلى في خضوع الحقيقة لمراقبة وهيمنة الأجهزة الكبرى في المجتمع كالجامعة والجيش ووسائل الاتصال الجماهيري ، في حين تتمثل السمة الخامسة في أن الحقيقة أصبحت موضوع نقاش وصراع بين مختلف الأطراف الفاعلة داخل المجتمع.
هكذا يربط فوكو بين الحقيقة والسلطة التي تتجسد في مختلف أجهزة ومؤسسات المجتمع، الأمر الذي يدل على نسبية الحقيقة وارتباطها بالمصلحة والمنفعة.
3- قيمة الحقيقة :
الإشكال: أين تكمن قيمة الحقيقة؟ هل لها قيمة في ذاتها أم أن قيمتها تكمن خارجها؟ وهل للحقيقة قيمة نظرية أم أخلاقية أم نفعية ؟
1- للحقيقة قيمة نظرية وأخلاقية عليا:
يبين لنا تاريخ الفلسفة أن الحقيقة كانت هدفا منشودا لذاته؛ فالفلسفة عند اليونان كانت بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لأي غرض أو مصلحة ذاتية. وقد جسد سقراط في حياته هذا الأمر، إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما تمت محاكمته وسيق به إلى الإعدام وهو متشبث بالحقيقة وساخر من قومه الذين يتشبثون بالأوهام والمعتقدات الباطلة.
وقد رفض كانط ربط الحقيقة بالمنفعة أو المصلحة الذاتية، وذهب إلى اعتبارها قيمة أخلاقية سامية و غير مشروطة. هكذا" فمن مقتضيات العقل المقدسة والضرورية أنه ينبغي على الإنسان أن يكون صادقا في تصريحاته وأقواله". فكانط يشيد قيمة الحقيقة على أساس الواجب الأخلاقي الذي هو واجب مطلق وغير مشروط، إذ يجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والأحوال.
2- قيمة الحقيقة تكمن في منفعتها:
يقول وليام جيمس:" يقوم الصادق بكل بساطة فيما هو مفيد لفكرنا والصائب فيما هو مفيد لسلوكنا". من هنا فالحقيقة حسب الموقف البرجماتي تكمن في كل ما هو نفعي ، عملي ومفيد في تغيير الواقع والفكر معا. إن الحقيقة عند وليام جيمس ليست غاية في ذاتها بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى. كما يعتبر أن الأفكار الحقيقية هي التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها واقعيا بالتزامنا بها، أما الأفكار التي لا نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلاحيتها فهي خاطئة. وعموما فالأفكار الصادقة هي التي تزيد من سلطاننا على الأشياء؛ فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية للاستفادة من قوة الطبيعة.
احدث المواضيع
الأربعاء، 25 نوفمبر 2009
الحقـــــــــــيقة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق