عندما يطالع الباحث مجمل التراث الذي كتب حول فلسفة (ابن رشد)، فإنه غالباً ما يشعر بأن هذه الكتابات يمكن تصنيفها في دائرتين كبيرتين: أولاهما عربية إسلامية تبرز العقلانية الرشدية وتحاول أن تستخرج لها خصوصية تربطها بالشريعة من ناحية، وتحاول، في الوقت نفسه، أن تظل محتفظة لهذه الفلسفة على الرغم من ذلك بوصف العقلانية. وهي بعد ذلك تتطلع إلى أن تنسب إلى هذه الفلسفة سيرها في طريق الاستقلال الفلسفي عن الفلسفة اليونانية بعامة، وعن الفلسفة الأرسطية بصفة خاصة. وقد بلغت هذه النزعة في تأويل ابن رشد ذروتها في الحديث عن نزعة عقلانية مغربية (موهومة) امتاز بها المغرب عن المشرق الذي ظل محافظاً على نزعة (إشراقية أفلاطونية) بقي المغرب بمنجاة منها، بينما ظلت مهيمنة على الفكر في المشرق، ولربما كان ذلك حتى اليوم!!
وثانيتهما تتألف من مجموع الكتابات التي أنتجها الباحثون الغربيون والمستشرقون حول فلسفة ابن رشد. وهي بمجموعها تؤكد على (ابن رشد) من حيث هو شارح وقارئ ومؤول لفلسفة أرسطو وينتهي معظم هذه الدراسات إلى التأكيد بأن ابن رشد لم يسر على درب الاستقلال الفلسفي، لأن جهوده، في نظر هذه الجمهرة من الباحثين، قد انحصرت في شرح الأرسطية وحفظها من الضياع وهذه هي أعظم مكارم العرب في نظر الكثيرين من هؤلاء الباحثين. فالعرب قد شكلوا جسراً انتقلت عليه ومن خلاله الثقافة اليونانية إلى أوروبا المسيحية في العصور الوسطى.
ويجمع الباحثون من كل الاتجاهات على إبراز الدور الكبير الذي لعبته فلسفة (ابن رشد) في خلق واحد من أهم تيارات الفلسفة في العصور الوسطى هو تيار (الرشدية اللاتينية) ومن المعروف أن هذا التيار قد لعب دوراً كبيراً في التمهيد لعصر النهضة في أوروبا الذي كان بمثابة القاعدة التي انطلق منها كل التقدم الأوروبي اللاحق. وهكذا أفادت أوروبا من الرشدية إلى أبعد حد ممكن، بينما لم تتسع لها، صدور العرب ولا أوطانهم. فلم تزل هذه الفلسفة، حتى اليوم في البيئة العربية، تواجه بالشك والريبة من جانب كل التيارات المحافظة في الثقافة العربية المعاصرة.
ومن المؤكد أن أثمن ما في فلسفة (ابن رشد) هو نزوعها العقلاني، ومن المؤكد أيضاً أن هذه العقلانية الرشدية أرسطية في جذورها وفي نتائجها وأهدافها. إذ يظل مصير الفلسفة، أي فلسفة - من حيث هي نشاط متميز- مرتبطاً بالبحث عن نوع من العقلانية التي لا تبرر الوجود فحسب، وإنما هي أولاً وبالذات تستهدف تبرير وجود الفيلسوف نفسه، أو تتطلع إلى تبرير كون الفيلسوف كائناً عاقلاً، أي إنها تبرر مشروعية العقل ذاته بوصفه فاعلية معقولة في كل خطواتها.
وإذن فهذا الجانب من العقلانية الرشدية متطابق مع (الكلي)، مع نشاط الفلسفة بوصفها تنطوي على بعض الخصائص الماهوية التي حيثما وجدت الفلسفة وجدت هذه الخصائص ملازمة لها، ذلك لأن النشاط الفلسفي لا يكون كذلك إلا بها. ومن هذه الزاوية فكلنا (رشديون) أو (أرسطيون) لا فرق، طالما أن الفلسفة تضطلع بأداء دور (الكلي) في ذهن هذا الفيلسوف أو ذاك من ناحية، وطالما أنها من ناحية أخرى، تتحول إلى جهد للارتقاء بالعالم إلى مستوى (الكلية)، أعني العالم الذي يعيش فيه الفيلسوف، العالم التاريخي بما ينطوي عليه من صراع بين الأفراد والجماعات والأفكار، ذلك أن هذا المسعى الذي يقوم به الفيلسوف للارتقاء بالعالم إلى مستوى الذهن أو العقل، من خلال مجموع الوساطات التي تفعل فعلها في تحقيق التطابق بين الفكر والواقع أو العقل والوجود، إنما تستهدف جعل (المعقولية) متغلغلة في صميم الواقع الذي هو غير معقول من حيث المبدأ.
لقد عاش (ابن رشد) محنة المثقف العربي المعاصر، أو أن المثقف العربي المعاصر اليوم يعيش الخبرة نفسها التي عاشها (ابن رشد) فكلاهما يخلو تراثه من الإسهامات الفلسفية الجدية، وكلاهما يعيش في ظل ثقافة قومية لا تستطيع الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها المفكر على نفسه، الأمر الذي يجعله يشرئب ببصره نحو الثقافات الأخرى لتكون رفداً ومعيناً في ما تنطوي عليه من مقولات تخلو من ثقافتنا القومية الراهنة، وثقافتنا التراثية السالفة، هذه المقولات التي قد يجد فيها المفكر ما ييسر له طرح الأسئلة بصورة أفضل، مما يخلق الاحتمالات بتقديم إجابات ما كان يمكن تقديمها فيها لو تجاهل المفكر العربي اليوم ثقافة الغرب الراهنة، وفيما لو تجاهل المفكر، داخل الأفق التراثي القديم، الثقافة اليونانية وغيرها من الثقافات التي كانت سائدة ومنتشرة ومعترفاً بخصوبتها في تلك الأيام.
ونجد اليوم العدد الأكبر من المثقفين العرب المعاصرين حائراً بين الأصالة والمعاصرة، فنرى البعض يقدم الأصالة على المعاصرة، بينما يقدم غيره المعاصرة على الأصالة، في حين أننا نجد فريقاً ثالثاً يقيم نوعاً من التجاور الميكانيكي بينهما، وفي معظم الحالات فإن كل مفكر يعيد إدخال ما نفاه من الحدود خلسة، أو ينكر - بصورة شعورية أو لا شعورية- ما أثبته، لكي تظل العلاقة في النهاية علاقة غير محددة، وربما ظلت الترابطات كلها زائفة، لا سيما وأن الوعي التاريخي يكون غائباً في كثير من التحليلات، فضلاً عن الخوف من العامة الذين يتعرض المفكر بسببهم لأخطار جدية. وبالمثل كان (ابن رشد) ذا ثقافة مزدوجة، فهو فقيه وقاض للقضاة في قرطبة. فهو من أعلم رجال العصر في الإسلام من حيث هو شريعة وعقيدة، وهو أيضاً فيلسوف مثقف بالثقافة (اليونانية) بصفة عامة وبالثقافة (الأرسطية) بصفة خاصة. وهو يحمل الفلسفة (الأرسطية) على محمل الجد تماماً. إنه مقتنع بأن (الأرسطية) قد طرحت الأسئلة الأكثر جوهرية في الفلسفة، وهو مقتنع أيضاً بأنها أعطت الإجابات الصحيحة التي بوسع العقل البشري أن يتوصل إليها. وانطلاقاً من هذا الإيمان لخص بعض كتب (أرسطو)، وخص بعضها بالشرح، حتى إنه جعل لبعضها شرحاً أكبر وأوسط وأصغر. لقد كان (ابن رشد) يرى أن جانباً من مهمته ورسالته الفلسفية تتمثل في تنقية (الأرسطية) مما ألحقه بها بعض شراحها من الغموض والالتباس. ولقد صنف شروحاته وتلخيصاته انطلاقاً من هذه الروح أصلاً. ولو أننا استخدمنا عبارة مجازية لقلنا: لقد بدت (الأرسطية) ل (ابن رشد) على أنها الذروة التي انتهى إليها العقل البشري في ميدان المعرفة الفلسفية، وبالتالي فقد أصبح من واجب القادرين على فهم هذه الحكمة تصنيف الشروح والتلخيصات للمتفلسفين والمتعلمين بقصد الارتقاء بها إلى مستوى العلم بالمعنى القديم للكلمة، أي العلم المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولو افترضنا أن (ابن رشد) كان ينظر إلى الشريعة والفلسفة على أن كلتيهما حق، فقد كان مضطراً لالتماس نوع من السلطة التي يقيم عليها صفة الحق فيهما معاً. أو هو على الأقل كان محتاجاً إلى نقطة يستطيع ابتداء منها أن يقنع معاصريه بأنه لا يضحي بإحدى الحقيقتين لحساب الأخرى. والأمر ها هنا يتعدى مجرد التوفيق بين الشريعة والحكمة إلى النقطة التي يستند إليها تبرير ابن رشد لكون العنصرين كليهما حق. ولقد كان هذا التبرير مضطراً لأن يضع في حسابه كون الشريعة إلهية وكون الفلسفة أو الحكمة بشرية إنسانية، وإلا لما استطاع أن يكون مقنعاً لمعاصريه ولكثير منا نحن المعاصرين اليوم ولذا من الطبيعي أن تكون المبررات التي يسوقها (ابن رشد) لكون الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له" (1) مستمدة من داخل الشريعة بسبب كونها هي التراث المباشر له أولاً، وثانياً وبسبب الحاجة إلى إقناع المعاصرين له الذين لا يمكن إقناعهم ما لم تكن نقطة ابتدائه مستمدة من الشريعة ذاتها. غير أن الفلسفة (الأرسطية) قد بدت ل (ابن رشد) متمتعة بيقين لا يقل عن اليقين الذي تتمتع به الشريعة في قلب المؤمن. ومن هنا ظهر تنازع حول النقطة التي يجب أن تكون (السلطة) مستندة إليها في تبرير ما عداها. هل تكون الشريعة هي النقطة التي يستند إليها (ابن رشد) في تبرير الفلسفة أو الحكمة، أم إن الحكمة هي التي يجب أن تستمد منها ما يجعل الشريعة معقولة ومفهومة بالقياس إلى الحكمة أو الفلسفة؟ وبعبارة أخرى، ما مصدر المعقولية، أو العقل، أهو الشرع؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي تمكننا من تحديد طبيعة (السلطة) عند (ابن رشد) ف (السلطة) ها هنا لا تشير إلى نوع من القوة أو النشاط السياسي، وإنما هي تشير حصراً إلى مصدر المعقولية ف (السلطة) ها هنا مشكلة فلسفية معرفية أولاً وقبل كل شيء.
والصعوبة آتية هنا بالطبع من كون (ابن رشد) يضع الشريعة والحكمة- على الأقل في الظاهر - على قدم المساواة، فهو لا يفصل إحداهما عن الأخرى من حث المبدأ وفي ظاهر النصوص أيضاً. فما هي حقيقة السلطة إذن؟
ولكن من الذي أثار مشكلة (السلطة) داخل المجتمع الإسلامي في الحدود التي رسمناها؟ من حيث المبدأ يمكن تلخيص هيكلية (السلطة) وفق الشريعة الإسلامية بالآية القرآنية القائلة: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء 59) وهذا يعني أن السلطة في الأساس سلطة دينية، بمعنى أن الطاعة هي، بالإضافة إلى كونها تحيل إلى أنماط متعددة من الفاعلية داخل المجتمع، هي نوع من العبادة يتوجه بها المؤمن إلى الله تعالى. وتتمثل هذه العبادة لله في طاعة الرسول، وتتمثل طاعة الرسول في طاعة أولي الأمر، ومن ثم فمن يطع أولي الأمر فكأنما أطاع الله ذاته. وعلى ذلك تكون هذه الطاعة نوعاً من العبادة التي يتقرب بها المؤمن إلى الله في كل وقت.
ولما كان الشكل النهائي للطاعة ينتهي عند طاعة (أولي الأمر)، الذين تعتبر طاعتهم طاعة لله بتوسط الرسول، وهم الذين يطلق عليهم أيضاً (أهل الحل والعقد)، وكان التاريخ الإسلامي قد فسر هذا المصطلح بأنه يدل على كل من له نفوذ في المجتمع الإسلامي، وبذلك كان يمكن للفقهاء الادعاء بأنهم جزء لا يتجزأ من هذه الفئة، ونتيجة لذلك فقد اعترف للفقهاء دوماً بأنهم جزء لا يتجزأ من بنية السلطة عبر تاريخ الدولة الإسلامية بأكمله. وسلطتهم مزيج من السلطة الشرعية والعلمية. بمعنى أن المعقولية التي يقيم عليها الفقهاء تفسيرهم للعالم، مستمدة من تأويل محدد للشريعة.
ولما كانت العلوم العقلية في البنية الإسلامية قد ظهرت متأخرة نسبياً على أثر ترجمة التراث اليوناني إلى اللغة العربية ابتداء من منتصف القرن الثاني للهجرة تقريباً، وكان المشتغلون بهذه العلوم منذ اللحظة الأولى موضع ريبة واشتباه من قبل الفقهاء والعامة، فضلاً عن ارتياب رجال السلطة السياسية أنفسهم الذين شجعوا هذه الترجمات وأغدقوا على من قام بها العطايا الجزيلة، فإن كل المشتغلين بالعلوم العقلية، وعلى رأسها الفلسفة، والتي نعتت دوماً بالعلوم الدخلية، لم يكن لهم أن يظفروا بدور معترف به يمارسونه داخل حياة هذا المجتمع، بل لم يكن لهم أن يظفروا حتى بالاعتراف بأن لهم ميداناً أو حقلاً متميزاً يخص البحث العقلي دون غيره، بحيث يمارسون داخله نوعاً من الاستقلال الذي قد يؤهلهم للاعتراف بحقهم في تشكيل حياة المجتمع وبحرية البحث، وبأن تحترم أخيراً النتائج التي يتوصلون إليها في ميدانهم أو على الأقل أن ينظر إلى هذه النتائج على أنها تتمتع بنوع من الاستقلال النسبي عن سلطة السياسي والفقيه والعامي. ولكن الذي حدث هو أن جميع هؤلاء قد تحالفوا بطريقة ما ولأسباب متباينة ضد البحث العقلي الحر. وكانت النتيجة أن نظر إلى الفلسفة دوماً على أنها نشاط غير مشروع، وعلى أنها نشاط خطر يتهدد الشريعة والعقيدة من ناحية، ويتهدد فوق ذلك من ناحية أخرى سلطة الفقهاء وعقائد العامة وربما سلطة السياسي الذي تمكن في الغالب من إخضاع الفقهاء وترويض العامة استناداً إلى فتاوى الأولين، فلم تبق بعد ذلك إلا الفلسفة باعتبارها بحثاً عقلياً حراً لا يستند إلا إلى أوائل العقول، تمثل فاعلية تجعل المشتغلين بها دوماً متمردين أو على الأقل على حافة التمرد بصفة دائمة. وهو ما جعل السياسي في حذر، والفقيه في ارتياب، والعامة - الذين لا يملكون شيئاً من دنياهم فدفعوا بها كلها إلى آخرتهم- في حالة ترقب للانقضاض على كل ما يوهمهم صاحب السلطان الفقهي أو السياسي بأنه يتهدد عقيدتهم وشريعتهم التي تضمن لهم أخراهم في حمأة الصراع المحموم على الدنيا وخيراتها، وعلى السلطة ومكاسبها. ومن ثم كان نشاط الحكمة أو الفلسفة موضع شك وارتياب من ناحية، وكانت الحكمة أو الفلسفة مجردة من كل سلطة تقريباً في المجتمع الإسلامي القديم من ناحية أخرى.
ولقد شعر الفيلسوف بذلك ووعاه وعياً عميقاً. لقد كان على وعي دقيق ومأساوي بأنه ليس للحكمة دور بارز في المجتمع الذي يحيا فيه. وكان يعلم أيضاً أنه لا محل لحكمته في مجتمع تسيطر عليه فكرة رئيسية واحدة، وهي أنه يمتلك الشريعة الخاتم التي تصلح لكل زمان ومكان. فما الحاجة بالعامة والفقهاء ورجال السياسة إلى جهود الفيلسوف، وهي جهود عقلية إنسانية لا يزعم صاحبها لها أدنى عصمة؛ بل إن الفيلسوف بحكم طبيعة الفلسفة ذاتها - يعترف بأنه معرض للخطأ والزلل، وأنه إنما يصدر عن أفكاره التي تتخذ من حبه للحقيقة سنداً، ومن تطلعه إلى الحق، ولا شيء غير الحق هدفاً ومقصداً ونتيجة لذلك فسرعان ما انكمشت الفلسفة على ذاتها، وارتد الفيلسوف من عالم التاريخ والوقائع إلى عالمه الباطني، ومن ثم اكتفى بملكة العقل ميداناً له، فاعتزل الناس وانسحب من حياتهم، واتخذ لنفسه موطناً من عالم الأفكار الخالص لما يئس من تحقيق التطابق، بل التقارب، بين الفكر والواقع، فابتنى المدن الفاضلة هرباً من المجتمع الذي تنكر للفيلسوف في المشرق، ولم يلبث أن هجر هذه المدن ذاتها في المغرب عندما اكتشف (ابن باجه) أن هذه المدن لا تتمتع بالمعقولية الضرورية لقيامها وسط مجتمع معاد للفكر والعقل والفلسفة، فانخرط في رسم سياسة مثلى للمتوحد يسوس بها نفسه وسط مجتمع يهدد العقل والحس السليم مدفوعاً بغيرة ضارية تتخذ من الشريعة ستاراً. ولم يلبث هذا (التوحد) أن لم يعد سياسة فعالة، فانتقل (ابن طفيل) منه إلى (الفرد الأوحد) فإذا كان (التوحد) إنما يتم وسط الجماعة عند (ابن باجه)، فإن الفيلسوف عند (ابن طفيل) قد انتهى إلى أن التوحد والمتوحد أمور لم تعد ممكنة في ذلك المجتمع، وأيقن أن الفلسفة والحكمة لا يبنيها إلا (الفيلسوف الفرد) بمعزل عن المجتمع ودونما حاجة إليه، بل إن المجتمع في نظره يفسد حياة الفكر والتأمل على (الفيلسوف الفرد) وهذا ما اكتشفه (حي بن يقظان)، كما تصوره (ابن طفيل)، في جزيرته التي عاش فيها فرداً معزولاً عن كل حياة اجتماعية. ولكنه بالرغم من ذلك استطاع أن يكتشف الوقائع الكونية والعقلية دون ما معونة من المجتمع ولا من الشريعة التي تحكم المجتمع بسيف الفقه وسطوة العامة لصالح السياسي رجل الدولة.
على هذا النحو انتهت الأمور إلى (ابن رشد) وكان عليه أن يدلي بدلوه في هذا الصراع المرير الذي ظل الفيلسوف في الغالب يلعب فيه دوراً ثانوياً، وعلى الأغلب كان يعيش وكأنه متخفٍ خشية القوى التي تتهدده من كل جانب تحت رداء الطبيب والمنجم وربما القاضي أيضاً. إذ ليس هناك من هو مستعد لأن يكون متسامحاً تجاهه، لا الفقهاء ولا العامة ولا رجال الدولة، تجاه أسلوب حياته القائم على التأمل الحر والتفكير العقلاني النزيه الذي لا يتخذ له بداية إلا من ذاته ومن أوائل العقول التي لا تسلم بأي افتراض مسبق، ولا تنطلق إلا من العقل كما يبدو لذاته، ومن الفكر الحر الذي يتخذ من ذاته هدفاً لذاته باعتباره مطابقاً للحقيقة ولعمل العقل ذاته في حريته وموضوعيته على حد سواء.
ولقد كان (ابن رشد)، وسائر الفلاسفة في الثقافة العربية، على وعي بالدور السلبي الذي لعبته العامة في الحيلولة دون تأصيل الثقافة العقلية الحرة، ودون ترسيخ البحث الفلسفي النظري النزيه الذي لا يستهدف إلا الحقيقة لذاتها. ولكن (ابن رشد)، وجميع الفلاسفة معه، كانوا على وعي بأن العامة قد استخدمت في هذا المسعى- على غير وعي منها- من قبل القوى التي كانت تمتلك الهيمنة والسيطرة على الدولة، وعلى الرأي العام، أي رجال الدولة الفقهاء، أو هذا التحالف بين مجموعة من الفقهاء وبين رجال الدولة بصورة دائمة.
هكذا انتهت الأمور إلى (ابن رشد) ومن ثم لم يكن بوسعه تحديد طبيعة السلطة ومستوياتها وضروبها إلا انطلاقاً من المشكلة كما انتهت إليه فعلاً. وهذا أمر طبيعي إذ ليس بوسعنا البدء إلا من المعطى التاريخي كما هو ماثل في لحظة معينة من لحظات التاريخ. ولم يكن بوسع (ابن رشد) إلا البدء من هذه النقطة. وعلى ذلك فإنه لو قال قائل: إن وضع المسألة على هذا النحو وضع خاطئ، لكان الجواب هو أن هذا الوضع من الناحية النظرية وضع خاطئ فعلاً، ولكن ليس بوسع المرء- من أجل وعي التاريخ والتأثير فيه والمشاركة في أحداثه - إلا الامتثال للحظة التاريخية كما كانت والبدء منها كما انتهت إلى المرء في وضع تاريخي معين.
وكثيراً ما بدا أن العامة هي التي تمتلك سلطة الأمر والنهي في التاريخ الإسلامي، بينما الحقيقة هي أن العامة كانت تحركها دائماً إحدى قوتين منفصلتين أو متحالفتين، وهما الفقهاء والساسة. ومن هنا فإن الفيلسوف إذ يضطر إلى تحديد موقف من العامة فإن هذا غالباً ما كان يعبّر عن موقف دفاعي يتخذه ضد إحدى هاتين القوتين في بعض الأوقات وضدهما مجتمعتين في أوقات أخرى.
وعلى كل حال فإن (ابن رشد) وغيره من الفلاسفة يقف من العامة الموقف نفسه الذي اتخذته الفئات التي كانت متمتعة بالسلطة في تاريخ الثقافة الإسلامية، أعني الساسة والفقهاء والمتكلمين والفلاسفة أنفسهم، وهو موقف الاحتقار، مع فارق واحد هو أن (ابن رشد) كان يود أن يتجنب سلطة العامة لتجنب ما يمكنها أن تلحقه من أذى بالفيلسوف وبالبحث العقلي الحر، بتحريض من الفقهاء ورجال الدولة كلما اقتضت ظروف إحدى هاتين الفئتين فعل ذلك.
و (ابن رشد) متفق مع الغزالي على ضرورة (إلجام العوام عن علم الكلام)، ولذا فهو ينعى عليه عدم الالتزام بفحوى هذا الكتاب لأنه قد أشرك العامة في أمور الحكمة عندما ناقش الفلاسفة علناً في كتابيه (مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة) في أمور ما كان للعامة أن يعرفوها أو يفهموها لولا (الغزالي) ومن سبقه من علماء الكلام، فعادوا بهذا العمل بالضرر على كل فئات المجتمع الإسلامي آنذاك.
و (ابن رشد) يؤرخ لهذا النزاع الذي أصبحت العامة طرف فيه فيقول: "وأول من غيّر هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء (أبو حامد) فضّم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالكلمة كلها للجمهور، وبآراء الحكماء، على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه ب (المقاصد). فزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم. ثم وضع كتابه المعروف ب (تهافت الفلاسفة) فكفرهم فيه في مسائل ثلاث. "من جهة خرجهم فيها للإجماع كما زعم، وبدّعهم في المسائل، وأتى فيه بحجج مشكلة وشبه محيرة أضلت كثيراً من الناس عن الحكمة وعن الشريعة. ثم قال في كتابه المعروف ب (جواهر القرآن) وإن الذي أثبته في كتاب (التهافت) هي أقاويل جدلية وإن الحق إنما أثبته في (المضنون به على غير أهله).. وأما في كتاب (المنقذ من الضلال)، فأنحى فيه على الحكماء وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة وأن هذه المرتبة هي من جنس مراتب الأنبياء في العلم. وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه ب (كيمياء السعادة) فصار الناس بسبب هذا التشويش والتخليط فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، وفرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة. وهذا كله خطأ" (2). وفي رأي (ابن رشد) فإن ما ترتب على تخبط الغزالي في الآراء والمواقف هو إفصاحه للعامة ببعض التأويلات التي ما كان يجوز أن يصرح لهم بها، فأصبحوا نتيجة لذلك ذوي سلطة في أمر ما كان لهم أن يشاركوا فيه أبداً، لأن محل مثل هذه التأويلات، التي صرح بها (الغزالي) هو كتب البراهين التي يجب أن تظل محجوبة عن العامة. والعامة محجوبون عنها.
ولذلك فإن (ابن رشد) يقرر بلهجة القاضي والمفتي بأنه: "ينبغي أن يُقرّ الشرعُ على ظاهره، ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة، لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، ودون أن يكون عندهم برهان عليها؛ وهذا لا يحل ولا يجوز، أعني أن يصرح بشيء من نتائج الحكمة لمن لم يكن عنده البرهان عليها، لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل، ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع. فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعاً، أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس، وحفظ الأمرين جميعاً عند آخرين. أما إخلاله بالشريعة، فمن جهة إفصاحه أيضاً بمعانٍ لا يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان. وأما حفظه للأمرين، فلأن كثيراً من الناس لا يرى بينهما تعارضاً من جهة الجمع الذي استعمل بينها. وأكد هذا المعنى بأن عرف (أي الغزالي) وجه الجمع بينهما، وذلك في كتابه الذي سماه (التفرقة بين الإسلام والزندقة). وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات، وقطع فيه على أن المؤول ليس بكافر وإن خرق الإجماع في التأويل. فإذن ما فعله من هذه الأشياء فهو ضار للشرع بوجه وللحكمة بوجه ولهما بوجه. وهذا الذي فعله هذا الرجل، إذا فحص عنه، ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعاً، أي الحكمة والشريعة.. وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس بأهلها يلزم عن ذلك بالذات إما إبطال الحكمة وإما إبطال الشريعة.." (3) ف (ابن رشد) يعتقد جازماً بأن الضرر قد لحق الشريعة والحكمة بالذات نتيجة لتصريح الغزالي بتأويلات محلها الحقيقي كتب البرهان. فما مغزى ذلك؟
الشريعة في الحضارة الإسلامية هي الوساطة الرئيسية بين الفرد والمجتمع، بل وبين الفرد ونفسه ولكن ليس ثمة شريعة في ذاتها، وإنما هناك شريعة مؤولة بطريقة ما. وهذا التأويل أو القراءة يكشف عن علاقات القوى بين الثقافة والسياسة أو بين المثقف ورجل الدولة. والتاريخ الإسلامي يكشف بوضوح عن هذه العلاقات وعن أنها لم تكن ثابتة دائماً كما هو الحال في كل حضارة ومجتمع، بل قد كانت هذه العلاقات تتغير بتغير العناصر وتفاوت أدوارها - قوةٌ وضعفاً- في حياة الفرد والمجتمع والدولة. ولما كان الفيلسوف والبحث العقلي الحر في الحضارة الإسلامية هما أضعف الحلقات فيها، فقد ارتأى (ابن رشد) أن تظل الجمهور بالشريعة، أي بالوساطة التي تربط الفرد بالمجتمع، علاقة ظاهرية يكتفي الجمهور فيها التقيد بعموميات الشريعة وبالفرائض الرئيسية فيها، أعني الوقوف عند المعنى المباشر لأركان العقيدة الإسلامية من ناحية، وبالتزام ما تأمر به من عبادات، فضلاً عن إتيان الحلال وتجنب الحرام وفقاً لمنطوق الشريعة الظاهري والمباشر. وبعبارة أخرى لا يطلب من الجمهور إلا العمل، بينما يطلب من العلماء الجمع بين العلم والعمل. فيظل الجمهور بذلك مجرداً من كل سلطة. ولما لم يكن من الممكن للمرء أن يكون ذا سلطة في الحضارة الإسلامية إلا من خلال الشريعة، فإن (ابن رشد) قد استهدف من ذلك تأسيس نوع من السلطة في المجتمع الإسلامي لا يكون فيها للجمهور أي سلطة. ولئن لم يكن (ابن رشد) يذكر (السلطة السياسية) فذلك لأنه كان على علم بأن السلطة السياسية - ممثلة في الدولة- قائمة بصورة أو بأخرى من وراء كل أنواع السلطة في المجتمع الإسلامي إلا سلطة الحكمة أو الفلسفة الممثلة في المعرفة البرهانية التي لا يقدر عليها إلا الفلاسفة، فهي واقعة من وراء كل سلطة لأنها سلطة العقل أصلاً، على الرغم من أن المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية غالباً ما انتهكا سلطة العقل وقوة البرهان.
وكأن ب (ابن رشد) كان يتطلع بصورة خفيّة إلى إقامة دولة العقل، الدولة التي تكون فيها السلطة للفيلسوف وتكون الحكمة هي الدستور المهيمن عليها. إنه الحنين إلى المدن الفاضلة التي أقامها الفلاسفة في المشرق وعلى رأسهم الفارابي، ولربما كان هو أيضاً استحضار الأفلاطونية في صورة جمهورية للعقل ظلت على مستوى اللاشعور عند فيلسوفنا، لا سّيما أن هناك شروحاً له على جمهورية أفلاطون. غير أنّ يأس (ابن باجه) و(ابن طفيل) من المجتمع الذي كانا يعيشان فيه جعل (ابن رشد) يقصي فكرة الدولة المثلى، في عصر مثل عصر المرابطين والموحدين إلى نقطة تكاد تكون أبعد غوراً من اللاشعور ذاته غير أن الحلم هو واحد من العناصر التي يتفجر اللاشعور من خلالها في التعبير عن ذاته. ومع ذلك فإن (ابن رشد) لم يستطع حتى على مستوى الحلم، أن يشرع في مناقشة إمكان قيام دولة العقل.
فإن ما أراده (ابن رشد) من حرمان الجمهور من أي سلطة إنما هو تجنيب الفلسفة والبحث العقلي الحر أن يكونا ضحية لغضب الجمهور بتحريض من السلطة السياسية أو من بعض فئات الفقهاء. وقد اتخذ هذا الحرمان صورة حظر لإباحة التأويل وقصره على فئة معينة هم أصحاب الفطر الفائقة القادرون على النظر الفلسفي أو البرهاني.
وكحل أولي لمشكلة شيوع التأويل في الجمهور، نتيجة لما دونه (الغزالي) وغيره في كتبهم مما لم يكن يصح للجمهور أن يطلع عليه، فإن (ابن رشد)، في كتابه (مناهج الأدلة) يقول تعليقاً على ما حدث من التصريح بالحكمة للجمهور: "أما وقد وقع التصريح، فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها. وكذلك الذين يرون أن الحكمة مخالفة لها من الذين ينتسبون للحكمة أنها ليست مخالفة لها. وذلك بأن يعرف كل واحد من الفريقين أنه لم يقف على كنهها بالحقيقة، أعني لا على كنه الشريعة ولا على كنه الحكمة، وأن الرأي في الشريعة الذي اعتقد أنه مخالف للحكمة هو رأي إما مبتدع في الشريعة لا من أصلها، وإما رأي خطأ في الحكمة، أعني تأويل خطأ عليها، كما عرضت في مسألة الجزئيات وفي غيرها من المسائل. ولهذا المعنى اضطررنا نحن في هذا الكتاب أن نعرف أصول الشريعة، فإن أصولها إذا تؤملت وجدت أشد مطابقة للحكمة مما أوّل فيها. وكذلك الرأي الذي ظن في الحكمة أنه مخالف للشريعة يعرف أن السبب في ذلك أنه لم يحط علماً بالحكمة ولا بالشريعة. وهكذا ولذلك اضطررنا نحن أيضاً إلى وضع قول، أعني (فصل المقال في موافقة الحكمة للشريعة) (4).
وواضح أن الحل الرشدي حل غير ممكن أو متعذر تماماً: ذلك لأنه يتطلب العودة إلى ما قبل ظهور المشكلة، أو هو يريد أن يفترض أن المشكلة لم تكن، وهذا أمر مستحيل بالطبع. إنه يريد أن يقلب حركة الزمان تماماً، فيعود بالثمرة ليدفنها في البذرة! لقد تحقق (الوعي الجمهوري) ولم يعد من الممكن السيطرة عليه. صحيح أن (الوعي الجمهوري) كان ما يزال وعياً بسيطاً ساذجاً يمكن توجيهه واستغلاله من قبل الفئات التي احتكرت السلطة تقليدياً في المجتمع الإسلامي. غير أن الأمر المؤكد هو أن وعياً من نوع ما قد ولد في الجمهور. وهذا الوعي هو الإشارة الأولى العميقة في التاريخ الإسلامي إلى أن (الإنسان العادي) قد وعى أن من حقه أن يكون ذا رأي في أمور حياته ومعاده. إنه الميل الفطري إلى الحرية وإلى الترجمة عنها في نوع الممارسة الديمقراطية. غير أن المناقشات الفقهية والكلامية والفلسفية جعلت ممارسة هذا الحق في التعبير عن الذات للأكثرية حقاً مغترباً عن الذات، أعني أن المطالب الجوهرية والحقوق الإنسانية الأساسية قد اختفت وراء مصطلحات الفقه والفلسفة والكلام، وظن الناس من ثم أن النزاع إنما يدور حول هذه المسائل، في حين أنه كان يدور في الحقيقة على مسائل غيرها. ولكن الأقنعة قد غطت المشاكل الحقيقية وحجبتها بكل الحجب اللازمة من الفقه والكلام والفلسفة والتصوف، فغابت بذلك المشكلات الأساسية للإنسان في هذه الحضارة، وعلى رأسها قضية التعبير الحر عن الذات. وقد اكتمل هذا الحجاب بذلك التحالف الذي كان قائماً دوماً بين أكثر فئات المثقفين فاعلية، أعني الفقهاء، وبين السلطة السياسية.
والواقع أن (ابن رشد) كان يستشعر خوفاً لا حد له من الجمهور أو العامة، وذلك راجع إلى سرعة تأثر الجمهور بتحريض الفقهاء له، وخاصة إذا ما قيل له عن الفلاسفة بأنهم ملحدون زنادقة. ولعل هذا ما دفع (ابن رشد) إلى أن يضع نوعاً من المنطق أو المعايير المحددة لتعريف العامة - الذين هم جزء من الجمهور - وذلك فيما يبدو بقصد إضعاف أثر الفقهاء والمتكلمين على العامة أكثر منه بقصد احتقارهم والحط من شأنهم. أما العلماء، فهم في نظره الفلاسفة والحكماء أو أهل البرهان ومن في حكمهم.
والحقيقة أن (ابن رشد) يقيم نوعاً من التراتبية السياسية مستندة إلى قاعدة ثقافية على أساسين متباينين: أولهما هو التفاضل في الفطرة والجبلّة بين الناس، ومن الممكن النظر إلى ذلك على أنه نوع من الأساس الأنطولوجي للتفاضل فيما بين البشر. والثاني يستند إلى تقسيم صور الخطاب المختلفة في القرآن أوالشريعة بالاستناد إلى أن هناك تطابقاً بين كل صورة من صور الفطرة والجبلّة وبين صورة خطاب محدد تكون مطابقة لها. يقول (ابن رشد) "الناس في الشريعة ثلاثة أصناف: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلاً وهم الخطابيون (5) الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق. وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون (6) بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة. وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون (7) بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة" (8). وبذلك تكون صحة البرهان الرشدي أو مقدرته على الإقناع مستمدة من هذين العنصرين، وبالتالي فإن أي شك فيهما أو إضعاف لأحدهما قد يؤدي إلى إبطال الحجة بأكملها، ومن ثم إلى انهيار تصوره للسلطة القائم على هذين الافتراضين، وخاصة إذا ما أثبت المرء ل (ابن رشد) أن مقدماته هذه ليست مقدمات برهانية بل هي مقدمات خطابية تماماً.
ويعرف (ابن رشد) الجمهور - وهو يضم العامة وعلماء الكلام- بأنه "كل من لم يعنَ بالصنائع البرهانية، وسواء كان حصلت له صنعة الكلام أم لم تحصل له. فإنه ليس في قوة صناعة الكلام الوقوف على هذا القدر من المعرفة إذ أغنى مراتب صناعة الكلام، أن يكون حكمة جدلية لا برهانية. وليس في قوة صناعة الجدل الوقوف على الحق في هذا. فقد تبين من هذا القول القدر الذي صرح به للجمهور من المعرفة في هذا، والطرق التي سلكت بهم في ذلك" (9).
وأما الخواص أو الخاصة، في مقابل العامة، فهم عند (ابن رشد) "العلماء" (10)، أي أهل البرهان الذين هم أهل الفلسفة والحكمة على وجه الحصر. والفارق - في نظر (ابن رشد) بين معرفة الجمهور ومعرفة الخاصة أو العلماء هو "أن الجمهور يقتصرون.. على ما هو مدرك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحس وأما العلماء فيزيدون على ما يدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان.
.. والعلماء ليس يفضلون الجمهور.. من قبل الكثرة فقط، بل من قبل التعمق في معرفة الشيء الواحد نفسه، فإن مثال الجمهور في النظر إلى الموجودات مثالهم في النظر إلى المصنوعات التي ليس عندهم علم بصنعتها، فإنهم إنما يعرفون أمرها أنها مصنوعات فقط، وأن لها صانعاً موجداً. ومثال العلماء في ذلك مثال من نظر إلى المصنوعات التي عندهم علم ببعض صنعتها وبوجه الحكمة فيها. ولا شك أن من حاله من العلم بالمصنوعات هذه الحال فهو أعلم بالصنائع، من جهة ما هو صانع، من الذي لا يعرف من ذلك المصنوعات إلا أنها مصنوعة فقط" (11).
ويمضي (ابن رشد) إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يحدد مفهوم العلم كما يراه في حق الجمهور في مقابل مفهوم العلم من حق العلماء والخاصة فيقول: "فإن المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور إنما هو العمل. فما كان أنفع في العمل فهو أجدر. وأما المقصود بالعلم في حق العلماء، فهو الأمران جميعاً، أعني العلم والعمل" (12).
وعلى ذلك يمكننا تصنيف (السلطة) - من حيث المبدأ عند (ابن رشد) - إلى ثلاثة أنواع، أو يمكن إدراج (السلطة) بحسب هذه الضروب في ثلاث درجات صعوداً أو هبوطاً. وهذا التصنيف لدرجات (السلطة) يستند إلى أساسين، أحدهما أنطولوجي والآخر منطقي معرفي، كما قلنا، أي ابتداء من العامة وهم أكثر الجمهور وطريقة تفكيرهم خطابية؛ ثم خاصة الجمهور - إن جاز التعبير- وهم علماء الكلام أو المتكلمون، وطريقتهم في التفكير جدلية؛ ثم تأتي قمة الهرم حيث الأقلية والصفوة وهو العلماء أو الخاصة، وطريقة تفكيرهم برهانية تأويلية، فهم ينفردون بالمنهج البرهاني في المعرفة والتدليل، ويمتازون بأن من حقهم تأويل ظاهر الشرع إذا ما بدا لهم أن هناك تناقضاً بين البرهان وظاهر الشرع.
وهذا التصنيف لل (السلطة) القائم على تفاضل الفطر والجبلات يستند في الحقيقة إلى إيمان كل مسلم بأن الشريعة الإسلامية شريعة صادقة حقيقية إلهية تؤدي بكل مسلم إلى المعرفة باللّه وبمخلوقاته، وأن ذلك - في نظر (ابن رشد) - "متقرر عند كل مسلم من الطريق التي اقتضتها جبلّته وطبيعته من التصديق. وذلك أن طباع، الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية (13). ومن ذلك يتضح أن الشريعة لا تقرر طرق التصديق التي ينتهي إلى اليقين بفضلها هذا الإنسان أو ذاك، وإنما هي تصف هذه الطرق وتبينها على سبيل الوصف والإبانة، فتكون الشريعة بذلك متبعة لماهيات الأشياء وليست واضعة لهذه الماهيات، ويكون بذلك للحقائق نوع من الاستقلال عن الشريعة، بل تكون الشريعة تابعة لهذه الحقائق متبعة لها ومقرة لها، مؤكدة أن وجه اليقين آت من اتباع الشريعة للماهيات وليس العكس.
والواقع أن الشريعة الإسلامية تستمد قيمتها من كونها دعت الناس إلى الحق من هذه الطرق الثلاث، وذلك لأنها شاملة لكل فطرة وجبلة، بحيث تجد كل فطرة أو جبلة طريقتها الخاصة في التصديق والاعتقاد في هذه الشريعة. ولذلك يقول (ابن رشد): "وذلك أنه لما كانت شريعتنا هذه الإلهية قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث عمّ التصديق بها كل إنسان، إلا من جحدها عناداً بلسانه، أو لم تتقرر عنده طرق الدعاء فيها إلى الله لإغفاله ذلك من نفسه. ولذلك خُص عليه السلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى. وذلك صريح في قوله تعالى: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل 125 (14).
وهذا يعني أن مصدر الكلية ليس قائماً في الشريعة، وإنما هي ذاتها تستند إلى الكلية القائمة خارجها وهي كلية الحقيقة التي أقامت عليها الشريعة طرق الدعاء إلى الله تعالى ولما كانت هذه الطرق هي ذاتها التي عرفتها الفلسفة أو الحكمة قبل ورود الشرع بها، كانت الحكمة أو الفلسفة هي مصدر الكلية التي يستند الشرع في حكمه على الحقيقة وفي الخضوع لها إلى هذه الكلية أو إلى هذه الحقيقة القائمة خارج الشريعة ذاتها. وهكذا تصبح الفلسفة هي الأصل والشريعة الفرع، أو تكون الشريعة هي تطبيق - بينما تكون الفلسفة هي التنظير، ومن ثم يكون العقل هو المستقبل والشرع هو التابع. وبذلك تكون (السلطة) الأولى عند (ابن رشد) هي (سلطة) العقل التي لا تنفصل عن (سلطة) المعرفة و(سلطة) الحقيقة.
بينما تظل الحكمة أو الفلسفة في هوية مع ذاتها بوصفها (السلطة) الأولى سواء من حيث إنها تشرع لغيرها أو من حيث إنها المعيار الذي يسترشد به كل ما عداها، فإننا نجد أن التباين بين فطر الناس وتفاضلها في طرق التصديق قد أدى - في نظر (ابن رشد) - إلى ازدواجية للشرع أصبح للشرع بمقتضاها ظاهراً وباطناً من ناحية وأدى من ناحية أخرى إلى ورود الظواهر المتعارضة فيه أيضاً. ويقرر (ابن رشد) أن: "السبب في ورود الشرع فيه الظواهر والباطن هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق. والسبب في وجود الظاهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. وإلى هذا المعنى وردت الإشارة في قوله تعالى (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب) آل عمران 7" (15) فظاهر الشرع مرتبط بالفطر الأضعف والأدنى وباطنه للفطر الأرقى والأقوى و(التأويل) هو الوساطة التي تحقق التقارب بين مستويات الفطر المختلفة هبوطاً وصعوداً. أو إن (التأويل هو الوساطة التي تضمن تحقيق نوع من الوحدة بين الأفراد المتباينين فيكون من شأن التأويل خلق منطقة يلتقي فيها جميع الأفراد على اختلاف فطرهم وتباين مستوى قرائحهم) مما يؤدي إلى إضفاء نوع من الوحدة على التنوع والكثرة التي هي حقيقة واقعة في كل مجتمع إنساني.
ومعنى (التأويل) عند (ابن رشد) هو "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة - من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز- من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي" (16).
وبناء على ذلك فإن (ابن رشد) يؤكد أنه في الوسع دائماً العثور على نوع من التوافق بين الشريعة والحقيقة بواسطة (التأويل) ف (التأويل) هو الوساطة التي تسمح دائماً بالارتقاء بالشريعة إلى مستوى الحقيقة ولذلك فالمعيار دائماً، أو (السلطة) إن جاز التعبير، هو النظر البرهاني، كما أن (السلطة) المؤكدة بصورة دائمة هي دائماً للنظر البرهاني ولأصحابه، أي لأصحاب الفطر الفائقة والمتميزة على أصحاب أهل الفطر الجدلية والخطابية، أي الجمهور بفرقتيه المتكلمين والعامة معاً. ولذلك يؤكد (ابن رشد) هذا الاتجاه في التفكير إذ يقول: "ونحن نقطع قطعاً أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع إن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن". (17).
وأما الصورة التطبيقية ليقين (ابن رشد) هذا فإنها في الحقيقة تستند إلى مقدمة تقبل النقاش وتستحق الفحص، وذلك لأنها ربما لم تكن برهانية، بل ربما كانت خطابية وفي أحسن الأحوال جدلية. يقول (ابن رشد) عن الشريعة الإسلامية: "إذا كانت هذه الشريعة حقاً، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" (18). وخلاصة هذه المقدمة أن النتائج التي ينتهي إليها النظر البرهاني لا بد أن تكون مطابقة لما يقرره الشرع من حقائق، أو هي على الأقل لا يمكن أن تكون مخالفة له. والظاهر من النص هنا أن النظر البرهاني يقاس على الحقائق الشرعية، أو أن الحقائق البرهانية لا بد لها من أن تكون مطابقة للحقائق الشرعية. ولكن (ابن رشد) عندما يقدم لنا الصورة النظرية العامة التي تسمح بتطبيق هذه المقدمة نراه يقرر أنه" إن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به. فإن سكت عنه، فلا تعارض هنالك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفاً فإن كان موافقاً، فلا قول هنالك. وإن كان مخالفاً، طُلب هنالك تأويله" (19) ومن ذلك يتضح أن (السلطة) النهائية - في نظر (ابن رشد) - إنما هي المعرفة البرهانية، بينما الشرع تابع لها وعليه أن يتكيف لشروطها أو أوضاعها ومقاصده. ذلك أن المعرفة البرهانية تقف أمام ثلاثة احتمالات، فإما أن تنتهي إلى المعرفة بموجود سكت عنه الشرع، وفي هذه الحالة للمتفلسف أن يستنبط كما يستنبط الفقيه الحقائق أو الأحكام التي لم ترد صراحة في الشرع، والاحتمال الثاني أن تكون المعرفة البرهانية تنتهي إلى موجود أو حقيقة مطابقة للشرع، فلا يكون ثمة مشكلة. والاحتمال الثالث أن تنتهي المعرفة البرهانية إلى ما هو مخالف لظاهر الشرع، فيكون (التأويل) في هذه الحالة ضرورة لا بد منها. ومن ذلك يتضح أن الاحتمال الثالث - احتمال (التأويل) - هو الوساطة أو (السلطة) التي أمكن بها ل (ابن رشد) أن يوحد الأضداد ويرد المتنوع والمتكثر إلى الهوية والتجانس.
ولكن تبقى الحقيقة هي أن (التأويل يشهد على أن الحقيقة الشرعية هي التي يجب أن ترتد إلى الحقيقة العقلية. وبذلك تكون (السلطة) الأولى في فكر (ابن رشد) هي (سلطة) المعرفة البرهانية والحقيقة العقلية التي تستخدم التأويل من أجل رد كل ما يبدو غير مطابق للعقل إلى العقل، ومن أجل التأكيد على أن السيادة النهائية في العالم إنما هي السيادة للعقل على كل ما عداه وعلى الشريعة أيضاً. ولما كان العقل ومقاييسه وكل براهينه إنما هي إنسانية، فإنه بالوسع، انطلاقاً من هذا الاعتبار النظر إلى (ابن رشد) على أنه مؤسس للنزعة الإنسانية في الثقافة العربية. فليس من معنى لمنح (السلطة) الأولى للعقل من ناحية، وإلحاق الحقيقة الشرعية من ناحية أخرى بعمل العقل وبالحقائق العقلية، إلا أن يكون الإنسان هو النقطة المركزية في هذا العالم وأن تكون سلطته، وبخاصة سلطته العقلية، هي (السلطة) العليا في هذا العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق