احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

ابن تومرت وإِشْكَالِيَةُ القِيَاسِ

العلمي أحمد

I- تقديم

        يهدف هذا البحث إلى دراسة موقف ابن تومرت من الفرق الكلامية ومن اختياراتها الفلسفية. لقد طرح الإشكال بطرق عدة وقدمت له حلول ومواقف تتباين فيما بينها. والواقع أن مذهب ابن تومرت قد طرح أكثر من مشكل أمام الباحث القديم والمعاصر. لا أن فكره غامض أو ينتابه اللبس، بل أن نصه قد خضع لتأويلات حاولت أن تجلبه لصالحها وهو الإمام المهدي ومؤسس دولة-إمبراطورية. وذهب بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن مذهب ابن تومرت ينساق مع موقف المعتزلة. وربما أن إشارة المراكشي في كتاب المعجب، والتي تجمع بين المعتزلة والمهدي، هي التي دفعت بعض الباحثين المعاصرين إلى الاعتقاد في وجود علاقة واتصالا بين المذهبين(1). وذهب آخرون إلى القول بأن ابن تومرت قد سار على مذهب الأشاعرة. واحتجوا باللقاء المشكوك فيه بين المهدي والغزالي، إبان رحلة ابن تومرت للدراسة في المشرق. وابن خلدون نفسه دفع بهذا التأويل ودعا إليه في كتاب العبر معلنا أن مذهب الإمام هو مذهب الأشاعرة(2). ومؤخرا ذهب الباحث عبد المجيد النجار إلى التخفيف من حدة هذا الجزم، فابن تومرت كان أقرب إلى العقيدة الأشعرية، حتى وإن لم يكن أشعريا خالصا(3).

        هكذا نرى أن تأويل موقف ومذهب ابن تومرت قد طرح بأشكال متعارضة ومتناقضة. فهو مرة أشعري ومرة معتزلي. تهدف هذه الدراسة إلى البحث في مواقف المهدي والبث في اتجاهه واختياراته من خلال إشكالية القياس، أي إشكالية المشاركة.

II- القياس والمشاركة عند ابن تومرت

        طرح علماء الكلام مشكل القياس وفصلوا القول فيه بمفاهيمهم وأسلوبهم. ويتعلق هذا الإشكال في الواقع بالمشكل الفلسفي الشهير، مشكل المشاركة. ويقصد بالمشاركة القدر الذي يجتمع فيه العالم العلوي، أو مبدإ العالم، والعالم السفلي، أو معلول مبدإ العالم. وسواء عبَّرنا عن هذا العالم العلوي بالجوهر أو بعالم المثل أو بالغائب أو بالروح، أو بالله، أو بالنور أو بالعلة الأولى، فإن محصول ذلك يعود إلى أمر واحد، وهو المبدأ، والعلة الأولى والسامية. ويعود العالم السفلي إلى المعلول، أو الشاهد أو عالم الحس، أو المتعدد أو الكثرة، أو عالم الشهادة، وكل هذه المفاهيم تعود إلى محصول واحد وهو الأمر الذي يكون متعلقا بغيره من حيث وجوده وثبوته. والإشكال الذي يطرح في مشكل المشاركة هو علاقة العالمين. هل هي علاقة علة بمعلول؟ إن كان كذلك فأي علة تقصد؟ هل علاقة العلة الفيضية بفيوضاتها؟ أم علاقة العلة المحايثة بمعلولاتها المتباطنة والمحايثة لها؟ أم هي علاقة العلة الخلقية بمخلوقاتها؟ كل هذه الإشكالات قد طرحت أمام الفلاسفة وقد بلوروا حلولا متنوعة، بل ومتعارضة في بعض الأحيان.

        وقد تناول علماء الكلام الإشكال ذاته، إن لم يكونوا قد اصطدموا به وهدد كيان نظرياتهم. وقد عولج هذا الإشكال من خلال نظرية القياس. إذ القياس هو أساسا محاولة إيجاد علاقة ما بين الشاهد والغائب. نقول علاقة ما، لأن القياس قد كان إشكالا مفتوحا، فلم يعن ضرورة المساواة أو الاختلاف أو التعالي، بل إن كيفية تصوره هي التي تنحو هذا المنحى أو ذاك. وقد كانت لمشكل القياس، المشاركة، خلفيات أونطولوجية وابستمولوجية. إذ كيف يمكن إقامة تصور عن الغائب؟ وما مصدر معرفتنا بهذا الغائب؟ ومن أين نقيم تصورا عن صفات وأفعال الغائب؟ هل من السمع؟ هناك من اعتقد ذلك ودعا إلى الاكتفاء بالآيات لتكوين معرفة عن الغائب. إلا أن هذا الموقف، فضلا عن كونه يطرح صعوبات لا يمكن تخطيها، ومفارقات لا يمكن حسمها، قد رفضته بعض الفرق كالمعتزلة ودعت إلى أن العقل، الاستدلال، هو الطريق الأوحد لتكوين المعرفة، أي معرفة كانت ونادت باستعمال القياس في مسألة الصفات، أي في المسائل الميتافيزيقية. ويقوم القياس على حد أوسط يجعلنا ننتقل من معلوم إلى مجهول. وهذا الحد الأوسط هو الاشتراك في الدلالة. ولا يتم ذلك إلا بافتراض كون المعلوم والمجهول منطق واحد، أي في حد واحد أو مقدمة كبرى كما يقول المناطقة.

        إلا أن هناك من رفض هذه الطريقة ذاتها واعتبرها خروجا عن الدين الصحيح وإقرارا بمساواة بين الشاهد والغائب، مساواة يجب أن تُكفَّر وتُفْنى. ويعد ابن تومرت من أهم الداعين إلى نبذ القياس. فما هي إذن مواقفه؟ وكيف بلور تصوره بصدد الإشكالات التي يدعي القياس، عن صواب أو عن خطإ، معالجتها؟

III- أدلة ابن تومرت ضد القياس

        لقد دعا ابن تومرت في أعز ما يطلب إلى رفض القياس. وقد قام برد موقف كل من أبي هاشم الجبائي (ت321) وأبي المعالي الجويني (ت478)، وهما الموقفان الأساسيان في الفكر الإسلامي بصدد القياس. فالعلاقة القائمة على التشبيه لا تروق ابن تومرت. لقد كان يطمح إلى تأسيس فصل وهوة لا ترد ولا تهدم وبين الشاهد والغائب. فالمساواة التي أقامتها نظرية الأحوال، التي أحدثها أبو هاشم الجبائي، بين الشاهد والغائب، قد أصبحت لاغية عند ابن تومرت(4). إنها خروج عن "الدين الصحيح" كما يقول الإمام المهدي. إذ كيف يمكن، يتساءل ابن تومرت، الجمع بين المتعارضات؟ ولم يستسغ كذلك موقف الجويني. فالتشابه العلي أو المشاركة العلية التي اختارها الجويني، قد أُبْعدت، لأنها تدعي إقامة علاقة ما، حتى وإن كانت علاقة تشابهية، بين الشاهد والغائب. والطريق الصحيح حسب المهدي يكمن في إقامة هوة بين العالمين. يجب فصل الطرفين، الشاهد والغائب، بحيث لا شيء يأتي للربط بينهما أو المحاكاة بينهما، لنلاحظ أولا أن هذا الموقف، إقامة هوة وفصل بين العالمين، لم يكن موقفا أصيلا ولا موقفا متميزا في الفكر الإسلامي. فلم يعمل ابن تومرت في موقفه من القياس، المشاركة، إلا على تبني الاتجاه الوجودي السلبي، الذي دشنه جهم ابن صفوان، وإعطائه صبغة كلامية إسلامية متميزة.

        وقد قدم ابن تومرت أربعة دلائل ضد القياس. أولا "العقل ليس فيه إلا الممكن والتجويز، وهما الشك، والشك ضد اليقين، ومحال أخذ الشيء من ضده..."(5). هكذا يصبح العقل مجال الممكن ومجال الشك، يعني أن العقل قاصر وعاجز عن إثبات حقيقة أو يقين مهما كان أمره. فنحن بعيدون عن الموقف الاعتزالي المتجسد في أبي هاشم الجبائي الذي يرى أن اليقين، أو ما يعبر عنه أبو هاشم بعلم التفصيل، متأسس بالعلم "والعقل". فالاستدلال البهشمي (نسبة إلى أبي هاشم الجبائي ومدرسته) يبني اليقين باستخدام الاستدلال، أي الانتقال من دليل إلى مدلول بواسطة الاشتراك في الدلالة. فالعقل، الاستدلال، قوة وإثبات. أما هنا عند ابن تومرت فالعقل عجز وشك. وإذا كان العقل لا يتضمن إلا الشك والتجويز، يقول ابن تومرت، فكيف يمكنه أن يؤدي إلى اليقين والحقيقة، إذ لو أدى إلى ذلك لحدث تناقض. إذ كيف يمكن "أخذ الشيء من ضده...". لا ينتج الشيء إلا نفسه وحكمه. فالشك يولد الشك، واليقين يولد اليقين. وإذا كان هذا هكذا فإن الصعوبة التي تواجه المهدي، الإمام المعصوم، هي من أين أتى اليقين؟ ومن أين تولد؟ فابن تومرت لا يهتم هنا بالبحث عن أصل وميلاد اليقين، فلسنا أمام فكر يطمح للبحث عن نشوء وارتقاء اليقين، بل إنه يقر باستحالة خروجه من الشك ليترك الباب واسعا أمام الإقرار بالمصدر اللاهوتي والغيبي لليقين. يفترض موقف ابن تومرت إذن أصلا لا طبيعيا ولا عقليا لليقين. ويأتي هذا الموقف، استحالة خروج الشيء من ضده، في مواجهة الموقف البهشمي. وفعلا فقد أقر أبو هاشم والبهشمية عموما بإمكانية ترتب العلم على الاعتقاد. يقول القاضي عبد الجبار: "والذي يقوله شيوخنا، رحمهم الله، في العلم: أنه من جنس الاعتقاد، فمتى تعلق بالشيء على ما هو به، ووقع على وجه يقتضي سكون النفس، كان علما. ومتى تعلق بالشيء على ما ليس به، كان جهلا. ومتى تعلق به على ما يقوم به، ولم يقتض سكون النفس، لم يكن علما ولا جهلا"(6). ليس العلم إذن إلا اعتقاد واقع على وجه ما. والاعتقاد ليس بعلم، لكنه قد يؤدي إلى العلم إذا تعلق بالمعلوم على ما هو عليه في ذاته. والاعتقاد ليس جهلا وليس علما، بل واسطة بينهما. قد يصبح علما إذا تعلق بالشيء على ما هو عليه في ذاته، وقد يصبح جهلا إذا تعلق بالشيء على عكس ما هو عليه في ذاته. هكذا نرى كيف طرح أبو هاشم والمعتزلة عموما، إشكالية أصل ومبدإ ونشوء اليقين والجهل. وكأن هناك واسطة مبهمة وعائمة تصبح تارة جهلا وتارة علما. إن هذا الموقف في حقيقة الأمر موقفٌ فلسفيٌ محضٌ. إذ أنه يبحث عن نقطة النشوء والأصل، وخط البلورة الذي يسير الاعتقاد فيه ليصبح علما أو جهلا. وهكذا يجد كل من العلم والجهل نقطة انطلاق معقولة. ولا مجال للاعتراض بأن هناك تناقض. إذ ليس الجهل هو الذي يصير علما؛ وليس العلم هو الذي يصير جهلا. بل أن الاعتقاد، الذي ليس بعلم ولا جهل، هو الذي ينقلب هذا أو ذاك وفق طريقة التعلق والوقوع على وجه دون وجه.

        سيرفض ابن تومرت هذا الموقف وسيحمل عليه من أصله ليعود إلى مواقف لاهويته معادية للفكر الفلسفي. وسيواجه هذا الموقف الأصيل بالرجوع إلى ثنائية الجهل العلم. فليس هناك واسطة، حدٌ أوسطٌ، تُمكِّنُ من المرور من طرف إلى آخر. سينفي إذن الاعتقاد ليترك العلم والجهل وجها لوجه، وليحفر المهدي المعصوم هوة لا تردم بين الطرفين. وهكذا استحال إيجاد أصل محايث لليقين، وتعذر القول بإمكانية تفسيره تفسيرا مفصلا. هذه إذن هي الخلفية الأساسية لموقف ابن تومرت بصدد العلم واليقين والجهل.

        ثم يضيف ابن تومرت دليلا آخر على استحالة تطبيق القياس في مجال علم الكلام. "ومنها أن ضروريات العقل ثلاث واجب، وجائز ومستحيل، فالعبادات ليست من قبيل الواجب في العقل، ولا من قبيل المستحيل، فلم يبق إلا الجائز، والجواز يؤدي إلى التمانع..."، والتمانع يقصي أي حكم صحيح ويقيني. فإذا كان المتعارضان يملكان الحقوق ذاتها للتحقق فمن البين أن أحدهما سيمنع الآخر من الحصول(7).

        أما الدليل الثالث فهو التالي: "إن الأعيان كلها متساوية عقلا، فليس بعضها بأولى بالإباحة أو الحظر من بعض، وإذا تساوت تمانعت، وإذا تمانعت بطلت"(8).

        هكذا نرى أن العقل عاجزٌ عن تأسيس معرفة حول الأشياء، وهو بذلك لا يؤسس معرفة عن الغائب.

        أما الدليل الرابع لإبطال استخدام العقل فإنه يستند مباشرة على القدرة الإلهية. فإذا كان العقل عاجزا على إقرار وإثبات الشريعة فذلك "لأن الله سبحانه مالك الأشياء يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء، فليس للعقول تحكم، ولا مدخل فيما حكم به المولى، وهذا كله بين لا خفاء به"(9). هكذا نبتعد مع ابن تومرت عن المنحى الكلامي المعتاد والذي يقضي بسلطة العقل والاستدلال. ويتوجه موقف ابن تومرت هذا ضد اتجاهين أساسيين. أولا، ضد "بعض من لا أخلاق له فيما ذهبوا إليه من أن الشريعة لا حكمة فيها، وإنها ليست على سنن العقل جارية"(10). نتعرف هنا على موقف النَّظَّامِ الشهير في رفضه للتعبد بالقياس، لأن الشريعة، حسب موقفه، تجمع بين المختلفات وتفرق بين المتماثلات(11). وكان هذا الموقف، حسب ابن تومرت، "طعنا منهم في الدين وجهلا بحكمة الله تعالى"(12).

        ثانيا، يتوجه هذا الموقف التومرتي ضد المعتزلة بمجملهم. لقد ذهب هؤلاء، حسب المهدي المعصوم، "إلى الاستنباط من عقولهم، وتحسين الأشياء على ما أدتهم إليه، وجعلوا أقيسة في الشرع، عدولا منهم عن الحق، وذلك كله فاسد"(13). يتعلق الأمر إذن برفض وجهة نظر المعتزلة بمجملها. فالعقل بوسائله، الاستدلال والحجة، تقصى من طرف المهدي.

        ويهدف الإمام المهدي من وراء ذلك إلى إقامة تعالي للشريعة الدينية، ورمي بالعقل وبطرقه في أحضان الشك والجواز والتمانع. فالشريعة حسب المهدي تكتفي بذاتها وليست في حاجة إلى أي عنصر خارجي للاستناد إليه من أجل بسط سلطتها. وربما سيكون من المدهش أن يكون ابن تومرت قد رفض وأقصى سلطة العقل، وهي السلطة التي قد تفيد الشريعة في هيمنتها. وبالفعل فقد حاولت المدارس الكلامية اجتلاب القوى الاستدلالية للعقل من أجل الذود عن مبادئها، ومن أجل حل صعوباتها الداخلية وحل مشكل الآيات المتشابهة. إلا أن ابن تومرت كان يرمي إلى هدفين اثنين. فهو يهدف، أولا، إلى إقرار تعالى الدين الذي يهيمن على كل شيء، والذي لا يحتاج لأي شيء من أجل فرض ذاته. ويهدف، ثانيا، إلى سد وكسر الانحرافات التي قد تتسرب من طرف العقل إلى صميم الدين. وبالفعل لم يكن استخدام العقل أو الاستدلال من طرف المتكلمين فرصة للدفاع عن العقيدة فحسب، بل كان كذلك فرصة لتوليد "انحرافات" داخل هذه العقيدة ذاتها من أجل تأسيس منحى فكري وفلسفي جديد. وقد أدى ذلك إلى انفتاح علم الكلام برمته على مجال الفلسفة، إن لم يكن هو ذاته ممارسة فلسفية. وعندما نفى ابن تومرت العقل والاستدلال فقد سد باب الاجتهاد والإبداع الكلامي ليدعو إلى التزام الإيمان المطلق والأعمى.

IV- الأقيسة الفاسدة حسب ابن تومرت

        بعدما نفى المهدي بن تومرت الأساس الذي يقوم عليه القياس، وهو الاستدلال والعقل، راح يعدد القياسات الفاسدة ليفندها.

        2-1- يتعلق النوع الأول والثاني ب"قياس الوجود" و"قياس المشاهدة"(14). يتعلق الأمر في الواقع بقياس المشبهة والمجسمة. "أما قياس الوجود فهو قياس المشبهة، وذلك أنهم قالوا جميع ما شاهدنا وجوده على ثلاثة أقسام جواهر، وأعراض، وأجسام فكذلك ما غاب عنا يعنون بذلك الباري سبحانه وتعالى عن قول المبطلين. وقد قامت الأدلة العقلية والبراهين القطعية على أن الباري سبحانه ليس بجوهر، ولا جسم أو لا عرض. وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج فيه إلى دليل"(15). أما قياس المشاهدة فإنه يقوم على المنطق ذاته. "فهو قياس أصحاب الجهة، فإنهم قالوا جميع ما شاهدناه من هذه الموجودات لم نشاهد شيئا منها إلا في جهة، فكذلك الغائب عنا، يعنون بذلك الباري سبحانه وتعالى عن قول المبطلين. وهذا الذي قالوه باطل عقلا وسمعا"(16).

        إن مذاهب المشبهة والمجسمة هي التي بلورت هذين النوعين من القياس، وهي التي يرفضها ابن تومرت. ونجد هذا القياس عند المتكلمين مثل ابن كرام (توفي 255)، وابن كلاب (240) ومقاتل ابن سليمان (168)، مثلما نجده عند الفقهاء كالإمام أحمد بن حنبل. يواجه ابن تومرت هنا مفهوم المشابهة. فكل مكونات العالم وكان صفاته تنفى حسب ابن تومرت عن الصانع الذي يتعالى على كل شيء. وإذا كان هذا هكذا فما العمل إزاء الآيات القرآنية التي تعلن صراحة بالتشبيه والتجسيم وهي التي كانت عضد المشبهين والمجسمين وسندهم؟

        لقد دعت المدرسة الجهمية منذ ميلادها إلى نبذ التشبيه، وطبقت، من أجل حل إشكال النصوص المتشابهة، منهجا كان غير مستعملا آن ذاك، وهو منهج التأويل. فهذه الآيات المتشابهة تتكون حسب هذا المنهج، من بعدين أساسيين. بعد ظاهر ينتمي إلى المعطيات المباشرة وتدركه الحواس مباشرة. وبعد آخر، حفيٌ وغير معطى، يكون مختلفا عن المعنى الأول. ولا يمكن الوصول إلى هذا البعد إلا بفضل طريق جديد هو الطريق العقلي الذي يتجاوز الحس والبعد الأول ليصل إلى المعنى الحقيقي الخفي. يسمى هذا المنهج بالتأويل. وإذا كان للنص بعدان، فإن البعد الثاني هو البعد الأساسي والحقيقي والصحيح. هكذا فتحت الجهمية نافذة جديدة أمام الفكر الإسلامي، وتَوجُّهاً أصيلا وغنيا، إذ كان موصدا قبله لم يطرقه أحدٌ(17).

        وقد كان لمنهج التأويل هدفان أساسيان. أولا، إيجاد حل معقول للآيات المتشابهة والآيات التي تقول تارة بالتعالي وتارة بالتجسيم. وقد كانت هذه الآيات المتشابهة تمثل مشكلة عند المتكلمين. إذ كيف يمكن الدفاع في آن واحد عن التجسيم والتعالي، عن الحرية الفردية والفعل الإلهي "المطلق"؟ ثانيا، كان منهج التأويل يهدف بمقتضى حججه المنطقية إلى إقناع الخصم. فالنقاشات العقائدية التي كانت قائمة مع رجال الديانات الأخرى لم يكن لها أن تنجح إلا إذا كان المدافع عن العقائد الإسلامية يقدم صورة تكون متناسقة ومنسجمة عن الغائب. فكان التأويل هو الأداة والوسيلة الفكرية المثلى لسبر أعماق النص السمعي وجعل التعارضات الظاهرة توافقات دقيقة وباطنية. تلك هي أسباب التأويل وغاياته، أو بالأحرى بعض غاياته.

        قد نذهب إلى الاعتقاد بأن أن ابن تومرت قد التجأ إلى التأويل لمواجهة الإشكال ذاته، أي لفك الآيات التي تقول بالتشبيه والتجسيم. لكن يبدو لنا أن ابن تومرت قد رفض التأويل وكفَّر مستعمليه. إلا أن هذا الرفض قد وضعه مباشرة أمام الصعوبات والأخطار التي واجهت سابقيه: إذ كيف يمكن تفسير الآيات التجسيمية والتشبيهية؟ إذا كان ابن تومرت لم يحاول حل هذا الإشكال، إذا لم يستطع إيجاد مخرج أصيل لهذه الصعوبات، فذلك لأنه بكل بساطة قد كان يعتقد، في هذا المشكل، في الإيمان الأعمى كمخرج من المعضلات التي طرحت أمام المتكلمين. فما يجب في نهاية المطاف هو إيمان أعمى في هذه الآيات، حتى وإن كانت هذه الآيات تعارض مبادئ العقل أو تعارض آيات أخرى. هكذا لم يستعمل ابن تومرت العقل كما لم يستعمل منهجه التأويلي، وإنما اختار إيمان العجائز والأطفال: "وما ورد من المتشابهات التي توهم التشبيه والتكييف كآية الاستواء، وحديث النزول، وغير ذلك من المتشابهات في الشرع فيجب الإيمان بها كما جاءت مع نفي التشبيه والتكييف، لا يتبع المتشابهات في الشرع إلا من في قلبه زيغ"(18). لا سبيل إذن إلى تأويل هذه النصوص، بل إن ابن تومرت يكفر كل من اتبع الزيغ. وإذ كان من الواجب نفي التأويل فذلك لأنه "ليس للمخلوق أن يتحكم على خالقه، فيسميه بما لم يسم به نفسه في كتابه، ما نفاه عن نفسه في كتابه نفاه عنه، وما أثبته له لنفسه أثبته من غير تبديل، ولا تشبيه ولا تكييف"(19).

        يجب إذن رفض وإقصاء الاتجاهات التشبيهية كما يجب رفض وإقصاء الاتجاهات التأويلية. حقيقة أن الاتجاهات التشبيهية تؤمن بهذه الآيات المتشابهة، لكن خطئهم يكمن أساسا حسب ابن تومرت في تجاوز هذا الاعتقاد والإيمان والطموح نحو تأسيس استدلال ينطلق من هذه الآيات ذاتها، وهي الآيات التشبيهية، من أجل دراستها وتحليلها والنظر في علاقتها مع الذات الإلهية. وموقف ابن تومرت يكمن أساسا في التزام النص القرآني. وإذا كان قد رفض الاتجاهين معا فلأنهما يفترضان قوة ما للعقل. الأولى تمدد التشبيه بفضل طريقة عقلية التي هي القياس؛ والأخرى تتفادى التشبيه، لكن بفضل طريقة عقلية أخرى، وهي التأويل. وهما معا، التأويل والقياس، حسب ابن تومرت عكس المطلوب، ونقيض "الدين الصحيح". إن ما يجب توفره هو إيمان أعمى في هذه الآيات مهما كانت طبيعتها.

        تذكرنا هذه المواقف التومرتية، وهي المواقف التي ليست بثورية البتة وليست بمواقف أصيلة، بفكر الإمام مالك (ت140). فقد كفر هذا الإمام في بداية علم الكلام استعمال التأويل. فقد روي عنه أنه قال بشأن آية الاستواء "الاستواء معروف، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"(20).

        هكذا نرى الأسباب الحقيقية التي دفعت إلى رفض قياس الوجود وقياس المشاهدة. إنهما مع لا يلتزمان مجرد النص. وبل أنهما يدخلان عنصرا غريبا، العقل، على الدين، ويضيفان إلى الذات الإلهية أحكاما غير موجودة في الكتاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنهما يحتجَّان بالعقل وبالقياس على أمور إيمانية. وهذا في غاية الفساد حسب المهدي ابن تومرت.

        3- أما القياس الثالث الذي يرفضه ابن تومرت فهو قياس "العادة": و"هو قياس المعطلة، وذلك أنهم قالوا جميع ما شاهدناه من هذه الموجودات إنما هو ولد من والد، وزرع من بذر، وطائر من بيضة إلى ما لا نهاية له. وطردوا ذلك في جميع الموجودات، فجرهم ذلك إلى أبطال الفاعل"(21).

        ويقدم ابن تومرت حجتين ضد الطبيعيين. "إحداهما أن المحدث لا يخلق؛ والثاني أن ذلك يؤدي إلى قلب الحقائق، وقلب الحقائق محال"(22). رغم قصر هذه الحجج، إلا أنها تقدم لنا فكر ابن تومرت بشكل واضح وجلي. والواقع أن الفرق الكلامية قد اصطدمت مع فرق الطبيعيين وواجهت حججهم الشائكة، إلا أن الطريق الذي اختاره هنا ابن تومرت طريق خاص ومتميز. فالدليل الأول: "إن المحدث لا يخلق" يقدمه الإمام دون الاهتمام بالتدليل على ذلك، وبدون تهيئ للمقدمات الضرورية له. والأمر الغريب هو أن ابن تومرت لا يُعول على تأسيس قدرة الله إلا على عجز المحدث. فلا يقدر الله على الخلق إلا لأن المحدث عاجز عن ذلك. أكان هذا الاختيار واجبا وضروريا؟ يبدو مع ذلك أن اختيارات أخرى قد كانت أمام المهدي، لكنه فضل هذا المنحى التراتبي. وبالفعل كانت المعتزلة قد بنت وجود الله على أسس مغايرة. فإذا كان العالم سلسلة من العلل المتناسقة والضرورية، فإنه في حاجة مع ذلك إلى فعل إلهي يمنحه فعل الوجود. فإثبات هذا الوجود الإلهي لا يكمن عند المعتزلة في نفي قدرة المحدث، وإنما في جواز المحدثات(23). حقيقة أنهم قد اعتبروا أن خروج بعض المحدثات عن قدرة المُحْدَث دلالة على وجود المُحْدِث "لأن إثباته تعالى لا يكون إلا بإثبات حوادث مخصوصة لا تتأتَّى من كل القادرين"(24)؛ "وإذا أردت كشف هذه الجملة قلت إن الذي يدل على الله تعالى إنما هو الأفعال التي هي حوادث وكل الحوادث لا تخرج عن أن تكون جواهرا أو أعراضا. فما كان من باب الجواهر فهو دليل على الله تعالى لا محالة لتعذره على القادرين بقدرة"(25). غير أن هذا العجز ليس عجزا مطلقا، وإنما هو عجز نسبي ومقترن بكون القدر المحدث قادرا بقدرة. فإذا كان المحدث غير قادر على بعض المحدثات كالجواهر وبعض الأعراض، فإنه قادر على غيرهما. حقيقة أن قدرة المحدَثِ محدودة، لأنها لا تنطبق إلا على أفعال محدودة ومتناهية، إلا أن هذا التحديد نسبي ولا يرفع القدرة الثابتة والمتقررة. فالقدرة واحدة وشاملة للقديم وللمحدث. هكذا توصل شيوخ المعتزلة إلى إثبات قدرة المحدِثِ دون نفي قدرة المحدَثِ. بل أنهم ذهبوا إلى القول بأن نفي القدرة عن الشاهد سينفي الطريق إلى معرفة الغائب. يقول القاضي عبد الجبار في تقديم موقف البهشمية من العدل ضد من ينفي الفعل عن المُحْدَثِ: "والآخر إخراج الفاعل في الشاهد، من أن يكون فاعلا، وبه يعرف القديم تعالى"(26).

        لم يستسغ ابن تومرت هذا الاختيار. لقد كان في حاجة إلى حل جذري وواضح لا يترك لحظة شك أمام الاختيار المتعالي والمتراتب. لم يقنعه موقف المعتزلة الذي يمنح للمحدث سلطة على الفعل. هكذا نشهد مع ابن تومرت إقامة ثنائية بين قدرة المحدِثِ وعجز المحدَثِ. يدخل موقف ابن تومرت هذا ضمن مواقف الجبرية والجهمية التي نفت الفعل عن المحدَثِ.

        أما الدليل الثاني فإنه يتقدم على الشكل التالي: إذا كان المحدَث قادرا على الخلق فإن ذلك "يؤدي إلى قلب الحقائق وقلب الحقائق محال". إذا كان المحدَث لا يخلق، فذلك لأنه هو ذاته مخلوق. وكأنه يستحيل لشيء أن ينتج فعلا يكون هو ذاته متعلقا به. يذكرنا هذا الدليل بموقف ابن تومرت من اليقين الذي لا يمكنه أن يتولد عن نقيضه، الجهل والشك. إه في كل هذه المجالات يعتمد المنطق لثنائي كمطية للوصول إلى غاياته الكلامية. إن هذا المنطق التومرتي لا يتقرر دون طرح مشكل جديد، مشكل أكثر تعقيدا لم يعمل ابن تومرت على إثارته. إذا كان الشيء لا يمكنه أن يخلق طبيعته الخاصة، وإذا كان الموجود المحدث يمتنع عليه أن يخلق علة الإحداث أو أن يكون مبدئا لها، وإذا كان الشيء لا ينتج نقيضه أي لا يمكن للمحدَث أن يكون مُحْدِثا، فكيف يفسر الإمام المعصوم عملية الخلق التي تُخْرِجُ الأشياء من العدم؟ كيف يمكن لهذه العملية التي تخرج الأشياء من نقيضها، أي تخرج الوجود من اللاوجود، أن تكون متصورة؟ إلا أن ابن تومرت، شأنه في ذلك شأن أهل السلف، لا يرى أن هذه العملية تطرح مشكلا أو معضلة. فالفعل الإلهي المطلق يفعل ما يشاء.

        هكذا نرى أن ابن تومرت لا يحل الإشكال الذي يطرحه قياس العادة إلا بالرجوع إلى مواقف عقائدية قديمة، مواقف لا تشكل أية أصالة داخل الفكر الإسلامي. فلم يعمل كما حاول زعماء المعتزلة على البحث عن حل جديد وعن عِلِّيَةٍ جديدة، وإنما فضل، على العكس من ذلك، إنعاش المواقف المتخشبة في علم الكلام.

        4- ويتعلق القياس الرابع، وهو قياس فاسد كذلك حسب المهدي المعصوم، بقياس "أصحاب العلل، فإنهم قالوا قيام العلم بالعالم علة في كونه عالما شاهدا، فكذلك ينبغي أن يكون في الغائب"(27). نتعرف هنا على موقف الجويني ومجموع الأشاعرة الذين دافعوا على القياس العلي. وقد طرحت المسألة في الفكر الأشعري على الشكل التالي: كيف يمكن تكوين معرفة عن الصفات الإلهية؟

        لنرجع إلى كتب الأشاعرة لضبط الإشكال الذي فرق قلوبهم ومزق أفئدتهم. يقوم موقف قدماء الأشاعرة على جعل الصفة بين الشاهد والغائب مجرد اسم. فالذاتان "لا تشتركان في صفة حقيقية، واشتراكهما في تسميتهما موجودين يؤول إلى اللغات، والتجاوز، والإطلاقات دون حقائق الصفات"(28). فحقيقة الصفة في الشاهد مختلفة تماما عن حقيقتها في الغائب. صحيح أن للحقيقتين إسما واحدا. لكن ذلك ليس إلا اشتراكا في التسمية. غير أن هذا الموقف جر عليهم صعوبات ومعضلات أقامها خصومهم ضدهم، بل أن الجويني نفسه لم يتردد في تسفيه شيوخه ونعتهم بالجهل(29). ولذلك فقد اضطر إمام الحرمين إلى بلورة موقف مغاير لاختيار شيوخه. وهو موقف يقوم على الشكل التالي. فرغم الاختلاف الحاصل في معنى الصفة التي تضاف إلى الحادث وإلى القديم، فإن الجويني يدخل علاقة التشابه، لا في الاسم والتسمية، أي من جهة اللغة كما تصور شيوخه، بل في العلة. وفي كتاب الشامل، يحدد لنا إمام الحرمين معنى هذا التشابه. "الوجه الذي اقتضى العلم من أجله كون من قام به عالما، ليس يختلف فيه العلمان، فحسن الطرد من حيث لم يتحقق الاختلاف في الوجه الموجب للحكم"(30). وذلك لأن العلم معنى موجود وقائم في الذات التي، بفضل هذا القيام، تصبح عالمة. فهذه الحركة، حركة إضافة العلم وحكمه إلى الذات، ثابتة في كل العلوم سواء تعلق الأمر بالعلم الحادث أو بالعلم القديم. والواقع أن الجويني يميز بين طرفين في صفة العلم. فهناك، من جهة، العلم الإلهي مع الذات الإلهية؛ وهناك، من جهة ثانية، العلم الحادث والذات الحادثة. والجويني لا يقول إن الطبيعة الشاملة والمتواطئة تشمل الصفتين من حيث هما كذلك، بحيث تكون نفس الصفة في المحدث والقديم، بل يقول إن الطبيعة الشاملة تكمن فقط في علاقة كل صفة علم مع الذات اللازمة لها. لأن كل صفة علم تضفي على الذات اللازمة لها حكما، وهو كونها عالمة. فالجويني لا يقيم أية علاقة مباشرة وحقيقية بين الصفتين. فلسنا هنا إزاء تواطؤ حقيقي وفعلي، بل فقط أمام تشابه خارجي. فعلاقة الصفة بالذات القديمة هي نفس العلاقة التي بين الصفة والذات الحادثة. يسمي الجويني هذا التشابه "العلمية الجامعة". فهذه العلاقة العلية هي أساس تكوين معرفة عن الغائب. إلا أن هذه العلاقة لا تتأسس إلا بالإقرار بالعلة الضرورية. ولذلك ندرك لماذا كتب الجويني في كتاب الشامل في أصول الدين جزءا خاصا بالعلل. فالعلم علة كون الذات عالمة. والعلة هنا حتمية لا جواز فيها. فسواء كانت في الشاهد أو في الغائب فإنها تكون ضرورية. هذا هو موقف الأشاعرة والجويني خصوصا.

        لقد كان رد فعل ابن تومرت اتجاه هذا الموقف قويا وجذريا بحيث أن كل التأويلات المتسرعة التي تربط مواقف الإمام المهدي بالأشاعرة تتهافت لوحدها. ومن أجل مواجهة موقف الجويني، سيضرب ابن تومرت مفهوم العلة ذاته وهو المفهوم الذي على أساسه وعلى أركانه بنى إمام الحرمين قياسه. يقول ابن تومرت: "والذي قالوه باطل، لأنه مستحيل أن يوصف علم الله تعالى بأنه علة، لأن العلة يجوز أن تفارق المعلول، ويجوز أن تبقى معه، فليس بقاؤها بأولى من مفارقتها، ولا مفارقتها بأولى من بقائها إلا بمخصص"(31).

        لا وجود لعلة واجبة من تلقاء ذاتها، بل كل علة إنما هي جائزة ولا تتحول إلى الإيجاد إلا بمخصص، أي بفاعل خارجي. وعندما ضرب ابن تومرت مفهوم العلة تهافت موقف الجويني وتهافت قياسه. فإذا اقترضنا أن العلة تكون واجبة بمخصص فمعناه أنه لابد من وجود فاعل خارجي يضمن ضرورة تعليل الصفة لحكمها الذي بفضله تصبح الذات الإلهية موصوفة. وعلة من هذه الطبيعة تصبح لاغية ويستحيل تطبيقها على الذات الإلهية في علاقتها مع صفاتها. إذ لو تعلقت الذات الإلهية بمخصص كي تصبح عالمة أو قادرة لأدى ذلك إلى انتفاء طبيعتها القائمة على الكمال.

        هكذا يسقط، حسب ابن تومرت، قياس الأشاعرة والجويني، فكل طريق يعتمد الاستدلال سيُرْفَض من طرف ابن تومرت. وباختصار لا يمكن للعقل أن يدعي إقامة معرفة محايثة للذات الإلهية ولصفاتها. وسيؤدي نفي العقل والاستدلال إلى العصف بكل طموحات الأشاعرة، بل بكل جرأة المعتزلة. وسيكون القياس الخامس الذي ندد به ابن تومرت هو قياس أهل العدل والتوحيد.

        5- ينتمي الخياس الأخير الذي يرفضه ابن تومرت إلى المعتزلة وإلى مجمل القدرية. إنه "قياس أصحاب الأفعال، فإنهم أرادوا بذلك خروج بعض المخلوقات عن أن يكون الباري سبحانه خالقها، لخيالات توهموها، وذلك أنهم قالوا رأينا شاهدا أن كل من فعل فعلا اتصف به، فمن اعتدى أو ظلم سمي بذلك جائرا وظالما، فدل هذا على أن الباري سبحانه لا يفعل ظلما ولا جوارا إذ لو فعل هذا سمي به"(32). نتعرف هنا على المعتزلة ومجمل القدرية الذين أسسوا العدل الوجودي على القياس. فبالاعتماد على الشاهد استطاع المعتزلة تأسيس نظرية أخلاقية أصيلة داخل الفكر الإسلامي. فالأحكام الخاصة بالفعل من عدل وجور، وغير ذلك، تكون مترتبة على الأفعال المتحققة من طرف فاعل الفعل بغض النظر عن كونه محدثا أو قديما. وعلى هذا الأصل عوَّل المعتزلة لتأسيس موقفهم الأخلاقي والعدل الوجودي. يقول القاضي عبد الجبار: "وهذا الأصل هو الذي يوجب فيمن خالفه الخطأ العظيم، لأن من يقول: إن هذه الأفعال تكون من خلق الله، لابد له من الخروج عن هذا الأصل من وجوه: أحدها بنسبة القبائح إلى الله تعالى. الآخر قطع الحسن عن البعد، لأن فيه إزالة الحمد والذم، والأمر والنهي، والثواب والعقاب"(33). ويقوم هذا الموقف على مبدإ هام جدا وهو كون الفعل المتحقق يضيف إلى الفاعل حكمه وطبيعته. وينطبق هذا على الشاهد وعلى الغائب بدون تمييز. فأحكام وصفات الذات الإلهية تترتب على أفعال هاته الذات نفسها. وهكذا انتهى المعتزلة إلى أن الله لا يفعل الجور ولا يفعل القبيح، لأنه لو فعل ذلك لأضيف إليه حكمهما وصفتهما.

        سيرفض ابن تومرت هذا المنطق الخارج حسب رأيه عنه "الدين الصحيح". فلم يكن بمقدوره استصاغة منطق يُقَوِّمُ أفعال الله، ويحكم عليها بالعدل أو الجور. أي أنه يرفض مساواة بين الشاهد والغائب، مساواة تجعل إمكانية التقويم ممكنة. وقد قدم الإمام المعصوم دليلين لتفنيد موقف المعتزلة. "والذي قالوه باطل من وجهين: أحدهما أن الباري سبحانه لا تتصف أفعاله بالجور والظلم، وإنما يتصف ذلك من حجرت عليه الأمور، وحدت له الحدود، فمن تعداها سمي بذلك جائرا وظالما، والباري سبحانه لا حاكم فوقه، ولا آمر ولا ناهي غيره، فلو أدخل عبيده كلهم الجنة فكان ذلك منه فضلا، ولو أدخلهم كلهم النار فكان ذلك منه عدلا، يفعل في ملكه ما يريد وبحكم في خلقه من يشاء لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه"(34). هكذا نرى أن ابن تومرت يطالب بتعالي للأفعال الإلهية بعدما كان قد أثبت، في السابق، تعالي الصفات الإلهية، والوجود الإلهي. وإذا كان حقيقة أن أفعال المخلوقات والمحدثات تخضع لأحكام وإلى تقويمات، بحيث يمكن الحكم على هذا الفاعل أو ذاك بالعدل أو الجور، فليس من الصائب الاعتقاد أن أفعال الله تخضع للأمر ذاته. فالادعاء بالقدرة على تقويم أفعال الله بهذا الحكم أو ذاك هو التطاول، حسب ابن تومرت، على مستوى الفعل الإلهي، بل تجاوزه للحكم عليه. لأن المُقَوِّمَ يتعالى على الأمر المُقَوَّمِ. فأفعال الله، شأنها شأن صفاته ووجوده، متعالية على أفهام البشر والمحدثات. فقدرة الله تمتد بدون حد وبدون منطق وبدون أساس أخلاقي. لا وجود لأخلاق إلا للأخلاق المتعالية، أخلاق الخضوع والاستسلام، أخلاق القهر والانسياق. وابن تومرت يقرر بذلك بوعي ووضوح لا يدع أي مجال لتأويل مغاير. فإذا كان من الواجب رفض ودحض القياس الاعتزالي، فذلك من أجل تقرير تعالى الفعل إلهي ورفض المحايثة الأخلاقية.

        ولذلك دعا الإمام المهدي إلى عدم جواز "القياس والاصطلاح في أسمائه [أسماء الخالق]. يسمى المخلوق فقيها سخيا لعلمه وكرمه، ولا يقاس عليه الخالق سبحانه، ويسمى المخلوق راميا قاتلا لرميه وقتله، ولا يقاس عليه الخالق سبحانه... وليس للمخلوق أن يتحكم على خالقه"(35).

        أما الدليل الثاني فيصاغ على الشكل التالي: "والوجه الثاني أن الذي قالوه [أصحاب قياس الأفعال]، لا يصح إلا بتوقيف من الشارع، ولا سبيل إلى ووده أصلا"(36). لا شء إذن يؤسس ادعاءات المعتزلة حسب ابن تومرت. فلا العقل ولا الشرع يسمح حسب ابن تومرت بالاختيار الأخلاقي الاعتزالي. فتصورهم يصطدم، من جهة، بالعقل الذي يرفض مساواة بين الشاهد والغائب، ويصطدم، من جهة أخرى، بالشرع الذي لا سند فيه لموقفهم.

        هكذا نرى أن ابن تومرت لا يرفض القياس الذي يتعلق بالصفات الإلهية فحسب، أي أنه لا يرفض القياس الذي يتعلق بالتوحيد فحسب، بل أنه يتجاوز ذلك للحمل على القياس الأخلاقي، المتعلق بالعدل. فهو يكفر كل محاولة للجمع بين الشاهد والغائب. لم يكن ابن تومرت يهدف، في حملته ضد قياس المعطلة والمشبهة والمعتزلة والأشاعرة، إلى تحطيم هذا القياس أو ذاك؛ لم يكن يهدف إلى ضرب هذه الأنواع من القياس فحسب، بل كان يهدف إلى نسف القياس ذاته. وإذا كانت هذه الفرق على تضارب مشاربها واختلاف اختياراتها تُرفَض من طرف ابن تومرت، فذلك لأنها تفترض وجود قوانين واحدة تنظم الشاهد والغائب. الأمر الذي يعني أنه لا وجود لقوانين ولأحكام ولصفات سوى لتلك التي توجد في الشاهد. فرغم التقابل والنزاع الذي لا يردم بين هذه الفرق، فإنها تشترك في صورة فكرية مجردة تجعلها تتوحد باطنيا رغم اختلافها الظاهر. فكل هذه الفرق تفترض أو تنطلق من مسلمة وهي كون الوجود خاضعا لقوانين واحدة. وهذه القوانين هي التي تنظم الشاهد. وحتى وإن اعتُقِد في وجود الغائب، فإن هذا الغائب ذاته يكون خاضعا للقوانين ذاتها التي تنظم الشاهد. ولا يمكن الاعتراض باستحالة الجمع بين الطبيعيين والمشبهة أو المعتزلة. لأن الطبيعيين يعولون هم كذلك على نفس الصورة الفكرية في نفي الوجود الإلهي. فالقوانين التي تفعل هنا في الشاهد هي التي تفعل في الغائب. فإذا كان كل فعل يصدر عن علة، فكذلك الأمر في الغائب. إذن لا وجود لمبدإ يكون علة دون أن يكون هو نفسه معلولا. هناك إذن سلسلة من القوانين تفعل في جميع الاتجاهات الزمنية، الحاضر والماضي والمستقبل. ونجد في نفس الصورة الفكرية عند المعتزلة. فعندما أثبت شيوخهم الوجود الإلهي وأثبتوا أفعاله وصفاته، فإنهم قد عولوا على القياس، أي على إثبات المبادئ ذاتها التي تكون في الشاهد وإطلاقها على الغائب. وبهذا الصدد يقول أصحاب الأحوال، وهم أصحاب أبي هاشم الجبائي، "القول بإنكار الأحوال يفضي إلى إنكار القول بالحدود والبراهين، وأن لا يتوصل أحد من معلوم إلى مجهول. ولاسيما صفات الرب تعالى؛ إذ منشأ القول بها [الأحوال] ليس إلا قياس الغائب على الشاهد"(37).

        فهذا الادعاء بوجود قوانين واحدة تفعل في الشاهد والغائب هي التي رفضها ابن تومرت وكَكَّرَها. وإقامة قوانين واحدة هو بالضبط الاعتقاد حسب ابن تومرت في نفي الوجود الإلهي، الغائب. وحتى المشبهة والمعتزلة والأشاعرة لا تخرج عن هذا الخطر. إذ قد أثبتت جميعا وجود مبادئ وقوانين واحدة، قوانين متواطئة تفعل في العالمين. إن ما يطالب به ابن تومرت هنا هو إثباتعالم مغاير بوجوده وأفعاله وصفاته وأحكامه. عالم متعال على جميع المستويات. وإذا كان هناك العالم الشاهد وهناك العالم الغائب، فلابد حسب ابن تومرت من إثبات لا علاقة بين الطرفين. وهكذا فرض ثنائية الوجود نفسها في التصور الوجودي التومرتي. إنها ثنائية وجودية يستحيل قلبها أو التقليل من حدتها. فالغائب يتعالى عن الشاهد.

        والسبب الأساسي في خروج أصحاب القياس عن الطريق الصحيح هو كونهم لم يحددوا شروط القياس. فما هي إذن شروط القياس حسب الإمام المهدي؟

V- شروط القياس

        يساعدنا موقف ابن تومرت من القياس والأقيسة المستعملة لفهم وضبط فكره الكلامي. ويقدم ابن تومرت خمسة شروط للقياس: "الجامع، والتعدد، والتخصيص، والطرد، والتساوي"(38). وهذه الشروط ضرورية لقيام القياس، "ولا يصح إلا بالشروط التي قدمناها، ومتى اختل منها واحد لم يصح القياس"(39). فلكي يكون هنا قياس بين شيئين فلابد من وجود جامع يشملهما، وإلا استحال ربط هذا بذاك أو تطبيق حكم هذا على ذاك. ما هي إذن طبيعة هذا الجامع؟

        "الجامع على ضربين: لفظ ومعنى، فأما اللفظ فلا يقاس به، إذ المساواة في الألفاظ لا توجب المساواة في المعنى"(40). فالاشتراك اللفظي أو الإسمي لا يؤسس إذن قاعدة للقياس، أي الجمع بين المختلفات. حقيقة أن لفظ الوجود يضاف إلى الشاهد وإلى الغائب، لكن هذه المشاركة الإسمية لا تصلح لإقامة علاقة بين الطرفين والعالمين. غير أن موقف ابن تومرت من الاشتراك الإسمي لم يكن جديدا في الفكر الإسلامي. فالجويني، زعيم الأشاعرة بعد الباقلاني، قد حمل على أساتذته وشيوخه بصدد الاشتراك الإسمي واللفظي الذي عولوا عليه في أقيستهم(41). يستعيد ابن تومرت هذه الانتقادات دون اتباع الجويني في مغامراته الكلامية والفكرية.

        أما الانتقاد الثاني الذي يقدمه ابن تومرت ضد الاشتراك الاسمي فإنه يصاغ على الشكل التالي: "المعاني موجودة قبل الألفاظ، ومن شرط الجامع أن يكون موجودا مع وجود المعاني لا يتأخر عنها. لأن الصفات لا تفارق موصوفاتها ولا تتأخر عنها"(42). فكون الله يشترك مع العالم في لفظ الوجود لا يعني اشتراكهما في جميع المعاني. هكذا ينتفي الاشتراك الاسمي.

        أما النوع الثاني من المساواة والمؤسس للشرط الأول للقياس فإنه يتعلق بالمساواة في المعنى. والحال أن المعنى حسب المهدي من صنفين. الأول هو الذي "جرت العادة به كقياس أجناس الحيوانات بعضها على بعض، فيما يجوز عليها، وما يجري من أحكامها"(43). فعندما نضيف الطيران إلى صنف ما من أصناف الطيور فإننا نقيس أجناس الطيور على معنى واحد وهو الطيران. فهو معنى يشمل أجناسا واحدة. وهذا المعنى المحمول على هذه الأجناس يضاف إلى معاني أخرى مشتركة بينها. هكذا نرى أن هذا النوع من الاشتراك لا ينطبق على الغائب والشاهد. فليس الغائب جنسا بجانب جنس الشاهد حتى يجوز البحث عن معنى شامل لهما كما تشترك الطيور في الطيران أو في الحيوانية. فلا وجود لشيء قد يجمع الشاهد والغائب. وهكذا تنتفي المساواة من جهة المعنى الجاري بحسب العادة ويستحيل ربط الشاهد بالغائب، كما استحال في الاشتراك الإسمي.

        أما الصنف الثاني المتعلق بالمساواة فإنه متعلق "بالمعنى العقلي"(44). وهو كذلك "على ضربين: مثل، وجنس"(45). ويتعلق الصنف الأول بأجزاء جنس واحد مثل قياس الجواهر بعضها على بعض فيما يجب، ويجوز، ويستحيل. وكذلك في الأعراض المماثلة"(46). إن هذا الاشتراك المتعلق بالمثل لا يقوم إلا على أصناف وأجزاء الجنس الواحد. إنه يمر من جوهر إلى آخر، أي أنه يظل داخل التماثل دون تجاوزه.

        ويقوم الصنف الثاني على "الجنس" "وهو مثل جنس الأعراض كقول القائل الحركة يستحيل وجوده لا في محل، وكذلك سائر الأعراض"(47). إلا أنه يمكن للمعنى أن يجمع أجناس الأعراض وأجناس الجواهر ولكن فقط من حيث افتقارها إلى الفاعل. "وأما ما يجري في الجواهر والأعراض فمثل الافتقار، والحدوث، فإنها متساوية في ذلك قطعا، كما يقال المحدث يفتقر إلى الفاعل، وكذلك سائر المحدثات"(48). فالحدوث يشمل كل الأصناف والأجناس حقيقة. وبالتالي يجوز أن يقاس جنس على جنس اعتمادا على الحدوث والافتقار إلى الفاعل.

        ولا يمكن تطبيق هذا النوع من الاشتراك المعنوي بشقيه، المثل والجنس، على الغائب. لأن الله ليس عنصرا داخل جنس وليس بجنس بجانب جنس آخر. لذلك يستحيل تطبيق هذا النوع من المساواة عليه في علاقته بالشاهد. وهكذا نسد هنا مع ابن تومرت بابا آخرا قد تؤسس إمكانية القياس.

        هكذا نرى أن الشرط الأول للقياس، الجامع، لا يتحقق إلا في الشاهد. فأجزاء المحدث، من أجناس وأنواع وجواهر وأعراض، تدخل في علاقات متنوعة. فما ينتمي إلى جوهر ينتمي إلى جوهر آخر وإلى أعراض أخرى. فالقياس هنا طريقة تمتد أفقيا من جنس إلى جنس ومن عرض إلى آخر، لكنها تظل عاجزة عن الارتقاء عموديا. فتعالي الذات الإلهية يجعلها غير داخلة في علاقة أو في مساواة مع الشاهد. لا ينطبق القياس إلا على الشاهد. أما الغائب فإنه من طبيعة أخرى.

        وينتهي الشرط الثاني للقياس، أي التعدد، إلى النتيجة ذاتها. لا يمكن للقياس أن ينطبق حسب ابن تومرت إلا على الأمور المتعددة. أما الأمور التي ليست بمتعددة، أي الأمور التي تكون متحدة، فإنها ليست في حاجة إلى علاقة أو إلى قياس. في حين يكون المتعدد في حاجة إلى قياس وربط وعلاقة. والحال أن الأمور المتعددة تكون إما "متماثلة(49) وإما "مختلفة"(50). يمكن للقياس أن ينطبق على الأمور المتماثلة "فالمتماثل  يجوز القياس بينه"(51). فالأشياء التي تكون متماثلة، أي تكون من طبيعة واحدة، تدخل في قياس وعلاقة معينة مادامت تحتوي على الصفات ذاتها والأحكام ذاتها. فالتماثل إذن هو الضامن لهذا القياس. وهو الذي يمكننا الانتقال من شيء إلى آخر. وبذلك نرى، دون صعوبة، أن هذا الشرط الذي يضعه ابن تومرت، التماثل، ينفي إمكانية تطبيقه على الغائب وعلى الشاهد. فمادام الغائب لا يماثل الشاهد فكيف يجب الادعاء وتوهم القياس بينهما. فانتفاء التماثل بينهما دلالة على انتفاء القياس.

        تبقى هناك الإمكانية الأخرى وهي المتعلقة بالأمور المتعددة لكنها تكون مختلفة، مثل اختلاف الغائب والشاهد؛ الجواهر والأعراض، الخ. أيعني هنا أنه يمكن تطبيق القياس بين هذه الأمور مادامت هي من طبيعة مختلفة؟ وجواب ابن تومرت بالإثبات، لكن هذه الإمكانية مشروطة. فلا يمكن قياس المختلفين إلا إذا "وجدنا جامع تجمع به بينه وإلا تركناه". لكننا رأينا أن لا شيء يمكن أن يجمع الشاهد والغائب. وبذلك يستحيل القياس "وبطل به قياس الغائب على الشاهد، إذ لا جامع بينهما، لأن كل واحد منهما مناف للآخر، لأن ذا يفعل، وذا لا يفعل، وذا قديم، وذا محدث، وذا مفتقر، وذا غني، فإذا قيس أحدهما على الآخر بطلت حقيقتهما جميعها. لأن القياس إنما يصح بين المتماثلين، وبين المختلفين إذا كان بينهما شبه، والباري سبحانه ليس له مثل، ولا شبه، فإذا ثبت هذا وصح، بطل به التشبيه، وبطل به قياس الغائب على الشاهد"(52).

V- خاتمة

        تلك هي نظرية ابن تومرت، الإمام المهدي، بصدد القياس. ويترتب على هذا الموقف نتائج هامة تصلح لضبط فكر وعقيدة المهدي بن تومرت.

        إن الملفت للنظر في مسالك ابن تومرت هي طريقته في مناقشة القياس. فهو لا يواجه القياس الاعتزالي في تشكلاته وظهوراته، وتطبيقاته؛ إنه لا يرفضه من أجل بلورة قياس آخر كما فعل الجويني. إن مشروع ابن تومرت أكثر جذرية. إنه يريد قطع دابر القياس. فإذا واجه ابن تومرت المعتزلة، فلأنه يرفض القياس من حيث هو. فالشروط التي يحددها للقياس والحدود التي يضبطها له تجعل منه مجالا يخص الشاهد. إن القياس حسب ابن تومرت عملية منطقية وعقلية، لكنها عملية لا تهم إلا الجواهر والأعراض. فبإمكان الأشياء أن تكون في علاقة تجاوز أو تباعد إذا كان بينها شبه أو جامع. إنه إذن منهج يتسع وينتشر أفقيا، يمر من جوهر إلى آخر، أو حتى من جوهر إلى عرض. أما عندما يصل إلى المحور العمودي، أي إلى الغائب، فإن القياس يصمت ويتلاشى تاركا هوة لا يمكن ردمها أو التقليص منها. فإذا كان الفكر لا يستطيع تكوين معرفة واضحة عن الغائب، فذلك لأن الغائب من طبيعة أخرى، أو أنه بالأحرى من طبيعة مناقضة للشاهد. فالطبيعتان متناقضتان. فهذا قادر والآخر عاجز، وهذا وجود والآخر عدم، الخ. تمر الأمور وكأن ابن تومرت لا يستطيع مواجهة القياس إلا ببناء علاقة التقابل والتناقض بين الشاهد والغائب. لا يتعلق الأمر في فكر المهديبتساوي في العلاقة كما هو الأمر عند أبي هاشم، وإنما بتقابل وبتراتب يستحيل قلبهما.

        وقد نميل إلى الاعتقاد بأن محاذرة التشبيه هي التي دفعت بابن تومرت بالمغالاة في التنزيه. إلا أن الأمر ليس على هذا المنوال. فالمنحى الذي سطره المعتزلة يقيم مساواة مع محاذرة التشبيه. فالصفات من كونه عالما قادرا حيا موجودا مشتركة معنى بين الله والعالم. وهذه الصفات لا تفيد قطعا التشبيه أو التجسيم. مثلما أن التشابه العلي الذي عول عليه الجويني والذي كان إحدى مفاخر كتاب الشامل يقيم علاقة علية بين العالمين دون الوقوع في التشبيه والتجسيم. إن الهدف الأساسي والدفين الذي كان يرمي إليه الإمام المهدي ابن تومرت لم يكن أبدا هو نفي التشبيه؛ وقد رأينا كيف أنه قد أقر بالآيات التشبيهية والتجسيمية ودعا أتباعه إلى الإيمان الأعمى بها.

        وقد أدى رفض ابن تومرت للقياس إلى تغير دفين لصورة العقل في منظومة المهدي الفكرية. صحيح أنه يقول بالاستدلال، وصحيح كذلك أنه يقول بالعلة وبالعقل وبكل أحكامهما، لكن الدور الذي يسنده لكل هاته المفاهيم هو دور محدود وضعيف. فالعقل لا يتحدد عند ابن تومرت كقوة خلاقة ومبدعة قادرة على اقتحام المجهول. فليس العقل سوى ملكة محدودة القدرات والطاقات. وليس حامل العقل، الإنسان المحدث، سوى لا شيء أمام طبيعة الخالق القديم وأمام العالم وأسراره. إن موقف المهدي في نهاية المطاف وفي حقيقة الأمر يلجم العقل ويحد من حريته وخياله. هكذا نرى أن موقف ابن تومرت لم يكن أبدا يهدف إلى تأسيس عقلانية جديدة داخل الفكر الإسلامي. فلم يكن يهدف إلى الاعتراف بالعقل أو بأي سلطة تخضع العالمين لإرادتها. فالسلطة التي يخولها ابن تومرت للعقل هي كما رأينا سلطة محدودة ومشلولة في جوهرها وماهيتها ولا تخص إلا العالم الشاهد، الجواهر والأعراض. فمنطقة العقل والاستدلال هي الحس والملموس. إنه مجال ضعيف وهزيل ذلك الذي يقطعه الإمام المهدي للعقل والاستدلال.

        وقد دفعه هذا الاختيار إلى الحمل على كل الفرق الكلامية. فالموقف الذي سطره الجويني، التشابه العلي، لم يكفيه ولم يرضيه. إنه موقف يحدث تشابه في العلاقة وتناسبا من شأنه أن يوحي بالمساواة بين الشاهد والغائب. حقيقة أن الجويني لم يكن بتاتا يهدف إلى إقامة مساواة بين العالمين. فلا وجود لأي معنى شامل عند الجويني. فالصفات المحدثة تشبه علاقتها بالذات المحدثة علاقة الصفات القديمة مع الذات القديمة. والجويني هنا يحافظ قدر الإمكان على تعالي القديم. إلا أن هذا الحل لا يرضي ابن تومرت. فما كان يطمح إليه هو تعالي خالص من كل مساواة ومن كل علاقة أو صلة وصل. أي إلى ثنائية صارخة للوجود. لا وجود إذن لأي تأثير أشعري على ابن تومرت بصدد إشكالية القياس.

        والواقع أن الخصم الحقيقي الذي يتوجه إليه ابن تومرت هم شيوخ المعتزلة. وقد رأينا كيف ندد ابن تومرت بالقياس الاعتزالي الذي يثبت الفعل الأخلاقي الاختياري. لكن لا يجب الاعتقاد والتوهم أن ابن تومرت لا يواجه المعتزلة إلا على مستوى إشكالية العدل الإلهي، أي على مستوى إشكالية الأخلاق والسياسة. إنه يواجههم أساسا على مستوى القياس الميتافيزيقي. وشروط هذا القياس منتفية، إذ لا شيء يجمع بين الطرفين. فابن تومرت يواجه مجموع فكر المعتزلة برفض نظريتهم السياسية الأخلاقية ونظريتهم الميتافيزيقية.

        ومن جهة أخرى لا يتمتع فكر ابن تومرت بأي مسار ثوري أو مسار أصيل. فأسلوبه الجاف وطريقته المختصرة في الإسراع بالحكم على الآخرين دلالة على نزوع نحو إلغاء علم الكلام، إلغاء الفكر. إننا هنا لسنا أمام متكلم كالجويني أو القاضي عبد الجبار حيث يفتح النقاش الكلامي أبوابه للخيال وللإبداع. إننا إزاء منهج قاض وحاكم يريد الإجهاز على الفكر. فقد رأينا أنه لا يسعى إلى مقارعة الحجة مع المعطلة، ولا يدخل في نقاش مع المعتزلة أو مع الأشاعرة في مستوى حججهم ومواقفهم. إنه يكتفي بالتفكير وبالرفض، من أجل إقرار عقائده الجاهزة.

        إن هذا الفكر الجذري والمتطرف الذي يبدو هنا عند ابن تومرت بصدد القياس يجد تطبيقه، أو بالأحرى أصله ومنبعه، في تطرف سياسي تجرع كأسه المر الغرب الإسلامي في القرن الثاني عشر الميلادي.

        هوامش:

1) انظر كتاب الطيب تيزني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط، دار دمشق، 1971، ص. "فهو (ابن تومرت) قد اتفق، كما يخبرنا المراكشي، مع المعتزلة فيما يخص قضية "الصفات" وقضايا أخرى، وذلك عبر معارضة واضحة للآراء الأشعرية في هذا الحقل". ويحيل الكاتب على كتاب م.بيصار، حول فلسفة ابن رشد، القاهرة 1954، الطبعة الأولى، ص:23.

2) ابن خلدون، كتاب العبر، VI، ص: 466 "طعن على أهل المغرب في إمرارهم المتشابهات كما جاءت، وحملهم على القول بالتأويل، والأخذ بمذاهب الأشعرية". نص منقول عن كتاب عبد المجيد النجار، المهدي بن تومرت حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره في المغرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1983، ص:440. وقد سار على هذا التأويل كثير من المعاصرين، أنظر الصفحة 357 من نفس الكتاب، هامش 16: "أنظر مثلا أحمد صبحي كتاب، في علم الكلام، ج:1، ص:671؛ وجوليان، تاريخ شمال إفريقيا، ج:2، ص:124.

3) عبد المجيد النجار، المهدي بن تومرت حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره في المغرب: وبعد اعتراف هذا الباحث يكون مذهب ابن تومرت لا ينتمي إلى مذهب معين، يعتقد أن "هذه الآراء وإن كانت غير منتمية في مجموعها إلى مذهب بعينه، فإنها في جانبها العقدي أقرب إلى العقيدة الأشعرية من أي مذهب آخر، وإن ما خالف فيه المهدي الأشاعرة من لآراء، يجعل ما درج عليه كثير من الباحثين من تصنيفه ضمن الأشعرية أمرا غير حقيقي، والأصح أن يقال أنه قريب من الأشعرية وليس أشعريا خالصا".

4) انظر كتاب المجموع في المحيط بالتكليف، لابن متويه، تحقيق الأب هوبن اليسوعي، المكتبة الكاثوليكية، بيروت، الفصل المتعلق بالقياس؛ وانظر بصدد مساواة معنى الوجود، الفصل المتعلق بوجود الله، وكذلك كتاب الشهرستاني، نهاية الأقدام في علم الكلام، الفصل المتعلق بالأحوال.

5) ابن تومرت، أعز ما يطلب، تحقيق عمار الطالبي، الجزائر، ص: 157.

6) القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب العدل والتوحيد، الجزء الثاني عشر، في النظر والمعارف، تحقيق إبراهيم مذكور بإشراف الدكتور طه حسين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ص:25.

7) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 157.

8) المرجع نفسه، ص: 157.

9) المرجع نفسه، ص: 157.

10) المرجع نفسه، ص: 157.

11) جمال الدين مصطفى، القياس حجيته وحقيقته، ص:187-184 : "أما الفريق الثاني المتمثل في النظام، والذي يقول باستحالة التعبد بالقياس، مثلا في شريعتنا، فقد استدل على دعواه بالدليل التالي: قال أن الشريعة الإسلامية، جمعت في الحكم المختلفات. وفرقت فيه بين المتماثلات. وأثبتت أحكاما لا محال للعقل فيها وكل شريعة  هذا شأنها يستحيل عقلا التعبد فيها بالقيس: وهو المطلوب(...)

        فيما جمع الشارع بينهما في الحكم وهي ما يلي:

        - نجد الشارع جمع بين الماء والتراب في جواز للتطهير بكل منهما مع أنهما مختلفان في الحقيقة والخواص:

        - أمثلة لما فرق الشارع فيه من المتماثلات: أنه جوز للرجل أن يستمتع من أمته بالوطء وبغيره. ولكنه لم يجوز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بالوطء ولا بغيره فلا استوائهما في نلك اليمين.

        - ثبت في أحاديث متعددة أنه فضل مكة والمدينة وبيت المقدس على غيرهما من بقية الأمكنة مع الاستواء في كونه مكان. كما ثبت أنه فضل ليلتا القدر أو ليلة السابع والعشرين من رمضان وليلة عاشوراء على غيرهما من بقية الأزمنة، مع استواء الكل في كونه زمانا.

        - أنه جائز للرجل أن يتزوج بأربع نسوة. ولم يجوز للمرأة أن تنكح بأكثر من واحد، مع وجود الشهوة في الكل. كما أن الدواعي قد تدعو إلى وجوب التعدد من الجانبين.

        - إن أوجب غسل ما وصله من بول البنت واكتفى بنضح ما وصله بول الصبي مع تساوي البولين في النجاسة والاستقذار".

12) أعز ما يطلب، ص: 157.

13) المرجع نفسه، ص: 157.

14) أعز ما يطلب، ص: 158-159.

15) المرجع نفسه.

16) المرجع نفسه.

17) القاسمي، تاريخ الجهمية والمعتزلة، ص:13، ضمن كتاب نشأة الأشعرية وتطورها، جلال محمد عبد الحميد موسى، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ص:101 : "تأثير مذهب الجهمية إلى في الأفكار إنما كان بتنزيهها إلى التأويل وسلوك منهج المجاز وكان هذا الباب موصدا قبلها لم يطرقه أحد ولم يخطر بباله".

18) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 217.

19) المرجع نفسه، ص: 221.

20) نص ورد في كتاب تاريخ الفلسفة الإسلامية لماجد فخري، ترجمة كمال اليازجي، الجامعة الأمريكية، بيروت، 1974، ص:11.

21) المهدي بن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 159.

22) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

23) القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، تحقيق فؤاد السيد، ص:346.

24) ابن متويه، المجموع في المحيط بالتكليف، تحقيق ج.هوبن، ص:26، 7-8.

25) المرجع نفسه، ص: 28، 10-13.

26) القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص:348.

27) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 159.

28) الجويني، كتاب الشامل، تحقيق علي شامي النشار، الأسكندرية، 1969، ص:330.

29) المرجع نفسه، ص: 633 : "وقال الأستاذ أبو بكر لما ضاقت به الحيل: ليس الجامع بين العلمين التسمية، بل الجامع بينهما استحقاقهما لأن يسميا علمين، وهذا من ركيك القول".

30) المرجع نفسه، ص: 684.

31) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 159.

32) المرجع نفسه، ص: 159.

33) القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال، ص:348.

34) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 159-160.

35) المرجع نفسه، ص: 221.

36) المرجع نفسه، ص: 160.

37) سيف الدين الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق ح.محمود غبد اللطيف، القاهرة 1971، ص:31.

38) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 158.

39) المرجع نفسه، ص: 160.

40) المرجع نفسه، ص: 160.

41) الجويني، كتاب الشامل، ص:633.

42) ابن تومرت، أعز ما يطلب، ص: 160.

43) المرجع نفسه، ص: 160.

44) المرجع نفسه، ص: 160.

45) المرجع نفسه، ص: 160.

46) المرجع نفسه، ص: 160.

47) المرجع نفسه، ص: 160.

48) المرجع نفسه، ص: 161-160.

49) المرجع نفسه، ص: 161.

50) المرجع نفسه، ص: 161.

51) المرجع نفسه، ص: 161.

161) المرجع نفسه، ص:161.52

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق