احدث المواضيع

الثلاثاء، 15 ديسمبر 2009

متابعات

محمد رونق

   1- وظيفة العقل

إحتضنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك (جامعة الحسن الثاني، المحمدية) يوم الخميس 29 شتنبر 2005 لقاء دافئا حضرت فيه الفلسفة. كان اللقاء بمبادرة من شعبة الفلسفة بالكلية التي دعت أحد قيدومي مدرسي الفلسفة بالمغرب، الأستاذ محمد رونق الدكالي، إلى إلقاء درس افتتاحي برسم السنة الجامعية الجديدة 2005/2006. كان الرجل في مستوى حضوره الطويل في مجال الفلسفة. إذ كان حاضرا إلقاء وتفسيرا، مذكرا كل من كان يشك في أن الفلسفة ذهبت كي لا تعود ثانية، بأنها، خلافا لذلك، ستظل كائنة بعقلانيتها وبتأملها وبتوازنها الفكري حاضر الأستاذ رونق في "وظيفة العقل" كما كتب عنها الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني "وايتهيد"، وعرج في ذلك على موضوع التربية والتكوين الذاتي للفرد...

"وظيفة العقل هي الإرتقاء بفن الحياة، والمقصود بالفن هنا هو تجريد المجسدات وتجسيد المجردات، والمقصود بفن الحياة هو أكمل نشاط لقدرات مختلفة تمثل إمكانات الكائن الحي في مواجهة بيئته الفعلية" و"الوظيفة الحقيقية الرئيسية للعقل هي قيادة الهجوم ضد البيئة، ويتم ذلك بنزوع ثلاثي نحو الحياة، ونحو حياة حسنة ونحو حياة أحسن" بهذا التعريف لوظيفة العقل في علاقته بفن الحياة استهل الأستاذ محمد رونق درسه الافتتاحي قبل أن يسترسل، بنبرة العارف حد الحفظ بما يقول، في عرض ما تبقى من أفكار الفصل الأول من كتاب "وظيفة العقل" لـ "ألفريد وايتهيد". كانت نبرة ذ. رونق تلك عميقة وهدائة بما يكفي لكي تُلين مفاهيم الفلسفة المستعصية، ودلت على ما للرجل من تجربة في الإلقاء اكتسبها من طول ممارسة وتدريس. يقول مستعيدا ما جاء في كتاب الفيلسوف والرياضي البريطاني "ورثنا وجهتين للنظر إلى العقل. إحداهما تعتبر العقل عملية من عمليات يستلزمها وجود جسم الحيوان، الأخرى تقرر أهمية العقل بصرف النظر عن كل عملية حيوانية خاصة. وفي الحالة الثانية يعمل العقل محققا ذاته نظريا" وذلك في سياق تعدد النظريات التي جعلت من وظيفة العقل موضوعا للبحث، قبل أن يشير إلى أن العقل اعتبر قوة إلهية من صفاتها التأمل والفهم والحكم ويؤكد على أنه يجب أن "تتفق النظرتان إذا كنا نريد للعقل النظري أن يتمكن من أن يكون راضيا عن قانونه الخاص".

ينقل محمد رونق جواب "وايتهيد"عن سؤال:"كيف نستطيع تفسير الجسم والروح باعتبارهما ثنائيين مرتبطين جوهريين في طبيعة التجربة؟" فيبين كيف انطلق "وايتهيد من اعتبار أن الثنائية الديكارتية "التي تقسم الوقائع الفعلية النهائية إلى أجسام وأرواح" أدت بالتأمل الفلسفي إلى الوقوع في الخطإ من حيث أن "فكرة الأجسام البسيطة والأرواح البسيطة كانت قد قبلت دون نقد والأمل في تفسير الأرواح الذي وجه التفكير التأملي" بينما يعتقد "وايتهيد" في أن التفسير الصحيح لابد أن يتخذ من الحياة وعلم الحياة سندا رونق، وهو الأمر الذي توسع في تفصيله، كما يقول الأستاذ رونق، في كتاب "علم الطبيعة والحياة" قبل أن يستعرض خلاصة لهذا الكتاب قال فيها إن "كل واقعة هي تحقيق لغاية ذاتية، ووجودها هو  نفسه تمثيلها لمضاعفاتها التي تكون غايتها الخاصة، أو هي فرصة تجربة، إنتاج وإبداع لغاياتها الخاصة· التجربة الجسدية خبرة فيزيقية صرف، فهي تنشأ  من رغبة حقيقية نهائية في وجود شيء ما بطريقة محددة تماما..."

ويعرض قيدوم أساتذة الفلسفة شرح "وايتهيد" للتفريق الذي قام به هذا الأخير حول مظاهر العقل. وفي هذا قال إن الفيلسوف البريطاني يقف عند مظهرين لوظيفة العقل "من خلال أحدهما كانت وظيفة العقل عملية، فبفضل نشاطه تم لنا الاكتشاف البطيء للمناهج، وتم لنا توضيحها. فهو من خلال المظهر يجعل الانتباه فعالا، وبذلك ينجز رسالته وهذا المظهر لعمليات العقل ذو صلة بأسطورة أو ليس. والمظهر الآخر للعقل كان مرتبطا بآثار أفلاطون" موضحا في الآن ذاته كيف أن العقل يسمو على النشاط العملي باعتبار العقل "لا يُعني نفسه بالمحافظة على الحياة، بل يبحث في استطلاع لا غرضي عن الفهم" ويستمر موضحا أن العقل "يندفع إلى الأمام باعتقاد نهائي بأن أي حادث يمكنه أن يُفهم باعتباره مثالا توضيحيا للمبادئ العامة النابعة من طبيعته الخاصة والناتجة عن قانونه الخاص".

ويمضي "وايتهيد"، حسب الأستاذ رونق، متأملا في زمن العقل التأملي والعملي. وفي هذا يعتبر أن "تاريخ العقل التأملي شديد القصر بالقياس إلى تاريخ العقل العملي. فقد قام الإغريق بالإكتشاف النقدي الذي أضفى على العقل التأملي أهميته الرفيعة. فاكتشافات الرياضيات والمنطق طبع التأمل بطابع منهجي، ومنذ ذلك الحين وجد العقل نفسه مسلحا باختبار موضوعي ووجد نفسه سائرا في طريق التقدم".

ولغاية تبيان أهمية العلاقة بين العقلين ضرب "وايتهيد" مثالا من خلال ما صار عليه التقدم والحضارة الإنسانية خلال القرنين الأخيرين. حيث يقول إن "الزحف الهائل للتقنية خلال المائتي عام الأخيرة إنما تأتى نظرا لأن العقل التأملي والعقل العملي اتصلا في النهاية وهكذا أصبح بإمكان وظيفتي العقل أن تتواكبا في السير إلى الأمام. فقد اكتسب العقل التأملي مضمونا ومادة يستطيع أن يمارس ضمنها نشاطه النظري، واكتسب العقل العملي حدسا نظرياً يتجاوز به حدوده المباشرة الآنية"، وفي تلخيصه للفصل الثالث من كتاب "أهداف التربية"    لـ "ألفريد وايتهيد" يعود ذ. محمد رونق إلى أحد تعريفات الفلسفة من زاوية تفيد في تحديد دورها المهم في التربية. إذ قال "إن من تعاريف الفلسفة أنها النظرية العامة للتربية والتعليم" ثم استرسل في تفصيل تعريف التربية عند "وايتهيد". حيث يقول "وايتهيد" إن التربية "هي توجيه الفرد نحو إدراك فن الحياة"، إذ يقول "ويعني بالفن أكمل صورة من صور القيم بالنشاط المختلف المعبر عن القوى الكامنة في المخلوق الحي لمواجهة بيئته الفعلية، وهذا الكمال في العمل يتضمن معنى فنيا يجعل الإمكانيات الدنيا للشخصية التي لا تنقسم تابعة لإمكانياتها العليا. فكل فرد في ذاته ينطوي وجوده على مغامرة المغامرات، وفن الحياة هو توجيه تلك المغامرة".

وفي سياق توضيح العلاقة بين قيم التربية والتعليم وبين ما صارت عليه الحضارة الإنسانية، مجسدة في الحضارة الأوربية، يوضح رونق أن "وايتهيد"، في تحليله لصيرورة التربية والتعليم في هذا الجزء من العالم، "ينعى على الحضارة الأوربية أنها بدأت منذ فجرها بالمثل العليا الكاملة، التي يجب أن تنهض بالتربية، ثم ما لبثت تلك المثل العليا أن انحطت بالتدريج لتتلاءم مع أفعال الناس في الواقع" وفي هبوطها ذاك ترتب عنها ركود وجمود.

فضلاً عن ذلك يرى "وايتهيد"، حسب المحاضر، أنه "مادمنا ننظر إلى التربية العقلية على أنها مجرد كسب لاستعدادات عقلية آلية وأقوال ثابتة عن الحقائق النافعة فلا يمكن أن نحرز نجاحا" وهنا يصل إلى قيمة الحكمة في معناها السامي. إذ يقول "المعرفة وإن كانت أحد الأهداف الرئيسية للتربية العقلية، فإن هناك هدفا آخر أشد غموضا، ولكنه أعظم شأنا وأكثر أهمية سماه القدماء الحكمة". ثم يزيد في توضيح هذه العلاقة من خلال توضيح أن الحكمة مرتبطة بالمعرفة، لكن اكتساب المعرفة لا يعني اكتساب الحكمة، بل السبيل إلى هذه، وهو سبيل وحيد، هو "الحرية في مجال المعرفة"، كما أن السبيل الوحيد لتحقيق المعرفة هو "النظام في كسب الحقائق المرتبة" وذلك انطلاقا من مبدأ أن "الحرية والنظام هما الأمران الجوهريان للتربية ومن هنا كانت ضرورة التناسق في مطالب الحرية ومطالب النظام".

في السياق ذاته يعتبر "وايتهيد" حسب محمد رونق، أن "كل نمو عقلي يتكون من دورات ومن دورات لهذه الدورات. وكل واحدة من هذه الدورات تشمل ثلاث مراحل: المرحلة الأولى من الحرية هي مرحلة التخيل، والمرحلة المتوسطة هي مرحلة الدقة، والنهائية هي مرحلة النعيم" مركزا في الآن نفسه على ما للميولية الذاتية من أهمية في هذا الموضوع. إذ جاء في قول المحاضر، نقلا عما جاء في كتاب "وايتهيد" أن "لا يمكن نمو عقلي دون ميل واهتمام. والوسيلة الطبيعية التي تحقق بها الكائنات الحية نموها الذاتي هي الاستمتاع والسرور. فاللذة هي الدافع الطبيعي السليم للإقدام الحيوي".

وارتباطا، دائما بعملية النمو، هنالك ثلاث مراحل أساسية يعرضها المحاضر، في قراءته لما كتبه "وايتهيد"، كالتالي "مرحلة التخيل هي مرحلة التعليم الأساسي لذلك ينبغي أن يوجه الإهتمام في مرحلة التخيل هاته. ظهر مطلب آخر هو المعرفة الدقيقة، وهي مرحلة التعليم الثانوي دون إغراق التلميذ بتعلم حقائق ونظريات تفوق قدرته على عظمها في هذه المرحلة من نموه"، هنا توقف محمد رونق عند وصف عابر لحال مقررات الفلسفة في المغرب، معتبرا أنها تثقل كاهل التمليذ دونما تركيز واع على الأهداف المتوخاة من تدريس الفلسفة، مذكرا بالمناسبة بأنه راسل الوزارة المعنية في الموضوع مرتين، لكن ما تزال دار لقمان على حالها.

وفي وصفه لتلك المراحل من النمو يفسر المحاضر أنه في "أثناء مرحلة الدقة يلعب التخيّل دوره من وراء ستار، فهي مرحلة يسودها أمر واقع لا مفر منه، وهو أن هناك طرقا صحيحة وأخرى خاطئة.. غير أن الخيال والتخيل لم يغب ولم يمت في هذه المرحلة"، ويصل إلى توضيح المرحلة الثالثة "من الدورة المتناسقة هي مرحلة الجامعة، أو ما سماها هيجل بمرحلة التعميم أو التركيب. وهنا نجد ارتدادا نحو الخيال"، حيث يكون الطالب قد اكتسب معارف و"مهارات معينة وأدرك بوضوح قواعد وقوانين عامة من حيث وضعها وتطبيقا المتصل، فهو فرد له تأثيره وما يريده هو أن تتاح له الفرصة ليحدث ذلك التأثير" وتلخيصا لما جاء في الكتاب من أفكار حول التربية تبدو هذه الأخيرة مثل عملية تحتاج في نجاحها إلى الابتكار، "فكل تربية لا تبدأ بإثارة الابتكار ولا تنتهي بتشجيعه، لابد من أن تكون تربية خاطئة، لأن الغرض الكلي من التربية هو إنتاج الحكمة النشيطة الفعالة".

تأسيساً على هذا كله، يعرض ذ. محمد رونق ما خلص إليه "وايتهيد" عندما اعتبر أن "أساس التقدم يوجد في داخلنا، واكتشاف التقدم إنما يتم على أيدينا نحن، والنظام هو نظامنا الذاتي، والإستمتاع هو نتيجة ما لديا من ابتكار. والقوة الدافعة النهائية سواء في العلوم أو في الأخلاق أو في الدين هي الشعور بالقيمة أو الشعور بالأهمية" موضحا في الآن ذاته أن الإحساس بالجمال هو " أشد مظاهر هذه القوة نفوذا" قبل أن يتساءل في الأخير عن واقع الجمال عندنا: "هل تنمي مدارسنا ومؤسساتنا حاسة الجمال؟".

                                                        سعيد الشطبي

عن الأحداث المغربية 9 /10/05

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق