احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

القول البرهاني عند ابن باجة

جواد العمارتي

        كيف يتحدد إذن القول البرهاني عند ابن باجة، مادام هذا المستوى من القول هو الذي يمثل مرتبة العلم أو المعرفة العلمية؟ ثم ما هي المبادئ أو الشروط المعرفية(1) التي يتعين توفرها حتى تصل معرفتنا بالأشياء والكائنات إلى مستوى العلم اليقيني البرهاني؟ وما هي الدرجات أو المستويات التي تتخلل القول البرهاني ذاته، وما هو المستوى الأمثل الذي يتعين على معرفتنا أن تنشد بلوغه؟ وما دلالة ذلك بالنسبة للمبحث البيولوجي بشكل خاص؟.

        قبل أن نعالج هذه القضايا، لابد لنا من الإشارة إلى أن التحليل الأنسب لها يضعنا أمام واقع معرفي لابد من أخذه بعين الاعتبار، وهو أن القول الباجي في هذا الصدد يتأسس في مجمله على قول فلسفي آخر سابق له، وهو قول أبي نصر الفارابي حول البرهان(2). ونحن إذ نؤكد على ذلك فاستنادا إلى حقيقة لا مجال فيها لأي شك. وهي إيماننا التام بأن القول الفلسفي للفارابي عموما، وفي جانبه المنطقي بشكل خاص أحد المصادر المعرفية الأساسية للقول الفلسفي الباجي. لذلك سيكون من الطبيعي ونحن بصدد معالجة هذا المحور المعرفي ذا الطابع المنطقي والابستمولوجي أن نستند إلى كلا القولين، خاصة إذا علمنا أن قول ابن باجة في هذا الباب يكاد في مجمله أن يكون شرحا تعليميا(3) لقول المعلم الثاني. بخلاف تعليقاته وشروحه العديدة الأخرى لأعمال أرسطو.

        كيف يتحدد إذن القول البرهاني أو ما يعرف بـ(البرهان) بشكل عام؟

        إن الإجابة عن هذا التساؤل تضعنا بالفعل في إطار درس من أشهر وأهم الدروس المنطقية التي حظيت باهتمام أبرز فلاسفة الإسلام وفي طليعتهم الفارابي وابن باجة وابن رشد. ومن تم لابد لنا من استحضار بعض أهم جوانب هذا الدرس الابستمولوجي، ولدى ابن باجة وسلفه الفارابي بشكل خاص. مركزين على المعطيات المعرفية المرتبطة ببحثنا، أي ما يتصل بالجوانب الابستمولوجية المرتبطة بالعلم الطبيعي عموما، والعلم البيولوجي بشكل خاص. إن الإجابة عن التساؤل المطروح تؤدي بنا إلى طرح تساؤل آخر، وهو كيف يتحدد مفهوم العلم، هذا الأخير الذي يكاد يرادف (البرهان)؟. وهكذا فما دام البران هو قوام كل معرفة علمية يقينية، فإن هذا سيؤدي بنا إلى تحليل مستويات ودرجات المعرفة العلمية، ومن تم التساؤل عن أي هذه المستويات أجدر بأن يحظى بمرتبة (العلم اليقيني)؟. ينحل مفهوم العلم إلى معنيين أساسيين وهما: التصور والتصديق؛ فالتصور يمثل مستوى من المعرفة لم يبلغ بعد مرتبة العلم اليقيني، حيث يقتصر فيه العقل على التساؤل عن طبيعة أمر ما مكتفيا بالدلالة عليه بالاسم دون أن نصل إلى إصدار حكم ما عليه. وبذلك يشكل التصور أولى درجات المعرفة "لأنه هو الموجود أولا في الذهن، لأن المطلوب الأول لنا بالطبع ما هو هذا الشيء، وهذا ليس شيئا غير طلب التصور"(3). أما التصديق فيمثل درجة أرقى في سلم المعرفة العلمية، ذلك أن التصديق هو أن تصل معرفتنا بأمر ما من الأمور إلى مستوى إصدار حكمين يناقض أحدهما الآخر(4). فالتصديق كما يعرفه أبو نصر "هو أن يعتقد الإنسان في أمر حكم عليه بحكم أنه في وجوده خارج الذهن على ما هو معتقد في الذهن. والصادق هو أن يكون الأمر خارج الذهن على ما يعتقد فيه الذهن"(5).

        نخلص إلى القول أن التصديق قد يرادف اليقين إذا كان تصديقا تاما، لكنه قد لا يكون يقينا(6). واليقين نفسه قد يكون معرفة ضرورية أو غير ضرورية، ذلك أن "اليقين الضروري هو أن يعتقد فيما لا يمكن أن يكون في وجوده بخلاف ما هو عليه أنه لا يمكن أن يكون بخلاف ما اعتقد أصلا ولا في حين ما. وغير الضروري هو ما كان يقينا في وقت ما فقط. أما الضروري فإنه لا يمكن أن يتبدل فيصير كاذبا، بل يوجد دائما على ما هو حاصل في الذهن من سلب وحده أو إيجاب وحده(7). لعلنا الآن -ومن خلال كل المعطيات السابقة- قد وصلنا إلى الإمساك بأهم العناصر التي تشترك كلها في تحديد مفهوم العلم: فالعلم إذن هو مستوى من المعرفة الإنسانية يحصل فيه التصديق أو يقين تام ضروري بالشيء الذي نطلب معرفته. وهذا يعني أن العلم اليقيني هو في حد ذاته قول برهاني يمدنا بمعرفة الشيء الموجود أو المطلوب معرفة مطابقة تماما لما يكون عليه هذا الشيء في الوجود(8). نخلص إلى التأكيد إلى أن القول العلمي البرهاني يعتمد على قياس يقيني تكون مقدماته الأولى صادقة وضرورية، وأن يكون مطابقا تماما للوجود أو الواقع الذي يحيل إليه. ولن يتسنى ذلك إلا من خلال معرفتنا للعلة التي يكون بها ذلك (الشيء) موجودا. هذا إذا كانت لنا معرفة سابقة لهذه العلة، وهذا، يعني أن هناك من الأشياء ما تتعذر معرفة علته أو علله لأول وهلة، فيصبح من الضروري معرفة أشياء أخرى تساعد أو تمهد لمعرفة تلك الأسباب أو العلل. وهذا يؤدي بنا إلى الاستنتاج بأن القول البرهاني نفسه ليس واحدا. فما دمنا نؤكد مع الفارابي وابن باجة أن على هذا القول ن يكون مطابقا للواقع أو الوجود الذي يحيل إليه، فإن هذا يعني بالضرورة وجود مستويات متعددة ومختلفة لهذا القول؛ ومن تم نجد أنفسنا أمام عدة أصناف للبرهان كل منها يمثل مستوى معينا من المعرفة العلمية.

أصناف القول البرهاني:

        كيف تتحدد إذن هذه المستويات المختلفة من القول العلمي البرهاني؟ وما هي الأغراض المعرفية التي تهدف إلى بلوغها؟ وهل تمة علاقات منطقية متبادلة بين هذه المستويات من القول البرهاني؟. وما هي طبيعة هذه العلاقات؟ ثم أخيرا ما هي دلالة هذا القول بالنسبة للمبحث البيولوجي بشكل خاص؟

        يقول أبو بكر استنادا إلى قول الفارابي: "وقوله(9) (والعلوم اليقينية ثلاثة: أحدها اليقين بوجود الشيء فقط، وهو علم الموجود، وقوم يسمونه علم أن الشيء، والثاني اليقين بسبب وجود الشيء فقط، وقوم يسمونه علم لم الشيء، والثالث اليقين بهما جميعا(10)". ينطلق ابن باجة إذن من نفس تصور الفارابي لأصناف البرهان، فهذه الأخيرة تتمثل بالفعل في ذلك التصنيف الثلاثي المعروف (برهان الوجود-برهان السبب-البرهان المطلق). إلا أن أبا بكر في تعليقه على كتاب الفارابي حول (البرهان) يثير بعض الإشكالات والصعوبات التي يهدف من خلالها إلى تعميق معرفتنا بأصناف القول البرهاني. ومن بين هذه الإشكالات ما يتصل بمفهوم (الشيء) الذي تردد عدة مرات في نص الفارابي. فبالنسبة لابن باجة، فإن هذا المفهوم يطرح إشكالا هاما تجب معالجته حتى نتبين بذلك طبيعة القول البرهاني وأصنافه. وهكذا فإن كنا نقصد بـ(الشيء) ما هو مفرد فإن البراهين -حسب ابن باجة- لا تنتج المفرد. وإن قصدنا به (القضية) فهذه الأخيرة لا يمكن اعتبارها شيئا، بل نعتبرها موجودا من الموجودات(11). ومن تم فإن ابن باجة يؤكد على أن ما يقصده المعلم الثاني بالشء هو (القضية) من جهة صدقها ويقينها ومطابقتها للموجود وبذلك يتأكد لنا مرة أخرى أن من أهم الأغراض المعرفية للقول العلمي البرهاني هو أن نصل من خلاله إلى مستوى مطابقة الفكر النظري للوجود الذي يحيل إليه أو يسعى إلى معرفته، أيا كانت المظاهر أو الجوانب التي يشملها هذا الوجود.

        ما هي إذن أهم هذه المظاهر التي يسعى القول البرهاني إلى تكوين معرفة علمية يقينية بها؟ وما هي أهم مظاهر اختلافها سواء من حيث مبادئها أو غاياتها؟ ثم ما هي طبيعة العلاقات التي تربط، بين هذه الأصناف من القول البرهاني؟ وانطلاقا من هذا التساؤل الأخير يمكننا معالجة التساؤلات الأخرى السابقة.

        يمكن القول إجابة عن التساؤل الأخير أن (الموضوع) المجهول الذي نود معرفته إنما يتبين لنا بواسطة موضوع آخر (معروف). ولا يمكننا اعتبار هذا البيان برهانا إلا إذا كان هناك بين الموضوعين (المجهول والمعروف) علاقة ذاتية. وهذه العلاقة بينهما إما أن تكون علاقة متقدم معروف بمتأخر مجهول، وإما أن تكون عكس ذلك. وهكذا فإننا إما أن نبين المجهول بالموضوع المعروف المتقدم عليه، وهنا نكون أمام برهان مطلق يثبت لنا وجود (الموضوع) المجهول وسببه. وإما أن نبين الموضوع المجهول بنعروف متأخر عنه يعطي وجوده فقط. وهنا نكون أمام معرفة استندت فقط إلى برهان الوجود أو الدليل(12). أما إذا تبين لنا سبب المجهول بواسطة الموضوع المعروف المتقدم عليه استنادا إلى وجود ذلك المجهول كنا أمام معرفة اعتمدت على برهان السبب. وهذا يعني أن معرفة السبب المجهول لا يمكن أن تتم إلا إذا كان وجوده معلوما لنا. ما هي إذن طبيعة كل صنف من هذه الأصناف الثلاثة للبرهان. ومن تم كيف ينظر ابن باجة إلى هذه الأصناف من القول البرهاني؟

برهان الوجود وبرهان السبب:

        لقد أثبتنا في السابق أن هذا الصنف الأول من البرهان يهدف إلى إثبات وجود (المجهول) بواسطة موضوع معروف يكون متأخرا عنه. إن أبا بكر يؤكد على أن ما نقصد معرفته بالبراهين لا يعدو أن يكون إما المحمول أو الموضوع. ويبدو هذا الأمر واضحا في (برهان الوجود). وحتى تتبين طبيعة هذا الأخير نستحضر إحدى الأمثلة الدالة المستمدة من العلم الطبيعي عموما ومن المبحث البيولوجي بشكل خاص(13). فإذا قلنا مثلا مع ابن باجة "أن الإنسان حساس، والحساس حيوان، لم ينتج: الإنسان حيوان، فحيوان الذي هو الطرف الأعظم ماهية الموضوع أو بعض ماهيته، والحساس متقدم له بالإطلاق ومتأخر عنه بالإضافة إلى الإنسان"(14). وبذلك نخلص مع ابن باجة إلى القول بأن الحيوان هو سبب وجود الحس للإنسان. إلا أن قولنا (الحساس) الذي اعتبرناه متقدما بإطلاق بالنسبة للموضوع ومتأخرا عنه بالنسبة إلى الإنسان هو الذي أفادنا العلم اليقيني بوجود الحيوان للإنسان "وليس وجود الحيوان للإنسان غير وجود الإنسان. فالإنسان إذن هو المعلوم بهذا البرهان، وهو شيء. والسؤال عنه كان: هل الحيوان موجود بالإنسان أم لا؟"(15) نستخلص إذن من خلال هذا القول الأخير لابن باجة أن ما يشغل الباحث أو الناظر من خلال برهان الوجود هو أن يصل إلى إقرار وجود أو عدم أحد النقيضين(16). وبذلك فإن هذا الصنف من القول البرهاني يهدف إلى التدليل على أنية الشيء أو عدمها: فإذا قلنا مثلا إن هذا الإنسان ينفث ومن ينفث فيه سعال، فبهذا الإنسان سعال. قد تبين لنا وجود الموضوع (المجهول) الذي يتمثل في السعال بواسطة معروف متأخر عنه هو قولنا (الإنسان ينفث) فهذا المتأخر "قد أفادنا أن السعال موجود لهذا الإنسان، والسؤال عنه كان بهل بهذا الإنسان سعال أم ليس به سعال؟"(17).

        أما إذا تساءلنا عن حقيقة ما يعرف ببرهان السبب أمكننا القول بأن هذا الصنف الثاني من القول البرهاني يرتبط معرفيا بالصنف السابق. بل لا مجال إطلاقا للحديث عن برهان السبب الخاص بموضوع ما إلا بعد تحصيل المعرفة اليقينية بوجود هذا الشيء التي حصلت لنا عن طريق برهان الوجود(18). وحتى يتأكد لنا هذا الارتباط المعرفي بين البرهانين يذكرنا أبو بكر بنفس المثال السابق الذي حلل من خلاله (برهان الوجود). وهكذا بعد أن تبث لنا إدراك أحد النقيضين (وجود السعال أم عدم وجوده)، حيث تأكد لنا بالفعل وجود السعال من خلال قولنا (الإنسان ينفث)، ننتقل إلى التساؤل عن سبب وجوده حيث لم تحصل لنا بعد معرفة بسبب وجود داء السعال. فعند قولنا إن "هذا الإنسان به وجع ناخس(19)، ومن به وجع ناخس فيه شوصة(20). وهو سبب السعال. فهذا البرهان، لو كانت الحركة فيه من: هل بهذا الإنسان شوصة أم لا، لكان برهانا يعطي الوجود، وإنما كانت الحركة إليه من السعال محصلا، فلم نتشوق علم وجوده، وإنما تشوقنا(21) ما سببه. فهو إذن بهذا الطريق إنما أفادنا السببية وحدها"(22).

        إن أهم ما يلح عليه ابن باجة وهو بصدد معالجة أصناف القول البرهاني هو تأكيده على أن المطلب الأساسي الذي نسعى إليه هو تحصيل المعرفة اليقينية بموضوع ما أو محمول ما، أو ما أسماه الفارابي وابن باجة بعلم الوجود أو (الشيء). فإن فيلسوفنا يردد بدون ملل هذا اللفظ الأخير ويجعله مرادفا ومطابقا للفظ الوجود أو الموضوع. ويتأكد هذا الأمر بالخصوص في برهاني الوجود والسبب، ذلك أن المطلب المعرفي الأساسي في أغلب الحالات هو إثبات أنية (شيء) ما أو وجود ما، أو إثبات سبب هذا الوجود(23). غير أن مفهوم (الشيء) لا يقتصر إطلاقه على ما أسماه أبو بكر بـ(الموضوع) بل قد يقصد به أيضا المحمول أو الصفة التي قد تحمل على هذا الموضوع. ذلك أن برهان السبب قد نسعى من خلاله إلى (علم المحمول) حسب تعبير ابن باجة. فإذا قلنا مثلا "كل تاجر فهو طالب للربح فهو مماكس. فالتاجر مماكس. فطلب الربح هو سبب وجود المماكس في التجار وليس وجود المماكس شيئا غير وجوده في التاجر. فالذي علمنا بهذا هو ماهية المماكس ووجوده، وهو شيء"(24). وبذلك فإن الخلاصة الهامة التي ننتهي إليها مع ابن باجة هي التأكيد على أن البراهين أيا كان صنفها، فإن المطلب المعرفي الأساسي الذي تسعى إليه إنما هو تحصيل معرفة أو علم يقيني بالموجودات والأشياء، وأن نصل بواسطتها إلى مستوى مطابقة الفكر لموضوعه، ومن تم ملاءمة القول أو الفكر النظري الحاصل في الذهن للواقع أو الوجود العيني القائم بالضرورة خارج ما يمكن تسميته تجاوزا بالوجود الذهني(25).

البرهان المطلق:

        بعد أن تعرضنا في الفقرة السابقة لصنفي القول البرهاني المتمثلين في برهاني الوجود والسبب متسائلين أساسا عن الأغراض المعرفية التي تروم بلوغها، نصل الآن إلى التساؤل عن حقيقة ما يعرف بالبرهان المطلق الذي يشكل حسب ابن باجة أعلى مراتب القول البرهاني، كما أنه يشكل إحدى نماذج البرهان الذي يتعين اعتمادها في منهج البحث في العلم الطبيعي عموما والعلم البيولوجي بشكل خاص.

        لقد أشرنا في السابق إلى أن العلاقة الذاتية بين الموضوع المجهول والمعروف، إما أن تكون علاقة متقدم معروف بمتأخر مجهول، وإما أن تكون عكس ذلك. وهكذا، فإذا كنا في مثل الحالة الأولى، أي عندما نبين الموضوع المجهول بالمعروف المتقدم عليه، فإننا نكون أمام برهان مطلق يثبت لنا وجود الموضوع وسببه معا. إنه البرهان الذي يتم فيه الانتقال من المتقدم (المعروف) إلى المتأخر (المجهول) أو بعبارة أخرى الانتقال من العلة إلى المعلول. فكيف يتصور ابن باجة هذا البرهان؟ وما مدى علاقته بأصناف القول البرهاني الأخرى ومن تم مدى علاقته بالقول البيولوجي بشكل خاص؟

        ينطلق أبو بكر من التأكيد على أن هناك وجه شبه بين البرهان المطلق وبرهان الوجود، وهذا التشابه يبدو في أن حكم البرهان المطلق ومبدأ حركته مماثلة لحكم برهان الوجود. غير أن الفرق بينهما يكمن في أن برهان الوجود إذا أفادنا حده الأوسط وجود الأعظم للأصغر "طرحناه فلم نحفل به بعد"(26) لأن ذلك يشكل فقط البحث عن سبب وجود الموضوع حيث تكون معرفتنا إلى هذا الحد في إطار برهان السبب وحده. وأما إذا كان الحد الأوسط في البرهان المطلق يفيدنا -حسب ترتيب القياس المنطقي- وجود الأعظم أو الأكبر للأصغر ثم حدث أن انكشفت لنا في طريق آخر أن هذا الحد الأوسط الذي أثبت لنا وجود الموضوع هو سبب وجوده، كنا بذلك أمام معرفة يقينية مستندة إلى برهان مطلق ومطابقة تماما لما هو كائن في الوجود(27). وحتى لا يظل هذا الكلام مجردا نستحضر مع ابن باجة إحدى الأمثلة الدالة التي يتبين لنا من خلالها طبيعة البرهان المطلق: فعند قولنا مثلا بأن هذه الدار فيها طبيخ، فإن هذا القول يمثل في حد ذاته مقدمة ضرورية ويقينية يتأكد من خلالها وجود (موضوع) ما.

        فمعرفة وجود هذا الموضوع هي حاصلة بالضرورة من خلال إثباتنا لوجود الطبيخ في الدار. غير أن هذا القول يتضمن في حد ذاته -وبشكل ضمني- تواجد شيء آخر يرتبط في علاقة أنطولوجية ضرورية مع (وجود الطبيخ) وهذا الشيء هو (النار)، فالنار إذن هي السبب الأساسي المباشر لوجود الطبيخ. وبذلك يكون هذا القول برهانا مطلقا مادام هذا الأخير قد "اجتمع فيه اليقين بالوجود والسبب معا"(28). يتبين لنا إذن أن هذا الصنف من القول البرهاني يجب أن ينطلق من مقدمات يقينية ضرورية تفيد إثبات كينونة الموضوع. كما يعتمد على حد أوسط يكون جسرا نحو معرفة علة وجوده. ونصادف تحديدا بطبيعة البرهان المطلق، في إحدى أهم المؤلفات الطبيعية لابن باجة، حيث يؤكد على أننا قد نصادف في مجال العلم الطبيعي بعض الأشياء التي قد لا نعلم وجودها في موضوع ما بشكل مباشر، بل تتم لنا معرفتها بواسطة قول برهاني آخر يلزم عنه بالضرورة وجودها في ذلك الموضوع، وسبب وجودها فيه، ولكن بشرط أن تكون مقدمات ذلك القول البرهاني يقينية وضرورية: فعند قولنا مثلا أن الشيخ الذي يكثر في بدنه العنن (أي إثباتنا بوجود شيء ما في موضوع ما= برهان وجود) راجع لقلة الحرارة الطبيعية في بدنه (أي لعلة طبيعية كائنة في الموضوع = برهان سبب) فهذا القول في مجمله يشكل برهانا مطلقا، وذلك لتضمنه في حد ذاته برهاني الوجود والسبب معا(29). وبذلك يكون هذا الصنف من القول البرهاني يمثل من الوجهة المعرفية أعلى مراتب العلم اليقيني، ذلك لأنه يصل بالناظر إلى مستوى مطابقة القول النظري للوجود أو الواقع الكائن، لذلك فهو أحرى أن يتقدم على سائر أصناف البرهان الأخرى(30).

        وفي الختام نخلص إلى القول أن العلم البيولوجي باعتباره أحد الفروع الهامة للعلم الطبيعي عليه أن يوظف على الصعيد المعرفي والمنهجي خاصة هذا الصنف من القول البرهاني إلى جانب أصنافه الأخرى، إذا أراد بذلك أن يسمو إلى مستوى المعرفة اليقينية أو العلم اليقيني الذي يلزمه الانطلاق من مقدمات (معرفية أو أنطولوجية) يقينية وضرورية حتى يصل بذلك إلى نتائج معرفية مطابقة تماما لمعطيات الواقع أو الوجود الطبيعي عموما والواقع الطبيعي البيولوجي، واقع الكائن الحي بشكل خاص.

        الهوامش:

1) لن نخوض هنا في تفاصيل الشروط المعرفية المرتبطة بمبحث البرهان بما فيها شروط المقدمات، وشروط النتائج، لأن ذلك يتجاوز إطار بحثنا. ذلك أن مبحث البرهان رغم ارتباطه بمختلف العلوم النظرية يشكل في حد ذاته موضوع بحث واسع ومستقل.

2) هذا دون أن ننسى أن قول الفارابي يستند بدوره إلى القول المنطقي الأرسطي. لكن هذا لا يعني إنكار ما تميزت به الدروس المنطقية للفارابي من إسهامات أصيلة.

3) أ- نقصد بذلك أن تعليقات ابن باجة على المؤلفات المنطقية لأبي نصر قد تميزت بنزعة تعليمية واضحة، ذلك أن الهاجس القوي الحضور هو تبيان مقاصد ومرامي قول الفارابي. وهذا ما جعل ابن باجة يكثر من إثبات النصوص الفارابية ثم التعقيب عليها. وهذا بخلاف ما عودنا عليه أبو بكر في شروحه لأعمال أرسطو التي كثيرا ما تصل إلى مستوى (القراءة) الخاصة لهذه الأعمال.

        ب- تعاليق ابن باجة على كتاب (البرهان)، ضمن كتاب (المنطق عند الفارابي) نشرة ماجد فخري، دار المشرق، بيروت 1987 ص: 107 المخطوط (الاسكوريال)، الورقة 72.

4) يقول ابن باجة في هذا الصدد: "والقول الذي يقع به التصديق لا يمكن أن يكون إلا قضية. فان لا يقع التصديق بأمر يدل عليه قول ليس تركيبه تركيب اخبار. وكل قضية لم يقع بها تصديق فهي مطلوبة، ومادامت مطلوبة، فهي طرف تناقض، كقولنا اللذة كمال أو ليست كمالا، والعدل أفضل من المحبة، أو ليس بأفضل من المحبة".

        المصدر نفسه، ص:109 - المخطوط (الاسكوريال) الورقة 72ظ.

5) الفارابي كتاب البرهان، م م، ص:20.

6) انظر ما يقوله الفارابي في المعنى نفسه، المصدر نفسه، ص:20.

7) الفارابي، المصدر نفسه، ص:21.

8) يقول ابن باجة في هذا المعنى: "فإن قولنا الحيوان الناطق قول مركب، قصد بتركيبه في النفس محاكاة ما خارج النفس. فالمعرفة هي مثال الأمر من خارج بالحال التي حصلت له فيها النفس، والمعروف هو الأمر من خارج. ولما كان معقول الشيء هو الشيء، ولم يكن بينهما فرق إلا بالجهة، كانت المعرفة والمعروف واحدا بالموضوع اثنين بالجهة، وهو طريق كون الواحد في النفس والآخر خارج النفس".

        - تعاليق ابن باجة على (البرهان) م م، ص:107، المخطوط الورقة 72و.

9) يقصد قول الفارابي.

10) المصدر نفسه، تعاليق ابن باجة على كتاب (البرهان)، ص:118.

11) يقول ابن باجة في هذا الصدد: "وينبغي أن نفحص عن معنى لفظة الشيء في هذا القول، فإنها من المشكل جدا. وذلك أنا إن فهمنا منها المفرد، فالبراهين لا تنتج المفرد. وإن فهمنا منها القضية، فالضية لا يقال عليها أنها شيء بمعنى أنها صادقة، بل يقال عليها بمعنى أنها موجود من الموجودات".

        - المصدر نفسه، ص:118، المخطوط الورقة 75ظ.

12) جمال الدين العلوي: (نظرية البرهان ودلالتها في الخطاب الفلسفي لابن رشد) مجلة أكاديمية المملكة المغربية، السفر الثاني عشر، نونبر 85 ص ص:72،73.

13) جل الأمثلة التي سنستحضرها فيما بعد تركز على قضايا العلم الطبيعي، والعلم البيولوجي بشكل خاص.

14) تعاليق ابن باجة على كتاب البرهان، م م، ص:118، المخطوط (الاسطوريال)، الورقة 75ظ.

15) المصدر نفسه، ص:118، المخطوط الورقة 76و.

16) المصدر نفسه، ص:120، المخطوط الورقة 76و.

17) المصدر نفسه، ص ن.

18) يقول ابن باجة في ذلك: "وأما برهان السبب فمبدأ الحركة فيه من احد النقيضين محصلا، والسؤال عنه بلم، لأنا قد علمنا أن لهذا الموجود سببا، لكنا لم نعلم ما ماهية هذا السبب، وفي برهان الوجود المتقدم، فأنا علمنا الأمرين منفردين ولم نعلم هل أحدهما محمول للآخر أم لا؟".

        - المصدر نفسه، ص ن.

19) قرأها ماجد فخري بـ(ناخس).

20) مصطلح طبي لا ندري معناه الدقيق، وقد قرأ ماجد فخري المصطلح كما قرأناه وإن كنا لا نستبعد أن يكون معناه (لوثة)، أي إصابة تلوث حنجرة الإنسان فيصاب بداء السعال.

21) ابن باجة (تعليق على كتاب البرهان) م م، ص:121، المخطوط الورقة 76ظ.

22) يتحدث أبو نصر عن علاقة برهان الوجود ببرهان السبب في المصدر نفسه، ص:26.

23) يقول ابن باجة في ذلك: "وهذا بعين يعرض في برهان السبب والوجود. وبيان ذلك بالمقال الإنسان حيوان، والحيوان حساس، فالإنسان حساس. فالحساس داخل في ماهية الإنسان. والحيوان يفيدنا العلم بوجوده له وهو سبب وجوده له وليس وجوده للموضوع غير وجود الموضوع. فالإنسان إذن هو سبب وجود الموضوع. فالمعلوم إذن في هذا ليس غير الموضوع المصدر نفسه. ص ص:119-118م. الورقة 76ظ.

24) المصدر نفسه، ص ن.

25) يقول في ذلك: فكيف كانت البراهين فقد ظهر أن المعلوم بها هو واحد وشيء وهو الموجود، فإن غايتنا بهذه البراهين، وبالجملة، فكل طلب إنما هو علم الموجود، وأن يكون ما يحصل في أذهاننا مطابقا لما عليه الأمر من خارج وجوده "المصدر نفسه، ص ن".

26) ابن باجة: (تعليق على كتاب البرهان)، المخطوط، 76ظ نشرة ماجد فخري، ص:121.

27) يحدد ابن باجة طبيعة البرهان المطلق في المصدر نفسه، ص:121، المخطوط الورقة 76ظ.

28) الفارابي (كتاب البرهان) م م، ص:26.

29) انظر ما يقوله ابن باجة في (شروح السماع الطبيعي) نشرة معن زيادة، ص:13.

30) يقول ابن باجة استنادا إلى قول الفارابي: "فالبرهان على الإطلاق وهو القياس اليقيني قوة البرهان على الإطلاق بجملته قوة الاسم، وهو الآن يتكلم في البرهان الذي هو أشد مطابقة للوجود، إذ هو أحرى بالتقدم".

        المصدر نفسه، ص:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق