إعداد: مصطفى النحال
أصبحت كبريات الصحف والمجلات الدولية، خلال الأيام الأخيرة، ميدانا لحرب ضارية حقيقية بين الفيلسوفين الألمانيين بيتر سلوطريدك وأنصاره، وبين يورغن هابرماس وشيعته، ويعود مصدر هذا الجدل إلى أواسط شهر يوليوز الماضي حين ألقى سلوطريدك، خلال الندوة الدولية المنعقدة ببافيير، محاضرة بعنوان "قواعد من أجل حديقة حيوان إنسانية"(1). وهي المحاضرة التي أعلن فيها، أمام حشد من الفلاسفة ورجال الدين معظمهم يهود، انتهاء إنسانية الإنسان وأنسنته وحلول "التدجين"،تدجين الإنسان انطلاقا من "انتقاء" "المعايير" الكفيلة بتكوينه وبرمجته. وقد تساءل سلوطريدك، طيلة عرضه، عما إذا لم تكن الحضارة الإنسانية مقبلة على الإصلاح الوراثي لخصائص النوع البشري. ويثير في هذا السياق التكنولوجيات الأحيائية والأنتروبولوجيا التقنية" القمينة بخلق هذا "الإنسان الجديد". وقبل أن نعود إلى أطروحة سلوطريدك وخلفياته الابستمولوجية وأبعادها الإيديولوجية والمجتمعية، لا بأس أن نضع القارئ أمام ردود الفعل الأولى التي أعقبت هذه المحاضرة. فبعد يومين من إلقائها، كتب طوماس أسهور: "إن خطاب سلوطريدك لا يعكس فقط خطأ فيلسوف يقتفي آثار نيتشه وهايدغر، ويتوهم أن بإمكانه إقبار الحداثة، بل إن استهاماته المتصلة بمبدأ الانتقاء مسكونة بواقعية رهيبة تنظر ببرودة إلى الطاقة الجهنمية التي ينطوي عليها علم الوراثة"(2). وبعد ذلك بقليل، يضيف رينهارد مور أن هذا الخطاب يرتبط، من خلال حججه ولغته، بالبلاغة الفاشية". بل إن صحيفة Spiegel خصصت في الأسبوع الأخير من شتنبر، ملفا عما أسمته "الإنسان المتفوق الوارثي"، ويدور حول هيتلر ونيتشه ودولي وصراع الفلاسفة. فهل يحلم بصنع كائنات متفوقة؟ ذلك لأن النقاش لم يبق مقتصرا على ما هو فلسفي، فقد قام مختبر أمريكي بتقديم نتائج أعماله المطابقة لأفكارسلوطريدك: فأر تحسن ذكاؤه بفضل التقنية الوارثية. وفي الجانب الآخر، نجد المدافعين الذين يتساءلون: "هل دافع سلوطريدك عن إنسان جديد؟"، بل إن أحدهم يعزو هذا الصخب حوله إلى ذوق وحب الشعب الألماني لتأويل النصوص. وفي رده على هذه الاتهامات يحمل سلوطريدك المسؤولين لهابرماس الذي "تكلم عنه ولم يتكلم معه" وألب عليه رجال الدين والمثقفين وقد بعث سلوطريدك برسالة إلى هابرماس (انظر البريد الدولي، العدد 464 ص56) يحمل فيها مسؤولية هذه الضحية المثارة حوله قائلا: "لقد أمضيت وقتك في الاتصال هاتفيا من هامبورغ إلى القدس لإقناع الآخرين بارتكاب نفس الخطأ الذي ارتكبته أنت. لا بل إنك مارست ضغطا قويا على بعض الزملاء الذين اعتبروا محاضرتي مثيرة للنقاش والتفكير. والأدهى من ذلك قمت باستنساخ غير قانوني للنص (الذي أعطي لك بشكل فردي) وأرسلته لصحافيين تتلمذوا على يديك مصحوبا ببرنامج قراءة مغلوطة، وذلك ضدا على القواعد الجامعية وعلى قواعد الزمالة والنشر" ويضيف سلوطريدك "لومه" لهابرماس قائلا: "إن المرء لا يعود إلى الوراء بخطوة واحدة، بل بعدة خطوات ويتخلى عن أوهامه. عندما جعلتني شيئا، أي شيء، فقد أعطيتني فرصة التعرف، بشكل أوضح كذلك وغير موضوعي، على حدودك. ينتابني إحساس، وأنا أراك بهذا المنظار الموضوعي، أنني استعرض حقل تفكير مرحلة تاريخية بكاملها، واستعرض نسقا كاملا من الأوهام. إن جوهر (النظرية النقدية)، الاتجاه الفلسفي الذي تمثله مدرسة فرانكفورت، يتجه نحو أفوله. هل يحق لي التعبير عن رأيي؟ تعتبر مدرسة فرانكفورت، في صيغتها الأولى (صيغة تيودور أدورنو) حلقة غنوصية يسارية على طريقة اسطيفان جورج. وهي التي بادرت، على وجه رائع، بممارسة إغراء خفي على جيل بكامله، وكان لها بالفعل تأثير قوي أما في صيغتها الحديثة جدا. صيغة هابرماس) فتعتبر نزعة يعقوبية كامنة. إنها صيغة اشتراكية ليبرالية لديكتاتورية الفضائل (التي يوازيها نشاط "صحفي وجامعي وحين يغدو النسقان قويين، فإنهما يعدان من بين عوامل الخطر التي تهدد الأول يكون خطيرا بدرجة أقل، وذلك لأنه ولأسباب داخلية، لا يمكنه أن يصبح شعبيا أبدا. أما النسق الحديث، فإنه ما يزيد في خطورته هو أنه يجعل من الإحساسات الشعبية المتداولة نسقا متعلقا (وهي الرغبة أو الشعور بأنك متفوق على الآخرين). لقد اعترف هيجل عن حق بحقيقة الإرهاب: فتحت تأثيره، يتحول الشك إلى حكم. وداخل كل نزعة يعقوبية، يعتبر أي اتهام بمثابة تصفية. وهذا التشخصي هو اليوم أكثر حضورا من أي وقت مضى"(3).
لابد من الإشارة إلى أن الفيلسوف بيتر سلوطريدك "من مواليد (1947) يعد من أبرز الفلاسفة "المتحررين" المتأثرين في تفكيرهم بهايدغر ونيتشه، ويعتبر نفسه منتميا للحركة اللاسلطوية التي يمثلها هابرماس وهي "شكل اجتماعي ليبرالي لديكتاتورية الفضائل". وعليه فإن الجيل الذي يمثله هو جيل جديد يعلن أن عهد الأبناء الأخلاقيين المفرطين، المنحدرين من أباء نازيين، يوشك على نهايته الطبيعية. إن هناك جيلا جديدا متحررا يعلن عن قدومه، ويقطع صلاته مع "عصر الشك والريبة والظن" فثقافة الشك تستخدم منطق ذوبان الفرد داخل إمبراطورية الإجماع والجماعة وإلا اعتبروه مريضا عقليا.
ويذهب سلوطرديك، في حوار أجرته معه مجلة "الملاحظ الجديد"، إلى أن سقوط حائط برلين، وتصدع الاتحاد السوفياتي، أديا إلى تصدع تحليلات هابرماس وتراجع الاتجاه الماركسي الجديد الذي يمثله.
لقد كانت ثمة حاجة في السابق إلى يسار غير سوفياتي وغير كلياني، إلا أن هذه الحاجة لم تعد موجودة اليوم، إن الخلاف بينهما يعود إلى ما هو نفسي وإيديولوجي فضلا عن اختلاف المنظور والمقاربة، ومن ثم، فإن المحاضرة حول حديقة الحيوان الإنسانية، التي رأى فيها البعض تنسيبا لمقاييس أخلاق الغرب، تتخذ لها منطلقا رسالة هايدغر حول النزعة الإنسانية، فقد فكر سلوطرديك انطلاقا منها ومن إشكاليتها القائلة بأنه عبر مسألة الكائن وغائيته نقترب من مسألة الإنسان باعتباره "مكانا" مفتوحا للحقيقة وللحرية فالإنسان القارئ، عليه أن يكون قادرا على الإنصات إلى صوت الأساتذة السابقين عبر نصوصهم، وهذه الخاصية تسمح له بمقاومة "البهيمية" والبلاهة اللتين يعمل مجتمع العرض والمشهد وسلطة التسلية على صوغهما. إلا أن هذه المسألة ليست معطاة، بل إنها تبنى باستمرار من خلال سيرورة مقاومة إغراءات العنف التي تجدبنا وتأخذ بلبنا وقد انبرى سلوطرديك منذ سنة 1997 يشرح النزعة الإنسانية التي تعود إلى هذه المقاومة إزاء الفاشية الأولى للمسرح الروماني، وأنها ولدت كذلك مع المقاومة المسيحية إزاء عملية نزع الطابع الإنساني التي كان يفرضها قبل الآن هذا المجتمع الأول، مجتمع العرض والمشهد، وعندما استعاد سلوطرديك هذه الفكرة، حاول أن يقول إن الثقافة والقراءة والتكوين المعرفي، داخل مجتمعات الكتلة، غير كافية لتكوين الإنسان المعاصر، وفي هذا السياق يقول: "لا يقول بول فاليري شيئا آخر حين كتب في "أزمة الروح" غداة الحرب العالمية الأولى، أنه أصبح من المسلم به أن الحضارة بدورها فانية، يتعين إعطاء جواب شاف وكاف لهذه المسألة إذا أردنا أن نوجد فلسفة تعبر عن زمننا"، ومن هنا سر اهتمام سلوطرديك الفيلسوف بالمعطيات التي تطرحها التكنولوجيات الإحيائية: "منذ بداية الخمسينيات إلى نهاية الثمانينيات انقدنا نحو الدوار النووي، إلا أننا نجونا منه بفضل توازن الرعب، أما اليوم، فمع صعود التكنولوجيات الإحيائية و"التكنولوجيات الإناسية"، نجد أنفسنا مهددين بنهاية العالم من جديد، والمتمثلة في التحولات المسوخية، وفي الوقت الذي تسعى فيه الكتابات العلمية إلى تهدئة العقول، تظل المجموعة الإنسانية مأخوذة بدوار نيوميتافيزيقي وهي تثير هذا التهديد، لقد غدا الإنسان، في ظل هذه التقنية الإحيائية الإناسية، شبيها بكائنات الصناعة اليهودية، ومن ثم فكرة "حديقة الحيوان الإنسانية"، وهي على أية حال ليست وليدة اليوم، بل إن أفلاطون هو أول من تحدث عنها، إلا أن هناك مقطعين أساسيين هما اللذان آثارا كل هذا الجدل: المقطع الأول هو عبارة عن عرض لأفكار الفيلسوف نيتشه بصورة غير مباشرة، حيث يتحدث سلوطرديك عن سياسة "التدجين"، وذلك انطلاقا من الكلمة الألمانية ZUCHTUNG التي تحيل في الوقت نفسه على مفهوم التربية وعلى مفهوم التدجين والترويض فوراء مسألة التربية توجد والترويض، أما المقطع الثاني، فهو الذي يتساءل فيه سلوطرديك عما إذا كان التدخل الوراثي سيصل إلى حد البرمجة المقصودة للأشخاص، وما إذا كان بالإمكان تعويض الولادة العادية المبنية على الصدفة والقدر بولادة مبرمجة مختارة، وانتقاء قبلي تطالب به بعض النساء يقول سلوطرديك: "إنني لا أدافع عن الانتقاء ولا عن الإنسان المتفوق ولا عن الانتقاء ولا عن الإنسان المتفوق ولا عن المسخ بقدر ما أشير إلى وجود تهديد وخطورة على الكاتب عرضهما وإبرازهما وليس تجاهلهما".
ولكي يصفي سلوطرديك حسابه وحساب جيله مع هابرماس، باعتباره ناطقا باسم "مدرسة نقدية" عفا عليها الزمن، يشير إلى الوضع الاعتباري التاريخي لهذه المدرسة، وإلى موقع نظريته ضمن المشهد الفلسفي والسياسي الألماني، فنظريته قامت وتقوم بمراقبة السلطة الإيديولوجية التي يتم بواسطتها التسيير الأخلاقي للمجتمع، إن هذا الأخير، وبعد مرور خمس وخمسين سنة على نهاية الحرب العالمية الثانية وتوالي جيلين ونصف على إعادة تشكيل المجتمع الألماني، مازال يتقوقع داخل حصار أخلاقي هو الذي شيده وأحكام أغلاقه: "يمكن القول أيضا أنه متقوقع داخل شلل يتوالد باستمرار، وتتحكم فيه إلى حد كبير عوامل نفسية وسيكوسياسية"(4).
لقد عرف المجتمع الألماني، في نظره تطورا أساسيا من حيث العقليات وهو تطور يلخصه في تصدع الفضاء السياسي الذي تعددت مقارباته بتعدد وجهات النظر (فمن قائل بسيرورة السياسة التقويمية إلى قائل بانهيار اليسار الكلاسيكي ذي التوجه المحض ماركسي أو الماركسي-اللينيني، إلى قائل بهيمنة ثقافة اللهو على وسائط الإعلام المهتمة بالتسلية واللعب، وعلى التلفزيون الخاص على وجه التخصيص...)، وفوق جميع هذه السيرورات ترين الأيقونة الجبارة للمستشار الألماني السابق هيلموت كول الذي ساعده وزنه الشخصي وحظه السياسي خطرا يحتمله ويتحمله معظم المواطنين، فهؤلاء يعتبرون، أن هذه المرحلة هي مرحلة "عصر ذهبي" ورخاء، والكل أصبح اشتراكيا ديموقراطيا دون معرفة السبب.
إلا أن "موت" النظرية النقدية اليوم يعد مؤشرا أساسيا لهذه النقلة النفسية والسياسية التي تنتظر المجتمع الألماني، وفي هذا السياق يحمل سلوطرديك هابرماس مسؤولية شحن عقليات الجيل الجديد المتحرر من أوهام النازلة وعقدها ومن عقدة الذنب التي اتخذت صورة عقائدية، بل إنه يعتبره مسؤولا عن "شلل العقليات" الذي يغذيه موقف متعال يجعل النخبة تشعر بالتفوق الأخلاقي نحو الآخرين، فإذا كان المجتمع الألماني، شأنه في ذلك شأن العديد من المجتمعات الأوروبية لما بعد 1945 و1989، قد ورث من مرحلة الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة ثقلا مليئا بالخوف والبارانويا اللذين أصبحا مسألة يومية اعتيادية، فإن "النظرية النقدية"، في صورتها الهابرماسية قد زكت ذلك من خلال ما سمي إبان الوجودية ب"عصر الشك" تجاه أية مساهمة فلسفية جديدة من حيث الرؤية والمقاربة، ما نحتاج إليه، يقول سلوطرديك ليس هو الخطاب المابعد الحداثي، أو خطاب جديد حول مرحلة ما بعد الحداثة، إن الذي "نحتاج" إليه هو خطاب جديد وممارسة جديدة لمرحلة ما بعد البارانويا(...) ومن حق جيراننا، ومن مصلحتهم كذلك، أن يكون شريكهم بلدا بدون عقدة، إننا نحن الألمان نعيش دائما داخل معيارية غير عادية".
1) لوموند دي ديبا، أكتوبر 1999.
2) البريد الدولي، العدد 464.
3) نفسه.
4) جريدة "لوموند"، الجمعة 8 أكتوبر 1999.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق