احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

المفهوم الدلالي للصدق وأسس الدلاليات (تتمة)

ألفرد تارسكي

II – ملاحظات سجالية

14- هل يمكن اعتبار المفهوم الدلالي للصدق "صحيحا"؟

        سأبدأ هذه الفقرة السجالية بملاحظات عامة.

        أتمنى ألا يؤول ما قلته حتى الآن على أنني أعتبر التصور الدلالي للصدق هو السبيل "الصحيح" بل "الوحيد". فأنا لا أريد أن أساهم بأي شكل من الأشكال في المناقشات العنيفة التي تدور حول مسألة "التصور الصحيح للصدق"(22). كما أنني لم أفهم الرهان الأساسي وراء الصراع الدائر حول قضية غامضة ويصعب حلها بشكل محدد. فلم يتضح في أي وقت من الأوقات المعنى الذي أستخدم به التعبير "المفهوم الصحيح للصدق"؛ بل نكتفي بالقول أن هذا التعريف استخدم بمعنى صوفي. وترتكز هذه الدعوى على قناعة تفيد أن لكل كلمة دلالة واحدة "واقعية" (نوع التصور الأفلاطوني أو الأرسطي) وأن التصورات الأخرى تسعى إلى استيعاب هذه الدلالة الوحيدة. إلا أن تناقض هذه التصورات فيما بينها يوحي بإمكان نجاح تصور واحد فقط، الذي سيعتبر هو التصور "الصحيح".

        أعتقد أن مثل هذه الصراعات لم تنحصر في الصدق، بل شملت مجالات أخرى تستند إلى اللغة الطبيعية -عوض لغة مضبوطة وعلمية- ولذلك نقول عن هذه التصورات بأن لا معنى لها وبالتالي لا جدوى منها.

        إن السبيل الوحيد لمقاربة هذه المسائل يتوقف على التخلي عن الموقف الذي يزعم بأننا أمام تصور واحد لصالح الدعوى التي تقر بأننا أمام عدة تصورات نعينها بإسم واحد، ومن هنا، علينا توضيح هذه التصورات بقدر المستطاع (بواسطة التعريف أو الطريقة التسليمية أو بالاستناد إلى طرق أخرى). فاجتناب الخلط يتوقف على استخدام تعابير مختلفة لتسمية تصورات مختلفة، وذلك حتى نتمكن من إنجاز دراسة جديدة وممنهجة لكل التصورات التي نفحصها، وخاصة ما يتعلق بخصائصها الأساسية والعلاقات القائمة بينها.

        لو ركزنا على تصور الصدق لاستخلصنا أن المناقشات الفلسفية -وربما الاستعمال العادي- يستخدمان بعض التصورات الجديدة بشكل يختلف عن التصور القديم (فالتصور الدلالي ليس سوى صورة محدثة). ولقد نوقشت العديد من هذه التصورات في الكتب التي تتناول هذا الموضوع، مثل التصور التداولي ونظرية الإتساق، إلخ.

        أعتقد أن مثل هذه التصورات لم تدرس حتى الآن بشكل واضح ومتواطئ. لكن هذا الوضع يمكن أن يتبدل. إذ يمكن أن نجد أنفسنا مستقبلا أمام تصورات متنافية للصدق، لكن واضحة ومضبوطة. وسيحتم علينا هذا الوضع استبعاد كل استخدام غامض لكلمة "صادق" وتعويضها بحدود متعددة يطابق كل منها تصورا مغايرا. ولن أخرج أو أحس بالإهانة إذا ما قرر مؤتمر ما ل"منظري الصدق" -وبأغلبية الأصوات- الاحتفاظ بكلمة "صادق" للإحالة على نظرية غير كلاسيكية واقترح في نفس الآن استخدام كلمة أخرى مثل "مادب" لتخص التصور المعمول به في هذه الدراسة. لكن لا يمكنني أن أتصور أن بإمكان شخص ما أن يقدم حججا مقنعة يبين من خلالها أن التصور الدلالي للصدق "غير صحيح"، ومن ثم يجب التخلي عنه:

15- التصحيح الصوري لتعريف الصدق

        سأبدأ بتصنيف الاعتراضات التي همت تصوري للصدق إلى عدة زمر، ساعيا في نفس الوقت إلى مناقشة كل منها على حدى.

        أعتقد أن هذه الاعتراضات لا تخص تصوري للصدق بقدر ما تهم التصور الدلالي للصدق ككل بدليل أن الاعتراضات التي وجهت للتعريف الحالي تسري على كل التعريفات الأخرى المماثلة.

        وينطبق هذا بصفة خاصة على الاعتراضات المتعلقة بالتصحيح الصوري لتعريف الصدق. لقد استمعت إلى بعض الاعتراضات، لكنني أشد في إمكان أخذها مأخذ جد.

        فلو مثلنا على ما قلناه بالاعتراض التالي(23): إن صياغتنا للتعريف يستند إلى روابط قضوية من قبل "إذ... فإن..." و"أو"، إلخ فهي تظهر في المعرف خصوصا الرابط "... إذا وفقط إذا..." الذي يستخدم لربط المعرف بالمعرف. ومع ذلك، فمن المعروف أن شرح معنى هذه الروابط المنطقية يتم على مستوى المنطق باستخدام تعبيري "صادق" و"كاذب". حيث نقول بصدق قضية تتخذ صورة "ب إذا وفقط إذا جـ" إذا كانت "ب" صادقتين أو كاذبتين معا في نفس الآن. ويدل هذا على أن تعريف الصدق يحتوي على "الدور".

        لو كان هذا الاعتراض صحيحا لما تمكن من تعريف الصدق تعريفا "صحيحا صوريا". لأنه من المستحيل صياغة قضية ما دون استخدام روابط قضوية أو حدود منطقية تعرف بواسطة هذه الروابط.

        مما لا شك فيه أن أي تطور استنباطي للمنطق يكون مسبوقا في أغلب الأحيان ببعض الاستنتاجات التي تحدد شروط صدق أو كذب قضايا من نمط "إذا ب فإن جـ"، (غالبا ما تقدم هذه الإشارات على شكل خطاطة نصطلح عليها ب "جداول الصدق"). إلا أن هذه الاستنتاجات تكون خارجة عن المنطق ولا يمكن أن ننظر إليها بوصفها تعريفا لهذه الحدود. فهي لا تصاغ في لغة النسق بل في اللغة الفوقية لكونها استنتاجات تهم تعريف الصدق. كما أن هذه الاستنتاجات لا تؤثر على التطور الاستنباطي للمنطق، لكوننا لا نهتم في ظل هذا التطور بمعرفة ما إذا كانت القضية التي نحن بصددها صادقة، بل ينصب اهتمامنا على معرفة ما إذا كانت قابلة للبرهنة(24).

        من جهة أخرى، فعندما تهتم بنسق منطقي استنباطي أو أي نسق آخر مثل الدلاليات التي تقوم على المنطق، فإننا نأخذ بالروابط القضوية إما كحدود غير معرفة أو نعرفها بواسطة روابط أخرى من نفس النوع؛ لكنا لا نقوم بذلك باعتماد حدود دلالية مثل "صادق" أو "كاذب"، وعليه، فعندما نتناول تعبير مثل "ليس" و"إذا... فإن..." (أو "... إذا وفقط إذا...") كحدود غير معرفة، فيمكن تعريف الحد "أو" على أساس أن القضية من نمط "ب أو جـ" تكافئ قضية من نمط "إذا ليس ب فإنه جـ". وهو التعريف الذي يمكن صياغته كما يلي:

        "(ب أو جـ) إذا وفقط إذا (إذا ليس ب فإن جـ")

        فهذا التعريف لا يتضمن ظاهريا أي حد دلالي

        وبالمقابل فلا يمكن الجزم بأن تعريفا ما يولد "الدور" إلا إذا كان المعرف يحتوي على الحد الذي نريد تعريفه أو على حدود أخرى تعرف بواسطته. وعلى هذا، يتضح أن استخدام الروابط القضوية في التعريف الدلالي للحد "صادق" لا يحتوي على أي "دور".

        سأنتقل الآن إلى مناقشة بعض الاعتراضات التي ترد في الأبحاث التي اهتمت بمسألة "الصحة الصورية" للحجج التي تفضي بنا إلى تعريف الصدق، والذي نجده في هذا التعريف ذاته(25).

        أعتقد أن صاحب هذا الاعتراض يعتبر عن خطإ الخطاطة (ص) (الواردة في الفقرة 4) تعريفا للصدق. ومن هنا، يقول عنها بأنها مختصرة وغير مقبولة وبالتالي فهي "غير تامة". لكنه ( لا يشير إلى الوسائل التي تسمح بالقول أن "يكافؤ" يدل على علاقة منطقية صورية أو على علاقة غير منطقية ولا يمكن وصفها بنيويا). ولاستبعاد هذا الغموض، اقترح طريقتين يحددهما على التوالي فيما يلي:

        (ص*) "با صادق إذا وفقط إذا ب صادق".

        (ص**) "با صادق إذا وفقط إذا ب كذلك" (وإذا كان ما يجزمه ب هو كذلك).

        ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة هذين التعريفين زاعما أنهما تحررا من العيوب الصورية. لكننا نستنتج عدم كفايتهما وذلك لأسباب أخرى غير صورية.

        نلاحظ أن هذا الاعتراض الأخير يعود إلى سوء فهم يتعلق بطبيعة الروابط القضوية (ومن هذه الوجهة يشبه الاعتراض الذي تطرقنا إليه من ذي قبل). فصاحب الاعتراض لم ينتبه إلى أن العبارة "... إذا وفقط إذا..." (على عكس تعابير مثل "يكافؤ" لا تعبر عن علاقات بين القضايا بوصفها لا تؤلف بين أسماء القضايا.

        يترتب على هذا أن كل الحجج التي استدل بها قامت على خلط بين القضايا وأسماء هذه القضايا. ويكفي أن نلاحظ أنه - على عكس (ص) فالخطاطة (ص*) أو (ص**) لا تفضي بنا إلى تعابير ذات معنى متى عوضنا فيها "ب" بقضية ما لأن التعابير "ب صادق" و"ب هو كذلك" (أي ما يجزمه ب هو كذلك) تصبح لا معقولة إذا عوضنا "ب" بقضية وليس بإسم هذه القضية (أنظر الفقرة 4)(26).

        وفي الأخير، فإذا كان صاحب هذا الاعتراض ينظر إلى الخطاطة (ص= على أنها "مختصرة بشكل غير مقبول" فأنا بدوري أعتبر الخطاطتين (ص*) و(ص**) طويلتين بشكل غير مقبول". ويمكنني أن أبرهن على قولي بالاستناد إلى التعريف الآتي "نقول عن تعبير ما بأنه طويل بشكل غير مقبول" إذا: 1) ليس له معنى، 2) كلما حصلنا عليه بواسطة تعابير ذات معنى، لكن بإضافة كلمات تزيد عن الحاجة (حشو).

16- الحدود الدلالية وإمكان استبعادها

        يتعلق الاعتراض الذي سأناقشه الآن ببعض الخصائص الصورية للتصور الدلالي وليس بالصحة الصورية للتعريف.

        لقد لاحظنا بأن هذا التصور يعتبر القضية "با صادقة" مكافئة للقضية التي يسميها "با" (حيث، "با" في منزلة إسم قضية تنتمي إلى اللغة الشيئية). يترتب على هذا إمكان استبعاد الحد "صادق" في قضية من نمط "با صادق" في نفس الوقت الذي يمكن أن نعوض فيه القضية ذاتها التي تنتمي إلى اللغة الفوقية بقضية تكافئها في اللغة الشيئية.

        ونفس ما قلناه ينطبق على القضية المركبة، شرط أن يشكل الحد "صادق" جزءا من العبارة التي تتخذ صورة "با صادق".

        لقد انتهى بعض الدارسين إلى نتيجة تفيد أنه بإمكاننا استبعاد الحد "صادق" في معناه الدلالي، مما يدل على عقم وعدم جدوى التصور الدلالي للصدق. وبما أن نفس الخاصيات تنطبق على المفاهيم الدلالية الأخرى، فهذا يعني بأن الدلاليات ليست سوى لعبة للمفردات أو في أحسن الأحوال تصور غير ضار.

        إلا أن الأمر ليس سهلا بهذا الشكل(27). حيث لا يمكن القيام بهذا الاسبعاد في كل الحالات. فلا يمكن أن يتحقق هذا في ما يخص القضايا الخبرية الكلية التي تصرح بصدق قضايا كل نمط ما أو أن كل القضايا الصادقة تتوفر على خاصية معينة. ويمكن أن نبرهن مثلا في نظرية الصدق على الإثبات الآتي:

        "كل نتائج القضايا الصادقة هي صادقة".

        نلاحظ أننا لم نتمكن من التخلص من كلمة "صادق" بنفس السهولة التي تم اقتراحها. ومن جهة فهذا الاستبعاد لا يمكن أن يتحقق دائما بالنسبة كذلك للقضايا الخاصة التي تتخذ صورة "با صادق". فلا يمكن أن نقوم بهذا الاستبعاد إلا في الحالة التي يأخذ فيها اسم القضية التي نصفها بالصدق صورة تسمح بإعادة بناء القضية ذاتها. فمعرفتنا التاريخية الحالية مثلا لن تسمح لنا باستبعاد كلمة "صادق" في القضية التالية:

        "القضية الأولى التي كتبها "أفلاطون" صادقة".

        مما لاشك فيه أن استبعاد الحد "صاديق" في معناه الدلالي يصبح أمرا محتملا نظريا في الوقت الذي نتوفر فيه على تعريف للصدق ويسمح كل تعريف بتعويض المعرف بالمعرف. لكن هذا الاستبعاد لن ينزل في كل الأحوال منزلة الاستبعاد السهل الذي ذكرناه سالفا. فلن يترتب على ذلك تعويض قضية ما في اللغة الفوقية بقضية من اللغة الشيئية.

        والآن، فإذا استمر شخص ما في تبني عقم تصور الصدق باعتبار أنه من الممكن أن نستبعد نظريا كلمة "صادق" باعتماد تعريفه، فسيكون مضطرا بأن يقبل نتيج أخرى تقول بعقم كل المفاهيم المعرفة. لكن هذه النتيجة لا معقولة وكاذبة تاريخيا. وعليه، ربما سأتفق مع أولئك الذين يؤكدون على أن الفترات التاريخية التي تشهد تقدما في العلم غالبا ما تكون فترات تبني مفاهيم جديدة بواسطة التعريفات.

17- ملائمة التصور الدلالي للصدق لاستعماله الفلسفي ومعنى "الحس" المشترك

        لقد أثرنا سؤالا يتعلق بمعرفة ما إذا كان التصور الدلالي للصدق صورة مضبوطة للتصور الكلاسيكي لهذا المفهوم.

        لقد تحدثنا سابقا عن صيغ متعددة لهذا التصور الكلاسيكي (انظر الفقرة 3). وسأكرر هنا موقفي الذي ستحدد في استحالة اعتبار أيا منها صيغة واضحة ومضبوطة. وعلى هذا، فالوسيلة الوحيدة لتوضيح هذه المسألة هي أن نقارن هذه الصيغ التي اقترحها؛ لنسأل بعد ذلك هؤلاء عما إذا كانت الصيغة التي قدموها توافق قصدهم. لكن وفاة هؤلاء سيحول دون تنفيذ هذا.

        وبما أن وجهة نظري شكلت موضوع مناقشات متعددة، فأنا لا أشك في أن الصيغة التي أقترحها لا تتوافق مع المضمون الحدسي للصيغة التي قدمها "أرسطو". لكن لا يمكن لي أن أجزم وبكيفية قطعية بالنسبة للصيغ التي قدمت بعد هذا التصور الكلاسيكي، لأنها غامضة(28).

        كما تم التشكيك كذلك في كون التصور الدلالي يعكس تصور الصدق في معناه المشترك والمتعلق بالحياة اليومية. ومن هنا، يتبين (وكما أسلفت) أن المعنى المشترك للكلمة "صادق" كما هو الحال بالنسبة لكل كلمات اللغة العادية يبقى غامضا ويخضع من جهة استخدامه لعدة تقلبات. وعليه، فإعطاء هذه الكلمة معنى ثابتا ومضبوطا يبقى غير محدد ويؤدي كل حل لهذه المسألة إلى فوارق بالنسبة لتطبيقاتها اليومية.

        ومع ذلك فما زلت أعتقد بأن التصور الدلالي للصدق يتوافق في جزء منه مع المعنى الذي يستخدم به في المعنى "الحس" المشترك؛ ويجوز أن أكون مخطئا في تصوري هذا. كما أعتقد أنه بإمكان البرهنة عمليا على الجواب الذي قدمته، ولو أن ذلك لن يتم بواسطة منهج استنباطي بل باعتماد طريقة إحصائية تستند إلى استمارة. وفي الحقيقة، فقد أنجزت هذه الأبحاث وقدم بعضها في أحد المؤتمرات، كما تم نشر جزء منها(29).

        أشير إلى أن إنجاز مثل هذه الأبحاث يتطلب عناية كبيرة. لأنه لو طلبنا من طالب في التعليم العالي أو من شاب ذكي لكن ليست له علاقة خاصة بالفلسفة ما إذا كان صدق قضية ما يتوفق في نظره على مطابقتها للواقع أو تعيينها لواقعة ما، فيمكن أن لا يستوعب السؤال، بشكل يفضي بنا إلى عدم إعطاء جوابه أية قيمة. وبالمقابل، فجوابه عن سؤال يخص معرفة ما إذا كان سيحكم على القضية "يسقط الثلج" بالصدق على الرغم من أنه لا يسقط، ويحكم عليها بالكذب ولو كان "الثلج يسقط" ستكون له دلالة فيما يتعلق بالمسألة التي نحن بصددها. ولهذا فلم أفاجأ عندما علمت (خلال مناقشة هذه المسألة) بأن %15 فقط من المستجوبين هم الذين اعتبروا أن "صادق" تدل على "التطابق مع الواقع" بينما %90 ترى أن القضية "يسقط الثلج" صادقة إذا وفقط إذا يسقط الثلج". وهكذا يتبين أن أغلب المستجوبين يستبعدون التصور الكلاسيكي للصدق في صيغته الفلسفية في الوقت الذي يقبلون فيه التصور ذاته بعد أن صيغ بواسطة حدود واضحة. لن أتطرق للمسألة التي تتعلق بإمكان استخدام التعبير "نفس التصور".

18- التعريف وعلاقاته "بالمشكل الفلسفي للصدق" وبالاتجاهات الإبستمولوجية المتعددة

        لقد علمت بأن البعض ينفي وجود أية علاقة بين التعريف الصوري للصدق و"المشكل الفلسفي للصدق"(30). لكن لا أحد وضح لي وبشكل كاف طبيعة هذا المشكل. فقد قيل لي ما يفيد أنه إذا كان تعريفي للصدق قد حدد الشروط الضرورية والكافية لصدق قضية ما، فلم يتمكن في الحقيقة من إدراك "جوهر" هذا التصور. وبما أنني لم أفهم ماذا يقصد ب"جوهر" تصور ما فأعتذر عن عدم تفصيل القول في هذه المسألة.

        وعلى العموم، فأنا لا أعتقد بوجود مشاكل فلسفية للصدق. فقد توجد مشاكل متعددة ومهمة ومعقولة تتعلق بالصدق (لكن ليست بالضرورة فلسفية) لكن لا يمكن صياغتها بكيفية مضبوطة وبالتالي حلها على أساس فهم مضبوط لهذا التصور.

        في الوقت الذي نتهم فيه تعريف الصدق بأنه ليس فلسفيا بما فيه الكفاية نثير من جهة أخرى عدة اعتراضات تأخذ عليه بعض الاستنتاجات الفلسفية المهمة وغير المرغوب فيها. وسأناقش الآن اعتراضا من هذا النوع. لقد أثبتنا أن قضية مثل "الثلج أبيض" صادقة دلاليا إذا كان "الثلج أبيضا" في الواقع. لكن المنطق يجد نفسه في مثل هذه الحالة أمام انتقادات الواقعية(31).

        لو سنحت لي الفرصة لأناقش هذه الاعتراضات لأثرت مسألتين: أولا سأطلب منه أن يحذف التعبير "في الواقع" لكونه لا يرد في الصيغة الأصلية للتعريف الذي قدمته. فإذا كان هذا التعبير لا يؤثر على مضمون الصيغة التي اقترحها فيمكن مع ذلك أن ينتهي بنا إلى أخطاء. فالتعبير يوحي بأن التصور الدلالي للصدق يهدف إلى تحديد الشروط التي تسمح بإثبات كل قضية تأخذ بها وخاصة كل قضية تجريبية. لكن يكفي أن نتأمل ذلك بدقة لكي نستنتج أن الانطباع أو ما يوحي به ليس سوى وهما، وبالتالي فصاحب هذا الاعتراض كان ضحية الوهم الذي خلقه بنفسه.

        والواقع أن التعريف الدلالي للصدق لا يستلزم أي شيء يخص إثبات قضية مثل(1):

1- "الثلج أبيض".

        بل يشترط فقط أن إثبات أو استبعاد هذه القضية يجب أن يؤدي إلى إثبات أو استبعاد القضية اللازمة عنها وهي(2):

2- "القضية" "الثلج أبيض" "صادقة"

        وبهذه الكيفية يمكن قبول التصور الدلالي دون التخلي عن مواقفنا الإبستملوجية أيا كانت. فيمكن أن تكون واقعيين ساذجين أو واقعيين نقديين أو مثاليين أو تجربيين أو ميتافزقيين، كما كنا من قبل، ويبقى التصور الدلالي للصدق محايدا أمام كل هذه المواقف.

        ثانيا، سأسعى إلى الحصول على معلومات تخص تصور الصدق (وفق وجهة نظر صاحب هذا الاعتراض) والتي تجعل المنطق لا يسقط في "الواقعية الساذجة"؛ وسأخلص إلى القول بضرورة أن يتنافى هذا التصور مع التصور الدلالي. لأن ذلك يقتضي أن توجد قضايا تصدق وفق أحد هذه التصورات دون أن تكون كذلك من وجهة نظر التصور الآخر. فلو اعتبرنا مثلا أن القضية(1) تمثل هذه الحالة فسيتحدد صدقها طبقا للتصور الدلالي بواسطة التكافؤ الذي يتخذ صورة (ص).

        "القضية" "الثلج أبيض" "صادقة إذا وفقط إذا الثلج أبيض".

        وذلك في الوقت الذي نجد فيه أن التصور الجديد يستبعد هذا التكافؤ ليأخذ بنقيضه:

        "القضية" "الثلج أبيض" "صادقة إذا وفقط إذا الثلج ليس أبيضا (أو الثلج (في الواقع) ليس أبيضا)".

        فهذه القضية تتخذ طابع المفارقة؛ ومع ذلك فلا أعتبر هذه النتيجة اللازمة عن التصور الجديد للصدق لا معقولة. لكنني أخشى أن يتهم هذا التصور بأنه يقحم المنطق في (اللاواقعية السوفسطائية). ولهذا فأنا أعتقد أنه من الواجب أن نعي بأن كل تصور للصدق يتنافى مع التصور الدلالي سيفضي بنا إلى نتائج من هذا النوع.

        لقد فصلت القول قليلا فيما يتعلق بهذه المسألة لا لأهمية الاعتراض بل لأن بعض القضايا التي أثرناها في النقاش تستدعي بعض التدقيق من لدن أولئك الذين يستبعدون التصور الدلالي لأسباب إبستملوجية.

19- العناصر الميتافيزيقية التي أدمجت في الدلاليات

        لقد واجه التصور الدلالي اعتراضات نصت على احتوائه على عناصر ميتافيزيقية. وقد كان الغرض من ذلك تعميمها لتشمل الدلاليات النظرية وليس الصدق فقط(32).

        لكن غرضي هنا لا يتحدد في مناقشة المشكل العام الذي يتعلق بمعرفة ما إذا كان إدخال عنصر ميتافيزيقي ما في علم معين يشكل موضوعا للاعتراض؛ وإنما أريد فحص السؤال الذي يتحدد في كيف وبأي معنى يمكن أن نقول بأن المسألة التي نناقشها تحتوي على عناصر ميتافيزيقية؟. يتعلق السؤال أساسا بما نفهمه من ميتافيزيقا"، فنحن نلاحظ أن هذا المفهوم غامض ومشترك. وإذا استحضرنا مختلف المناقشات التي دارت حوله فسيتبين لنا أنه فقد كل معنى موضوعي ليستخدم بنوع من القدح الذي يرتبط بمهنة الفلسفة.

        يعرف بعض الباحثين الميتافيزيقا بأنها النظرية العامة للأشياء (الأنطلوجيا)، إنه مجال تطويره بشكل تجريبي يجعله يختلف عن العلوم الأخرى من جهة عموميته. لكنني لا أعلم بوجود مثل هذا المجال حاليا. (يرى بعض الكلبيين أن من عادة الفلسفة أن تسمي الأطفال الذين لم يولدوا بعد). وإذا كان هذا هو مفهوم الميتافيزيقا فلا يمكن أن نعاتب من تبناه، وليس هناك أي ضرر في أن يرتبط بالدلاليات.

        ينظر أغلب مستخدمي الحد "ميتافيزيقا" إليه كمقابل مباشر -بشكل أو بآخر- للحد "تجربي"، خصوصا مع أولئك الذين يتخوفون من أن يتم إدخال عناصر ميتافيزيقية في العلم. ونلاحظ بأن هذا المفهوم العام للميتافيزيقا يتخذ صورا مختلفة.

        وهكذا يتبنون كأمارة لإقحام عنصر ميتافيزيقي في مجال العلم اعتماده على مناهج لا استنباطية ولا تجريبية. وهنا نقول بامتناع اكتشاف هذه الأمارة في الدلاليات (إلا إذا كانت اللغة الشيئية التي تحيل عليها التصورات الدلالية تتضمن عناصر ميتافيزيقية). وبصفة خاصة فدلاليات اللغات الصورية تبنى وفق طريقة استنباطية خالصة.

        كما يرجع بعض الباحثين الطابع الميتافيزيقي لعلم ما إلى مفرداته وإلى حدوده الأولية بصفة خاصة. وعليه، فنحكم على حد ما بأنه ميتافيزيقي عندما لا يكون لا منطقيا ولا رياضيا ولا يرتبط بأي إجراء تجربي يمكننا من القول بأنه يعين أو لا يعين شيئا ما. ومن هنا، نرى ضرورة التذكير بأن اللغة الفوقية تحتوي فقط على ثلاثة أصناف من الحدود: أ) حدود مستعارة من المنطق، ب) حدود اللغة الشيئية، جـ) أسماء حدود اللغة الشيئية. بمعنى أن اللغة الفوقية لا تحتوي على أي حد ميتافيزيقي غير محدد (إلا إذا تضمنته اللغة الشيئية).

        هناك من يذهب إلى القول بأن عدم احتواء الحدود الأولية للغة ما على حد ميتافيزيقي لا يعني امتناع إدخاله عن طريق التعريفات التي تستند إليها هذه اللغة؛ خصوصا تلك التعريفات التي لا تتمكن من ضبط معايير تسمح لنا بتحديد ما إذا كان شيء ما يدخل أو لا يدخل ضمن التصور المحدد. ويزعم هؤلاء أن الحد "صادق" يصنف ضمن هذا النوع. لكننا لا نتوفر على أي معيار عام للصدق يلزم مباشرة من تعريفه، ونعتقد (بكيفية قابلة للبرهنة) باستحالة اكتشاف مثل هذا المعيار. يبدو أن هذه الملاحظة المتعلقة بالطابع الحالي لمفهوم للصدق مضبوطة. لكن تجب الإشارة إلى أن مفهوم الصدق لا يختلف من هذه الجهة عن العديد من المفاهيم التي ترد في المنطق والرياضيات أو في المجالات النظرية لعدة علوم تجريبية كالفيزياء النظرية مثلا.

        حاصل القول أن استخدامنا للحد "ميتافيزيقا" بمعنى واسع وبكيفية تجعله يتضمن عناصر (أو مناهج) من المنطق أو الرياضيات أو علوم تجربية ينطبق بالدرجة الأولى على المفاهيم الدلالية. وكما أشرت إلى ذلك في البداية فنحن نستند في بناء دلالة لغة ما إلى مفاهيم هذه اللغة وإلى أداة منطقية أقوى من الأداة المعمول بها في هذه اللغة. ومن جهة أخرى، فيمكنني أن ألخص الحجج التي سبق ذكرها بالجزم بأن الدلاليات لا تحتوي على أي عنصر ميتافيزيقي خاص بها ووفقا لكل المعاني التي أعرفها عن التعبير "ميتافيزيقا".

        أريد أن أقدم الآن ملاحظة أخيرة ترتبط بهذه المجموعة من الاعتراضات. فلو استحضرنا تاريخ العلم لتبين لنا وجود عدة حالات نحكم فيها في البداية على تصورات معينة بالقول عنها بأنها ميتافيزيقية (بمعنى واسع وتعسفي للتعبير) وقبل أن نضبط معناها، لكن ما يلبث هذا الشك أن يزول بمجرد ما نضبط هذه التصورات بشكل صوري. ويمكن أن نستشهد على ذلك بالتصورات الرياضية المتعلقة بالأعداد السالبة والخيالية. وأتمنى أن يلقى تصور الصدق وكذا التصورات الدلالية الأخرى نفس المصير. كما أقول لأولئك الذين لا يتقون في هذه التصورات لأسباب ميتافيزيقية بأن عليهم أن يعلموا أنه بالإمكان اليوم إعطاء هذه التصورات تعريفات مضبوطة. وفي الأخير، فإذا كانت التصورات الدلالية قد فقدت أهميتها فهي تسير في نفس التوجه الذي سارت فيه التصورات العلمية الأخرى، وبالتالي فلا يجب أن نتأسف على ذلك.

20- تطبيق الدلاليات على العلوم التجربية

        نصل الآن إلى آخر وربما أهم مجموعة من الاعتراضات. لقد تم التشكيك في إمكان تطبيق المفاهيم الدلالية في مجال العمل الثقافي. وقد انصبت هذه الشكوك أساسا على تطبيق الدلاليات في مجال العلوم التجربية، سواء العلوم التجريبية الخاصة أو المنهجية العامة لهذا الحقل. كما همت شكوك تطبيق الدلاليات على العلوم الرياضية ومناهجها.

        أعتقد شخصيا أنه بالإمكان استبعاد هذه الشكوك وبيان أن تفاؤلنا المتعلق بأهمية الدلاليات وقيمتها بالنسبة لمجالات فكرية معينة ينبني على أسس خاصة.

        سأكتفي بذكر مسألتين: أولهما أن كل نظرية تستهدف تعريف تصور ما بكيفية مضبوطة مع تحديد خصائصه العامة تسعى في نفس الآن إلى تأسيس كل المناقشات التي تدور حول هذا المفهوم. وهو ما لا يمكن لأي شخص يستخدم هذا المفهوم عن وعي وبشكل متسق أن يتجاهله. ثانيا نلاحظ حاليا أن العديد من الحقول العلمية خصوصا العلم التجربي تعتمد على مفاهيم دلالية.

        إن النتيجة التي تنص على أن الأبحاث التجربية ترتبط باللغات الطبيعية فقط، وأن الدلاليات النظرية تنطبق على هذه اللغات بشكل تقريبي فقط لا تغير أساسا من طبيعة المشكل. لكن هذا سيؤخر التطور الذي تشهده الدلاليات النظرية في هذا المجال أو ربما سيحد منه. ولا يختلف هذا الوضع عن ذلك الذي نواجهه في سعينا إلى تطبيق قواعد المنطق على حجاجية الحياة اليومية، أو بشكل عام، عندما نرمي إلى تطبيق علم نظري على المسائل التجربية. نلاحظ أن العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع بدأت تستخدم مفاهيم دلالية يختلف عددها من علم لآخر. إذ نجد عالم النفس مثلا يحدد "نسبة الذكاء" استنادا إلى عدد الأجوبة الصادقة (الصحيحة) والكاذبة (الخاطئة) لشخص ما. ونفس الحال في التاريخ، حيث يمكن لمؤرخ الثقافة أن يهتم بالأشياء التي يحتفظ لها الإنسان عبر تطوره التاريخي بتعيينات كافية. كما يمكن للأديب أن ينشغل بمعرفة ما إذا كان كاتب ما يستخدم دائما كلمتين محددتين بنفس المعنى. إلى غير ذلك من الاستشهادات التي يمكن ذكرها.

        من الواضح أن اللسانيات تشكل المجال الأساسي لتطبيق الدلاليات النظرية-دراسة تجربية للغات الطبيعية حيث نسمي جزء من هذا العلم ب"الدلاليات" (بأن نضيف إليه أحيانا بعض النعوت). وهكذا فقد أطلق هذا الإسم على ذلك الجزء من النحو الذي يهدف إلى تصنيف كلمات لغة ما -حسب ما تدل عليه أو ما تعنيه- إلى أجزاء من الخطاب. كما أن دراسة التطور التاريخي للدلالات يكشف على أنها تسمى أحيانا ب"الدلاليات التاريخية". وبصفة عامة، فكل الأبحاث التي تهتم بالعلاقات الدلالية داخل لغة ما تسكى ب"الدلاليات الوصفية" وعليه، فالعلاقات بين "الدلاليات النظرية" و"الدلاليات الوصفية" شبيهة بالعلاقات الموجودة بين الرياضيات الخالصة والرياضيات التطبيقية، أو بين الفيزياء النظرية والفيزياء التجريبية. كما يمكن مقارنة دور اللغات الصورية في الدلاليات بدور الأنساق المعزولة في الفيزياء.

        ربما ليس من الضروري الجزم بعدم إمكان تطبيق الدلاليات بشكل مباشر على العلوم التجربية مثل الفيزياء أو البيولويا الخ؛ لأن هذه العلوم لا تحتوي على ظواهر لسانية ولا على علاقات دلالية بين التعابير اللسانية والأشياء التي تصفها. لكننا سنوضح في الفقرة الموالية إحتمال أن تؤثر الدلاليات بشكل مباشر في العلوم التي لا تحتوي مباشرة على تعابير دلالية.

21- تطبيق الدلاليات على منهج العلوم التجربية

        إذا كنا نعتبر اللسانيات مجالا أساسيا لتطبيق الدلاليات، فهناك مجال آخر لا يقل أهمية وهو منهج العلوم. وتجب الإشارة إلى أننا نستخدم هذا التعبير بمعنى واسع حتى يشمل نظرية العلم بصفة عامة. فسواء اعتبرنا علما مجردا نسقا من القضايا الخبرية أو مجموعة من الأنشطة الإنسانية، فإن دراسة لغة العلم يشكل جزءا أساسيا من منهج العلوم. وعليه، فكل محاولة تستهدف استبعاد المفاهيم الدلالية (مثل الصدق والتعيين) من هذا النقاش تجعل هذا العلم مجزءا وبالتالي غير كاف(33). أضف إلى ذلك عدم وجود أي مبرر لمثل هذه المحاولة خصوصا إذا تغلبنا على الصعوبات الأساسية التي تقف أمام هذه التصورات الدلالية. وعلى هذا، فمنهج العلم يجب أن يتضمن دلاليات اللغة العلمية كجزء منه.

        من الواضح أنني لست مستعدا للجزم بأن على المنهج والدلاليات خصوصا -سواء الوصفية أو النظرية- أن توضح معاني كل الحدود العلمية لأنني أعتبرها إحدى مهام العلوم التي تستخدم هذه الحدود (كما هو الشأن بالنسبة للدلاليات التي تقوم بتوضيح معنى الحد "صادق"). لكن من الممكن أن نواجه عدة صعوبات تجعلنا في حاجة إلى مقاربة منهجيته التي ستصبح ضرورية في بعض الحالات (يمكن أن نستشهد هنا بمسألة العلمية). وبذلك ستلعب التصورات الدلالية دورا أساسيا في هذا الاتجاه؛ مما سيجعلها تتسع لتشمل كل العلوم.

        يتعلق السؤال الأساسي بمعرفة ما إذا كان بإمكان الدلاليات أن تساهم في حل المشاكل العامة المطروحة والمتعلقة أساسا بالمشاكل الكلاسيكية للمنهج.

        سأبدأ تحليلي للسؤال بتفصيل القول في خاصية ذات أهمية كبرى.

        إن إحدى المشاكل الأساسية التي تطرح على مستوى منهج العلوم التجريبية هو تحديد شروط قبول نظرية أو فرضية تجربية. وأشر هنا إلى ضرورة ربط مفهوم "القبول" بمرحلة زمانية معينة من تطور العلم الذي نبحث فيه (أو بمجموعة من المعاريف التي يقتضيها). بمعنى آخر، فالعلم يتأثر بعامل الزمان. إذ يمكن لنظرية مقبولة حاليا أن تكون غير مقبولة في المستقبل بظهور اكتشافات علمية جديدة.

        من المحتمل أن قبول نظرية ما يتوقف بشكل أو بآخر على صدق قضاياها. وعليه، فعلى صاحب المنهج (الذي أخفقت جهوده حتى الآن) أن يستعين بالنظرية الدلالية للصدق لضبط مفهوم "القبول". ومن هنا، نتساءل: "هل هناك مسلمات تتضمن مفهوم الصدق يمكن أن نفرضها بشكل معقول على النظرية المقبولة؟. لنتساءل بعد ذلك عما إذا كان السؤال الآتي من هذا النوع:

        *- لا يمكن لنظرية مقبولة أن تتضمن أو (تستلزم) قضية كاذبة.

        سنجيب على هذا السؤال بالسلب لاعتبارات متعددة. أولا، نحن متأكدون تبعا لتجربتنا التاريخية أن كل نظرية تجربية مقبولة حاليا لابد أن تستبعد في المستقبل القريب أو البعيد لتعوض بنظرية أخرى.

        ويحتمل أن تكون هذه النظرية الجديدة متنافية مع القديمة؛ بمعنى أنها تستلزم قضية تتناقض مع إحدى قضايا النظرية القديمة. وبموجب ذلك فإحداهما على الأقل تحتوي على قضايا كاذبة، على الرغم من أننا تبنينا كل منهما في فترة زمانية معينة. ثانيا، نلاحظ صعوبة تحقق المسلمة التي ذكرناها على مستوى التجربة. لأننا لا نعلم، ومن غير المحتمل أن نحصل على أي -عدم وجود- معيار للصدق يمكننا من التحقق من أن نظرية تجربية ما لا تحتوي على أية قضية كاذبة.

        يمكن أن ننظر إلى هذه المسلمة كتعبير عن الحد الذي تسعى إليه النظريات الكافية. إلا أنه من الصعب إعطاء هذا القول معنى مضبوطا.

        أعتقد أننا لا نتوفر على مسلمة يمكن أن تخضع لها وبشكل معقول كل النظريات المقبولة والتي تحتوي على مفهوم الصدق. وترتبط هذه المسلمة بالمسلمة التي ذكرناها، بالرغم من أنها أضعف منها. وعليه، فلو جعلنا مفهوم "القبول" يخضع لعامل الزمان لتمكنا من إعطاء هذه المسلمة الشكل التالي:

        *- بمجرد ما نتمكن من بيان أن نظرية تجربية تحتوي على (أو تستلزم) على قضايا كاذبة نتوقف على اعتبارها مقبولة.

        أريد أن أبدي بعض الملاحظات لصالح هذه المسلمة. أعتقد أن الكل سيتفق معي على القول بأن اتساق نظرية تجربية معينة يعتبر سببا كافيا لاستبعادها. فلا يمكن أن نأخذ بنظرية تسمح باشتقاق قضية ونقيضها في نفس الآن. وهنا يمكن أن نتساءل عن الأسباب العادية التي تجعلنا نعتمد هذا المعيار قصد استبعاد نظرية ما. سنقول بأن أولئك الذين تعودوا التعامل مع المنطق المعاصر سيجيبون بما يلي: يمكن الاستناد إلى قانون منطقي معروف للبرهنة على أن كل نظرية تسمح باشتقاق قضية ما ونقيضها تسمح في ذات الوقت بالبرهنة على قضية ما أيا كانت. وعليه، فسنقول عن مثل هذه النظرية بأنها مبتذلة وليس لها أية أهمية علمية.

        أشك في كون هذا الجواب يقدم تحليلا كافيا للوضع. لأنني أعتقد بأن الذين لا يعرفون المنطق المعاصر يميلون أكثر من أولئك الذين تعودوا التعامل معه لقبول نظرية غير متسقة. يمكن لهذه الملاحظة أن تسري كذلك على أولئك الذين يقرون بأن القانون المنطقي الذي يتأسس عليه الحجاج الذي أشرنا إليه يثير ردود أفعال متعددة؛ ويمكن أن ننظر إليه كمفارقة. لكنني لا أعتقد بأن موقفنا إزاء نظرية غير متسقة سيتغير حتى ولو قررنا لأسباب معينة إضعاف نسقنا المنطقي بشكل يحول دون اشتقاق قضية ما من قضيتين متناقضتين.

        وتعود الأسباب الحقيقية لموقفنا هذا إلى عامل آخر. فنحن نعلم (ولو حدسيا) أن النظرية غير المتسقة تتضمن بالضرورة قضايا كاذبة.

        وبالتالي فلا يمكن أن نقبل نظرية يمكن أن تحتوي على مثل هذه القضايا.

        ويترتب عما قلناه أن هناك مناهج متعددة يمكن أن نستند إليها لنبين بأن نظرية ما تحتوي على قضايا كاذبة، بل إن بعضها يقوم على الخصائص المنطقية الخالصة للنظرية. ونشير إلى أن المنهج الذي نناقشه حاليا (أي البرهنة على عدم الاتساق) ليس الوحيد في هذا المجال. إنه يتميز فقط بسهولته وبكونه الأكثر استخداما على مستوى التجربة. ويمكننا الاستعانة ببعض الافتراضات التي تهم القضايا الخيرية لنحصل على مناهج فعالة بدون أن تكون خالصة. ولهذا فلو قررنا قبول المسلمة العامة التي اقترحناها سابقا فسيطرح كل منهج من هذه المناهج صعوبة الدفاع عن النظرية.

22- تطبيق الدلاليات على العلوم الاستنباطية

        نجد أنفسنا في وضع مريح كلما تعلق الأمر بتطبيق الدلاليات على العلوم الرياضية. ومناهجها، أي على "الرياضيات الفوقية"، وذلك بالمقارنة مع العلوم التجربية. فعوض أن نتكلم في هذا الإطار عن متمنياتنا المستقبلية نقوم فقط بالتذكير بالنتائج الملموسة التي حصلنا عليها.

        على الرغم من أننا ما زلنا نشك في أن مفهوم القضية الصادقة -بوصفه يتميز عن مفهوم القضية القابلة للبرهنة- يتوفر على دلالة في الرياضيات وأن بإمكانه أن يحتل وضعا خاصا في المناقشات المنهجية لهذه العلوم، فأنا لا أشك في كونه شكل إحدى المساهمات الأساسية للدلاليات في الرياضيات الفوقية. حيث نجد أنفسنا على مستوى الرياضيات الفوقية أمام مجموعة أساسية من النتائج التي حصلنا عليها بواسطة نظرية الصدق. وتتعلق هذه النتائج بالعلاقات القائمة بين مفهوم "الصدق" ومفهوم "البرهان". فهي تحدد خصائص جديدة لهذا المفهوم الأخير (يعتبر أحد المفاهيم الأساسية في الرياضيات الفوقية)؛ كما توضح لنا المشاكل الأساسية التي يطرحها كل من "الاتساق" و"التمام". وقد تكلمنا عن النتائج الأساسية الحاصلة عن هذه القضايا في الفقرة(12)(34). ومن جهة أخرى، يمكن أن نستعين بالمنهج الدلالي للقيام بتعريف كاف لبعض المفاهيم الأساسية في الرياضيات الفوقية والتي استخدمت حتى الآن بطريقة حدسية – ونقصد مثلا مفهومي "التعريف" و"النموذج" المتعلق بنسق تسليمي. وبهذه الكيفية يمكن أن نتحدث عن دراسة ممنهجة لهذه المفاهيم. إذ نلاحظ بأن الأبحاث التي اشتغلت بمسألة التعريف(35) انتهت إلى نتائج مهمة وتعد بنتائج أخرى في المستقبل.

        لقد ناقشنا مسألة تطبيق الدلاليات في الرياضيات الفوقية وليس في الرياضيات ذاتها. ونقصد من هذا، القول بأن التمييز بين الرياضيات والرياضيات الفوقية يصبح بدون أهمية. لأن الرياضيات الفوقية ذاتها نظرية استنباطية، ومن وجهة نظر معينة جزء من الرياضيات. وكذلك فنحن نعلم -وفق الطابع الصوري للمنهج الاستنباطي- أنه بإمكاننا توسيع النتائج التي نحصل عليها فيما يتعلق بنظرية استنباطية معينة لتشمل نظرية أخرى قابلة لأن تؤول فيها. حيث نلاحظ مثلا إمكان تأويل نتائج الرياضيات الفوقية كنتائج لنظرية الأعداد. وبالتالي فلا يوجد حد فاصل على مستوى التطبيق بين "الرياضيات" و"الرياضيات الفوقية". ودليلنا على ذلك هو أن الأبحاث الخاصة بمفهوم التعريف يمكن أن تهم هذا المجال أو ذاك.

23- ملاحظات أخيرة

        أريد أن أنهي هذه المقالة بملاحظات عامة تهم قضية تقويم النتائج العلمية من جهة تطبيقها. لكن سأشير في البداية إلى أن بعض الشكوك تنتابني فيما يتعلق بهذا الميدان. فقد سمح لي تخصصي كرياضي وكمنطقي (وربما كفيلسوف) بحضور عدة مناقشات بين اختصاصيين في الرياضيات التي نعلم بأنها تطرح مشكل التطبيق بشكل أعوص. وقد وقفت مرارا عند الظاهرة الآتية: عندما يريد رياضي ما أن يقلل من أهمية أبحاث أحد زملائه، لنقل (س)، فالوسيلة الفعالة لتحقيق ذلك هي أن يسأله عن مجال تطبيق أبحاثه. وأمام هذا الوضع المحرج لا يجد (س) مخرجا لهذا سوى الإحالة على أعمال رياضي آخر لنقل (ع) كمجال لتطبيق نتائجه. وإذا طرحنا سؤالا مشابها على (ع)، فإن ما يقوم به هو الآخر هو الإحالة على أعمال رياضي ثالث لنقل (ص)، كحقل لتطبيق نتائجه. وبعد محاولات من هذا النوع، نجد أنفسنا أمام إحالتنا من جديد على (س) لتغلق الدائرة.

        لا أريد أن أنفي أن قيمة عمل شخص ما يمكن أن يتطور بفعل أهميته بالنسبة لأبحاث الآخرين حتى على مستوى التطبيق، لكنني أعتقد أن قياس أهمية بحث ما باعتماد إمكانات تطبيقه يضر تطور التاريخ. فتاريخ العلم يكشف عن العديد من النتائج والاكتشافات التي انتظرت عدة قرون قبل أن تجد مجالا تطبق فيه. ولابد من الإشارة هنا إلى وجود عوامل أخرى ذات أهمية كبرى بالنسبة لتقدير قيمة البحث العلمي. أعتقد أن هناك مجالا خاصا ورغبات إنسانية قوية ترتبط بالبحث العلمي وتتشابه من وجوه عدة مع الرغبات الجمالية وربما الدينية. كما أعتقد كذلك بأن تحقيق هذه الرغبات يشكل إحدى المهام الأساسية للبحث. فلا يمكن أن نجيب بشكل كاف عن السؤال المتعلق بقيمة بحث ما إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الاستجابة الثقافية التي تقدمها نتائج هذا البحث للمهتمين. أرى إذن أنه من غير المعقول تقدير نتيجة علمية تمكننا من معرفة العلم وتبنيه بشكل منسجم بكيفية أقل من تقديرنا لاختراع يقوم بتخفيض تكاليف بناء الطراقات أو يعمل على تطوير الإقامات السكنية.

        من الواضح أن هذه الملاحظات التي ذكرناها لن تكون موفقة إذا أخذنا كلمة "تطبيق" بمعنى واسع.

ترجمة حسان الباهي كلية الآداب-فاس

Alfred Tarski : The sementic conception of truth and the foundations of sementies. In sementics and the philosophy of language. Edited by Leonard Linsky university of Illinois press. Urbana. Chicago. London. 1972.

        هوامش:

22) أنظر الأمثلة التي ذكرها "نيس" [1]، ص.13.

23) لن أذكر أسماء الأشخاص الذين أثاروا هذه الاعتراضات إلا إذا كانت غير منشورة.

24) فيما يتعلق بما نزعم أنه "دور" فالوضع لن يتغير حتى ولو تبنينا وجهة نظر أخرى؛ مثل تلك التي تحدث عنها "كارناب" [2]. بمعنى ولو اعتبرنا شروط صدق قضايا لغة ما جزءا أساسيا لوصف هذه اللغة. نريد أن نشير من جهة أخرى إلى أن اقتراحنا لا يستبعد احتمال اعتماد جداول الصدق في كل دراسة استنباطية للمنطق. ومع ذلك، فيجب اعتبار هذه الجداول مجرد أداة صورية للتحقق من إمكان البرهنة على بعض القضايا. ولا يجب أن نعطي ل"ص" أو "ك" أي تأويل حدسي.

25) أنظر "جوس"، [1]. أعترف بأنني لم أفهم بما فيه الكفاية اعتراضات "جوس"، ولا أدري أين أصنفها. كما أعتقد أنه لا يعرف التعريف الذي اقترحته للصدق. فهو يحيل فقط على عرض اخباري قدمته في "تارسكي" [3] والذي لم أعرف فيه الصدق. ولو علم بالتعريف الحالي لغير موقفه. لكن يمكن أن يكتشف كذلك بعض عيوب هذا التعريف لأنه برهن على أنه "من المستحيل مبدئيا تقديم مثل هذا التعريف.

26) نستخدم التعابير "صادق" و"ب هو كذلك" (أو "من الصادق أن ب" أو الحال أن ب كذلك") في بعض المناقشات التي نقوم بها خارج القواعد العادية التي نستخدمها لأسباب أسلوبية. لكننا نعتبرها كمرادفات ل "ب". لكن وضعها لم يسمح ل"جوس" من استخدامها كمرادفات ل"ب". كما أن تعويض (ص) ب (ص*) أو (**) لا يقدم البحث في شيء.

27) انظر "ككوزنسكي" [1]، ص.161.

28) يرى أغلب دارسي تصور "الصدق" بأن تعريفي يطابق التعريف الكلاسيكي لهذا المفهوم. أنظر على سبيل المثال "كوتربنزكي"، [2] و"شولز" [1].

29) راجع "نيس". لم أناقش هنا نتائج أبحاثه المتعلقة بهذه المسألة. أنظر الهامش 1 ص.148.

30) على الرغم من أنني سمعت هذا الموقف فلم أطلع عليه مكتوبا إلا مرة واحدة. واندهشت لذلك لأنه ورد في كتاب لا يحمل أي طابع فلسفي، وأقصد "هلبرت-برنايس: [1] مجلد2، ص.269 (ولم يتم تقديمه كاعتراض).

31) أنظر "غونست" [1]، ص.187.

32) أنظر "نيغل" و"ونبورغ".

33) نجد هذا التوجه في الأعمال السابقة ل"كارناب" (أنظر كارناب [1]، خصوصا الجزء 4)، وبعض كتابات حلقة فيينا. أنظر "ككوزنسكي"، [1] "ونبورغ" [1].

34) فيما يتعلق بالنتائج الأخرى التي حصلنا عليها بواسطة الصدق، أنظر "غودل" [2] و"تارسكي" [2]، ص.401، وكذلك "تارسكي" [5]، ص.111.

35) نقول عن شيء ما -عدد أو متوالية من الأعداد- بأنه قابل للتعريف (في نسق صوري) في حالة تعريفه بواسطة دالة قضوية. أنظر الهامش 20. ولهذا فالحد "قابل للتعريف" بالرغم من أنه ينتمي إلى "الرياضيات الفوقية" (الدلاليات) فهو رياضي، كما هو الحال بالنسبة لما صدقه الذي يعبر عن خاصية الأشياء الرياضية. وعليه، فيمكن إعادة تعريف تصور التعريف بحدود رياضية خالصة، بالرغم من استحالة تحقق ذلك في المجال المصورن. ولهذا فالفكرة الأساسية للتعريف لن تتغير. أنظر في هذا الصدد وكذا فيما يتعلق بإحالات مرجعية أخرى "تارسكي" [1] يمكن أن نجد في هذه المراجع نتائج أخرى تهم التعريف. أنظر "هلبرت-برنايس" [1] الجزء 1، ص.354 و369 و456، إلخ،  وكذلك "لندنيوم-تارسكي" [1]. يمكن أن نشير كذلك إلى أن الحد "معرف" يستعمل أحيانا بمعنى ينتمي إلى "الرياضيات الفوقية" (لكن غير دلالي). وهذا ما نلاحظه مثلا عندما نقول بأن حدا ما يعرف بواسطة حدود أخرى. أما فيما يخص تعريف نموذج نسق تسليمي فأحيل القارئ على "تارسكي" [4].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق