احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

هوسرل جيرار غرنيل

ترجمة الطيب بوعزة

        إن هوسرل هو بكل بساطة أكبر فيلسوف ظهر منذ الإغريق، وتبقى لهذا الحكم قيمته حتى دون اعتبار لوجهة نظر الفينومينولوجيين، وتبقى كذلك أيضا على الرغم من موقف المعارضين للفينومينولوجيا، لأنه يأخذ في تأليف مؤسس الفلسفة الفينومينولوجية دلالة عامة وبعدا تاريخيا يؤشران على أفق أبعد مما يحمله هذا التأليف ذاته، بما هو أيضا وبالفعل تجسيد لفلسفة من بين فلسفات لها مواطن قوتها وضعفها، ذلك لأنه يأخذ، في إنتاج مؤسس للفينومينولوجيا بشكل عام، بعدا أبعد مما يحمله هذا التأليف من "حدود" خاصة بفترة وبرجل وبمدرسة. إن هذا الحكم هو بالفعل يشير ويعترف بما في الفينومينولوجيا من جهد لجعل الإنسانية الحديثة قادرة على ما لم تكن أي إنسانية أخرى قادرة عليه: أي قادرة على الحياة ذاتها كحياة داخل "الفلسفي" وبه، بمعنى داخل وبواسطة المسؤولية الراديكالية، المسؤولية إزاء "الحقيقة" والكينونة، أي مركز ومنبع توحيد كل ممارسة وكل نظرية كيفما كان المستوى الذي تنتميان إليه.

        وهذا المشروع الهوسرلي هو، من جهة الهدف السابق ذكره، أي إقدار الإنسانية فيما يخص مسألة الكينونة، ما تم أخذه من جديد، ولكن خارج الفينومينولوجيا، من طرف هيدغر. وهذا الخلف الهيدغري يجد دلالته في ذلك الاصطدام التقليدي بين عدم التفهم الأبوي من جهة، والخيانة الأوديبية من طرف الخلف من جهة أخرى. وباختصار إن هذا التعاقب هو نفسه تعاقب "إغريقي" وتراجيدي تماما، وهو بلاشك الأمر الوحيد الذي يهم هنا. ولكنه بالتأكيد، ليس الأمر الوحيد الذي يظهر في الحياة العقلية العامة، أي داخل الوسط الثقافي والجامعي. فكثيرون هم، أو هم بالأحرى عدد لا يحصى من الفلاسفة الذين يرجع الفضل إلى هوسرل في إيجادهم الوسيلة والشكل والطريق واللغة ليكونوا فلاسفة، وذلك في فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والعشر سنوات التالية للحرب العالمية الثانية. وهذا يصدق عن ماكس شيلر (في كتابه "النزعة الصورية في الأخلاق" (1916)، وإلى مرلوبونتي مرورا بأوجين فنك، وإيمانويل ليفانس، وسارتر في مرحلته الأولى، دون الحديث عن أجيال من طلبة الفلسفة الذين قرؤوا هوسرل من 1930 إلى 1955 كما قرأ هيجل من 1806 إلى 1835. إلا أن هوسرل يمر اليوم بنوع من التطهير أو بالأحرى يتعرض لنوع من المحو الخفي الذي يصيب كما نعلم حتى أعظم المؤلفات، ولكن لا نعلم بالضبط الفترة والمدة التي يستغرقها. إلا أن زمن السقوط والانعزال السلبي لا يعني سوى الإرهاص بحدوث تحول نحو قراءة جديدة للفينومينولوجيا، قراءة بعيدة عن أي تمذهب مدرسي، وبعيدة عن أي رفض متحزب، قراءة تبحث الآن في سياق تفكيك قبر الفينومينولوجيا، هذا التفكيك الذي يتسم بنوع من التقوى، هو بالضبط بحث يتم في محيط هذا الفكر الإغريقي.

1- من الرياضيات وفرانز برنتانو إلى الفينومينولوجيا:

        ولد إدموند غوستاف ألبرت هوسرل في (بروسنيتز prossnitz النمسا-هنغاريا) من أدولف أبرهام هوسرل وجولي سيلنجر اللذين هما معها من أصول يهودية. وبعد دراساته الثانوية في Deutsche Staatsgymnasium بأولموتز OLMUTZ سيتابع في 1876-1877 ولمدة ثلاث دورات بجامعة ليبزغ دروسا في الفزياء والرياضيات، والفلك، والفلسفة، وابتداء من أبريل 1878 سيدرس بجامعة برلين، لمدة ست دورات، الرياضيات، بشكل خاص، بالإضافة إلى الفلسفة، وقد كان ليوبولد كرونكر Léopold Kronecker وكارل فيستراست Karl Weierstrass من بين أساتذته. وفي مارس 1881 سيتابع تعليمه في فيينا حيث سيحصل على لقب الدكتوراه في الفلسفة تحت إشراف ليو كنغسبرغ Knigsberger، في نوفمبر 1882 على رسالته المعنونة ب"مساهمة في نظرية حساب المتغيرات". ليعين خلال دورة صيف 1883 في منصب أستاذ مساعد للأستاذ فيستراست Weierstrass ببرلين. لكنه ابتداء من 1883-1884 سيرجع إلى فيينا لمتابعة دراسته في الفلسفة على يد فرانز برنتانو الذي سرعان ما سيرتبط به هوسرل ارتباطا فكريا. وفي الثامن من أبريل 1886 سيعتنق هوسرل المسيحية وينضم إلى الكنيسة اللوثرية الإنجيلية حيث سيحصل على التعميد في فاتح غشت من نفس السنة. وفي أكتوبر، ونزولا عند طلب فرانز برنتانو سيلتحق هوسرل بكارل شتمف Carl Stumpf في جامعة هال حيث سيكمل خلال عام واحد رسالته الثانية للدكتوراه بدراسته حول "مفهوم العدد". وفي السادس من غشت 1887 سيتزوج بمعلمة من أصل يهودي كانت، هي أيضا، قد اعتنقت المسيحية منذ مدة قصيرة، إسكها مالفينا ستيشنيدر Malvina Steinschneider التي سيكون له معها ثلاثة أطفال. وفي الرابع والعشرين من أكتوبر 1887 سيلقي درسه الافتتاحي بجامعة هال حول "غايات ومهمات الميتافيزيقيا". ومن صيف 1887 إلى 1894 سيدرس بصفة أستاذ privatdozent بجامعة هال حيث سيتم تسميته أستاذا برسم شخصي personnel à titre professeur في فاتح غشت 1894 وفي سبتمبر 1901 ستنادي كلية الفلسفة بجامعة غوتنغن على هوسرل لتعيينه كprofessor extraordinarius بيد أن هذه الكلية نفسها سترفض في ماي 1905 تمتيعه بلقب professor ordinarius بدعوى "نقص في تأهيله العلمي". غير أنها ستمنحه هذا اللقب في يونيو 1906. وفي فاتح أبريل 1916 سيتم المناداة عليه كأستاذ ordinarius من طرف جامعة فريبورغ حيث سيخلف هنريخ رايكارت. وكان موضوع درسه الافتتاحي في الثالث من ماي 1917 معنونا ب"الفينومينولوجيا الخالصة: موضوعها ومنهجها". وبتسميته مستشارا سريا لمحكمة باد BADE من طرف الدوق الأكبر سيمنح هوسرل في الثالث من غشت 1919 لقب الدكتوراه الفخرية من طرف جامعة بون. وقد كان الأمل يراود هوسرل في المناداة عليه من جامعة برلين في يوليو 1923 ليخلف إرنست ترولتش Ernst Troeltsch أنه لن يحصل على هذا المنصب إلا في 23 مارس 1928 فيصبح professeur honoraire وسيكون مارتن هيدجر هو خلف هوسرل في هذا المنصب. وفي مارس 1933 سيشطب هوسرل من قائمة الأساتذة بسبب أصله اليهودي. غير أن هذا الاستعباد سيتم تعليقه بسبب كونه قد فقد، من أجل ألمانيا، أحد أبنائه في الحرب العالمية الأولى. إلا أنه سيستعبد نهائيا في سنة 1936. وفي سن التاسع والسبعين سيموت هوسرل بمدينة فريبورغ.

2- هوسرل الإغريقي: الدلالة الأساسية للفينومينولوجيا:

        لنقتطف في البداية، كلمات لهوسرل من آخر كتبه "أزمة العلوم الأوروبية" 1936، كتاب "الوصية" testament لمفكر لا يوصي بشيء غير الوصية ذاتها، أي لا يوصي إلا بذلك "التحالف" الذي كان يتحدث دائما انطلاقا منه، والذي عنه تحدث "من خلال" كل الموضوعات والأبحاث التي خلفها في ذلك الكم الهائل من تأليفه، أي التحالف بين الحقيقة والإنسانية: يقول هوسرل: "أن ندفع بالعقل الكامن إلى فهم قدراته الخاصة، وأن نفتح على هذا النحو أمام نظرنا إمكانية ميتافيزيقا بما هي إمكانية حقيقية فهذا هو وحده المسار الذي يمكن أن نوجه فيه ذلك العمل الضخم الذي يستهدف تحقيق ميتافيزيقا ما، أو بتعبير آخر تحقيق فلسفة كلية. وهكذا سيتم البث في مسألة معرفة هل التيلوس الذي ولد بالنسبة للإنسانية الأوروبية مع ميلاد الفلسفة الإغريقية، تلك الإنسانية الراغبة في أن تكون نابعة من العقل الفلسفي، والتي لا يمكنها إلا أن تكون كذلك- في سياق الصيرورة اللانهائية حيث يمر العقل من حالة الكمون إلى حالة الظهور، مع نزوع لانهائي نحو حالته السوية بفضل الحقيقة والأصالة الإنسانية التي يتميز بها هل كان -هذا التيلوس- مجرد هذيان ساذج لواقع قابل للتعيين تاريخيا، وإرثا عرضيا لإنسانية عرضية، ضائعة وسط إنسانيات وتواريخ أخرى، أم على العكس، إن ما تفتح لأول مرة في الإنسانية الإغريقية هو بالأحرى هذا الذي كان ك"كمال أول" محايثا ماهويا في الإنسانية بما هي كذلك "(Die Krisis der europنischen)6§ Wissenschaften ?6).

        إن أسوأ طريقة للتعامل مع نص كهذا هو إخفاء ما يثيره فينا، قراره التاريخي القوي، من خوف يظل يعتما بداخلنا رغم مختلف "أشكال الاستعلاء" التي نحس أننا قادرين على ممارستها تجاهه وتجاه التأليف الهوسرلي بأكمله. وخاصة أن لدينا اليوم كل الوسائل التي تكفينا، ليس فقط لكي لا نوافق على الخلط بين عمل الفلسفة -حتى إذا استمررنا في استخدام هذا اللفظ القديم- وعمل العقل، بل لدينا كل الوسائل التي تكفينا لكي نمسك، قبل ذلك، داخل تلك الصفة اللانهائية لهذا العمل العقلي المتمظهر -أي صفته ك"تتابع" خالص وبسيط لمشروع لامتناهي- نمسك بالوجه السلبي لهذه الصفة اللانهائية في معنى آخر أكثر راديكالية، أي في معنى اللاتحديد الأصيل. وبالارتفاع إلى مستوى وضوح العبارة الشهيرة التي أطلقها كانط في لحظة كان فيها مبدأ قانونية النقد لا يزال غامضا، تلك العبارة التي تقول: إن "الحقيقة" ليست سوى "كلمة جذابة"، سنكون بهذا الارتفاع قادرين أيضا على أن نضرب هوسرل عرض الحائط بمفهوم كهذا، مفهوم غامض، كان هو نفسه، في الواقع، بدل تضخيمه، يعمل على تذليله وتمهيده إلى أقصى حد، بمعنى إلى المستوى المطلق لفكرة "الأبودكتيكية" (أو الحضور الخالص).

        إننا باختصار علماء أكبر بكثير وأقوى مما كان عليه هوسرل، لأننا أكبر مما كان بإمكانه هو أن يكونه. والأمر هنا لا يتعلق باختلاف بين الأشخاص بل باختلاف بين أعمار الإنسانية، أي باختلاف بين عصور ينتمي إليها الأشخاص مع مجموع إنتاجاتهم وكفاءاتهم، فالبعض محدد والآخر مستخدم ضمن حدود أساسية، التي هي حدود "لعبة الممكن" التي لا أحد بمناسب لها، ولا أحد بقادر على خرقها، بل حتى حرية الفكر نفسها هي هنا ملتبسة بلعب هذا اللعب. فلا ماركس، ولا فرويد، ولا دي سوسير، ولا حتى نيتشه، ولا هيدغر (لكي نجعل من كل هذه الأسماء العلامات المحددة لقواعد وحدود عصرنا ولعبنا، بمعنى لعصر وللعب يحددان "النحن" كما يحددان ما لهذا "النحن" كل هؤلاء لا يسمحون إلا بأن نستعيد شيئا من الانتباه إلى الرسالة التي عاش ومات من أجلها هوسرل. فشبكة الاقتصاد، واللاشعور، واللغة، والتفكيك، والاختلاف ليست فقط يستحيل عليها أن تتصل بالروابط النهائية لشبكة الشعور والمثالية، والبناء، والحضور، ولكنها أيضا تفكك في تقلبات قوتها الخاصة الروابط الأصلية لهذه الشبكة، ومبادئها حيث تعترف، ابتداء، بنتاج وخلفية نسيج آخر منسي، وتغمر آفاق تلك الشبكة، وتغطيها، وتوقف حتى حركة سيرها، وتستبعد آلهتها وتحولها إلى مجرد تماثيل تافهة. وهكذا أصبح اليوم أن تكون هوسرليا ليس له من المعنى أكثر من معنى أن تكون لايبنزيا أو أرسطيا، وبغياب هوسرل خلال سنوات الخمسينات أصبح من البدهي أن كل ميتافيزيقا، وكل الميتافيزيقا، قد تم إسقاطها من عليائها، فسماء جديدة من الانشغالات قد امتدت في كل اتجاه، سماء ذات ليل لامع ورقم غامض مجهول.

        فما الذي يمكننا فعله غير الاعتراف بهذا الغياب، وبالاقتصار على اللف من حول المحور، الذي على الرغم من كل التقدير الذي أحيط به مرلوبونتي مثلا -والذي بفضله تحديدا تمتعت الفلسفة وخاصة فلسفة هوسرل بدفق كامل في السنوات القليلة الماضية- ثمة فراغ كبير وأكثر حسما من موت مرلوبونتي المفاجئ، والذي يبدو أنه كما لو كان ينادي عليه. وعندما تدور عجلة العالم، وعندما يتصاعد بدفق قوي أولئك المنتصرون الكبار والصغار مع سيولة لغة جديدة، فإن كل النازلين سواء كانوا كبارا أو صغارا، أحياء أو أمواتا، هم أموات على أي حال.

        وعندما يكون هذا صحيحا، وكل هذا صحيح على نحو ما، فإننا كنا من قبل وخلال كل ما قلناه مسبوقين بنص هوسرل، فالجيل واختلاف الأجيال، المدرك هنا بمعناه كوضع يقود الجميع بالضبط، وينجز الأمر المحتوم، هما بالضرورة جيل واختلاف أجيال الإنسانية، وليس اختلاف أعمار أشخاص، ولا هو ذلك الاختلاف الذي يحدثه هذا التطور أو ذاك داخل محتوى مجال معرفي معين، أو محتوى ممارسة معينة، ولا هو بطبيعة الحال اختلاف في ظواهر الموضة. وإن كل ما قلناه هو إما التباس مسكون بإدعاء الاستعلاء المزعوم، وإما تعداد لعدد من أسماء الأعلام التي كشف بالفعل أن "بيننا" وبين الفينومينولوجيا مسافة تغيرت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق