احدث المواضيع

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

مدخل لباب الانساني بين الوحدة والكثرة ج 1

ما الإنسان؟
ليس سؤال الإنسان عن ذاته بالسؤال المستحدث أو بالسؤال المصطنع.
ليس بالسؤال المصطنع من جهة كونه يتعلق بخصوصية الوضع الإنساني، باعتباره وضع يرتبط بتلازمه مع خاصية الوعي الذي يرتبط بهذا الوجود ،وعي يستشعر من خلاله الإنسان حاجته للمعرفة: معرفة ذاته، وموضع هذه الذات في الوجود. إن السؤال الذي يقود إلى هذا الوعي لا يعبر مطلقا عن ترف فكري (ذلك ما تشهد به على الأقل تاريخية الوضع الإنساني إذ حضر سؤال الإنسان عن ذاته ووضعه منذ بدايات تشكل الوعي الإنساني وفي لحظة، مازال فيها، خاضع بشكل مطلق لمحيطه الطبيعي، يصارع من اجل حفظ بقائه و ضمن الشروط الدنيا لحفظ البقاء ) وإنما ، يعبر طرح هذا السؤال، عن حاجة ملحة لتحصيل اليقين والاطمئنان معرفيا ووجوديا؛ اطمئنان لا يستقيم وجود الإنسان دون تحققه. إن تجربتنا الشخصية، ذاتها، تثبت لنا إن مناسبات طرح السؤال غالبا ما اقترنت بأشد تجاربنا مأساوية وحدة. ذلك أن السؤال عن معنى وجودنا وغايته، وعن مصيرنا، وعن القضاء والقدر، وعن الموت غالبا ما يتشكل ضمن لحظات قلق وجودية ترتبط بالقلق والحيرة والخوف، كنتيجة للشعور بالمرارة والعجز والإحساس بالفشل. ( أنظر قصيدة الشاعر إليا أبو ماضي " لست أدري" مثلا) فيكون طرح هذه الأسئلة ومحاولة البحث عنها، في بعض وجوه، بمثابة البحث عن استعادة حب الحياة ذاتها، وإرادة الاستمرار فيها.
وسؤال الإنسان عن ذاته ليس بالسؤال المستحدث ،كذلك،من جهة كونه سؤال ينغرس في عمق الوعي البشري وهو ما يشهد عليه مضمون الفكر الأسطوري؛أول أشكال الوعي البشري وأقدمها. بل لعل الوعي الإنساني، ذاته، ما كان انبجاسه غير استجابة وتقاطع مع هذا السؤال ؛ذلك ما يشهد عليه، صراحة ، مضمون هذه الأساطير( أنظر أسطورة قلقامش:الوضعية الاستكشافية الثانية في الكتاب المدرسي).لا يتعلق الأمر بالأسطورة وحدها فالحال ذاته بالنسبة لمختلف أشكال الوعي البشري الأخرى من فن ودين وفلسفة وعلم؛ إذ يضل محور الاهتمام فيها جميعا الإنسان، رغم فروق أوجه الاهتمام وكيفية تناول السؤال وطبيعة الجواب المفترض له.
أمام هذا الإقرار بكثافة حضور سؤال ما الإنسان داخل كل أشكال الوعي البشري، وعلى امتداد كامل تاريخ هذا الوعي، يفترض بنا أن نتساءل عن وجاهة وخصوصية المقاربة الفلسفية لهذا السؤال؟ إن إقرارنا منذ البداية بكون سؤال الإنسان عن نفسه ليس بالسؤال المستحدث أو المصطنع في تأكيد بتعلق السؤال بكامل التجربة الإنسانية في مختلف أشكالها وتجلياتها، يفترض أن السؤال ليس سؤالا فلسفيا خالصا، تتميز به الفلسفة وتحتكره، غير أن ما يجب الانتباه إليه كذلك أن هذا الاشتراك ما بين الفلسفة ومختلف أشكال الوعي البشري، لا يفيد مطلقا تماثل حيثيات طرح السؤال ما بين الفلسفة وبقية أشكال الوعي الأخرى.
يتعلق الأمر باختلافات، قد تتفاوت درجتها ما بين الفلسفة وأحد أشكال الوعي كل على حدة، كما معها جميعا، لكنها تضل في كل الحالات اختلافات أساسية ترتبط بخصوصية الخطاب الفلسفي ذاته.
يمكن أن نرد هذا الاختلاف الأساسي، إلى خصوصية، وطبيعة الخطاب الفلسفي ذاته. تتجلى هذه الخصوصية في مستويات متعددة، غير أنها تدور جميعا حول مفهوم الكلي. إن ما يكسب الفلسفة خصوصيتها كنمط من التفكير، ليس في مسألة الإنسان فقط، ولكن فيما يعود على مجمل خطابها وقضاياها، إنما تشكل هذا الخطاب حول مفهوم الكلي؛ الكلي كمبدأ للتعقل والكلي كمطلب والكلي كرهان.
ضمن أية حدود يتشكل الكلي كمبدأ ومطلب ورهان في إطار التفكير في الإنسان؟
يتعلق الأمر بداية بتجاوز البداهة الخادعة التي تجعلنا نستشعر وضوح وبداهة الجواب عن السؤال. بداهة زائفة وخادعة من جهة ارتباطها بالتجربة الحسية والذاتية المباشرة، إذ تنتهي هذه التجربة إلى إثبات وجودنا وتحديد لحقيقة هذا الوجود من خلال ما نستشعره من وحدة وتواصل ومباشرة حضور " الأنا" في خضم تجربة اليومي ، وهو إحساس بحضور وبداهة هذه الأنا يجد إثباته في تماسك هذا الحضور رغم تغير حالات الأنا النفسية والجسدية وأشكال ارتباطها باليومي.
تبرز المغالطة التي يقوم عليها هذا التحديد في إرجاع السؤال عن الإنسان إلى مستوى وجود حسي وجزئي ومباشر ، يرتبط بتجربة وخصوصية تتقوم بما هو انفعالي وذاتي، من جهة أولى؛ ذلك إن كان هذا الرد وإن كان يقول لنا شيئا عن " زيد " أو عمر" بغض النظر عن قيمة ما يقوله ، فان زيد أو عمر لا يمكن أن يدللا على ما يمكن أن يكون عليه الإنسان بإطلاق، الذي هو مطلبنا.
أما من جهة ثانية فالمغالطة الثانية التي يقوم عليها مثل هذا التحديد فتتعلق بالتناقضات التي تحكم هذا الموقف ذاته. إن النظر إلى الإنسان بما هو ذات متعينة في فرد بعينه ، مع افتراض وحدة وثبات أناه، وفي نفس الوقت ربط هذا الوجود بتجربة اليومي مع ما تفترضه من تقاطعات وعلاقات وثيقة بالعالم والآخر والجسد، يغفل عن تحديد مقومات هذه الأنا من جهة علاقتها بهذه المحددات التي يرتبط وجود الفرد بها.
يتعين الإحراج في نهاية الأمر، إن عمدنا إلى إعادة صياغة الاعتراضات السابقة صياغة فلسفية، بالتساؤل عن حقيقة هذه الأنا بين حدي " الوحدة والكثرة"؛ وحدة تتجلى فيما أستشعره من وحدة أنايا واستمرارها وثباتها رغم تغير أحوالها، وكثرة تتجلى في ارتباط وجود هذه الأنا بأكثر من مجال ومستوى وعلاقة.. لا يتعلق السؤال عن حقيقة الأنا بين الوحدة والكثرة بالسؤال عن أنا فردية وعينية، ولكن بالبحث عن مقومات الوجود الإنساني ذاته. وبعبارة أكثر دقة ومباشرة يتعلق السؤال بتحديد ما يشكل حقيقة الإنسان من جهة تعيين ما يتمايز/يختلف به بشكل مطلق عن الوجود الحيواني، فيكون هذا التمايز هو أساس وضع الخط الفاصل بين الوجود الإنساني من جهة والوجود الحيواني من جهة ثانية.
لا يتعلق السؤال، بالسؤال إذن عن أنا فردية وعينية وإنما يتعلق بالسؤال عن " الإنساني". يجب أن ننتبه في هذا المستوى إلى وقوع تحول أساسي في مستوى صياغة السؤال عن الإنسان من التفكير في مسألة الإنسان إلى التفكير في "الإنساني". فما هو مبرر هذا التحول في الصياغة؟ وماهي استتباعات هذا التحول في تحديد خصوصية ورهان الاستشكال الفلسفي للتفكير في الإنسان؟
ارتبط السؤال الفلسفي تقليديا عن الإنسان بصياغة مخصوصة تسأل عن الإنسان اعتمادا على صيغة " ما هو الإنسان؟"، صياغة ستجد تعبيرها النهائي في التحديد الكانطي لرهان الفلسفة وسؤالها الأساسي الذي ترجع إليه بقية الأسئلة في سؤال " ما الإنسان؟". تفترض هذه الصيغة التفكير في الإنسان من جهة الماهية واثبات ماهية مطلقة ومتعالية للإنسان. غير أنه ومنذ لحظة هيقل المرتبطة بالتفكير في الإنسان في علاقة بالعالم والآخر سيصبح هذا التحديد الماهوي القائم على الصياغة الميتافيزيقية لسؤال " ما هو الإنسان؟" صياغة لا شرعية من جهة كونها لا تقبل التفكير في الإنسان ككثرة ايجابية.بذلك ستستعيض الفلسفة عن الصياغة الكانطية للسؤال عن الإنسان " ما هو الإنسان؟" إلى صياغة مستحدثة للسؤال هي صياغة " من هو الإنسان؟" صياغة، كما سنرى، ستسمح بالتفكير في الإنسان من جهة الكثرة المنفتحة وليس الوحدة المنغلقة ، من جهة شروط وكيفيات تحقق الوجود الإنساني فعليا وواقعيا وليس النظر إلى ما يجب أن يكون عليه الإنسان. على هذا الأساس فان اعتماد مفهوم الإنساني عوضا عن صياغة أولى، تسأل عن الإنسان بإطلاق، إنما يحيل إلى هذا الوعي بما يكتنف المسألة من غموض وتعقيد. وهي محاولة لتشريع البحث في الإنسان انطلاقا من صياغة محايدة تحاول استشكال كلا المقاربتين للتفكير في الإنسان والتثبت من إمكان الارتقاء بالوجود الإنساني إلى مستوى الكوني وتحديد صعوبات واحراجات هذا المطلب.
إن ربط مطلب الكلي بالإنساني، وان بدا انه يتقدم بنا خطوة حاسمة في اتجاه مقاربة سؤال ما الإنسان، فانه لا يخلو من استشكال حين يكون حدي "الإنساني" تقابل مفترض بين "الوحدة" و"الكثرة".
إذا كان معنى" الإنساني" يمكننا أن نتجاوز، لحظة، تعقيدات التردد بين صيغتين مختلفتين للسؤال عن الإنسان ؛بين صيغة "ماهو الإنسان؟" ذات الطابع الماهوي والأفق الميتافيزيقي الكلاسيكي،وصيغة "من هو الإنسان؟"الأكثر معاصرة، فان ربط الإنساني بحدين يفترض فيهما التقابل وليس التقاطع؛"الوحدة" من جهة و"الكثرة" من جهة ثانية،يحيلنا إلى مزالق لا تقل حدة نظرا لما يترتب عن استتباع هذا التقابل على تحديد دلالة الكلي/الكوني سواء تعلق الأمر باستتباعات معرفية أو خاصة ايتيقية قيمية تتعلق بما سبق وان حددناه من رهان مركزي لمقاربة الفلسفة لمسالة الإنسان وتحديدا تعيين شروط العيش المشترك.
إن ربط الكلي بالوحدة يربط "الإنساني"بما هو جوهري؛ فالإنساني يتعين كجوهر قائم بذاته؛ مطلق وثابت وهو تصور الإنسان الذي طبع تاريخ الفلسفة منذ الفلسفة اليونانية إلى حدود لحظة الحداثة مع هيقل ، "حيث أنّ النفس لدى اليونان، مثلها مثل "الذات" أو "الأنا" لدى المحدثين، هي "جوهر" قائم بنفسه، أي هو "حامل" منطقي وأنطولوجي لصفات أو أعراض متعددة لا توجد إلا به، في حين أنّه هو مستغن عنها في استمرار وجوده لأنها ليست من مقومات ذاته".بذلك فان الإنسان يتقوم بماهيته وينظر إليه من جهة هذه الماهية التي يحملها. مقابل هذه الماهية، والتي سواء تعينت كنفس عاقلة عند القدامى، أو كذات أو أنا عند المحدثين فان الكثرة لا تتجاوز مرتبة ما هو عرضي. إن الكثرة، أن كانت داخلية؛ الجسد والرغبات والأهواء، أو خارجية؛ العالم والآخر، هي مجرد أعراض. فهي وان ارتبطت فعليا بالوجود الإنساني، و تعلقت بالإنسان فإنها لا تدخل في تعيين حقيقته لا على المستوى المعرفي ولا على المستوى الأنطولوجي، ذلك أن معرفتها كما وجودها يضلان مشروطان بمعرفة ووجود الماهية من جهة أولى، إما من جهة ثانية فان الجهل بمعرفتها أو وجودها لا يربك يقيننا في معرفة ووجود الماهية(سواء كانت نفس أو ذات أو أنا).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق