احدث المواضيع

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

مدخل لباب الانساني بين الوحدة والكثرة ج 2

إن تحديد "الإنساني" تحديدا ماهويا يرتبط بالوحدة ويستبعد الكثرة يتشكل معه مطلب الكلي ذاته ماهويا.يفترض هذا التحديد الماهوي للإنسان تراتبا داخل الوجود فليس للموجودات نفس المرتبة والمنزلة الأنطولوجية. وليس التأكيد على أفضلية النفس أو تعالي الذات غير بحثا يبتغي تأكيد واثبات رفعة المنزلة الإنسانية.
فحقيقة الإنسان وجوهره،أي إنيته وفق هذا التصور، كما وجوده الفعلي، يشترط هذه الوحدة التي تتعين في ماهيته بما هو جوهر قائم بذاته ومكتف بها. أما "الخارجات"،وسواء كانت داخلية أو خارجية فهي "غير" وإطارها "الغيرية" أي غير "الإنساني" إذ لا يشترط في تحديد الإنساني حضورها، وهي بذلك لا ترتقي إلى مستوى الكوني/الكلي، بل إن منزلتها العرضية، تلك، تمثل من بعض الوجوه عائقا يحول دون تحقق الإنساني في الإنسان على وجه كلي/كوني.
هذا الربط بين الانية ووحدة النفس العاقلة ،داخل الفلسفة القديمة،أو الذات، داخل الفلسفة الحديثة، بحثا على إثبات رفعة المنزلة الإنسانية وشرفها، أو تأكيدا على فاعليتها، لا يمثل في ذاته مشكلا من جهة كونه رهانا ومطلبا مشروعا، إنما يعود الإشكال الحقيقي في السؤال عن مشروعية هذا الاختزال الذي يسم هذه الانية، والإمكان الفعلي والايتيقي لاستبعاد "الجسد" و"العالم" و"التاريخ" و"الآخر" من مجال تحديد الإنساني في علاقة بمطلب الكلي.
إن تجليات الوجود الإنساني تبرز لنا وبشكل مباشر خصوصية هذا الوجود الذي هو وجود علائقي و تعددي.إذ أن التحديد السابق للإنية واشتراط إمكان إثبات وجود الأنا ، ومعرفتها في تعلقه بضرورة اعتبار هذه الانية مطلقة ومتعالية وثابة ، يضعنا أمام إحراج متعدد الطبقات. يمكن أن نختزل مجمل هذه الاحراجات فيما سبق وأن حددناه من مقتضى التفكير في مسألة الإنسان ؛ أي ربط هذا التفكير بمطلب الكلي، بما هو بحث عن شروط إمكان التأسيس لمطلب العيش المشترك كرهان إيتيقي أقصى، هو أفق ومقتضى البحث ذاته، يستلزم ، ضرورة رفض كل أنانة تقيم حاجزا بينها وبين الآخر. إن تحديد مقتضى العيش المشترك كأفق للنظر في الإنسان على أساسه يكون تناوله من جهة البحث عن الإنساني هو إقرار بكون مقاربة الإنساني تستلزم النظر في كثافة وجود الإنسان كثافة تتجلى في تعدد العلاقات التي يرتبط بها ويتداخل في ضلها وجوده وتتحدد بها ومن خلالها إنيته.
يرتبط النظر في " الإنساني بين الوحدة والكثرة"، إذن، بالتوتر القائم بين النظر للإنسان كهوية تعين تمايزه وتفرده يعود هذا التحول إلى الوعي بما يكتنف الوجود الإنساني من مفارقات ضمن مطلب الكلي. ذلك أن تحديد هذا الكلي في مستوى التفكير في الإنسان مربوط إلى التوتر القائم في مقاربة " الإنسان" بحدود مسألة "الوحدة والكثرة". فان كانت الوحدة تفترض في الإنية كحالة وجودية، تؤسس لما يجعل من الذات موجودا لأحل ذاته( بتعبير سارتر) متميز في خصوصية وحدته عن غيره، من أجل التفرد ضدا على التشابه والنمطية، على غرار نمطية الأشياء الموجود في ذاتها، من جهة والنظر لهذا الوجود باعتباره ثابت ومطلق ومتعال من جهة ثانية. ولكنها تنفتح به في نفس الوقت على وجوده كموجود في الوجود في بعده التعددي والعلائقي. بذلك تكون الكثرة حالة وجودية علائقي تخرج فيها الذات عن ذاتها المنغلقة على ذاتها والمكتفية بذاتها نحو التاريخ والجسد والغير، دون أن يعني خروجها هذا، خروجا عن ذاتها أصلا، وإنما هو خروج يمثل شرط إمكان معرفة ذاتها واثبات وجودها بما يحقق إنيتها.
هذا الربط بين " الوحدة" و " الكثرة" في تعيين "الإنساني " يستلزم النظر إلى الحدين لا على أساس التباعد والتنابذ وإنما التجاذب والتفاعل ايجابيا بما يثبت أن الانية لا تكون إلا "هوية مركبة".
إن اشتراط تحقق الإنية بضرورة خروج الذات عن ذاتها، وانفتاحها على " الآخر"؛"عالما" و "أنسانا"، بقدر ما يقيم وصلا بين الأنا" و الغير ورفعه لدرجة الآخر الذي لا أكون إلا به، يستوجب النظر في تحديد شروط وآليات ومقتضيات التواصل التي تجعل من تأسيس الإنساني تأسيسا يراهن ويحقق مطلب العيش المشترك.
إن رد الوحدة إلى كثرة لا يعني تلاشي الأنا و ضياعه في كثرة تطمس وحدته وتنفي تمايزه وخصوصيته، وإنما يعود هذا الرد إلى تأسيس وضع هذا الأنا في إطار ما ينسجه من علاقات تواصلية مع الآخر. يتعلق الأمر إذن بجدلية فصل ووصل؛ فصل يثبت للانية وحدتها وتفردها، ووصل يشرط هذه الوحدة والتمايز بالتواصل مع الآخر.
يتحدد مفهوم التواصل بداية باعتباره المقتضى الذي بقدر ما يستبطن ويفترض الفصل وتمايز الأنا، يمثل في نفس الوقت شرط إمكان تحقق الوصل؛ إنه بهذا المعنى " وساطة" وجسر.التواصل الإنساني هو "وساطة" لا من جهة النظر إليه كأداة، وإنما باعتباره، في نفس الوقت، التجلي والمقتضى لتحقق الإنساني على وجه كوني. فالتواصل هو تواصل إنساني من جهتين: من جهة أنه يقيم خطا فاصلا بين الوجود الإنساني و "الطبيعة" إذ إذ تشكل وسائط التواصل قطعا وتعاليا على مستوى الوجود الطبيعي الخام من خلال ما يضمنه من علاقة غير مباشرة بين الإنسان والطبيعة. فالتواصل بما هو خاصية إنسانية هو خاصية ينفرد بها الإنسان وتهبه نمط وجود يختلف جذريا عن نمط الوجود الحيواني. وهو تواصل إنساني من جهة ما يضمنه من إمكانات تحقق تواصل كوني بين الإنسان والإنسان. إن التواصل لا يلغي التمايز والاختلاف والتفرد، بل لعله لا يكون ممكنا أصلا، ولا ذا معنى دون الإقرار بهذا التمايز بين الأنا والآخر تمايزا يجعل من التواصل ، في نفس الوقت ممكنا ومطلبا. إننا ، وكما تبرز لنا ذلك تجربتنا الخاصة، لا نتواصل مع الغريب بإطلاق لانعدام إمكان التواصل أصلا، ولا نتواصل مع الشبيه بإطلاق لعدم الحاجة للتواصل معه كذلك أصلا التواصل لا يكون إذن إلا مع المختلف والذي يحوز منزلة بين منزلتين؛ منزلة الغريب ومنزلة المماثل.
يتحدد التواصل بما هو إنساني في تشكله عبر وسائط رمزية هي "الأنظمة الرمزية". وهي وسائط بما هي جسور ، بقدر ما تثبت وتعين وجود مسافة بين الأنا والآخر فإنها، وفي نفس الوقت، تجعل من قطع المسافة ممكنا والاقتراب من الآخر يسيرا. إن هذا التواصل بما هو إنساني من حيث المجال والآليات والغايات إنما يتأسس على وحدة الإنساني ذاته. إمكان التواصل وتحقيق الالتقاء والتفاهم يضل مشروطا بداية بمقتضى الوحدة، وحدة تجد سندها في وحدة الوضع البشري، وخصوصية هذا الوضع، بما هو وضع متعال ومفارق يؤسس لوجوده بتحقيق انفصاله عن مستوى الوجود الطبيعي. وهو بتعيينه للمنزلة الإنسانية في قطعها مع مستوى الوجود الطبيعي، إنما يؤسس في آن واحد للانفتاح على الغير.
يتجلى هذا الانقطاع فيما يميز علاقة الإنسان بالأشياء إذ تتحدد هذه العلاقة بما هي علاقة غير مباشرة تنتظم ضمن وسائط تكون هي الوسيط بين الإنسان والأشياء. إننا لا نقبل على الأشياء مباشرة ولكن بتوسط الرموز التي يصنعها الإنسان ويستحدثها فتكون علاقته لا بالأشياء في ذاتها وإنما بالرموز التي تحيل عليها.
قد لا تكون مسألة التواصل على هذا القدر من الوضوح، ولا على هذا القدر من البساطة. إذا كان مفهوم التواصل يحيلنا بداية إلى عملية ثلاثية الأبعاد تتركب وتقتضي توفر ثلاثة معطيات مرسل و رسالة والمرسل إليه.
غير أن ما يجب الانتباه إليه هو مدى التعقيد الذي يلف هذه العملية في كل أجزائها، ذلك أننا وسواء تعلق الأمر بالمرسل أو المرسل إليه فإننا في الحالتين أمام ذات واعية أمام ذوات واعية. الذات المرسلة لا يتعلق فعلها بمجرد الإخبار المحايد وإنما تبحث من رسالتها على إحداث تأثير محدد في المتلقي تتحقق به مصلحة ما، بغض النظر عن طبيعة هذه المصلحة إن كانت مادية أو معنوية. والذات المتقبلة ذاتها لا تقبل الرسالة على أساس من الشفافية المطلقة وإما من خلال عمل تأويلي يسبغ على الرسالة ، عن قصد أو دونه، معطيات ذاتية تبتعد قليلا أو كثيرا عن مقصد المرسل. والرسالة ذاتها غالبا ما لا تكون واضحة و أحادية المعنى، لا من جهة الالتباس التي يحكمها في علاقة بمقاصد المرسل أو تأويل المرسل إليه، وإنما في علاقة بطبيعة قناة الاتصال التي تحمل الرسالة، و التي تؤثر في مضمون الرسالة حسب خصوصية قناة الاتصال ذاتها .
إن مجمل هذه التعقيدات تلبس مسألة التواصل كثافة إشكالية مركبة من جهة تعدد المفارقات التي تشقها وتنوع الرهانات التي تعمل على التأسيس لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق