يذهب أركون إلى القول بوجود ” متخيل(مخيال) ديني مشترك لدى أديان الكتاب كلها ” (1). وفي نفس الوقت يؤكد على أن المسيحيين واليهود يرفضون هذه الحقيقة، ولا يريدون الاعتراف للإسلام بنفس المكانة اللاهوتية أو الصحة الأنطولوجية التي ينسبونها إلى الديانتين اليهودية والمسيحية. ولكن التحليل التاريخي العميق يبين في نظره الطابع العنصري والإقصائي لمثل هذه الأطروحة. هكذا فطموح أركون هو محاولة توحيد الوعي الديني التوحيدي كله ، وذلك بالعمل على إزاحة الحدود والحواجز التيولوجية التقليدية التي تبعد الأديان الثلاثة فيما بينها: الإسلام، اليهودية والمسيحية. وهو ينطلق من منظور علم الأديان المقارن والأنثروبولوجيا الدينية ليعمل على ربط الأديان الثلاثة بالمعنى الكلي الذي تشترك فيه، متجاوزا بذلك كل الخلافات والسياجات التي فرضها الوضع البشري للدين ضمن ملابسات تاريخية محددة. من هنا يمكن الحديث مع أركون عن مفهوم التراث الكلي، ليس فقط داخل الساحة الإسلامية، وإنما ليشمل المفهوم كل التراث التوحيدي الخاص بالأديان الثلاثة. وفي نفس السياق سيتحدث عن مفهوم المخيال في مجتمعات الكتاب، الذي يظل في نظره غير معروف من قبل المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا. ويروم من خلاله أركون إلى التوصل إلى مخيال جذري تشترك فيه كل المجتمعات التي عرفت ظاهرة الوحي أو معطى الوحي.
هكذا فالدراسة المقارنة للحركات الأصولوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية، تفضي بنا حسب أركون إلى الاعتراف بوجود مخيال ديني مشترك بين الأديان الثلاثة المدعوة بأديان الوحي. إلا أن الاعتراف بمثل هذا المخيال يتلقى الاعتراض من طرف الأنظمة اللاهوتية المنغلقة على ذاتها، كما يواجه بالاعتراض من طرف الإيديولوجيات القومية المتشددة. ومثل هذا الرفض يفقد الظاهرة الدينية خصوصيتها الرمزانية المنفتحة والمتعالية عن كل تبرير إيديولوجي أو طائفي، يقدم نفسه كحقيقة مطلقة ونهائية.
إن أركون يرفض أية خصوصية معينة تميز الإسلام عما سواه من الديانات السماوية الأخرى، لأنها جميعها تشترك في معطى واحد هو “الوحي” . وبالتالي يمكننا أن نتحدث عن خيوط ناظمة ومكونة لمخيال واحد لدى الأديان الثلاثة. ويمكن أن نتبين ذلك من خلال مايلي:
1- مفهوما “الإسلام” و “المسلم” :
لقد تعرضت الآية القرآنية ” إن الدين عند الله الإسلام ” – حسب محمد أركون- إلى تأويل مغلوط من طرف الفقهاء والمتكلمين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي. فكلمة ” إسلام ” في نظره لا تحمل بالضرورة ذلك المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي فرضته الإمبراطوريتين الأموية والعباسية. فالإسلام الإمبراطوري يختلف عن الإسلام القرآني، كما أن هذا الأخير يختلف عن ” إسلام ” الحركات الإسلاموية المعاصرة؛ ” فالإسلام في القرآن ينفجر كالنور أو كالضياء أو كالشعلة المقدسة، ولا يهتم إطلاقا بالاعتبارات المادية أو السلطوية. إنه تأسيس لعلاقة المعنى وللميثاق الإلاهي في اللغة العربية. أما الإسلام الفقهي أو الطقس- الشعائري أو الإمبراطوري، فهو وإن لم يكن قد فقد بعده الديني بعد، إلا أن هموم القوة والتوسع على حساب الآخرين تبدو غالبة عليه “. (2) إن ” كلمة إسلام في القرآن تعني الدين الأولي والشعيرة النقية والطاعة العاشقة والكلية لله، هذه الطاعة التي جسدت رمزيا من قبل تلك الشخصية “الأسطورية”(3) لإبراهيم في القرآن. جاء في الكتاب مثلا (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما)- آل عمران،آية67- . (4)
إن مثل هذا التحديد يسمح في نظر أركون بالوصول إلى معنى أولي وأصلي لكلمة “مسلم”، يتجاوز المعنى الذي أعطي لها من قبل الأصولوية والإسلام الإمبراطوري، الذي يحتمي وراء هوية اجتماعية وثقافية توفر له عملية الاحتجاج السياسي والمطامح الإيديولوجية. من هنا فلفظة “مسلم” بمعناها التزامني في القرآن، تختلف عن المعنى التيولوجي الذي ألحق بها فيما بعد. إنها ” تعني الخضوع لله وتسليم النفس له، وتجسيد هذا الخضوع في حياة دينية تكون قدوة ومثالا في النزاهة. وبهذا المعنى فهي تشمل المؤمنين من كل الأديان التوحيدية وليس مؤمني دين واحد فقط ، كما زعمت التركيبات العقائدية واللاهوتية(التيولوجية) التي تشكلت فيما بعد”.(5) هكذا تكون وظيفة المؤرخ هي الوصول إلى المعنى القرآني النقي لكلمة “مسلم” و”إسلام” كدين يؤسس لما هو إلاهي.
2- الوحي ومشكلة الحقيقة:
يرى أركون بأن التوراة والأناجيل والقرآن قدمت لنا صورة معينة عن التأليه، وعن مكانة الإنسان ورسالته ضمن الميثاق الذي يحدد علاقته بإله حي ومتعالي، ذلك أن تعاليمهما أكدت على الطابع القدسي والمتعالي لكلام الله. فالله هو مصدر الحق والحقيقة والقانون الذي ينبغي للبشر أن يمشوا على هداه لنيل النجاة الأبدية. إن الحقيقة بهذا المعنى واحدة وغير قابلة للمناقشة، كما أنها تتجاوز كل المعارف الفلسفية والقانونية باعتبارها شمولية وإجبارية، صالحة لكل زمان ومكان ولكل البشر.(6)
إن مثل هذا التصور للحقيقة ولمفهوم الحق، والمكرس من قبل تعاليم الأديان الثلاثة، يجد تجسيده في المخيال انطلاقا من الشعائر والفرائض الدينية المبلورة داخل التصورات اللاهوتية التي تعمل على تحوير الخطاب الموحى، وتحويله من الطابع المفتوح والمنفتح إلى الطابع القسري والإكراهي. ومن هنا يتحدث أركون عن طلاق بين الخطاب الديني للأنبياء، وبين القوانين الفقهية- القضائية التي تشكلت وتبلورت مع صعود الدول المركزية في الإسلام. وهذا العمل الفقهي المسلط على كتب الوحي هو الذي سيخلق أسس ارتكازية، عملت من خلالها الحركات والطوائف المختلفة على تشكيل وانتشار المخيالات الاجتماعية داخل أوساط الأصولويين والمتزمتين.(7)
3- النظرة العمودية:
يرى أركون أن كل الوحي الذي جاءت به التوراة والأناجيل والقرآن يقدم لنا نظرة عمودية، تختلف عن النظرة الأفقية التي تنظر إلى المجتمعات والثقافات ضمن خط زمني متسلسل ومتطور. فالنظرة العمودية التي جاء بها الوحي، تجعل كل الأحداث التاريخية للعالم الأرضي مرتبطة بالقرار الخلاق لله: ” كن فيكون “. هكذا ” فالشعوب القديمة التي عصت الله مذكورة في القرآن ضمن منظور تاريخ النجاة، أي ضمن منظور المستقبل الأخروي الذي يتجاوز التسلسلية الزمنية المعروفة للأحداث الأرضية “.(8)
وهذا يجعل المنهجية التاريخية، التي تربط النصوص المقدسة بالزمان والمكان والبيئة التاريخية، تثير حفيظة المؤمنين الذين ينظرون إليها منفصلة عن المكان والزمان، إنها فوق التاريخ. وهنا يتبين الفرق الواضح بين النظرة الأفقية (التاريخية) والنظرة العمودية (الأسطورية).
إن للمعرفة الأسطورية أساليبها التي تختلف عن أساليب المعرفة التاريخية. ومن هنا ينشأ سوء التفاهم بين المؤمنين الذين يتملكهم الفضاء الأسطوري، وبين ” العقلانويين ” الذين لا يعترفون إلا بالأحداث التاريخية المتحقق منها تجريبيا. وهذا الصراع الحاصل بين الطرفين يرجع بالأساس إلى أطر الإدراك المختلفة بينهما للواقع التاريخي والاجتماعي.
هكذا يتبين مما سبق أن أركون يتوخى، من خلال تحليله لمختلف مكونات المخيال في مجتمعات الكتاب، التأكيد على ضرورة تجاوز الحكايات والقصص التبجيلية والجدالية الخاصة بكل تراث توحيدي من التراثات الثلاث: اليهودي والمسيحي والإسلامي. فكل هذه التراثات عملت عبر تاريخ طويل على بلورة شخصيات رمزية كبرى وخلق أحداث ذات طابع متعالي ومؤسطر، يجب تجاوزها للوصول ” إلى شيء أعمق وأبعد، يتمثل في المخيال المشترك الذي كان قد تلقى ونشر وعمم ظواهر كلام الله والوحي والنبوة والرؤيا الأخروية والبعث والمعراج،الخ…”.(9)
في هذه الحالة نستطيع أن نخترق الحدود الفاصلة بين الأديان، والتي كانت الأنظمة التيولوجية قد رسختها بشكل تعسفي وقاسي خلال حقبة تاريخية طويلة. كما يمكننا الانتقال من النظرة التيولوجية الضيقة إلى النظرة الأنثروبولوجية ذات الأفق الأرحب.
بعد أن أشرنا إلى أهم العناصر المكونة‘ حسب أركون‘ للمخيال المشترك بين “مجتمعات الكتاب”، سننتقل الآن – وفي نوع من التخصيص- إلى الحديث عن دور الخطاب القرآني في تشكيل المخيال الديني لدى المسلمين.
في هذا الإطار يقترح أركون تعريفا إجرائيا للقرآن‘ فيقول: ” القرآن مجموعة محدودة ومفتوحة من نصوص باللغة العربية، يمكن أن نصل إليها ماثلة في النص المثبت إملائيا بعد القرن 4/10، وأن جملة النص المثبت على هذا المنوال نهضت بآن واحد بوظيفة أثر مكتوب وكلام تعبدي “.(10) وهو يسوق هذا التعريف بعد أن استعرض المشاكل الأساسية التي رافقت عملية جمع المصحف في عهد عثمان، كما بسط الملابسات والإجراءات التي واكبت هذا الجمع، بالإضافة إلى تثبيت الكتابة الإملائية التي نشأت عن قرار حاكم العراق (الحجاج الثقفي) آنذاك.
ولا تهمنا التفاصيل التي يوردها أركون كاستفهامات حول عملية الجمع الذي تعرضت له الآيات القرآنية. فإن هدفنا ليس هو الصحة أو عدم الصحة، وإنما أن ننطلق من الكلام الديني نفسه الذي نجده مثبتا في الآيات القرآنية التي تم الإجماع بين المسلمين على أنها تمثل التنزيل، كل التنزيل. ننطلق من ذلك لنحاول الوصول إلى الهدف الذي نرسمه لهذه المقاربة، وهو البحث، صحبة أركون، عن العناصر المغذية للمخيال لدى المسلم، والتي نجدها منبثة هنا وهناك فيما يسميه أركون بالحادث القرآني(Le fait coranique). وسنعمل على تبين ذلك من خلال مفهومين أساسيين: مفهوم كلام الله ومفهوم النبوة.
1- مفهوم كلام الله:
لقد عمل أركون في هذا الإطار، وانسجاما مع التعريف الذي حدده للقرآن، على التعامل مع مفهوم كلام الله باعتباره موضوعا لغويا. ولذا وجب حسب رأيه البحث عن المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها النص القرآني والتي هي مرتكزات لغوية وأدبية، أي استعمال معين للغة وطرائقها الأدبية، من أجل بلورة علاقة محددة بين الإنسان والإله المبدع، الحي والمتعالي. وهكذا سيعمل القرآن على ترسيخ شكل خارق لكلام مبلغ باسم الله لا يمكن أن يقلد على الإطلاق. لذلك فهو يشكل معجزة، ومعجزة لغوية قبل كل شيء.
في هذا السياق، يصل أركون في تحاليله السيميائية للخطاب القرآني إلى أن كل مبلغ-مثل محمد- يجد نفسه لغويا في وضع كوضع القائل ذاته المرتبط بما يقول. وهنا يخلص إلى سمة أساسية تميز الكلام القرآني وهي أنه ثاقب(Performatif) . وهكذا يصبح المخاطبون مشاركين على درجات على درجات متفاوتة في “أنا” القائل-المؤلف. وهو ما يفسر الهيجان النفسي والحماسة اللذين يرافقان قراءات حفظة القرآن في الكتاتيب والجوامع. فالقارئ لا ينفصل هنا عما يقرِأه، بل ينخرط فيه بشكل كلي وكأنه يملأ كل كيانه وجوارحه؛ فكل الصور والخيالات تكون حاضرة تملأ الذاكرة والمخيلة بفضاء مخيالي ترسخ لدى المسلم انطلاقا من طبيعة الخطاب الديني نفسه(المجازية-الميثية) وتقنيات توصيله للمعنى.
إن الخطاب القرآني، ككلام لله، سينتج حسب أركون إطارا مكانيا وزمانيا، سيأسر نظرة المسلم ويشكل لديه نوعا من المخيال تجاه الزمان التاريخي-الأرضي والزمان الأخروي أو تاريخ النجاة الأخروية. كما سيحدد بالنسبة إليه نظرة معينة للعالم وللإطار المكاني الذي تشغله مجموع المخلوقات؛ فالعالم مستودع يضم مجموعة من الإشارات(الآيات) التي تدل على عظمة الخلق الإلهية، ورحمة البارئ بالإنسان والسماوات والشمس والقمر والنجوم والأرض والحيوانات،الخ… بل إن تلك المخلوقات لا تبقى مجرد كائنات فيزيائية بل هي شهادات. وهذا ما يجعل الإنسان يحس بالعجز أمام القدرة المنظمة للعالم. فالخطاب القرآني، حسب أركون، يشيد نظرة الشعور إلى العالم الخارجي ولا يقدم بصدد هذا العالم معرفة، كما يعتقد الكثير من المتكلمين وعلماء اللاهوت. ويحيل هذا الخطاب على ثلاثة أزمنة متسلسلة: زمان الحياة الدنيا (الاختبار)، وزمان الموت (مدته غير محددة)، وزمان الحياة السرمدية/الأزلية. وهكذا يمثل الزمان الدنيوي فترة عهد الميثاق بين الله والإنسان، وسينتهي مع زمان الموت، للانتقال بعد ذلك إلى الزمان اللانهائي.
إن القصص القرآنية قدمت دائما ” على أنها تشكيلات استدلالية- عقلانية، في حين أنها مدينة جدا لفعالية المخيال الذي يبلور الأساطير الخاصة بأصول كل فئة أو ذات جماعية، ويساهم في تأسيسها وإنجاز هويتها “.(11) هكذا فقد أدخل القرآن أشكالا من الحساسية والتعبير، ومبادئ لتوجيه السلوك لا زالت تلهم أجيال المؤمنين حتى الآن.
2- مفهوم النبوة:
يرى أركون أنه لإدراك مفهوم النبوة كوظيفة أساسية، محركة وموجهة للفكر الإسلامي، لا بد من اجتناب عقبتين أساسيتين:
- الأولى تتمثل في الموقف الوضعي الذي يقلص الأبعاد الأساسية للتجربة الدينية.
- والثانية تتمثل في الموقف الورع الذي يقف في حدود التمثل الرمزي والأسطوري، ويغيب مفهوم التاريخية كمفهوم أساسي لمقاربة المعطيات الحقيقية للفكر الإسلامي.
هكذا فقد عملت الحماسة الدينية، بما تملكه من وسائل خطابية، على ” انتزاع النبي من وسط الحياة التي تجلت فيها قدرته التعبدية وطاقته المبدعة وتأثيره الشخصي على الناس والحوادث”(12)، فحولت الشخص التاريخي – سواء النبي أو الصحابة – إلى شخص أسطوري يغذي المخيال الفردي والجماعي، ويتحكم في مختلف ضروب السلوك ويعمل على تسويغها. من هنا فقد ضخمت الشهادات التأويلية والروايات التي نقلتها الأمة المؤمنة جيلا بعد جيل، المضامين المعنوية والسيمانتية لأعمال النبي ورسالته وصحابته فيما يخص الخط السني، وللأمة فيما يخص الخط الشيعي. فالسيرة النبوية كما يلاحظ أركون تغلب عليها ميكانيزمات إنتاج المعنى الخاص بالسرد الروائي، في الوقت الذي تضعف فيها بشكل ملحوظ القواعد الخاصة بتقنيات الكتابة التاريخية. وهذا ما يفسح المجال واسعا أمام تسرب المبالغات الخيالية الشعبية، لاسيما وأن الناس في زمن ابن إسحاق (توفي سنة 150هجرية) وابن هشام ( توفي سنة 218هجرية)، بل وحتى التقليديين في هذه الأيام، لم يميزوا بشكل دقيق بين الأسطورة والتاريخ.
إن سلوك النبي يتطابق في مخيال المؤمن بشكل كلي مع مراجعه المحسوسة، أي أننا نجد “تطابقا مباشرا بين كل جملة (أو عبارة نصية) تلفظ بها النبي وبين التصرف أو العمل الذي يقوم به أو يعيد إنتاجه كل مؤمن، بغض النظر عن المكان والزمان الذي يتواجد فيه”. (13)
من هنا يرى أركون أن عملية الكشف عن التركيبة المجازية للخطاب النبوي، تعتمد على مدى صلاحية نظرية المجاز التي يتبناها الدارس المحلل. فهناك نظريتان: نظرية علم البلاغة التقليدية التي نظرت إلى المجاز باعتباره حلية أو زينة لغوية. والنظرية الحديثة للمجاز التي لا تضع حدودا فاصلة بين الواقعي والمجازي، بل تلح على الدور المهم يلعبه المجاز في توليد الساحة المعنوية لكل تشكيلة خطابية. ويذهب أركون إلى أن ” التفسير التقليدي الموروث يتخذ موقفا ثابتا ومستمرا، يتمثل في نفي الأسطورة وعدم الاعتراف بها، هذا في حين أنه يولد بدوره حكايات أسطورية أو أسطورية تاريخية”.(14) وهنا تكمن مشكلة التفسير الإسلامي الكلاسيكي أو القديم. فهو وإن كان قد ربط الآيات القرآنية بما سمي بأسباب النزول، فقد بقي عاجزا عن كشف التاريخية بالمعنى الفعلي والحديث للكلمة. فقد كان ينظر إلى المعنى المجازي وكأنه معنى حرفي، فيأخذ العبارات المجازية(الأسطورية) على محمل الجد، ويحاول عبثا إيجاد مقابل لها في الواقع التاريخي. وهكذا بذل جهودا مضنية لمعرفة من هم ياجوج وماجوج، أو الخضر، أو أهل الكهف، أو ذو القرنين…
إن الوعي التقليدي يجول في الفضاء الأسطوري والجغرافية العجائبية، وهو يخلط بين الواقعي والمجازي، بل إن الأسطوري يبدو لديه أشد واقعية من الواقع الحقيقي. إن هذا الوعي منقطع عن أي حس تاريخي إلى درجة يعجز معها التفريق بين الزمان الفيزيائي والزمان الأخروي، بين ما هو مروي عن طريق العبرة والموعظة وما هو مروي كحدث تاريخي حقيقي.
هكذا يتبين من خلال ما سبق، كيف أن العقل “الإسلامي” بقي عقلا أسطوريا، لاتاريخيا، يجيش ما هب ودب لاستنهاض همم المخيال الجماعي وتحفيزه من أجل الصراع ضد الآخر (الكافر،الملحد)، أو توظيفه في العمل الحزبي والسياسي. هكذا فتعامل هذا العقل مع الخطابين النبوي والقرآني كلحظتين غنيتين بالدلالات المجازية، بقي تعاملا أسطوريا تشوبه الكثير من المبالغات والشطحات الميثولوجية التي ستلعب دورا كبيرا في تشكيل المخيال الإسلامي. لذا يرى أركون أنه يتوجب نزع الأسطرة في التاريخ الديني للبشرية، وإبطال العجائبية من خلال القيام بمقاربة علمية متحررة من كل المسبقات اللاهوتية. إن الأمر يتعلق بمنهجية ولغة مشتركة قادرة ” على قراءة جميع الكتب المقدسة باعتبارها أحداثا تشكل جزءا من اقتصاد الخلاص الإنساني”.(15)
إن عملا كهذا من شأنه أن ينقلنا من اللاهوت إلى فلسفة للاهوت قادرة على فهم الإيمان كحقيقة مرتبطة بالكائن الإنساني، ككائن يشكل المخيال بعدا أساسيا من أبعاده المختلفة. هكذا فالقراءة التي يقدمها أركون لا تفصل الإنسان عن التعالي، وإنما تروم دراسة التعالي كبعد من أبعاد الإنسان عبر تجلياته في الواقع التاريخي. فنحن نصل الآن مع أركون إلى التأكيد على ضرورة رؤية الماضي البشري بأعين جديدة. فالتاريخ البشري لا يمكن اختزاله في مجموعة من الوقائع والأحداث التي يمكن قياسها حسابيا. وبالتالي يجب التفريق بين التاريخ العقائدي من جهة، والتاريخ الحدثي والاقتصادي من جهة أخرى. فالرؤية الوقائعية التي تطغى على المنهج الفيلولوجي الاستشراقي تعمل على إهمال ” ذلك المجال الضخم والقارة الواسعة لعلم النفس التاريخي “(16)، كما تختزل الحقيقة البشرية الكلية وتعمل على تشويهها.
من هنا يتبنى أركون مقاربة جديدة للتراث الإسلامي تتجاوز المقاربة التقليدية والمقاربة الاستشراقية معا.
الهوامش:
1- محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة
الأولى 1993، ص144.
2- نفس المصدر والصفحة.
3- يجب الإشارة هنا إلى أن أركون يستخدم مصطلح “أسطورة” بالمعنى الأنثروبولوجي
للكلمة، وليس بالمعنى الشائع الذي يجعلها مرادفة للخرافات والأباطيل.
4- محمد أركون، المرجع السابق، ص132.
5- محمد أركون: الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة
الثانية 1992، ص317.
6- محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ نفس المعطيات السابقة، ص127.
7- نفس المرجع والصفحة.
8- محمد أركون: الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، نفس المعطيات السابقة، ص143.
9- محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي،
بيروت، الطبعة الأولى 1987، ص260.
10- محمد أركون: الفكر العربي، ترجمة عادل العوا، سلسلة زدني علما، منشورات عويدات،
بيروت/باريز، الطبعة الثالثة 1985، ص32.
11- محمد أركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، نفس المعطيات السابقة، ص15.
12- محمد أركون: الفكر العربي، نفس المعطيات السابقة، ص40.
13- محمد أركون: الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي،
بيروت 1987، ص26.
14- محمد أركون: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ نفس المعطيات السابقة، ص90.
امه مقال للباحث المغربي محمد الشبة لماذا القرصنة اذن او على الاقل اذكروا اسمه في اخر المقال عار عليكم.
ردحذف