احدث المواضيع

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

طبيعة المعرفة عند دفيد هيوم 2

نواصل تقديمنا لطبيعة المعرفة عند دفيد هيوم، من خلال كتاب زكي نجيب محمود تحت عنوان: “ديفد هيوم”، دار المعارف بمصر 1958. والآن سنقدم تصوره لعلاقة السببية ولطبيعة الأحكام المرتبطة بالخبرة الحسية.

مبدأ السببية وطبيعة الأحكام

يرى هيوم أن أساس كل أحكامنا المتعلقة بالواقع يعود إلى العلاقة السببية، أي علاقة السبب بالمسبب (بفتح الباء الأولى). هكذا فحكمنا على واقعة ما يتم من خلال علاقتها الترابطية بواقعة أخرى. فنحن نحكم مثلا على زيد بأنه يتألم من خلال بكائه، أو نقول أنه فرح إذا كان مبتسما، أو نقول عنه أنه موجود في الغرفة الموصدة أو المظلمة إذا سمعنا صوته. فنحن في هذه الأمثلة نصدر أحكاما من خلال ربطنا ربطا سببيا بين واقعتيين مترابطتين؛ الابتسامة والفرح، البكاء والألم، والصوت ووجود زيد بالغرفة.

وما ينطبق على هذه الأمثلة ينطبق على كل أحكامنا عن أمور الواقع.

وإذا كانت أحكامنا قائمة على أساس الرابطة السببية، فإن هذه الرابطة تستند إلى أساس واقعي مستمد من الخبرة الحسية؛ إذ أن هذه الخبرة هي التي جعلتنا نقرر بأن بين هاتين الواقعتين علاقة سببية تحدث في كل مرة انطبعنا بها حسيا. هكذا يرفض هيوم الموقف العقلاني الذي يرى بأن مبدأ السببية مبدأ عقليا خالصا، وأنه موجود في العقل بشكل فطري، ويقول على العكس من ذلك، وتماشيا مع نزعته التجريبية، بأن مستمد من العادة والخبرة الحسية.

من هنا يرى هيوم أن العقل وحده لا يمكنه بدون خبرة حسية أن يقدم لنا أحكاما صحيحة عن الواقع.

يقول هيوم: ” إذا ما ارتبط شيئان ارتباطا لا تخلف فيه – كالحرارة واللهب مثلا، أو الثقل والصلابة – فإن العادة وحدها عندئذ تقتضينا أن نتوقع أحد الشيئين إذا ما ظهر الآخر”.

من هنا فالعادة عند هيوم، هي الأساس الذي يزودنا بالأفكار التي نكونها عن الوقائع والترابطات القائمة بينها. فأصل كل استدلالاتنا هي الخبرة الحسية والناتجة عن “العادة” وليس عن التدليل العقلي.

وفي هذا السياق يقول هيوم: ” العادة هي المرشد العظيم للحياة البشرية؛ فهذا المبدأ وحده (أي العادة) هو الذي يجعل خبرتنا ذات نفع لنا، ويتيح لنا أن نتوقع في المستقبل سلسلة من الحوادث الشبيهة بسلسلة الحوادث التي ظهرت فيما مضى”.

هكذا فنحن قد تعودنا مثلا، أن نرى الورق يحترق حينما نقربه من النار، فيسمح لنا هذا التعود أو العادة بأن نتوقع احتراقه مستقبلا حينما نقربه من النار. وهذا التوقع هو احتمالي عند هيوم؛ إذ ليس هناك ضرورة عقلية تقرر أنه لا بد أن يحترق الورق بالنار مستقبلا، فيمكن أن لا يحدث ذلك في المستقبل.

هذا يجعلنا نقول مع هيوم بأن الحكم القائم على أساس الخبرة احتمالي لا يقيني. فليس هناك ضرورة عقلية تحتم أن تجيء خبرة المستقبل على غرار خبرة الماضي. فحينما نتوقع أحداث المستقبل استنادا إلى الخبرة الحالية، فإن توقعي هو من قبيل الاحتمال لا من قبيل اليقين.

وهنا يميز هيوم بين نوعين من الاستدلالات:

- استدلال برهاني أو استنباطي: وهو الذي نقوم خلاله بتحليل الفكرة العامة لاستخلاص الأفكار الجزئية المتضمنة فيها. ولذلك فالنتيجة في هذا النوع من الاستدلال متضمنة في المقدمة، وهو ما يعني أنها نتيجة مستخلصة على نحو حتمي وضروري.

- استدلال استقرائي أو احتمالي: وهو الحكم المتعلق بأمور الواقع؛ حيث النتيجة فيه غير متضمنة في المقدمة، بل يضيف فيه المحمول إلى الموضوع إضافة جديدة، وهذه الإضافة تستند على الخبرة الحسية والعادة فقط. ولذلك فليس هناك من مانع أن تكون أحكامنا الحالية عن الواقع مخالفة لتلك التي سنصدرها عنه في المستقبل. وهذا يعني أنها ذات طابع احتمالي وليس ضروريا يقينيا.

فلو قلنا مثلا عن المثلث أنه شكل ذو ثلاثة أضلاع، ثم استنتجنا من ذلك أنه شكل يتكون من ثلاثة زوايا، كان استنتاجنا يقينيا وضروريا ويستحيل أن نتصور خلافا له من دون أن نقع في التناقض. أما إذا قلنا بأن النار تحرق الورق أو اللحم هو غذاء النسر أو الخبز يشبع الإنسان، فإن مثل هذه الأفكار مستمدة من الخبرة الحسية، ولا تكتسي صفة الضرورة العقلية؛ إذ لم يكن لذا العقل ما يمنع أن لا تحرق النار الورق، وأن لا يشبع الخبز الإنسان، وأن لا يكون اللحم غذاء للنسر؛ كل هذه الأحكام محتملة عقلا، والخبرة الحسية الناتجة عن العادة هي وحدها التي جعلتنا نقول بمثل هذا الحكم ونمتنع أن نقول بخلافه.

هكذا فتكرار الخبرة لمرات عديدة وتشابهها في كل مرة هو الذي يجعلنا نصدر أحكامنا على أشياء الواقع، وهذا التكرار والتشابه لا يمنحان للحكم صفتي الضرورة واليقين؛ إذ ليس هنا ما يمنع بأن الأحكام سوف لن تتكرر مستقبلا بنفس الطريقة، وبأن الطبيعة يمكن أن تغير مجراها فلا تأتي الأحداث على غرار ما أتت.

لقد انتهى هيوم إذن إلى نتيجة خطيرة، وهي أن الأحكام المتعلقة بالواقع، والتي تترتب عنها قضايا تدور حول العالم الطبيعي، هي أحكام احتمالية لا يقينية. فقضايا العلم الرياضي تحليلية، والنتائج فيها متضمنة في الفروض الأولية أو المقدمات، ولذلك فهي قضايا يقينية ولا شأن لها بالوقائع والأشياء الموجودة في العالم الطبيعي الخارجي.

أما قضايا العلوم الطبيعية، فهي تستمد من الخبرة الحسية الحالية. ولذلك لا يمكن لهذه الخبرة الحالية أن تجعلنا نتوقع، على نحو ضروري ويقيني، بأن الخبرة المشابهة لها ستقع في المستقبل على نفس المنوال. فليس لدينا، من داخل الخبرة الحسية، ما يسمح لنا بأن نقول بأن المستقبل سيأتي على منوال الماضي، فذلك ما لا يمكننا زعمه وإلا جاوزنا حدود المنطق. ولهذا فحكمنا على خبرة المستقبل انطلاقا من خبرة الماضي، هو حكم على سبيل الاحتمال لا اليقين.

وإذا كان هيوم يقسم الأحكام إلى قسمين؛ استنباطية يقينية واستقرائية احتمالية، فهو يقسم الأحكام الاحتمالية إلى نوعين: أحكام احتمالية قائمة على “البرهان”، وأحكام احتمالية قائمة على “التخمين”.

من هنا نكون أمام ثلاث درجات للإثبات؛ درجة اليقين المنطقي، تتلوها درجة الاحتمال البرهاني، وأدناها درجة الاحتمال التخميني.

فحينما تقع الأشياء على سبيل الصدفة، ومن دون سبب معلوم، وتكون هناك احتمالات عدة لكيفية وقوعها، فإننا نكون أمام ما يسميه هيوم باحتمال المصادفات الذي يتعلق بالأحكام الاحتمالية التخمينية. وكمثال على ذلك؛ فحينما نرمي بقطعة نقدية في الأرض، فإننا لا نتوقع على نحو “برهاني” ويقيني بأن ما سيظهر منها هو الوجه وليس الظهر أو العكس، فكلا الاحتمالين واردين.

أما حينما نحكم على الأشياء المتعلقة بالواقع، انطلاقا مما خبرناه عنها سابقا، أي مما زودتنا به الخبرة و”العادة”، فإن هذا النوع من الحكم قائم على ما يسميه هيوم “باحتمال الأسباب”، وهو بالتالي حكم احتمالي قائم على أساس “البرهان” وليس “التخمين”.

هكذا فحينما يتحدث هيوم عن الاحتمالات البرهانية، فهو يربطها بالعلاقة السببية القائمة بين الحوادث، فالإنسان ينتقل من الاحتمال القائم على المصادفة إلى الاحتمال القائم على البرهان؛ فعندما نشاهد مثلا ولأول مرة، النار تحرق الورق فإننا نحكم بأن النار تحرق الورق. غير أن حكمنا هذا يكون من قبيل حكم المصادفة التي تجيز أن لا تحرق النار الورق في خبرتنا الثانية بهما. أما حينما تتكرر هذه العلاقة بين النار والورق لمرات عديدة، فتصبح من قبيل “العادة” بالنسبة إلينا، فإن الحكم “النار تحرق الورق” في هذه الحالة لا يعود حكما قائما على احتمال المصادفة، بل ينتقل إلى احتمال البرهان، والذي وإن لم يكن له يقين البرهان المنطقي، فإن له ثبات اليقين من الوجهة التجريبية العملية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق