الأحكام والمقولات
لقد تبين لنا سابقا الدور الذي يلعبه الفهم في تحويل الإدراك الحسي إلى تجربة؛ ذلك أن كانط يميز بين أحكام الإدراك الحسي وأحكام التجربة، فالأولى تتأسس على الترابط المنطقي للإدراكات الحسية في الحساسية، ولا تحتاج إلى أي تدخل من قبل الفهم. أما الأحكام الثانية فهي نتيجة لتدخل مقولات الفهم التي تعمل على تنظيم الأحكام الحسية وتحويلها إلى أحكام تجربة تتسم بصفات الموضوعية والكلية والضرورة.
هكذا تعمل ملكة الفهم (L’ENTENDEMENT ) على تعقل موضوعات الإدراك الحسي لكي تنتج لنا معرفة كلية وضرورية. وحينما يتحدث كانط عن ملكة “الفهم”، فإنه يشير إلى تلك الملكة التي تسمح بالتركيب وإضفاء الوحدة على المعطيات الحسية المشتتة والمتناثرة. ولهذا فملكة الفهم هي ملكة التفكير وإصدار الأحكام. وعن طريق الحكم يتم رد “كثرة” التمثلات إلى الوحدة، فيتم ضم مجموعة من التمثلات الجزئي داخل تمثل عام يشملها جميعا، وهذا الفعل هو الذي يسميه كانط ب “التصور” أو “المفهوم”. وكمثال على ذلك؛ فحينما نحكم بأن “كل معدن جسم” فإننا نضم جميع تمثلاتنا الجزئية عن “المعادن” في إطار تمثل عام هو مفهوم “الجسم”. وما نقوم به هنا هو عملية معرفية تتم عن طريق المفاهيم أوالتصورات؛ ففي التفكير نقوم بإصدار الأحكام عن طريق الربط بين محمول، يكون بمثابة مفهوم أو تصور عام، وبين موضوع يكون بمثابة تمثل جزئي منه.
من هنا يرجع كانط كل أفعال الفهم إلى أحكام، بحيث يمكن القول بأن ملكة الفهم هي نفسها ملكة الحكم.
ويربط كانط بين أنواع الأحكام وأنواع المقولات؛ فلكي يكون الحكم ضروريا وكليا لابد له من أن يستمد من المقولات القبلية للفهم صورة محددة من الصور.
وقد صنف كانط المقولات، تبعا للتصنيف المدرسي للأحكام من حيث الكم والكيف والإضافة والجهة. وتنقسم الأحكام من حيث الكم إلى كلية وجزئية ومخصوصة، وتقابلها مقولات الوحدة والكثرة والجملة؛ وتنقسم من حيث الكيف إلى موجبة وسالبة ومعدولة، وتقابلها مقولات الإيجاب والسلب والحد؛ أما من حيث الإضافة فتنقسم الأحكام إلى حملية وشرطية متصلة وشرطية منفصلة، وتقابلها مقولات الجوهر والعلة والتفاعل؛ وأخيرا تنقسم الأحكام من حيث الجهة إلى احتمالية وإثباتية ويقينية، وتقابلها مقولات الإمكان والوجود والضرورة.
وإذا تأملنا في الصلة القائمة بين الأحكام والمقولات، سنجد أن هناك علاقة وثيقة بينهما. وكمثال على ذلك الصلة القائمة بين مقولة “العلة” بالحكم الشرطي المتصل؛ فعلاقة العلة بمعلولها شبيهة بعلاقة المقدم بالتالي قي القضية الشرطية. ونفس الشيء فيما يخص العلاقة الموجودة بين مقولة “الجوهر” والحكم “الحملي”؛ فالصلة القائمة بين الجوهر والعرض مماثلة للصلة القائمة بين الموضوع والمحمول في القضية الحملية.
هكذا فالمقولات هي التي تجعل من الممكن إصدار الأحكام، ويتم ذلك عن طريق تطبيق وظائف المقولات التركيبية على الحدوس الحسية المتكثرة، وذلك بطريقة قبلية خالصة.
ويقسم كانط مجموع المقولات إلى نوعين رئيسيين؛ مقولات الكم والكيف، والتي تمثل المقولات الرياضية، وتنصب على موضوعات الحدس سواء أكانت خالصة أم تجريبية، ومقولات الإضافة والجهة، وهي تمثل المقولات الطبيعية، وتنصب على وجود موضوعات الحدس وعلاقاتها بعضها بالبعض الآخر، أو بالفهم ذاته.
وقد سعى كانط إلى البرهنة على أن المقولات هي بمثابة شروط أولية/قبلية ضرورية لوجود الموضوعات الخارجية بالنسبة إلينا. فمقولات الفهم القبلية هي التي تجعل التجربة ممكنة بالقياس إلينا.
فالفكر يتعقل الوقائع الخارجية ويجد فيها قوانينه الخاصة. كما أن المقولات تنطبق على الأشياء حتما، ومن ثمة فالطبيعة خاضعة لقوانين العقل.
وإذا كان الفهم يفرض صوره ومقولاته القبلية على الطبيعة، ويعمل على تركيب وتوحيد الوقائع الحسية المشتتة، فليس معنى ذلك أن العقل هو الذي يخلق الواقع، أو أن العالم هو من تصورنا أو تمثلنا، بل إن للعالم الخارجي وجوده الفعلي المستقل عن الذات والذي لا يمكن الشك فيه أبدا. وهن يرفض كانط “المثالية الذاتية”، ويرى أن مجرد إحساسي بذاتي هو في حد ذاته إحساس بوجود أشياء خارجة عني. فلا يمكن أن أقول “أنا” إلا بإزاء شيء ليس إياي.
هكذا نلحظ كيف أن المعرفة عند كانط هي نتاج تكامل بين المقولات من جهة، والحدوس الحسية من جهة أخرى؛ فليس للمقولات أية قيمة موضوعية ما لم تكن هناك مادة آتية من الحس. من هنا فلا يحق لنا أن نطبق مقولات الفهم إلا على موضوعات الإدراك الحسي. وحينما نحاول تطبيق تلك المقولات على موضوعات “متعالية” لا نستطيع إدراكها حسيا، فإننا نستخدمها استخداما غير مشروع، وهو ما قد يسقطنا في التناقض.
وإذا كانت المقولات تنطبق على الظواهر وحدها دون الأشياء في ذاتها، فقد طرح على كانط السؤال التالي: كيف تنطبق المقولات –وهي بسيطة كلية- على الحدوس الحسية –وهي جزئية- ؟
في معرض إجابته عن هذا السؤال، جعل كانط المخيلة كواسطة بين الحساسية والفهم؛ فالمخيلة هي حسية وإبداعية معا؛ فهي تمدنا بالصور الحسية الموجودة في المكان والزمان من جهة، كما تعمل على إبداع رسوم تخطيطية أو رموز تنتظم تحتها الحدوس الحسية. ويقدم لنا كانط مثالا على ذلك يتعلق بالدائرة، حيث يرى أنه لا يمكننا أن نفكر في الدائرة دون أن نرسمها في أذهاننا. وهذا يعني أن المخيلة تقوم بعمل أولي تفرضه على الحدس الحسي، هو بمثابة عمل تركيب رمزي (تشبيهي) سيكون تمهيدا للعمل التركيبي الذي ستقوم به مقولات الفهم القبلية.
هكذا فعمل المخيلة يتمثل حسب كانط في وضع رسوم تخطيطية للمقولات تمكن من تصورها على نحو حسي.
ويمكن القول أخيرا، بأن الهدف الذي كان كانط يسعى إليه من وراء الاستنباط الصوري للمقولات هو البرهنة على صحة القضية الأساسية التي تقوم عليها الفيزياء النيوتونية، وهي أن الطبيعة تخضع لقوانين، وأن ظواهرها محكومة بعلاقات كلية وضرورية. انطلاقا من هنا لم يوافق كانط هيوم في قوله بأن العلية ناتجة عن العادة والتكرار، ورأى على العكس من ذلك بأن العلية شأنها شأن باقي المقولات هي مبدأ أولي قبلي عن طريقه يربط الفهم بين الظواهر المتعاقبة في الطبيعة برباط حتمي وضروري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق