إن السؤال الرئيسي في فلسفة كانط المعرفية هو: ماذا أستطيع أن أعرف ؟
وهو سؤال يفترض وجودا سابقا للمعرفة أو أن المعرفة ممكنة ويتساءل عن حدودها وشروطها. فالمعرفة عند كانط واقعة معطاة، موجودة ومتحققة في العلوم (في الرياضيات والفيزياء). ولذلك يصبح العمل الفلسفي الرئيسي عنده في مجال المعرفة هو « نقد العقل النظري»، أو بعبارة أخرى: تشريح المعرفة تشريحا منطقيا بقصد اكتشاف الأسس التي تقوم عليها وتعيين حدودها وطبيعتها. بهذا المعنى تبدو الصيغة الفعلية للسؤال هي: كيف تكون المعرفة ممكنة ؟
لقد سبق للعقليين أن أجابوا على هذا السؤال بأن المعرفة إنما تكون ممكنة بالعقل وحده، وأجاب التجريبيون بأنها لا تكون ممكنة أبدا إلا بالتجربة الحسية. أما كانط فإنه لا يوافق أيا من المذهبين على الوقوف عند جانب واحد هو جانب العقل أو الحس، بل هو يركب الجانبين معا، ويتجاوزهما بنظرية جديدة هي النظرية النقدية. فلا بد من الجمع بين التجربة والعقل؛ وذلك لأن التجربة تتميز بالواقعية، بينما تتميز أحكام العقل بالضرورة، والعلم الحق يجب أن يكون واقعيا وضروريا معا. ومن هنا ندرك أنه لا بد من الجمع بين الواقعية والضرورة، أي بين التجربة والعقل لتكوين المعرفة الحقة.
فالتجربة الحسية واقعية لا يجوز الشك فيها، وهي موضوع إدراك حدسي، فهي إذن مادة المعرفة. إلا أن هذه التجربة تبقى عمياء غامضة، لولا العقل الذي يتضمن الشروط أو المبادئ الضرورية التي تجعل من التجربة مادة معقولة، وتمثل تلك المبادئ صورة المعرفة وهي التي يسميها كانط مقولات CATEGORIES . إلا أن هذه المبادئ أو المقولات العقلية ليست ذات قيمة أو معنى من دون التجربة، إذ أنها ليست أفكارا بمعنى الكلمة أو معاني فطرية، إنما هي مجرد روابط لتوحيد التجربة المشتتة. وهكذا نرى كانط يجمع بين التجربة والعقل، ويجعل كلا منهما بدون معنى إلا عندما يتحدان معا. ومن ثم يقول كانط: « إن المقولات العقلية جوفاء بدون التجربة، كما أن هذه التجربة عمياء بدون تلك المقولات ».
لقد تبين لنا أن المعرفة عند كانط هي نتاج تضافر بين العقل والحس؛ فالحواس تنقل إلينا عن العالم الخارجي ما تستطيع أن تنقله من انطباعات، تتأطر في صورتي المكان والزمان القبليين، وتنتظم مع غيرها في مقولات العقل، وبذلك نحصل على معرفة بالموضوع، معرفة تتم من خلال ذواتنا. ولذلك لا تكون معرفة بالموضوع كما هو في ذاته وإنما بالموضوع كما يظهر لنا، أي كما رسمته حساسيتنا وصنعته مقولاتنا.
وعلى هذا الأساس يميز كانط بين مستويين في الموضوع: مستوى الظاهرة PHENOMENE وهو ما يمكننا أن نعرفه، ومستوى الشيء في ذاته NOUMENE وهو ما لا نعرفه وما لا سبيل لنا إلى معرفته أبدا. وبهذا المعنى، فإن معرفتنا نسبية وليست معرفة مطلقة.
عندما يرتبط العقل بالتجربة يسميه كانط فهما، ولكن العقل أحيانا يتجاوز حدود التجربة وشروطها، فيصبح « عقلا جدليا » يجوب فضاء الميتافيزيقا معتمدا على مقولاته فقط، طامعا في معرفة مطلقة بموضوعات لا يملك عنها أي معطيات حسية مثل: الله والروح وقدم العالم، فلا يحصل إلا على نقائض لا يمكن حلها.
إن الحدود التي يملك العقل « حق المواطنة داخلها » هي حدود التجربة الحسية، ولذلك يرفض كانط البحث الميتافيزيقي التقليدي ويعتبره متاهة لا تفضي إلى أية نتيجة.
غير أن السؤال الذي يفرض نفسه على الموقف الكانطي هنا هو: هل بوسع الإنسان أن يتجنب الميتافيزيقا فلا يفكر في الله والروح والمصير الأبدي ؟
إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي كما يقول شوبنهاور. وكانط نفسه يعترف بأنه حتى لو أمكننا أن نتخلى عن التفكير في العلوم جميعا، فإنه يستحيل أن نتخلى عن التفكير الميتافيزيقي، لأن مشكلات الميتافيزيقا تنبع من صميم وعينا بوجودنا، وتلح علينا بطريقة لا نملك معها الإفلات من قبضة أسئلتها.
ولكن إذا كان الأمل مفقودا في الوصول إلى أجوبة عنها، فما سر هذا الشعور العجيب الذي يدفع العقل نحو الميتافيزيقا ؟
هنا يلجأ كانط مرة أخرى إلى إقامة الحدود، حدود بين ما نستطيع معرفته وبين ما نملك حق التفكير فيه فقط ؛ فبمقدورنا أن نفكر في الظواهر ونعرفها، أما الميتافيزيقا فنملك حق التفكير فيها، ولكن شرط أن نعلم –مبدئيا- أننا لن نحصل بصددها على معرفة من نوع المعرفة العلمية.
إن كانط إذ يقفل باب الميتافيزيقا في وجه العقل النظري باسم المنطق والعلم، يعود ليفتح الباب في وجه العقل العملي باسم الأخلاق والإيمان. فيسلم بحرية الفعل الأخلاقي، وخلود النفس ووجود الله.
لقد عجز العقل من حيث هو فكر يطلب المعرفة عن إثبات هذه الأمور الأساسية الثلاثة فنصب بينه وبينها حدودا، ولكن العقل من حيث هو عمل وممارسة أخلاقية يجد أن منطقه لا يستقيم بدونها، فيسلم بوجودها. وهنا يتجاوز الإيمان حدود المعرفة، ولعل هذا ما تدل عليه عبارة كانط المشهورة: « لقد ضحيت بالعلم في سبيل الإيمان ».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق