يرتبط المخيال في الثقافة الإسلامية، حسب محمد أركون، بثلاثة أبعاد رئيسية: العقل، والإيديولوجيا، والتاريخ.
1- المخيال والعقل في الثقافة الإسلامية:
يلاحظ أركون أنه غالبا ما تعرض المخيال للاحتقار لصالح تضخيم ملحوظ لدور العقل في تاريخ الثقافة الإسلامية. وقد حصل ذلك، بالأساس، نتيجة التضامن الحاصل بين الثقافة الحضرية العالمة من جهة، والدول المركزية المرتبطة بالكتابة والخط الأرثوذكسي المهيمن من جهة أخرى. بل حتى ” المضامين “الخرافية” والقصص الشعبية التي اهتم بها الكتاب القدامى كثيرا وجمعوها في كتب التأريخ والتفسير والسيرة والتراجم، كان العقل الفيلولوجي والتاريخاني قد كشف مواقعها بدقة وحذفها “.(1) لذلك يؤكد أركون في مشروعه لنقد العقل الإسلامي على ضرورة القيام بدراسات حرة ولا مشروطة للآداب الشعبية (الجماعات البربرية في المغرب مثلا)، على ضوء المعطيات الجديدة التي تمدنا بها الألسنيات والإيثنولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ… من أجل إعادة الاعتبار للعقل “الشفهي” الذي طالما همش من طرف العقل “الكتابي”، ومن أجل التوصل كذلك إلى تفهم الدور الذي تلعبه التركيبات الأسطورية والخرافات والشعوذات والسحر،الخ… في تكوين الذات التاريخية للجماعة البشرية.
من هنا يرى أركون بأن نسبة العقل أو مقدار تواجده في الكثير من القطاعات والمنتجات الثقافية في الحقل الإسلامي، يحتاج إلى إعادة رؤيته وتقييمه انطلاقا من أنثروبولوجيا المخيال وعلم الاجتماع المهتم بالعلاقات المتداخلة بين العوامل الأسطورية والشعائرية والتاريخية. كما يحتاج إلى دراسة معمقة لمستويات المعنى الخاص “بالعقل الكتابي” وذلك الخاص “بالعقل الشفهي”. وهذا ما يغيب في معظم الدراسات التي يقوم بها المستعربون وعلماء الإسلاميات الغربيين الذين يظلون بعيدين كل البعد عن التقدم الذي عرفه البحث العلمي المعاصر، هذا في الوقت الذي نجد الباحثين في المجتمعات الغربية يستفيدون في دراستهم لتراثهم الخاص من منجزات العلوم الإنسانية المعاصرة. أما بخصوص الباحثين العرب والمسلمين فالوضعية أكثر سوءا؛ فما يطغى على الساحة الآن هي الأدبيات النضالية الحماسية التي تفتقر إلى أدنى الشروط العلمية.
إن الهدف الأساسي الذي يرمي إليه أركون هو ” التوصل إلى معرفة أفضل لوظائف العامل العقلاني والعامل الخيالي(المخيال)، ودرجات انبثاقهما وتداخلهما وصراعهما في مختلف مجالات نشاط الفكر التي سادت المناخ الإسلامي “.(2) فهو يهدف ضمن مقاربته المنهجية للفكر الإسلامي إلى ” توضيح التنافس المستمر بين المعرفة الأسطورية والمعرفة العقلانية وروابطهما المتغيرة والمتحولة “.(3) وانطلاقا من دراسته للثقافة الخاضعة لأديان الكتاب(اليهودية،المسيحية،الإسلام)، يرى أركون أن هناك نوع من التوتر ما بين الأسطورة والعقل، وما بين المخيالي والعقلي. هكذا ” لم تكن هناك في الإسلام حدود واضحة ونهائية، كما يدعي بعض الكتاب المتسرعين، ما بين (الأسطورة-الرمز-المخيالي-المعنى الباطني-المنطق التعددي) الملحق بالشيعة، ثم (المنطقية المركزية-العلامة-الإشارة-الحرف-العقل الشكلي التصنيفي) الملحق بالجهة السنية “.(4)
من هنا فالعلاقة غير مفصولة بين العقلي والمخيالي داخل عملية الإنتاج الفكري في الثقافة الإسلامية، هذه العملية التي لا يمكن فصلها عن الأطر الاجتماعية والتاريخية التي تنتج داخلها. فكل فئة أو جماعة تسعى من منظورها إلى تثبيت أنظمة رمزية وثقافية من أجل ترسيخ وجودها وتدعيم ركائزه. هكذا فقد سعى الإسلام “السني” عبر التاريخ إلى التركيز على مفهوم الإسلام “العقلاني” و”الشرعي” البعيد عن كل التركيبات الخيالية. مما يوضح التنافس القديم بين الخيالي والعقلاني في الفكر الإسلامي. ويدعو أركون من جهته إلى البحث عن التاريخية العميقة والمنشأ القديم لهذا التنافس. من هذا المنطلق يتساءل أركون عن الأسباب التي أدت إلى فشل ابن رشد كممثل للعقلانية في الوسط الإسلامي، ونجاحه بالمقابل في الوسط اللاتيني المسيحي. كما يتساءل من جهة أخرى عن الأسباب التي أدت إلى ازدهار الخيال الخلاق لابن عربي في المشرق الشيعي على وجه الخصوص وفي المغرب الإسلامي أيضا. ولا يقدم أركون هنا أجوبة محددة بخصوص هذه التساؤلات، بل يكتفي فقط بالتأكيد على أن مثل هذه التساؤلات تطرح على المؤرخ إشكالات نفسية-اجتماعية وثقافية ضخمة وذات أهمية كبرى. ويختصر أركون الوظائف المنوطة بمؤرخ الإسلام اليوم في ثلاث رئيسية:
1- يجب على المؤرخ أن يبين كيف أن المخيال يمارس وظيفته بشكل فعال لدى أوساط الجماهير في الوقت الراهن كما بالأمس، أكثر مما يفعله العقل الوضعي الذي يمارسه المؤرخ الفيلولوجي.
2- يجب أن يدرس العمليات التي يعمل من خلالها المخيال الجماعي على إعادة إنتاج ذاته واستمراريتها في التأثير على المسار التاريخي للمجتمعات الإسلامية.
3- ينبغي على المؤرخ إدخال المنهجيات العقلانية إلى المجال العربي الإسلامي، حتى لا تترك الساحة للتصورات العمياء التي تتميز بها البسيكولوجيا العميقة للجماعات البشرية المسلمة.(5)
وإذا كان المخيال يؤثر بشكل فعال في أوساط الجماهير، فذلك يتم بمصاحبة خطاب شعري قوي يعرف كيف يحرك العناصر المخيالية لدى الناس وإعادة الحياة لها من جديد، بغية توظيفها في المناسبات الحرجة التي تستدعي تجييش الجماهير وتحريكها للنضال الإيديولوجي والسياسي. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان المخيال يرتبط بالخطاب الشعري والشعرية، فإن هناك علاقة تداخل بين الخطابين العقلي والشعري. في هذا السياق يرى أركون أنه عادة ما يفصل بين الشعر والفلسفة باعتبارهما يختلفان جذريا؛ حيث يعتمد الشعر الخيال الخلاق بينما تخضع الفلسفة للصرامة العقلية والتحليل النقدي. وهذا ما جعل ” البعض يحجم عن توضيح درجات تجلي طبيعة كل من هاتين الوظيفتين البسيكولوجيتين (الشعر والفلسفة)، وتوضيح البنية البسيكولوجية العميقة المرافقة لهما “.(6) من هنا تأتي ضرورة إعادة النظر في الكثير من الكتب المصنفة في خانة الفلسفة، كما يجب تلمس درجة الشعرية في الكثير من الكتابات المدرجة تحت ما يسمى بالشعر العربي. ولن يتم هذا جيدا إلا بتقديم دراسات مدققة على الأصعدة اللغوية والسيميائية والنفسية. فالشاعر يعمل على توليد الانفعالات الجمالية الكبرى عن طريق تحوير المعنى اليومي المعيشي إلى معنى مجازي. كما أن التعبير الشعري لا يسلم من المبادئ والقوالب التي كرسها “العلماء” ، بل ينشر – بشكل ضمني على الأقل – القيم والتصورات المرسخة في مخيال الجماعة. لذا يذهب أركون إلى ” أنه من المهم التفريق بين المخيال (أو الخيال) الشعري وبين المخيال الاجتماعي، من أجل أن نستكشف بشكل أفضل أنماط تدخل العقل في كل حالة من هاتين الحالتين “.(7)
هكذا إذا كان الخيال الشعري منفتح على كل التفجرات الدلالية التي تخولها له وسائل إبداعه الخاصة، فإنه يستمد أيضا عناصر المعرفة والإدراك من المخيال الجماعي، ويعمل على توطيدها في عوالم غائرة وسحيقة من الذات الجماعية. كما يجسد المخيال حضوره في المجالات التي يظن عادة أن العقل يسيطر فيها بشكل مطلق ونهائي، وهو ما يعني أن هذا المخيال ليس أبدا هراءا ولغوا يفتقد بشكل كلي إلى أية مرجعية “عقلية” أو تاريخية. وكما يقول الميلودي شغموم فإن ” العقل ليس مستقيلا في النقل كما يعتقد البعض عن خطئ، ولا في المتخيل، كما يعتقد البعض الآخر… إن هذه الاستقالة المزعومة للعقل تفترض أن العقل يجب أن يشتغل بطريقة واحدة في جميع المجالات. والواقع أن العقل… يشتغل بطريقتين مختلفتين (بل وبطرق مختلفة) “.(8)
هكذا فالأساليب التي يستخدمها الفيلسوف في تحوير الواقع، بمساعدة نوع من المفردات والأساليب البلاغية، تذكرنا بتلك التي يستخدمها الشاعر. والفرق يكمن فقط في أن الفيلسوف يقدمها ممنهجة في مخيال نخبة محدودة، بينما اللغة الشعرية تتميز بقدرتها على التغلغل والتأثير في أوسع الطبقات الاجتماعية.(9)
من خلال ما تقدم يتبين لنا أن هناك مجموعة من الأحكام المسبقة والمرسخة بعمق تتحكم في نظرة المؤمن إلى الكون والإنسان والمجتمع، وهي تملأ الوعاء المخيالي لديه. والشاعر لا يسلم أيضا من تأثير هذه الأحكام، مادام منخرطا بكليته في هذه العوالم المخيالية التي تحدد التصور العام لأفراد الجماعة. وفي هذا الصدد يقول أركون: ” إن المخيال يمثل وعاء يستقبل بكل سلبية صور الواقع على الهيئة التي كانت تجربة الجماعات قد أنجزتها انطلاقا من تاريخها وطريقة اندماجها في وسطها المادي والفيزيائي “.(10)وهذا ما يؤدي إلى تمجيد ورفع الوقائع والشخصيات التاريخية إلى درجة التعالي والتسامي.
ويمكن أن ننتهي من كل ما سبق إلى تسجيل الخلاصات التالية:
- هناك تضخيم لدور العقل في تاريخ الثقافة الإسلامية، وذلك نتيجة عوامل
إيديولوجية وتاريخية متعددة.
- صعوبة الحديث عن انفصال بين العقلي والمخيالي داخل عملية الإنتاج الفكري في الثقافة الإسلامية.
- هناك تنافس ملحوظ – لاسيما داخل الأوساط السنية- بين البعدين العقلاني والمخيالي، مما يحتم ضرورة البحث عن التاريخية العميقة لهذا التنافس.
- إن “ما ندعوه “بالعقل” لا يمارس فعله أبدا بشكل مستقل… العقل يمارس فعله ودوره دائما على علاقة مع الخيال والمخيال “.(11) وهي علاقة معقدة ومتشابكة يجب الكشف عنها في أي إنتاج معرفي أو فكري. فالعقل الكلي المطلق، الواثق بذاته، والذي طالما ادعى الوثوقية والتماسك طيلة تاريخ طويل من حياة البشرية، أصبح الآن يتفتت ويتفكك من قبل المنهجيات والأدوات المعرفية المعاصرة ليصبح الحديث عن عقلانيات متعددة بذل عقلانية واحدة.
2- المخيال والإيديولوجيا:
يقول جورج بلاندييه (G.Balandier) : ” المقدس هو أحد أبعاد الحقل السياسي “.(12) فهناك علاقة قوية بين مختلف عناصر الإستراتيجية السياسية؛ “فالله والأموات والسحرة يدخلون في نظام السلطة مثلما يدخل فيه الأحياء من الناس”.(13) من هنا “فالمخيال الديني مهيأ جدا لأن يجيش ويعبأ من أجل شن المعارك “المقدسة”. وتكمن وظيفة علمي التاريخ والأنثروبولوجيا في تعرية الحقائق المقنعة والمحجوبة من قبل المتلاعبين بالمخيال الديني”.(14)
هكذا يميز أركون بين الحقيقة التي يريد أن يوصلها الفكر العلمي، وبين “الحقيقة النفسية-الاجتماعية” التي تروج لها الحركات الجماهيرية عن طريق التجييش والتعبئة. ففي خضم الصراعات التي تعرفها المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن نجد كل جماعة أو حركة تشرئب بعنقها نحو الماضي التليد، تتوسل إلى أحداثه وشخوصه المرسخة بعمق في المخيال لدى المسلم، طالبة منه العون والطاقة التي تمكنها من تحميس الجماهير وتحريكها نحو الأهداف والمرامي المسطرة في برامجها. من هنا فقد أصبحنا نرى الساحة خلوة أو تكاد تخلو من النقد الفلسفي والعلمي الذي أصبح يحتل مجالا ضئيلا بسبب طغيان إيديولوجيا الكفاح والخطاب النضالوي المتحمس. ويؤكد هذا الأخير، وبشكل عنيف، على وجود نوع من “العقلانية” ذات الجوهر الإلاهي تعمل من جهتها على تحريك التاريخ وتوجيهه. كما تستغل المخيال الجماعي وتعمل على توسيعه داخل أكبر قدر ممكن من الشرائح الاجتماعية. وتعتمد في ذلك على مجموعة من القنوات والمنابر نذكر منها: المواعظ في المساجد، المؤتمرات العامة، مقالات الصحف، المجلات، الخطب الرسمية…
هكذا فالخطابات النضالوية للحركات المدعوة إسلاموية أو متزمتة أو أصولوية، تعمل جاهدة على استعادة “النموذج الأكبر للمدينة” أو “تجربة المدينة” باعتباره مرجعا كونيا لا يمكن تجاوزه. كما تستعين بتلك الصورة الرمزانية التي نجدها في الخطاب القرآني، والتي تؤسس التناقض المطلق بين صورة النبي باعتباره رمزا للعدل والعدالة وبين صورة الفرعون أو الطاغية كرمز للظلم والطغيان. وقد عمل الخميني مثلا على استعادة هذه الرمزانية القرآنية (Symbolique coranique) المرسخة بعمق في المخيال الجماعي للمسلمين من أجل الثورة ضد الشاه، ونفس الشيء تعمله الحركات الإسلاموية في بقية أقطار العالم الإسلامي، وإن بنجاح أقل.
إن كل سلطة في إطار تبرير شرعيتها تعمل على خلق نوع من “المسرحة السياسية”(15)، وذلك بأن توهمنا بأنها تنتج الحقيقة التي لا تعلو عليها أية حقيقة أخرى. وهذا هو السر الذي جعل السلطة، ولزمن طويل، تستند على الدين لخلق سيادة عليا تغطي بها سيادتها على المستوى السياسي والإيديولوجي. من هنا وجب حسب أركون، القيام بنقد فلسفي وتاريخي لمفهوم السلطة في الإسلام، هذا المفهوم الذي يقوم على ألاعيب الإخراج السينمائي أو المسرحي أكثر مما يقوم على النقل الأمين والصحيح للحقائق المؤسسة.(16) هكذا فالخطاب الاجتماعي يدعي أن الله أو الوحي هو الذي يمارس الحكم، في حين أن الواقع يكشف على أن الواقع يكشف على أن الفاعلين الاجتماعيين أو الحكام الفعليين هم المسيرون الحقيقيون لشؤون الحكم. إن هذا الوهم ترسخ لدى المخيال الواسع للجماهير المسلمة طيلة التاريخ الإسلامي، ومنذ أن انخرط الفقهاء مع بداية الدولة الأموية في إضفاء الشرعية على السلطة السياسية. وفي هذا السياق يقول أركون: “الدين يهيمن بالفعل، ولكنه لا يحكم في أي مكان”.(17) وبالرغم من هذا فالمخيال الإسلامي يرفض أن تكون الحكومة مستقلة عن إرادة الله أو الوحي. ويلاحظ أركون أن مثل هذا المخيال شيء ضروري في سيرورة المجتمع وميكانيزمات اشتغال السلطة فيه، ف “لا يوجد أي مجتمع بشري يمارس دوره أو آليته بشكل مختلف، أي بدون تشكيل متخيل ما. فحتى النظام الجمهوري يحتاج إلى المتخيل لكي تستقيم أموره”.(18) فالمخيال الجمهوري مثلا في فرنسا ما بعد الثورة ليس هو المخيال الكاثوليكي والملكي القديم. من هنا فللمخيال تاريخ خاص مرتبط بدرجات تحول وتطور المجتمع البشري.
ويمكن القول مع أركون “إن الأشياء تمارس دورها بكل ارتياح وحبور في الخيال أوالمتخيل. فإذا قلت كما يقول المسلمون عادة، بأنه لا توجد سيادة سياسية على وجه الأرض غير مرتبطة بالسيادة الإلاهية ومرتكزة عليها وخاضعة لها، فإني أسقط في أحضان المتخيل الواسع الكبير”.(19) والواقع يكذب هذا التصور تماما، ويكشف بالمقابل عن الطابع العلماني والدنيوي لأكثر الأنظمة ادعاءا للمشروعية الدينية.
3- المخيال والتاريخ:
إن سيطرة المخيال الديني على أفراد الأمة يجعل كل عضو من أعضائها يقفز على الأحداث التاريخية، ليعيش وبشكل مباشر وأسطوري مع كل السابقين واللاحقين المعتبرين كرموز وشخصيات مؤسسة لمعنويات الأمة وقيمها الخالدة. من هنا يتحدث أركون عما يسميه بالدينامو الروحي الذي يحرك آمال الجماعة المؤمنة، ويملأ عليها كل شعورها وإحساسها، كما يقدم لها غاية أنطولوجية وأخروية تخلع صبغة التقديس والتعالي على كل الأعمال التاريخية المنجزة من خلال ملابسات الصراع الأرضي. في هذا السياق يقول هاشم صالح: “لا يستطيع عقل المؤمن التقليدي أن يستوعب تاريخية الأحداث التأسيسية والشخصيات الكبرى المندمجة، لأنها تملأ عليه أقطار وعيه ويشعر نحوها برغبة التقديس، وبالتالي فلا يستطيع أن يفهم أنها مشروطة بالتاريخ أو بلحظة محددة من لحظات التاريخ. وهذا هو معنى المخيال أيضا (L,imaginaire) “(20)
هكذا نجد أركون يريد الوقوف على المكونات التاريخية الأساسية التي تحتل مكانة كبرى ضمن عناصر المخيال لدى المؤمن. وانطلاقا من هذا المنظور، نجد أن المخيال الجماعي لدى المؤمنين قد تشكل عبر تلك السيرورة الاجتماعية-التاريخية التي شهدها التاريخ الإسلامي. فهناك “حقل معنوي سيمانتي ومتماثل ثابت لا يتغير، يسبح فيه أو يتحرك فيه دون أي نشاز كل الناقلين للأمانة الأصلية أو الوديعة الأولية”.(21) من هنا سينشأ تصور مثالي وأسطوري عذب للتاريخ، يغيب معه كل اعتبار لمصالح وصراعات الفئات الاجتماعية المختلفة. ويظل الوعي الإيماني يغفل الشروط الثقافية والسياسية والنفسية التي تمت فيها الصياغة الأسطورية والخيالية للأحداث التاريخية الدنيوية، كمقتل علي والحسين واضطهاد الخوارج وصلب الحلاج،الخ…
ويؤكد أركون على بعض الملابسات التاريخية التي تحكمت فيما بعد في تشكيل مخيال معين لدى هذه الجماعة أو تلك داخل التاريخ الإسلامي. فبالرغم من وجود مخيال مشترك لدى مجتمعات الكتاب، والمتمثل أساسا في التصورات التي يرسخها الوحي أو معطى الوحي كما يحب أن يسميه، فهناك بعض العناصر التي ينفرد بها كل مخيال على حدة، بحسب المعطيات التاريخية المتحكمة في تاريخ الجماعة وفضائها الدلالي. وهكذا فبالإمكان الحديث عن مخيال خاص بالشيعة وآخر خاص بالسنة، وهكذا. فالشيعة يتصورون مثلا بأن النبي ترك لعلي وذريته مسؤولية السلطة الروحية والسياسية ليحافظوا عليها حتى نهاية التاريخ؛ فوديعة الوحي ملقاة على عاتقهم، وهم وحدهم دون غيرهم المسؤولون عن إدارة شؤونها بقيادة إمام عادل. من هنا ففي الوقت الذي “نجد الشيعة تكتفي بالأحاديث المنقولة عن الإمام علي وذريته الذين يتمتعون جميعا بجاذبية شخصية وبهيبة قدسية(كرزمية)”(22)، نجد السنة(أهل المذهب السني) (23) يدعون الانتساب إلى سنة النبي، وهم “يتلقون بورع وطاعة كاملة الأحاديث المنقولة عن الخلفاء الثلاثة الأول المدعوين بالراشدين”.(24)
إن الخلاف بين الجماعتين أو الطائفتين السابقتين، لا يرجع فقط إلى الخلافات السياسية والإيديولوجية التي يمكن أن نعتبرها ثانوية، بل هناك عمق في ” الخلاف ذي الطبيعة الأنثروبولوجية بين الوعي الأسطوري والخطاب التأريخي، أو بين الخطاب الأسطوري والخطاب المركزي العقلاني (Logocentrique) ، أو بين الرمز والعلامة، وحتى بين الإشارات الثقافية والمخيال من جهة، وبين العقل الاستدلالي المنطقي(من جهة أخرى)، وبين المعنى المجازي والمعنى الحرفي…”.(25) فقد عملت الأرثوذكسية الخاصة بكل جماعة على تشكيل مخيال لدى قطاعات واسعة من الناس يصعب اختراقه، “إنها تفرض نوعا من “الحقائق السوسيولوجية” التي تمنع ظهور الحقائق الحقيقية: أي التاريخية والعلمية أو الفلسفية. إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية المخيال الجماعي، فإنه ليس من المهم كثيرا التساؤل هل بعض المقولات الأرثوذكسية الشائعة صحيحة أم خاطئة من الناحية التاريخية والعلمية، وإنما المهم طرح السؤال التالي: كيف استطاعت هذه المقولات أن تسيطر على الأذهان والعقول طيلة قرون وقرون؟ هنا نصطدم بمسألة حاسمة في تاريخ الفكر تخص العلاقة بين العامل الرمزي والعامل المادي، وتحول العامل الرمزي إلى قوة مادية ضاغطة تلعب دورا لا يستهان به في تحريك التاريخ أو إيقاف حركته”.(26)
انطلاقا من كل هذا، يرى أركون أن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتوصل حتى الآن إلى التمييز بين الأسطورة والتاريخ، إنه يخلط بين هذين الطرازين من المعرفة، وينتقل من الواحد إلى الآخر دون أي انزعاج أو تساؤل إبستمولوجي، ودون أن يشعر بأية مشكلة. فلا يمكن للفكر الإسلامي أن يساهم في إنجاز الحداثة بشكل فعال إذا بقي يخلط بين التراث التاريخي والتراث الميثولوجي(الأسطوري). ففيما يخص علاقة هذا الفكر بالصحافة كفاعلين اجتماعيين وتاريخيين، نجده لا يزال يعيش على أفكار ابن حجر العسقلاني(مات سنة 852هجرية) وأسلافه. إن ” كتاب “تراجم الرجال” لابن حجر تصور لنا شخصيات مثالية ترتفع بالمخيال الإسلامي الشائع وتجيشه، وتنكر(=تقنع،تحجب) في ذات الوقت الحقيقة التاريخية المتعلقة بكل شخصية من الشخصيات المترجم لها”.(27) من هنا يجب إدخال الحس التاريخي والتاريخية في دراسة الفكر الإسلامي، للكشف عن العناصر الأسطورية التي طالت الأحداث التاريخية التأسيسية. خصوصا وقد طغت الرؤية الخيالية على نظرة المفكرين الأوائل، فيما يخص تعاملهم مع الأحداث التاريخية. ويذكر أركون في هذا الإطار كتاب أمثال؛ الواقدي وأبو مخلف وابن إسحاق وابن عبد الحكيم والطبري…، وحده ابن مسكويه بحسه العقلاني واجه هذه الرؤية الخيالية، إلا أن أخلافه لم يطوروا منهجيته حتى مجيء ابن خلدون.(28) وقد نجم عن تلك الرؤية تهميش جوانب هامة من الحياة الاجتماعية والثقافية، وهي تلك التي تتعلق بالجوانب غير المكتوبة وغير الحضرية وغير النخبوية، ذلك أن ” التضاد الثنائي بين الخاصة والعامة، يمثل أحد المصادر الأساسية للرؤية العربية الإسلامية الكلاسيكية التي سادت الفضاء الاجتماعي والتاريخي المعروف، ولا يوجد أي استثناء خارج هذه الرؤية حتى ابن خلدون… وحده أبو حيان التوحيدي احتج ضدها بقوة وعنف. إن اسمه يلمع كاستثناء شاذ وغريب في خضم التاريخ “.(29)
يتبين من خلال المباحث الثلاثة السابقة أنه لا يمكن فصل المخيال عن الأبعاد الثلاثة؛ العقل والإيديولوجيا والتاريخ. فهو – أي المخيال – يستقي عناصره ومكوناته من الأحداث والرموز التاريخية التي يعمل الوعي الجماعي على نمذجتها وأسطرتها، بشكل تصبح معه تلك الوقائع والأشخاص مرسخة في الأعماق السحيقة للفرد. وهذا ما يسهل عملية الاستغلال الإيديولوجي. وإذا كان المخيال يجسد حضوره دوما، بشكل أو بآخر، في مختلف أنماط الثقافة الإسلامية، فإن أركون يؤكد على الدور الذي يلعبه في توجيه المسار التاريخي، وفي عملية الإنتاج المعرفي والفكري داخل حقل الثقافة الإسلامية.
الهوامش:
1- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص31.
2- نفس المصدر، ص17.
3- نفسه المصدر والصفحة.
4- نفسه، 209.
5- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، نفس المعطيات السابقة.
6- نفسه، ص29.
7- نفسه، ص30.
8- الميلودي شغموم، المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي، مطبعة فضالة، المحمدية/المغرب، الطبعة الأولى 1991، ص288.
9- محمد أركون، المصدر السابق، ص30.
10- نفس المصدر والصفحة.
11- محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب، سلسلة بحوث اجتماعية، دار الساقي، ترجمة هاشم صالح، الطبعة الأولى 1990، ص 26.
12- جورج بالاندييه، الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص 93.
13- انظر كتاب ميدليتون المذكور في المصدر السابق، ص 94. وهو بعنوان:
Middleton (J): Lugbara religion;ritual and anthority among an east African people, Londres1960, p2et 23-24.
14- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي.
15- بالفرنسية:dramaturgie politique ، وقد أخذه أركون من كتاب جورج بالاندييه، وهو بعنوان:
Le pouvoir sur scène, balland, 1980
16- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي… ص268.
17- محمد أركون، العلمنة والدين… ص30.
18- نفسه، ص32.
19- نفس المصدر والصفحة.
20- محمد أركون، الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت 1987، ص20.
21- نفسه، ص26.
22- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي… ص27.
23- من المعروف أن أركون يتحدث عن “السنة الشاملة” أو “التراث الإسلامي الكلي” (أي التراث السني+ التراث الشيعي+ التراث الخارجي وكل تفرعاتها العديدة). وهكذا بالإمكان الحديث عن: السنة السنية والسنة الشيعية والسنة الخارجية…
24- محمد أركون، المصدر السابق، ص27.
25- نفسه، 29.
26- هاشم صالح، مجلة الوحدة، العدد 20، ماي 1986، ص 31.
27- محمد أركون، المصدر السابق، 18.
28- نفسه، 28.
29- نفس المصدر والصفحة.
30- محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الثانية 1992، 332.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق