ينطلق هيجل في كتابه “المدخل إلى علم ا لجمال “من طرح الإشكال التالي :” هل يجوز لنا أن ننعت بالجمال أشياء الطبيعة،كالسماء والصوت واللون الخ،وهل تستأهل هذه الأشياء بوجه عام ذالك الوصف ، وهل ينبغي بالتالي أن يوضع الجمال الطبيعي في مرتبة واحدة والجمال الفني ؟ ” (1 )
و للإجابة عن هذا الإشكال يعرض هيجل في ا لبداية لما يسميه بموقف الرأي الشائع أو النظرة الدارجة من مسألة العلاقة بين الجمال الطبيعي والجمال الفني، والذي بموجبه يقر أصحاب هذه النظرة بأن ا لجمال ا لفني هو دون مستوى ا لجمال ا لطبيعي ، وأنه يجب على الفنان أن يحاول في أعماله الفنية الاقتراب من الطبيعة لكي يكون عمله ذا قيمة فنية.
و هيجل يقدم وجهة النظر هاته من أجل أن ينتقدها ويتجاوزها. وهكذا يؤكد خلافا لتلك النظرة بأن ا لجمال ا لفني أسمى من ا لجمال ا لطبيعي لأنه نتاج للروح بينما هذا الأخير محكوم بالضرورة ا لطبيعية . يقول هيجل :”مادام الروح أسمى من الطبيعة ، فإن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته،وبالتالي إلى الفن. لذا كان الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي لأنه نتاج للروح.” (2)
وهكذا يعتبر هيجل أن أ بسط فكرة تخالج عقل الإنسان وروحه هي أرفع و أفضل بكثير من أعظم إنتاج للطبيعة، مادام أن الروحي أسمى من ا لطبيعي.
ويدعونا هيجل هنا إلى تأمل الجمال ا لطبيعي للشمس مثلا، فهذه الأخيرة لها موقع ودور أساسي في نظام ا لطبيعة، فهي محكومة بالضرورة الطبيعية ا لتي تنتفي معها كل حرية في الفعل. هكذا إذا نظرنا إلى الشمس انطلاقا من وجودها ا لضروري هذا داخل نظام الطبيعة، فإنه يغيب عنا جمالها ولا يصبح شيئا أساسيا مادام أن فعل
ا لشمس يختزل هنا إلى مجرد وظيفة طبيعية خالصة.
وإذا كان ا لجمال الفني أسمى من الجمال ا لطبيعي، فإننا نجد هيجل يوضح في هذا الإطار، بأن ا لسمو هنا لا يعني فارقا كميا بل فارقا كيفيا، ذلك انه لا يمكن أن نسجل أية خصائص تشابه بين الفن والطبيعة. إن الفن عند هيجل هو وسيلة أساسية لوعي الإنسان بذاته وبالعالم المحيط به، فقد جسدت الفنون أسمى وأرفع التصورات التي
أ نتجها الإنسان عبر التاريخ، ذلك “أن الحكمة والدين يتجسدان عينيا في أشكال يخلقها الفن الذي يضع بين أيدينا المفتاح الذي بفضله نمتلك القدرة على فهم حكمة العديد من الشعوب وديانتها.” (3) هل الفن تعبير عن الوهم ؟ يرجع هيجل إلى الفكرة الأفلاطونية التي ترى أن الفن هو تعبير عن الوهم باعتباره يصور فقط ظاهر الأشياء الموجودة في الواقع الحسي وا لتي تعتبر مجرد ظلال أو أشباه حقائق بالقياس إلى تلك ا لموجودة في عالم المثل.
يرجع هيجل إلى تلك الفكرة لكي يؤكد على أن للفن ظاهر خاص به، و هذا الظاهر الذي تجسده الإبداعات الفنية هو مختلف تمام الاختلاف عن الواقع أو العالم الخارجي، لذلك فإذا كان بإمكاننا القول بأن ظاهر الفن هو شيء وهمي بالقياس إلى الواقع، فإن بإمكاننا القول أيضا بأن الواقع هو ظاهر أكثر وهما و خداعا مما يقدمه الفن.
إن الواقع عند هيجل هو مجمل الأشياء الخارجية وأيضا مجموع الإحساسات التي تثيرها فينا هذه الأشياء ، و”هذا المجموع من الأشياء والإحساسات ليس عالم حقيقة،وإنما عالم أوهام، فنحن نعلم أن الواقع الحق يوجد فيما وراء الإحساس المباشر و الأشياء التي ندركها إدراكا حسيا مباشرا، فنعت الوهمي ينطبق إذن على العالم الخارجي أكثر بكثير مما ينطبق على ظاهر الفن”(4) .
من هنا يمكن أن نستنتج أن هيجل يتفق مع أفلاطون بأن ما ندركه حسيا من ظاهر الأشياء لا يمثل الحقيقة بل يمثل الوهم، و لكنه يختلف معه في أن الفن لا يجسد ظاهر الأشياء، و بالتالي فهو لا يعبر عن الوهم، و إنما للفن ظاهر خاص به إنه ظاهر يجسد الحقيقة و يجعلها ظاهرة أو متمظهرة (الفن شكل عملي للوعي) ذلك أن الفن هو في أساسه تعبير عن الواقع الحقيقي الباطني باعتباره مناسبة تسمح لجوهر الروح بأن يكون ظاهرا لنا و محسوسا و متجسدا بشكل عيني. إن الفن إذن لا يعبر عن الوهم بل يعبر عن الحقيقة كما يدركها الوعي، و هو إذ يتعامل مع الوقائع و الظواهر الخارجية، فهو لا يقدمها كما هي في سطحيتها و وهميتها ، بل يلبسها واقعية أعلى
و أسمى، وهي واقعية حقيقية متولدة عن الروح و ليس عن محاكاة الواقع الخارجي.
يشترك الفن- حسب هيجل- مع الدين و الفلسفة في هدف أسمى هو التعبير عن أرفع ما أنتجته الشعوب من أفكار و أسمى ما توخته من مطالب، و كثيرا ما شكل الفن الوسيلة الوحيدة لفهم ديانة شعب من الشعوب، لكن الفن”يختلف عن الدين و الفلسفة بكونه يمتلك القدرة على إعطاء تلك الأفكار الرفيعة تمثيلا حسيا يضعها في متناولها”.(5)
عن الفن إذن هو بمثابة تلك الحلقة الوسطى التي تربط بين العالم الخارجي الحسي من جهة و بين الفكر الخالص من جهة أخرى، و إذا كان الفن تعبير عن اهتمامات الروح
و انشغالاته، فهو مع ذلك لا يمثل أسمى تعبير عن الحقيقة باعتبار أنه شكل أدنى من أشكال الفكر.
و هكذا فالفن لا يعبر عن الحقيقة في كليتها، بل يعبر فقط عن درجة معينة منها،
و السبب يرجع إلى اعتماد الفنون على أساليب التعبير الحسي في تعاطيها مع الحقيقة ، و هذا ما جعل هيجل يستنتج أنه “في التسلسل الهرمي للرسائل التي تفيد في التعبير عن المطلق، تحتل الديانة و الثقافة النابغة من العقل الدرجة الأعلى، درجة أسمى بكثير من درجة الفن”(6) .هل الفن محاكاة للطبيعة؟ يرى هيجل أن هناك تصور قديم، و من أقدم من قال به أرسطو، وهو المبدأ الذي ينص على أن الفن محاكاة للطبيعة سواء تعلق الأمر بالطبيعة الخارجية أو بالطبيعة الداخلية.
و يرى هيجل أن المحاكاة في هذا التصور تتحدد باعتبارها ذلك “الاستنساخ البارع للأشياء كما هي موجودة في الطبيعة” (7). و تقليد الفن للطبيعة يستمد ضرورته باعتباره مصدرا للذة أو المتعة الوجدانية التي يحدثها فن المحاكاة في ذات المتلقي.
و حينما يرجع هيجل إلى التصور الأرسطي، فإن الهدف من ذلك هو نقد و تجاوز و رفض فكرة المحاكاة هاته، و هو يقدم كتبرير لرفضه هذا مجموعة من الحجج يمكن تلخيصها فيما يلي:
* الحجة الأولى: فن المحاكاة هو فن لا جدوى منه لأنه يقدم لنا أشياء (حيوانات، مناظر، أحداث إنسانية…) سبق لنا أن عرفناها في الواقع، فهو لا يقدم لنا إذن أي جديد. يقول هيجل:”ما حاجتنا إلى أن نرى من جديد في لوحات أو على خشبة المسرح حيوانات أو مناظر أو أحداث إنسانية سبق لنا أن عرفناها على اعتبار أننا رأيناها أو نراها في حدائقنا و في بيوتنا، أو أننا سمعنا في أحوال معينة، أشخاصا
من معارفنا يتحدثون عنها؟”(8 )
* الحجة الثانية:الأساليب المعتمدة في الفن محدودة، لذلك فهي لا تقدم لنا سوى جانب من الواقع و تغفل الجوانب الأخرى. و هذا يعني أنه حتى لو أراد الفن أن يقلد الطبيعة و ينسج على منوالها، فهو سيظل على أية حال دون مستواها.
وهنا يماثل هيجل ساخرا علاقة الفنان المحاكي للطبيعة بعلاقة الدودة بالفيل ذلك “أن الفن، بتطلعه إلى منافسة الطبيعة بمحاكاتها سيبقى أبد الدهر دون مستوى الطبيعة، ة سيكون أشبه بدودة تجهد و تكد لتضاهي فيلا” (9 )
* الحجة الثالثة: فن المحاكاة لا يقدم لنا سوى صورة شكلية عن الواقع، صورة غير حية، بل هي مجرد صورة كاريكاتورية عن الحياة .
* الحجة الرابعة: المتعة التي قد تنتاب الفنان المحاكي من جراء نقله الأمين لما هو موجود في الطبيعة هي متعة عابرة و زائلة و غير حقيقية ذلك أن عمل الفنان هنا هو عمل ينتفي فيه الإبداع الحقيقي ما دام “أن المضمون و المادة في محاكاة الطبيعة معطيات ليس على الإنسان أن يتحمل فيها من جهد غير جهد استعمالها .“(10)
و على العكس من هذا يرى هيجل أن المتعة الحقيقية هي تلك التي سيشعر بها الفنان لو أنتج شيئا نابغا منه فعلا و صادرا عن إمكانيته الذاتية.
و يسوق هيجل اعتراضا يرى أصحابه أن منتجات الطبيعة أسمى من منتجات الروح باعتبار أن الطبيعة من صنع الله، و هو ينتقد هذا التصور باعتبار أن”الله روح و تعرفه في الروح أسهل من تعرفه في الطبيعة”.(11 )
* الحجة الخامسة: فن المحاكاة هو فن مخادع ما دام أنه لا يستطيع أبدا الوصول إلى مستوى الطبيعة، و هنا يسوق لنا هيجل مثال الرسام الإغريقي زوكسيس(ق 5 ق م ) “الذي كان يرسم عنبا له ظاهر جد طبيعي بحيث كان الحمام يخدع به و يأتي لينقره، كما رسم براكسياس ستارة خدعت إنسانا هو الرسام نفسه “.(12)
* الحجة السادسة: فن المحاكاة هو فن فيه تكلف و تصنع، و من هنا فهو فن غث عديم المعنى. و هنا يعطي هيجل مثالا توضيحيا مفاده أننا نطرب لتغريد العندليب و لكننا لا نطرب بنفس الدرجة لإنسان يقلد تغريد هذا العندليب، والسبب في ذلك يرجع إلى أن العندليب يصدر في لاوعيه الطبيعي أصوات تشبه التعبير عن مشاعر إنسانية، و هكذا فما يبهجنا على وجه الحقيقة، ليس هو محاكاة الفن للطبيعة بل محاكاة الطبيعة لما هو إنساني.
* الحجة الأخيرة: التي يمكن أن نوردها هنا هي أن هيجل يرفض مبدأ المحاكاة من منطلق أنه إذا كان الرسم والنحت مثلا يمثلان مواضيع ذات شبه بما هو طبيعي، فإن فنونا اخرى كالهندسة المعمارية و الآثار الشعرية لا يربطها بالطبيعة أي شبه يذكر.
و كخلاصة عامة يرى هيجل أن جعل المحاكاة هدفا للفن هو حرمان للفنان من حريته و قدرته على الإبداع الذي لن يتأتى إلا بجعل المضمون الفني مضمونا روحيا أي صادرا عن الذات الإبداعية للفنان. و هكذا فالنزعة الطبيعية الخالصة لا تصلح أن تشكل القاعدة الجوهرية للفن.
و في الأخير نختم بهذا النص الذي يحدد من خلاله هيجل الهدف الحقيقي للفن. يقول هيجل:
” و بصورة عامة، يكمن هدف الفن في أن يضع تحت متناول الحدس ما هو موجود في الفكر الإنساني ، الحقيقة التي يؤيدها الإنسان في فكره، ما يجيش في صدر الإنسان و يحرك فكر الإنسان، ذلك ما يقع على عاتق الفن مهمة تمثيله. و هو يفعل ذلك بواسطة الظاهر الذي لا يثير اهتمامنا البتة بحد ذاته، و لكن الذي يكتسب أهمية من اللحظة التي يسهم فيها في إيقاظ الشعور و الوعي بشيء ما أسمى و أرفع فينا …
تحريك جميع المشاعر الممكن فينا، تسريب جميع المضامين الحية إلى باطن نفسنا،
و إثارة جميع هذه الخلجات الداخلية بواسطة واقع خارجي… إنما في ذلك تكمن قوة الفن الخاصة… يمكن أن يقال أن هدف الفن هو تلطيف الهمجية بوجه عام، و بالفعل يشكل هذا التلطيف للطبائع، لدى شعب ما يزال يحبو على طريق الحياة المتمدنة ، الهدف الرئيسي المعزو إلى الفن. و فوق هذا الهدف يقع هدف تهذيب الأخلاق الذي اعتبر لردح طويل من الزمن أسمى الأهداف”(13 ) .
الإحالات:
1- هيجل : ا لمدخل إلى علم ا لجمال ، ترجمة جورج طرابيشي ، دار ا لطليعة بيروت ، الطبعة الثانية 1988 ، ص8
2- نفسه ، ص 8
3- نفسه ، ص 10
4- نفسه، ص 30
5- نفسه، ص33
6- نفسه، ص34
7- نفسه، ص ص 36- 37
8- نفسه، ص 37
9- نفسه، ص 40
10- نفسه، ص 38-
11- نفس المرجع والصفحة
12- نفس المرجع، ص 45
13- نفسه، ص ص 46-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق