سنتناول مختلف الإشكالات المرتبطة بمفهوم الشخصية من خلال تطرقنا إلى المحاور التالية :
1- الشخص و الشخصية.
2- طرح الإشكالية.
3- تناول أهم التصورات التي قدمها الخطاب الفلسفي، الذي جاء في الفترة السابقة على
بزوغ ما سمي بالعلوم الإنسانية، حول مفهوم الشخصية وذلك بالتركيز على موقفين فلسفيين رئيسيين هما: الموقف الديكارتي والموقف الكانطي.
4- تناول أهم التصورات التي قدمها خطاب العلوم الإنسانية حول مفهوم الشخصية وذلك من خلال التطرق إلى:
* أهم المواقف في علم النفس: مدرسة التحليل النفسي(فرويد) والمدرسة السلوكية ( واطسون )
* موقف دوركايم.
* موقف رالف لينتون.
* موقف جي روشي.
5- تقديم مواقف فلسفية معاصرة دافعت عن حرية الإنسان في بناء شخصيته، وقالت بصعوبة دراسة الشخصية دراسة علمية عن طريق إخضاعها للمناهج العلمية القائمة على التجريب والقياس. الأمر يتعلق بالموقف الوجودي الذي نجده عند كل من الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر والفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، والموقف الفلسفي الذي جسده الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون.
ومعالجتنا لإشكالات الشخصية انطلاقا من هذا الترتيب المثبت أعلاه ، له دلالته ومغزاه من حيث أن الخطاب الفلسفي مع بداية العصر الحديث جاء ليعيد الاعتبار للذات الإنسانية التي جمدت طاقاتها وتعرضت لكل أنواع القهر والتسلط لطيلة قرون عديدة. وهكذا فقد ركز الخطاب الفلسفي على حرية الإنسان و على قدرته على إنتاج المعرفة والتحكم في مصيره، إلا أن الأمر سيتغير مع بزوغ العلوم الإنسانية التي سوف لن تركز على الشخص كجوهر ثابت وككيان حر، وإنما ستركز على الشخصية معتبرة إياها بناءا نظريا يمكننا من دراسة سلوك الإنسان ومعرفته بشكل “علمي” و” موضوعي”، وهو الأمر الذي سيحد من حرية الإنسان ويتم اعتبار شخصيته مجرد نتاج لمجموعة من الحتميات البيولوجية والنفسية والاجتماعية وغيرها.
وإذا كان الخطاب الفلسفي الحديث قد جاء بعد الاضطهاد الذي تعرضت له الذات في العصور الوسطى، فأكد على المقومات الأساسية التي تميز الشخص البشري كالوعي والحرية والكرامة، فإنه سيظهر خطاب فلسفي معاصر واكب العلوم الإنسانية وحاول الدفاع
عن حرية الإنسان وعلى قدرته على الخلق والإبداع والتحكم في مصيره بالرغم من تأثيرات المجتمع والثقافة السائدة.
1- التمييز بين الشخص والشخصية:
لقد نظر الخطاب الفلسفي إلى الإنسان كشخص، أي باعتباره ذاتا تتميز بمجموعة من الخصائص من أبرزها: الوعي، الإرادة، الحرية والمسؤولية كثوابت تمثل ما هو جوهري وما يشكل ماهية الشخص وحقيقته التي لا تتغير مع الزمن. أما الشخصية فاعتبرت مجرد مظهر خارجي عن تلك الحقيقة الثابتة والأصيلة.
ومع مجيء العلوم الإنسانية ستصبح الشخصية ليس مجرد معطى مباشر موجود في الواقع الذاتي أو الموضوعي للأفراد، وإنما اعتبرت بناءا نظريا أو نموذجا علميا يبنيه العالم ويحاول من خلاله تحديد طبيعة الإنسان وتسليط الضوء على سلوكا ته وعلاقاته مع الآخرين.
لقد اهتمت الفلسفة إذن بالإنسان كذات وأكدت على حقيقته كوعي وكإرادة حرة ومسؤولة ،
أما العلوم الإنسانية فاهتمت به كموضوع ووضعت مجموعة من النماذج والبنى النظرية لتفسير شخصيته ؛ فهل تعبر هذه النماذج عن حقيقة الإنسان كشخص أم أن الإنسان صعب اختزاله في قوالب و نماذج جامدة ؟ ثم هل تلك البنى والنماذج نسبية أم مطلقة ، ثابتة أم متغيرة ؟
إذا أضفنا هذا الإشكال إلى الإشكالات التي سنحددها فيما بعد، سنحصل ولا شك على أهم الإشكالات التي تمت من خلالها مقاربة ومعالجة مفهوم الشخصية.
2- طرح الإشكالية:
معرفة الذات البشرية من أعقد موضوعات المعرفة وأصعبها، ذلك أن الأمر يتعلق هنا بمعرفة لا تتميز فيها الذات عن الموضوع ؛ فالذات الدارسة هي نفس الموضوع المدروس أو على الأقل هي جزء منه و منخرطة فيه بشكل من الأشكال ، وهو الأمر الذي يتعذر معه الوصول إلى نتائج دقيقة و موضوعية.
وإذا أضفنا إلى ذلك كون الشخصية الإنسانية محكومة بمجموعة من المحددات البيولوجية و النفسية و الاجتماعية… أدركنا إلى أي حد ستختلف وجهات النظر حول مقاربة مفهوم الشخصية ؛ فلقد ركز الخطاب الفلسفي على الإنسان كشخص و حاول أن يبحث فيه عما هو ثابت و جوهري ، من هنا فالإشكال الرئيسي الذي تحرك داخله هذا الخطاب و حاول إعطاء إجابة عنه هو: ما هو الثابت في الإنسان كشخص ، أي كذات تعي وجودها و حريتها و مسؤوليتها ؟ وما الذي يميزه كذات عاقلة عن باقي الموجودات ؟
أما خطاب العلوم الإنسانية فقد ركز اهتمامه حول مفهوم الشخصية حيث اعتبره نموذجا نظريا ينشئه العالم ليحاول من خلاله تفسير سلوك الإنسان و طبيعته ، إما كفرد منعزل أو كفرد يدخل في علاقات معينة مع أفراد آخرين أو مع مؤسسات داخل المجتمع.
هكذا فقد انصب اهتمام الخطاب السيكولوجي على دراسة النظام النفسي ، إما انطلاقا من محدداته الباطنية العميقة أو خلال تمظهراته في سلوك الفرد الخارجي. من هنا فالإشكال الأساسي الذي عالجه الخطاب السيكولوجي بخصوص مقاربته لمفهوم الشخصية هو: ما هي المحددات التي يجب الارتكاز عليها لفهم الحياة النفسية للإنسان وكذا سلوكا ته الخارجية؟ هل يجب الارتكاز على الشعور أم على اللاشعور أم على السلوك الظاهري ؟
أما الخطاب السوسيولوجي فسيركز اهتمامه حول علاقة الفرد بالمحيط الاجتماعي ، وسيحاول أن يبحث عن منهج ملائم يمكنه من دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة علمية وموضوعية. وتركيزه على الجانب الاجتماعي جعله يختزل مفهوم الشخصية في أوجه العلاقات القائمة بين الفرد ومحيطه. وهكذا فالإشكال الرئيسي داخل هذا الخطاب هو: ما هي الروابط القائمة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي ؟ وكيف تتحدد شخصيته انطلاقا من هذا التفاعل ؟
وبطبيعة الحال ، فهناك خطابات أخرى بالإضافة إلى الخطابين السيكولوجي والسوسيولوجي حاولت تحديد الشخصية ، إما انطلاقا من بنيات لغوية أو أسس ثقافية
أو خصائص بيولوجية أو غير ذلك.
هكذا نجد أنفسنا أمام عدة جوانب ومحددات للشخصية، وهو الأمر الذي يدل دلالة واضحة على غنى هذا المفهوم و تعقده؛ فهو مجال تتصارع فيه مجموعة من المحددات الفردية والاجتماعية، الذاتية والموضوعية، الطبيعية والثقافية، الفطرية والمكتسبة… من هنا يطرح السؤال التالي: هل يكفي لدراسة الشخصية التركيز على جانب دون الجوانب الأخرى أم أن الشخصية هي حصيلة لكل تلك المحددات؟ ويترتب على هذا السؤال سؤال آخر هو: هل الإنسان حر في بناء شخصيته أم أنها نتاج لجملة من الإشراطات الموضوعية ؟
3- الخطاب الفلسفي ومفهوم الشخص :
أ- روني ديكارت ( 1596-1650) :
لقد أراد ديكارت الوصول إلى اليقين الأول والحقيقة الجوهرية والثابتة التي تميز الأنا . وهكذا فالإشكال الأساسي عند ديكارت هنا هو: ما هي حقيقة الإنسان الأولى والجوهرية؟ وكيف ينبغي البرهنة عليها ؟
وللإجابة عن هذا الإشكال يقدم ديكارت اعتقاده السابق حول الإنسان على أساس أنه مكون من ثنائية النفس والجسم ، فالجسم يشير إلى ما هو محسوس من عظم ولحم وأعضاء وهو يتحرك ويشغل حيزا في المكان ، أما النفس فمن خواصها التغذية والمشي والتفكير وهي شيء لطيف ورقيق.
ولكي يشك ديكارت في هذا الاعتقاد افترض ثلاثة أدلة : دليل الشيطان الماكر، ودليل الحلم، ودليل خداع الحواس. وانطلاقا من هذه الأدلة وصل إلى نتيجة أساسية وهي أنه أصبح يشك في كل شيء. ومن هذه النتيجة الأخيرة سيتوصل إلى اليقين الأول وهو “الأنا المفكر” ؛ ذلك أنه مهما شككت فلا أستطيع أن أشك في شيء محدد وهو أني أشك، فأنا أستطيع الشك في كل
شيء ما عدا شكي، ولما كان الشك تفكيرا فأنا أفكر، ولما كان لا يمكن تصور من يفكر أنه غير موجود، فإذن أنا موجود. هكذا صاغ ديكارت ما أصبح يعرف بالكوجيطو: ” أنا أفكر إذن أنا موجود ” .
إن حقيقة الإنسان تكمن حسب ديكارت في أنه ذات مفكرة. وخاصية التفكير هي الحقيقة الضرورية والبديهية والواضحة التي لا يمكن أن يطالها الشك، وهي الجوهر الأول والحقيقي في الإنسان وانطلاقا منه ستتحدد باقي الحقائق .
إن فلسفة ديكارت تنبني على منهج استنباطي قائم على حدس المبادئ البسيطة ، المتميزة والواضحة ، واستنباط قضايا جديدة من هذه المبادئ . كما أنه منهج مثالي يعطي الأسبقية للفكر على الواقع ، ويحصر الحقيقة في العقل وفي الذات كإرادة حرة وواعية.
كما تقوم فلسفة ديكارت أيضا على أساس ثنائية النفس والجسم؛ فالنفس روح بسيط مفكر، وهو أول حقيقة بديهية لا يطالها الشك ، وهو أساس كل الحقائق الأخرى ، أما الجسم فهو امتداد قابل للقسمة، وليس في مفهوم الجسم شيء مما يخص النفس، وليس في مفهوم النفس شيء مما يخص الجسم، وقد أشك في وجود جسمي وسائر الأجسام دون أن يتأثر بهذا الشك وجود فكري ونفسي.
إن التفكير في نظر ديكارت له معنى عام ، فهو يشمل كل العمليات التي تحدث داخل الذات كالإحساس والخيال وغير ذلك، وهي عمليات تعيها الذات لأنها عمليات فكرية واعية. والوعي عند ديكارت هو الذي يعرف بواسطته الإنسان أنه موجود ، فالوعي بالذات هوأساس وجود هذه الذات. هكذا فماهية الشخصية وجوهرها هو التفكير الواعي.
ب-إيمانويل كانط ( 1724-1804)
حاول كانط أن يحدد الخصائص الأساسية التي تميز الإنسان عن غيره من الأشياء والموجودات، كما حاول وضع نظرية أخلاقية تناسب طبيعة الإنسان ككائن عاقل ولا تتعارض معه كذات حرة وتملك إرادة. من هنا فالإشكال الرئيسي الذي يمكن طرحه هنا هو: من هو الإنسان ؟ وما هي الخصائص التي تميزه كشخص عن باقي الكائنات والأشياء الطبيعية ؟
يرى كانط أن الإنسان كبعد مادي وفيزيولوجي يعتبر جزءا من الطبيعة ويقوم بسعرها، إلا أنه كبعد عقلي وروحي يتميز عن بقية الأشياء باعتباره يتوفر على ملكة الفهم وله القدرة على التحكم في مصيره و رغباته. إن الشخص باعتباره ذاتا عاقلة يمتلك قيمة عليا ، وهو غاية في حد ذاته وليس مجرد وسيلة، ومن ثمة فهو يمتلك كرامة تخول له التمتع بالاحترام والمساواة مع أبناء جنسه. وإذا كان الإنسان ذا كرامة ويتمتع بالاحترام ، فإن عليه حسب كانط أن يلتزم بالواجب الأخلاقي في سلوكاته وقضائه لمآربه.
في “العقل النظري” حاول كانط الإجابة على سؤال أساسي هو: ما هي الشروط التي تجعل المعرفة ممكنة ؟ وهو ينطلق من الظواهر ليتوصل بعد ذلك إلى الشروط المتعالية الضرورية لفهم تلك الظواهر، وتلك الشروط هي ما يسميه بالمقولات التي هي شرط ضروري لكل
معرفة ممكنة. وإذا كان الأمر كذلك فسنجده في فلسفة الأخلاق يطبق نفس المنهج ؛ فالحرية عنده شرط متعالي لتجاربنا الأخلاقية، وهي مصادرة أخلاقية بدونها يستحيل وجود الأخلاق.
يميز كانط بين الفينومين(الظاهر) والنومين(الشيء في ذاته) ، وبالرغم من أنه لا يمكن تقديم أية معرفة عن النومين ، فإنه لا يعني أنه غير موجود بل فقط لا يمكن إدراكه بالوسائل المتوفرة لدينا. وهي وسيلة من كانط لكي ينقد الأخلاق ؛ فإذا كان الإنسان فقط ذاتا تجريبية محدودة بعالم الحس ويتحكم فيها مبدأ قانون العلية فإنه سيكون غير حر، وإذا انتفت حرية الإرادة استحالت الأخلاق. ومن هنا وجب اعتبار الإنسان كذات متعالية، أي كشيء في حد ذاته – إلى جانب أنه ظاهرة- ، ضرورة أخلاقية . فبافتراض وجود ذات، غير الذات الإمبريقية ، تكون مسببة (بكسر الباء الأولى) لا مسببة(بفتح الباء الأولى) حاول كانط أن يجد حلا لمعضلة الحرية .
هكذا يعتبر كانط أن الإنسان قيمة بحد ذاته وأن له كرامة لا تقدر بثمن من حيث أنه ذات أخلاقية. وقد جعل كانط العقل وما يسنه من قواعد وتشريعات هو الأساس الذي يحدد ملزماتنا الأخلاقية و واجباتنا.
4 - خطاب العلوم الإنسانية و مفهوم الشخصية :
أ- الخطاب السيكولوجي:
* سيغموند فرويد (1856-1636) :
يقوم التصور الفرويدي للشخصية على مجموعة من الأسس يمكن تلخيصها في ما يلي :
- تعتبر السنوات الأولى من حياة الطفل لحظة حاسمة في تكوين شخصيته فيما بعد.
- يعتبر الجنس عند فرويد من الدوافع القوية التي تتحكم في سلوك الإنسان.
- إن معظم سلوكات الإنسان تتحكم فيها ميكانيزمات خفية ولاشعورية مكبوتة في أعماق اللاوعي.
- الشخصية هي بناء نفسي يتكون من ثلاثة أنساق:
* الهو : يتكون الهو حسب فرويد من شقين : الذكريات والأفكار المكبوتة من جهة، والغرائز والدوافع البيولوجية من جهة أخرى. ويتصف الهو بمجموعة من الخصائص، من أهمها ما يلي :
- يتحكم في الهو مبدأ اللذة ، فهو يسعى للتخلص من التوتر بأية طريقة.
- لا يميز الهو بين الخيال والحقيقة .
- إن الهو هو المصدر الأساسي للطاقة النفسية ، كما أنه مستودع
للغرائز.
- يفتقر الهو إلى التنظيم، كما أنه لا يتأثر بمرور الزمن، وغير متصل
بالعالم الخارجي.
- إن الهو لا تحكمه قوانين العقل والمنطق، كما أنه لا يعترف بالقيم
والأخلاق، وهو الجزء الغامض من الشخصية ولا يمكن اكتشافه إلا
عن طريق الأحلام والأعراض العصابية وفلتات اللسان وزلات القلم .
* الأنا : هو جانب نفسي شعوري من الشخصية تكون بالتدريج من خلال اتصال الطفل بالواقع عن طريق الحواس . ووظيفته الأساسية هي خلق التوازن بين الهو والأنا الأعلى. من هنا فالأنا هو المكون النفسي الذي يحتدم داخله الصراع، فهو يتحمل التوتر ويتمكن من تأجيل تحقيق الرغبات.
* الأنا الأعلى : يعتبر الفرع الخلقي القضائي من الشخصية ، فهو ينوب عن المثالي لا الواقعي ، كما أنه يسعى إلى الكمال لا إلى الواقع أو اللذة .
ويتكون الأنا الأعلى من جهازين : أولهما الأنا المثالي ويقابل مفاهيم الطفل عما يراه أبواه سليما وصحيحا من الوجهة الأخلاقية ، وثانيهما الضمير ويقابل مفاهيم الطفل عما يراه أبواه خبيثا وسيئا. ويقوم الأنا الأعلى بمراقبة سلوك الفرد إزاء كل المواقف لكي يحكم عليه إما بشاعر الفخر(الثواب) أو بمشاعر الإثم والدونية (عقاب) . وإذا كان الأنا الأعلى يمارس الرقابة على الهو ، فإن ذلك يؤدي إلى كبت الدوافع اللاشعورية التي تبحث عن منفذ لها من خلال الأحلام ، النسيان ، زلات القلم، الأمراض النفسية، السخرية ، النكتة ، الإبداعات الفنية …
وينبغي الإشارة أخيرا إلى أنه ليست هناك حدودا فاصلة بين الهو والأنا والأناالأعلى باعتبار أن هذه المفاهيم لا تشير بذاتها إلى شيء ما، وإنما هي أسلوب اختزالي في التعريف بعمليات وديناميات مختلفة تتم بين المكونات الثلاث لتحدد شخصية الإنسان في آخر المطاف.
هكذا فشخصية الإنسان حسب فرويد تتحدد انطلاقا من التفاعل القائم بين هذه المكونات النفسية الثلاث ؛ فإذا انتصر الهو كنا بصدد شخصية مستهترة لا تسعى سوى إلى تحقيق رغباتها الحسية، وإذا انتصر الأنا الأعلى في الإنسان كنا بصدد شخصية مثالية يتحكم فيها ما ينبغي أن يكون . أما إذا انتصر الأنا فسنكون ولا شك أمام شخصية ” قانونية ” يتحكم فيها مبدأ الواقع والقوانين السائدة في المحيط الاجتماعي .
* المدرسة السلوكية:
سوف لن ندخل في تفاصيل مواقف السلوكيين وجزئيات أفكارهم واختلافاتهم في بعض الرؤى والتصورات ، لا سيما تلك التي عبر عنها أولائك الذين جاؤوا بعد مؤسس المدرسة واطسون ، وإنما سنحاول أن نختصر مواقفهم ونقدم أهم الأفكار التي يتفقون حولها وتشكل دعامة مذهبهم .
لقد جاءت السلوكية كرد فعل ضد المنهج الاستبطاني الذي ينظر إلى الشخصية انطلاقا من محدداتها الداخلية . وهكذا سيقدم هذا الاتجاه تصورا مغايرا للشخصية ولسلوكاتها حيث سيركز على الجانب الظاهري من سلوك الإنسان وتصرفاته، ليقوم بضبطها وقياسها في محاولة لتقديم معرفة ” موضوعية ” عنها .
لقد حاولت السلوكية مع زعيمها واطسون أن تجعل من علم النفس علما طبيعيا . ومن أبرز خصائص هذا الاتجاه ما يلي :
- رفض الوعي ومحتوياته : فلا يمكن تقديم معرفة نفسية صحيحة اعتمادا
على الوعي، لأنه في نظر السلوكيين مفهوم مبهم ولا يمكننا من الدراسة
العلمية، وهو الأمر الذي جعلهم يهتمون بدراسة ” السلوك ” الذي هو مجمل
استجابات الفرد على المثيرات التي يحدثها الوسط .
- مثلما رفضت السلوكية محتويات الوعي كموضوع لعلم النفس، رفضت
الاستبطان كمنهج له لكونه لا يؤدي إلى نتائج علمية. ولذلك استبدلت
السلوكية موضوع الوعي بموضوع السلوك ، والحياة الداخلية بالحياة
الخارجية، والمنهج الاستبطاني بالمنهج التجريبي. من هنا فقد نظر
السلوكيون إلى الإنسان كسلوك ، أي كمجموعة من الاستجابات على
المثيرات التي يحدثها الوسط. ومن هنا فكل معرفة بالإنسان يجب أن تتم
انطلاقا من ملاحظة تصرفاته في العالم الخارجي.
- ترفض النظرية السلوكية الوراثة النفسية، أي وراثة السلوك ، ذلك أنه يتكون
نتيجة مثيرات خارجية لا دور فيها للغرائز. وسلوك الإنسان في معظمه
سلوك مكتسب انطلاقا من تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي.
- لقد نظرت السلوكية إلى الإنسان نظرة آلية وميكانيكية وحصرته بين قطبين:
مثير واستجابة.
تعتبر السلوكية أن الشخصية نتاج للتعود والتربية والتعود. يقول واطسون : ” أعطوني عشرة من أطفال أصحاء أسوياء التكوين، فسأختار أحدهم جزافا، ثم أدربه فأصنع منه ما أريد ؛ طبيبا أو فنانا أو عالما أو تاجرا أو لصا أو متسولا ، وذلك بغض النظر عن ميوله ومواهبه أو سلالة أسلافه”. إن هذا يؤكد أن نظرة المدرسة السلوكية إلى الإنسان هي نظرة آلية ميكانيكية . بمعنى أن الإنسان لا تحركه دوافع موجهة نحو غايات، بل مثيرات تصدر عنها استجابات. ومن ثمة تكون الشخصية هي مجموع السلوكات التي يمكن أن تلاحظ منهجيا دون الرجوع إلى يحس به الفرد من مشاعر أو حالات شعورية. يقول واطسون:
” الشخصية هي حصيلة أنواع النشاط عند الفرد بأسلوب موضوعي لمدة كافية من الزمن، وفي مواقف مختلفة، تتيح التعرف عنه عن كثب. كما أنها تمثل مجموع عاداته التي تميزه عن غيره من الأفراد”.
هكذا نلاحظ طموح واطسون إلى دراسة الشخصية دراسة علمية دقيقة عن طريق التركيز على السلوك الخارجي القابل للملاحظة المباشرة، كما نلاحظ قوله بإمكانية التحكم في الشخصية والتنبؤ بمسارها مستقبلا .
ب- الخطاب السوسيولوجي :
*إميل دوركايم ( 1858-1917) :
يعتبر دوركايم امتدادا للتقليد الوضعي الفرنسي ، وسيركز كل جهوده للبرهنة على أن
مناهج العلوم الطبيعية قابلة للتطبيق في مجال العلوم الاجتماعية. ويرى دوركايم في هذا الصدد أن هناك خاصيتان أساسيتان تتميز بهما الظواهر الاجتماعية وهما: الخارجية والقهر.
ومن الأدلة المبرهنة على خارجية الظواهر الاجتماعية هو أنها جمعية المنشأ، أي أنها خلافا لما يذهب إليه أنصار المذهب الذاتي، مصدرها الجماعة أو العقل الجمعي وليس الفرد أو العقل الفردي. إن الفرد ينشأ وشخصيته تتشكل انطلاقا من التنشئة الاجتماعية والاحتكاك بالظواهر الاجتماعية السائدة، تلك الظواهر التي تفرض نفسها على الأفراد قهرا. والفرد لا يتصرف حسب إرادته ولا يعيش في استقلالية تامة عن الظواهر الخارجية، إذ أن أغلب أفكارنا واتجاهاتنا ليست من إبداعنا وإنما تأتينا من الخارج، ولا تنفذ إلى شعورنا إلا عن طريق فرض نفسها علينا.
إن الشخصية الإنسانية تتكون حسب دوركايم انطلاقا من التأثير الذي تحدثه الظواهر الاجتماعية على الأفراد. وتنحصر هذه الظواهر في ضروب السلوك والتفكير والشعور، وهي خارج الفرد وقد زودت بقوة قهر تمكنها من فرض نفسها عليه. هكذا فالفرد يستمد عقائده وأنماط سلوكه وردود فعله المختلفة من الجماعة، كما أنه يجد الظواهر الاجتماعية تامة التكوين قبل ولادته ويتلقاها عن طريق التربية أو التنشئة الاجتماعية. إن الأصل هو الجماعة وليس الفرد، لأن الفرد تابع للجماعة وموجه من طرفها، وهي تخلق الظواهر الاجتماعية وتلقنها للأفراد وتفرض عليهم الامتثال لها.
* جي روشي :
يرى جي روشي أن الإنسان محتاج بشكل كبير إلى المجتمع لاكتساب صفات لايمكنه بدونها أن يمارس حياته كإنسان اجتماعي. وبسبب هذا الاحتياج، فإن الفرد يخضع لما يسمى بمسلسل التنشئة الاجتماعية التي يعرفها روشي بأنها عملية تطورية بواسطتها يقوم الشخص طوال حياته بتعلم واستبطان المعطيات الاجتماعية والثقافية لمحيطه لكي يدمجها في بنية شخصيته حتى يتكيف مع المحيط أو الوسط الذي هو مضطر لكي يعيش فيه.
وهكذا يكتسب الفرد خلال عملية التنشئة الاجتماعية أساليب التفكير والتصرف والإحساس الخاصة بمجتمعه، وهو ما يسهل تكيفه مع باقي الأفراد داخل المجتمع. فيصبح بذلك عضوا مندمجا في الجماعة ويدافع عن نفس القيم السائدة فيها. وهذا ما يضمن وحدة المجتمع ويجنبه الوحدة والانقسام.
ولا يمكن لعملية الاكتساب أن تكون ناجحة وتؤدي إلى التكيف ما لم يستدمج الفرد كل ما يتلقاه من مجتمعه لكي يصبح جزءا لا يتجزأ من شخصيته ، بحيث يعتبر أن الأساليب التي لقنت له وفرضت عليه، أساليب طبيعية وعادية يتبناها هو نفسه وكأنها صادرة عن إرادته الحرة، في حين أنها رسخت لديه عبر التنشئة الاجتماعية.
* رالف لينتون :
ينطلق رالف لينتون من إشكال أساسي يمكن التعبير عنه بالشكل التالي : إذا كانت الشخصية تختلف بحسب المجتمعات ، فهل هناك أنماط مختلفة من الشخصيات داخل المجتمع الواحد أم أنه لا يوجد داخله سوى نمط واحد من الشخصية ؟
وللإجابة عن هذا الإشكال ميز رالف لينتون بين ما أسماه بالشخصية الأساسية وما أسماه بالشخصية الوظيفية؛ فهناك شخصية أساسية يشترك في خصائصها كل أفراد المجتمع ، وهي قوام هويتهم الثقافية وقيمهم الأخلاقية، إلا أنه مع ذلك توجد استجابات متنوعة لدى هؤلاء ترتبط بالوظائف التي تمارسها كل شخصية فردية على حدة. ومن مزايا وجود الشخصية الوظيفية هو أنها تسمح للأفراد بأن يتفاهموا فيما بينهم بمجرد الوظيفة أو الدور الاجتماعي لبعضهم البعض، كما تسمح للفرد بأن يتصرف بنجاح بمجرد معرفته بالمواصفات المرتبطة بالمكانة التي يحتلها في المجتمع.
وهكذا فالمجتمع حسب رالف لينتون يبلور شخصية أساسية مشتركة بين جميع أفراد المجتمع، وتشير إلى مجموع العناصر المشتركة بينهم ؛ من مواقف واستجابات تتجلى في مختلف أنماط السلوك والإحساس والتفكير التي تصدر عنهم، وشخصية وظيفية مرتبطة بالأوضاع والوظائف التي يؤديها الفرد داخل المجتمع. ويلاحظ أنه بقدر ما يكون المجتمع منغلقا ومتخلفا تذوب شخصية الأفراد في الشخصية الأساسية للمجتمع، في حين تطغى السلوكات ذات النزعة الفردية في المجتمعات المتطورة والمنفتحة.
وإذا كانت الثقافة السائدة تمنح للشخصية الوظيفة نماذج للعمل والممارسة، فإنها تعمل من جهة أخرى على إعادة تشكيل وتحويل النماذج الأجنبية الدخيلة بما يناسب مبادئها وقيمها الخاصة.
انطلاقا من كل هذه التصورات، يمكن القول بأن العلوم الإنسانية قد تعاملت مع الشخصية كموضوع وكنتيجة حتمية لمحددات متعددة بيولوجية وسيكولوجية وسوسيوثقافية ، هي التي تشكل توجهات الفرد وتصوراته وعاداته. وبذلك فالعلوم الإنسانية تتعامل مع الشخصية كموضوع للدراسة الدقيقة وكنتيجة لمحددات موضوعية.
لكن هل الشخصية فعلا محكومة بهذه الإكراهات والعوامل الموضوعية؟ وهل هي نتيجة حتمية لها؟ ألا يملك الإنسان القدرة على التحكم في هذه الإشراطات والإكراهات وتجاوزها من أجل بناء شخصيته وفق طموحاته واختياراته؟
5- إعادة الاعتبار لحرية الفرد في الخطاب الفلسفي المعاصر:
سنكتفي هنا بتقديم موقين فلسفيين رئيسيين هما: الموقف الوجودي في شخص جون بول سارتر، والموقف البرجسوني(نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون).
*الموقف الوجودي: جون بول سارتر.
لقد ظهرت الفلسفة الوجودية كرد فعل على الفلسفة العقلانية ؛ فالوجودية تلح بشدة على إبعاد العقل عن الهيمنة على الإنسان ، وعلى أن تحل محله التجربة الإنسانية الحية، بحيث نجد أن هذه الفلسفة مرتبطة بمجموعة التجارب الوجودية ، كما ترتبط بمجموع مصطلحات تشكل قوام هذه الفلسفة والتي تتمثل في قول الفلاسفة الوجوديين بأسبقية الوجود عن الماهية.
والوجودية في هذا الصدد ترى أن الماهية هي ماهية الإنسان وليست ماهية الأشياء؛ فماهية الإنسان وحدها هي التي يسبقها وجوده، أما الأشياء فماهيتها تسبق وجودها.إننا لا نستطيع
أن نعرف شخصية الإنسان وماهيته إلا بعد وجوده، فهو الذي يخلق وجوده ومصيره وقيمه.
فالإنسان كما يرى كارل ياسبرزهو الذي يخلق ماهيته، فبيده فناؤها أو بقاؤها.
وتشترك الفلسفات الوجودية كذلك في مبدأ “حرية الإنسان” إلى درجة أنها تتصور أن الإنسان حر في انتحاره أو بقائه على قيد الحياة. كما تشترك في مبدأ “الاختيار” الذي لا يتأتى إلا بواسطة الحرية. وبالتالي فهي تشترك في مبدأ “المسؤولية” ، لأن كل إنسان في نظرها مسؤول عن اختياره. كما أن الإنسان موقف فهو الذي يختار موقفه. ويشترك كذلك الفلاسفة الوجوديون في مسألة “القلق الوجودي” ؛ فالإنسان في نظرهم مشدود إلى اللامتناهي رغم كونه متناه.
ويعرف سارتر الوجودية بأنها مذهب إنساني. وينظر إلى الإنسان كموجود يحقق ماهيته بعد وجوده؛ فليس الإنسان في نظره سوى كائن مندفع نحو الوجود، فهو ليس في آخر المطاف إلا ما يريد ويفعل ويصنع بعد وجوده. فوجوده بهذا المعنى سابق لماهيته.والقول بأن وجود الإنسان سابق لماهيته، يؤدي إلى القول بأن الإنسان حر يصنع بذاتيته ما يشاء، وبالتالي فهو مسؤول أمام وجوده لأنه لا معنى للمسؤولية بدون حرية. ومن جهة أخرى فهو مسؤول عن بقية الناس لأنه لا يستطيع أن يتجاوز إنسانيته بالرغم من الحرية المعطاة له كذات فردية.
ويرى سارتر أن الإنسان ليس في ذاته إلا ما يفعل ، أي أنه لا يمكن معرفة شخصية الإنسان إلا من خلال ما ينجزه وما يقوم به من أفعال أثناء وجوده التاريخي الفعلي وليس قبل ذلك؛ فلا يمكن معرفة الإنسان من خلال قوالب عقلية مجردة، فوجوده لا يتحدد بالتفكير كما زعم ديكارت ، بل يتحدد بالفعل أو التصرف الذي يصدر عن الذات ويترجم على أرض الواقع.ولهذا يمكن القول مع سارتر بكوجيطو جديد: ” أنا أفعل إذن أنا موجود”.
كما يرى سارتر أنه يجب البدء من”الذاتية” الإنسانية لأجل دراسة الإنسان ، فينظر إليه كماهو موجود في بيئة معينة وفي كل فرد على حدة. ومتى كان الوجود سابق على الماهية لم يبق في الإنسان شيء يعين سلوكه ويحد حريته ، بل كان حرا كل الحرية يعمل ما يشاء ولا يتقيد إلا بذاتيته الإنسانية ، فالوجودية ” لا ترى أن بوسع الإنسان أن يجد معونة في علامة على الأرض تهديه السبيل، لأنها ترى أن الإنسان يفسر الأشياء بنفسه كما يشاء وأنه محكوم عليه في كل لحظة أن يخترع الإنسان”. فما الإنسان “إلا ما يصنع نفسه، وما يريد نفسه، وما يتصور نفسه بعد الوجود”.
إن قول سارتر بحرية الإنسان كما رأينا يترتب عنه القول بمسؤوليته. ومسؤولية الإنسان مزدوجة؛ فهو مسؤول عن نفسه ومسؤول أيضا عن الإنسانية ككل. ولهذا يرى سارتر أنه لا يجب على الإنسان أن يفعل ما يضر بنفسه أو بالإنسانية، فلإنسان الوجودي كما يتخيله سارتر هو إنسان حر، لكن حريته مرهونة بالتزامه بالمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية التي يجب عليه تجسيدها في وجوده لكي يقدم صورة مشرقة عن إنسانيته.
* الموقف البرجسوني :
يقدم برجسون تصوره للشخصية انطلاقا من تحديده لها في تطورها المستمر؛ فالحياة النفسية تيار غير منقطع من الظواهر المتنوعة ، أي تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة.
هكذا فالحياة النفسية حسب برجسون تلقائية، إنها انبعاث من باطن وخلق مستمر وديمومة لا تحتمل رجوعا إلى الماضي وعودة ظروف بعينها، إذ لا يمكن أن نعيش نفس الحدث إلا مرة واحدة. وإذا كانت شخصيتنا تتشكل بشكل مستمر ومتصل، فإنه لا يمكن التنبؤ بما سيطرأ على شخصيتنا من تغير في المستقبل. إن الإنسان في نظر برجسون هو عبارة عن ديمومة من الظواهر النفسية التلقائية وغير القابلة للقياس، كما أن الأنا هي عين الوجود وعين الصيرورة، وليس وجود الإنسان وجودا جوهريا وثابتا بل هو مجرد أفعاله التي يحياها بشكل مستمر. وكل لحظة هي شيء جديد بالقياس إلى اللحظة السابقة، بحيث لا يمكن التنبؤ بما يأتي.
وفي هذا الصدد يشبه برجسون بناء الشخصية بالكيفية التي ينبني عليها العمل الفني؛ فبالرغم من أنه بإمكاننا تفسير اللوحة المرسومة انطلاقا من النموذج المحتذى في الرسم أو انطلاقا من تكوين الفنان و طبيعة شخصيته أو انطلاقا من الألوان المستعملة في الرسم، إلا أنه مع ذلك لا يمكن التنبؤ بما ستكون عليه اللوحة قبل إنجازها. و نفس الشيء بالنسبة لشخصيتنا، إنها خلق مستمر، و هي تتغير بشكل دائم بحيث أن كل لحظة من لحظات حياتنا هي شيء جديد ينضاف إلى الحالة التي كنا عليها في السابق، بل إنه يعدل من تلك الحالة و يمنحها صورة جديدة.
من هنا يخلص برجسون إلى أن الإنسان هو عين ما يعمل ، فلا يمكن في نظره تحديد ماهية الإنسان انطلاقا من تصورات و قوالب مجردة، بل إن ماهيته تتحدد انطلاقا من صيرورة حياته المتقدمة و المتصلة بشكل دائم و التي يتحكم فيها فعل الإنسان كفعل حر وتلقائي.
إن المنهج الحقيقي المؤدي إلى المعرفة في نظر برجسون هو المنهج الحدسي الذي يدرك الموضوع في ذاته و ينفذ إلى باطنه و يتابعه في صيرورته. من هنا ندرك إلى أي حد دافع برجسون عن حرية الإنسان و على قدرته على الخلق و الإبداع المستمر الذي لا يمكن معه التنبؤ بمصير الإنسان أو التحكم فيه بكيفية من الكيفيات.
استنتاج عام:
هكذا إذا كانت العلوم الإنسانية قد تعاملت مع الشخصية كموضوع، معتبرة إياها كنتيجة حتمية لمجموعة من الإكراهات البيولوجية والسيكولوجية والسوسيوثقافية ، فإن الخطاب الفلسفي قد نظر إلى الإنسان كشخص ، أي كذات واعية تمتلك كرامة وقدرة على الاختيار تمكنها من تجاوز أوضاعها والشروط التي تعيش داخلها ، وذلك بتكييفها مع أهدافها وطموحاتها المستقبلية. فعن طريق وعي الإنسان بالشروط الموضوعية، يستطيع أن يتجاوزها ويتحرر منها لكي يبدع شخصيته ويجدد ملامحها بشكل دائم ومستمر وفق ما يريده ويرغب فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق