يتكون العالم حسب لايبنتس من مجموعة من المونادات التي لا تختلف فيما بينها من حيث الطبيعة، بل هي تختلف من حيث درجة الإدراك فقط . فهناك مونادات ذات إدراك واضح وأخرى ذات إدراك غامض؛ الأولى حاصلة على الكمال أكثر من الثانية، وبالتالي فالأولى فاعلة والثانية منفعلة.
وقد رأى لايبنتس أن التأثير والتأثر بين المونادات هو تأثير مثالي أو عقلي، وليس ماديا أو فيزيائيا؛ فالله هو الذي رتب المونادات في هذا العالم بحيث يتفق بعضها مع البعض الآخر. فالله هو الذي ينظم العلاقات بين المونادات منذ البدء ضمن تناسق أزلي.
وسيطبق لايبنتس فكرة التناسق الأزلي المسبق على فهمه لعلاقة النفس بالجسم باعتبارهما مكونين رئيسيين للإنسان؛ فالنفس تتبع قوانينها الخاصة، والجسم كذلك يتبع قوانينه الخاصة، وهما يلتقيان بفضل الانسجام المسبق بين جميع الجواهر. فالنفوس تسلك وفقا لقوانين العلل الغائية عن طريق النزوع أو الرغبة والغايات. أما الأجسام فتسلك وفقا لقوانين العلل الفاعلة أو الحركات. والعالمان؛ عالم العلل الغائية وعالم العلل الفاعلة منسجمان فيما بينهما.
ويرجع هذا الانسجام إلى أن الله قد نظم بشكل مسبق عملا كلا الجوهرين (الجسم والنفس) بحيث يسير كل جوهر وفقا لقوانينه الخاصة، ومع ذلك يأتي سيرهما منسجما ومتوافقا. وهكذا فليس هناك تأثير متبادل بين النفس والجسم لأنه يصعب ” تصور الطريقة التي يمكن بها أن تنتقل الدقائق المادية أو اللامادية من أحد هذين الجوهرين إلى الآخر “. من هنا يبقى الحل هو القول بالانسجام أو التناسق المسبق الذي وضعه الله منذ البداية لكي يضمن انسجام عمل المونادات بالرغم من أن كل واحدة منها تسير وفق قانونها الخاص.
ويرى لايبنتس أن كل أجزاء الجسم (المونادات) تتمتع بالحياة، والنفس هي واحدة من تلك المونادات وهي تتمتع بالحياة أيضا، كما أنها مونادة مهيمنة. وليس هناك اختلاف بين الجسم والنفس من حيث الطبيعة بل الفرق بينهما في درجة الإدراك فقط.
وهنا ينتقد لايبنتس ديكارت الذي يرى أن النفس والجسم جوهران متمايزان، كما ينتقد نظريته التي تقول بتأثير الجسم والنفس كل منهما في الآخر، على أساس استحالة هذا التأثير، في نظر لايبنتس بين جوهرين أحدهما مادي والآخر لامادي.
ويميز لايبنتس مونادة العقل الإنساني عن باقي المونادات المخلوقة، بأنه يصدر عنها إدراك واضح وواع يختلف عن الإدراكات الغامضة واللاواعية التي تصدر عن باقي المونادات الأخرى الموجودة في العالم. هكذا فالعقل الإنساني هو مونادة عليا تهيمن وتسيطر على المونادات السفلى التي تصدر عن باقي المونادات المكونة للجسم. ولا يمكن في نظر لايبنتس أن نتصور نفس الإنسان منفصلة عن بدنه، كما تصور أفلاطون مثلا؛ فالنفس مرتبطة بباقي المونادات المكونة للجسم ومهيمنة عليها.
وإذا كانت مونادة النفس لدى الإنسان من طبيعة لامادية، فهي مع ذلك تتمظهر من خلال المونادات المادية. وهذا يعني أن جسم الإنسان مرتبط بعقله، ولا يمكن الحديث عن علاقة منفصلة بينهما.
وإذا كان أفلاطون يرى أن علاقة النفس بالجسم هي علاقة سجان بمسجون، فإن لايبنتس يرى أنها علاقة حاكم بمحكوم؛ فالنفس تهيمن على الجسم وتسيطر عليه.
وفي الوقت الذي نجد فيه الكثير من الفلاسفة، ومن بينهم أفلاطون، يقولون بخلود الروح وفناء الجسم، فإن لايبنتس يقول بخلودهما معا. فالمونادات لا تقبل القسمة، ولذلك فهي خالدة بما في ذلك مونادة النفس ومونادة الجسم.
إن الأجسام، وهي في حالة تغير دائم، تفقد بعض الأجزاء وتكتسب أخرى. فالنفس تفقد جزءا من المونادات التي تتحكم فيها، ولكنها في نفس الوقت تحتفظ بأجزاء أو تكسب أجزاء أخرى. ولهذا فليس هناك موت بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، كل ما هنالك هو زيادة ونقصان. وفي هذا الإطار يقول لايبنتس: “ما نسميه بالتوالد هو نوع من التطور والنمو، أما ما نسميه بالموت فهو انكماش وتناقص”.
وفي معرض حديثه عن علاقة النفس بالجسم، رأى لايبنتس أن ” لا أرواح بغير أجسام. فالله وحده هو منزه عن الجسمية كل التنزيه”. وهذا يعني التأكيد على علاقة الترابط بينهما، بحيث يستحيل تصور أحدهما بدون الآخر.
إن مونادة العقل الإنساني، شأنها شأن أية مونادة أخرى، هي جوهر بسيط لا يتركب من أجزاء وغير قابل للقسمة. ولذلك لا يمكن للمونادة أن تموت، فهي لا تبدأ ولا تنتهي إلا دفعة واحدة؛ إنها لا تبدأ إلا بالخلق ولا تنتهي إلا بالإعدام. كما لا يمكن للمونادة، بما فيها مونادة العقل الإنساني، أن يحدث فيها تبدل أو تغير من مصدر خارجي، لأنها منغلقة على نفسها ومكتفية بذاتها. والتغير يحدث على مستوى صفات المونادة حيث تكتسب صفات وتفقد أخرى.
هكذا فالتغير يحصل داخل المونادة، وانطلاقا من مبدأ داخلي ” إذ لا تستطيع علة خارجية أن تؤثر في داخل المونادة”. فمبدأ الحركة هو إذن عند لايبنتس، مبدأ داخلي ديناميكي، وهذا خلافا للتصور الديكارتي الميكانيكي الذي يجعل مبدأ الحركة خارجيا حيث اعتقد أن الأجسام يفعل بعضها في البعض الآخر.
إن العقل هو الذي يميز الإنسان ويجعله يدرك الحقائق الضرورية ويتزود بالعلوم، ويدرك نفسه والله أيضا. فمعرفة الإنسان ونشاطه العقلي هي التي تحدد طبيعته. لكن عملية الإدراك لا تقتصر على الإنسان فقط ، فالحيوانات تدرك أيضا، وهي قادرة على الربط بين المدركات عن طريق الخبرة والذاكرة. والمثل الذي يورده هنا لايبنتس، هو ذلك الكلب الذي ما إن يرى العصا التي ضربه بها سيده حتى يفر وينجو بجلده، لأنه تذكر الألم الذي سببته له في المرة السابقة.
ويرى لايبنتس أن الناس تجريبيون في ثلاثة أرباع أفعالهم، وهم في هذا لا يختلفون عن الحيوانات، غير أن الربع الباقي هو الذي يميزهم عن الحيوانات، والذي يتمثل في إدراك العقل للحقائق الضرورية الخالدة التي توجد في المنطق والرياضيات بوجه خاص. وقد رأى أن الرياضيات هي النموذج الذي ينبغي على سائر العلوم أن تقتدي به وتحتذي مناهجه.
وإذا كان ديكارت قد حصر حقيقة الإنسان في مستوى الوعي وحده، فإن لايبنتس أكد أنه بقدر ما أن لدى الإنسان إدراكات واعية فإن له إدراكات لاواعية أيضا.
وقد اعتقد لايبنتس أن الإنسان قادر على فهم نظام العالم ومعرفته، كما رأى أن ” الأرواح قادرة على أن تتصل بالله “. فالأنفس هي مرايا حية آو صور لعالم المخلوقات، بل إنها صور للألوهية ذاتها. فكل روح هي بمثابة إله صغير في محيطها. هكذا فالعقل الإنساني يضاهي العقل الإلهي.
والأرواح في مجموعها تكون مدينة الله التي هي أكمل دولة ممكنة، يحكمها أكمل الملوك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق