الله عند لايبنتس هو العلة الأولى، وهو واجب الوجود. ولهذا يرى لايبنتس بأنه يجب أن يكون هناك سبب كافي أخير مستقلا عن تسلسل العلل، وهذا السبب الأخير هو الله. وفي هذا السياق يقول لايبنتس: “ليس هناك سوى إله واحد، وهذا الإله كاف”.
وإذا كان العالم يتكون حسب لايبنتس من مونادات، فإن هذه المونادات لا تحقق كل إمكانياتها بينما الله هو الممكن المتحقق. فكل مونادة تشكل حدا للمونادات الأخرى، وهذا الحد هو سلب بحيث أن كل مونادة تقف أمام التحقق الكامل للمونادات الأخرى. وهذا لا ينطبق على الله باعتبار أن كل إمكانياته متحققة، وليس هناك ما يعوقها أو يحدها. إن حقيقة الله هي مجرد نتيجة للكائن الكامل، وهذا يعني أن حقيقة الله هي الممكن متحققا. وإذا كانت المونادات لا تحقق كل إمكانياتها، فإن الله هو الممكن المتحقق.
والممكن هو ما يصبو إلى الوجود، وهو ما لا يقبل التناقض، لأن المتناقض لا يمكن أن يوجد. وحسب مبدأ الاتصال ليس هناك تميز مطلق بين ما هو ممكن وما هو واقعي، وبالتالي سيكون تعريف الممكن هو ما يمكن أن يوجد، ليس فقط أن وجوده ليس مستحيلا كما هو الحال بالنسبة للمتناقض، بل كذلك بمعنى أنه يتوفر على الوجود بالقوة. والله كممكن هو الغاية التي تسعى إليها كل الموجودات، وهو كذلك السبب الكافي والضروري لوجود كل الممكنات.
إن الله مطلق الكمال، ولا حدود له ولا متناهي. ولذلك فالفرق بين الله والموجودات، هو أن الله كامل ولا محدود بينما الموجودات الأخرى ناقصة، ونقصها ناتج عن طبيعتها أما كمالها فهو من تأثير الله. ويتميز الله، حسب لايبنتس، بالسمو والوحدانية، كما أنه واجب الوجود وعلة كل الموجودات ونبعها الأول، وهو أيضا نبع الماهيات، أي أنه منبع الحقائق الأزلية والعقلية. ومن صفات الله القدرة على كل شيء، والمعرفة بتفاصيل كل الأفكار، كما أنه تلك الإرادة التي تحدث التغير في الكون بحسب مبدأ الأصلح.
هكذا يذهب لايبنتس إلى أن العالم الذي خلقه الله هو أحسن العوالم الممكنة؛ فهناك سبب كافي ضروري هو الذي يبرر اختيار الله ويجعله يختار عالما بدلا من الآخر. وحسب مبدأ الأنسب أو الأصلح، فالأكمل هو الذي تكون له الأسبقية في الوجود على الناقص. فما يحققه الله في العالم هو أكمل العوالم.
وإذا كان العالم يتكون من مجموعة من المونادات، فإن التأثير المتبادل بينها هو تأثير مثالي أو عقلي وليس تأثيرا ماديا فيزيائيا؛ ذلك أن الله هو الذي رتب المونادات في هذا العالم بحيث يتفق بعضها مع البعض الآخر. فهذا التنظيم الذي يحكم العلاقات بين المونادات هو فعل قام به الله منذ البدء ضمن تناسق أزلي.
من هنا فهناك انسجام بين كل أجزاء الكون، ذلك أن العالم منظم ومنسجم منذ البداية. كما أن هناك انسجام أيضا بين عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية؛ فالنفوس تسلك وفقا لقوانين العلل الغائية عن طريق النزوع أو الرغبة والغايات، أما الأجسام فتسلك وفقا لقوانين العلل الفاعلة أو الحركات. والعالمان؛ عالم العلل الغائية وعالم العلل الفاعلة منسجمان فيما بينهما. وهذا الانسجام يعود إلى كون الله هو الذي نظم عمل كلا الجوهرين (الجسم والنفس) بشكل دقيق ومسبق بحيث يكون سير كل جوهر وفق قوانينه الخاصة متفقا ومنسجما مع سير الجوهر الآخر وفقا لقوانينه الخاصة.
هكذا يقول لايبنتس بمبدأ الانسجام أو التناسق المسبق الذي وضعه الله منذ البداية، لكي يضمن انسجام عمل المونادات بالرغم من أن كل واحدة منها تسير وفق قانونها الخاص. فالله نظم العالم منذ البداية وجعله معقولا وخاضعا لقوانين أزلية، من هنا فبإمكان العقل البشري أن يدرك ما في العالم من نظام ومعقولية.
ولقد قدم لايبنتس ثلاثة أدلة رئيسية على وجود الله:
- الأول يتمثل في أن هناك توافقا بين المونادات، وهذا التوافق لا يمكن تفسيره إلا بالرجوع إلى فكرة الله الذي خلق المونادات وجعلها متناغمة وفقا لانسجام مسبق وأزلي. وقد رأى لايبنتس بأن هذا الدليل جديدا لم يسبق أحد إليه.
- والثاني يمكن التعبير عنه كالتالي: إن وجود الله نتيجة بسيطة مترتبة على إمكان وجوده. ولهذا يرى لايبنتس أن فكرة إمكانية وجود الله هي فكرة غير مستحيلة وغير متناقضة، ولذلك يجب أن نستنتج منها أنه يجب أن نستنتج منها أنه يجب أن يوجد وجودا فعليا وواقعيا.
- أما الدليل الثالث فيتمثل في أن كل ما يوجد في العالم هو عبارة عن ممكنات موجودة، وكان من الممكن ألا توجد، ولهذا لا بد من وجود سبب كاف هو الذي جعلها موجودة بدل أن تكون معدومة. وإذا مضينا في سلسلة الأسباب أو العلل إلى ما لانهاية فسوف لن ننتهي أبدا، لذلك لا بد من وجود سبب كاف خارج سلسلة العلل والأسباب الممكنة ومستقل عنها، وهذا السبب هو المبدأ الأول المحدث لكل الموجودات، إنه الله.
هكذا يؤمن لايبنتس بأن وجود الله فوق كل شك، وأنه مصدر الحقائق الأبدية الخالدة، وأنه خالق العالم الممكن. فقد خلق الله أحسن العوالم الممكنة تمشيا مع مبدأ الأصلح والأفضل. ولم يكن الله، حسب لايبنتس، ليخلق غير هذا العالم الذي خلقه بالفعل، والذي كان من الضروري أن يتحقق باعتباره أحسن العوالم الممكنة.
وإذا كان العالم يتكون من مونادات، فإنها متشابهة من حيث الطبيعة والفرق بينها في الدرجة فحسب. وترتبط المونادات بالله (الموناد الأكبر) بعلاقة أشبه بعلاقة الحاكم برعاياه أو الأب بأبنائه.
وكل المونادات تكون ما سماه لايبنتس بمدينة الله التي هي أكمل دولة ممكنة، يحكمها أكمل الملوك.
وإذا كان لايبنتس قد تحدث عن انسجام بين مملكة العلل الفاعلة ومملكة العلل الغائية، فإنه تحدث أيضا عن انسجام بين مملكة الطبيعة ومملكة الأخلاق، أي بين الله منظورا إليه كمهندس لآلة الكون وبين الله بوصفه الغاية التي تسعى إليها كل الأنفس. وبهذا الاعتبار فالله هو العلة الغائية التي تسعى نحوها كل المخلوقات، كهدف أسمى تتحقق فيه سعادتها.
لقد سعى لايبنتس إذن إلى التوفيق بين فكرة الغائية من جهة، وبين قوانين الطبيعة من جهة أخرى؛ ففي الوقت الذي حافظ فيه على قوانين العلم، نجده قد حاول –عن طريق فكرة الانسجام المسبق- أن يجعل للاهوت دورا في تفسير العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق