احدث المواضيع

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009

العالم في فلسفة لايبنتس

يتكون العالم، حسب لايبنتس، من مونادات لا حصر لها، وهي عبارة عن جواهر بسيطة لا تقبل الامتداد ولا الانقسام، وهذه المونادات هي الذرات الحقيقية المكونة لعناصر الأشياء. والمونادات هي ذرات روحية وليست مادية، إنها في أساسها طاقة دينامية.

هكذا يرى لايبنتس أن المونادة بسيطة، بحيث لا تقبل القسمة، كما أنها ليست مادية ولا شكل لها. وهي كذلك لا تنحل أو تفنى كالأجسام، بل هي لا تبدأ إلا بالخلق ولا تنتهي إلا بالإعدام.

ومن جهة أخرى، فالمونادات ليست نقطا رياضية، ذلك أن الحقائق الرياضية تفتقر، حسب لايبنتس، إلى الخصائص الدينامية. إن المونادات في حقيقتها إذن هي مراكز حية للقوة أو الطاقة.

ويرى لايبنتس أن هناك تسلسل أو هرمية في الكون؛ فمونادات الأجسام تحتل أدنى طبقة، تعلوها المونادات التي تتحكم في النباتات، ثم تأتي مونادات الحيوانات التي ترتفع فوقها، إلى أن نبلغ المونادات التي تتحكم في الكائنات البشرية وتتجاوز سائر الطبقات. وفي القمة نجد المونادة المركزية “المطلقة” الكاملة ألا وهي الله.

وبالرغم من هذه التراتبية الموجودة بين المونادات، فهي ليست معزولة عن بعضها البعض بل يحكمها مبدأ الاتصال؛ ذلك أن كل مونادة تحتوي على علاقات تعبر عن مجموع الجواهر الأخرى وأنها مرآة حية تعكس العالم كله.

هكذا فكل مونادة تدرك العالم على نحو من الأنحاء، إلا أنها لا تدركه بنفس الكيفية؛ فالمونادات العليا

- كنفوس الحيوانات والعقل البشري- تدرك العالم على نحو واضح وواعي بينما المونادات السفلى تدرك العالم إدراكا غامضا وغير واعي. وبقدر ما يكون للذرات الروحية أو المونادات من إدراكات واضحة، تكون فاعليتها، على حين أن الاختلاط في إدراكاتها يعني سلبيتها، وهكذا تتحدد مراتب المونادات بحسب درجة نشاطها العقلي أو قوتها في الإدراك.

من هنا يميز لايبنتس بين نوعين من الإدراكات التي تصدر عن كل المونادات التي يتكون منها العالم؛ إدراك غامض، ضعيف وغير واعي، وهو سمة مشتركة بين جميع الكائنات، وإدراك متميز، قوي وواعي يختص به الكائن البشري.

ويقول لايبنتس في الفقرة 56 من “المونادولوجيا”: “الجوهر البسيط بمثابة مرآة حية أزلية للكون”. من هنا فكل مونادة تحمل في طياتها العالم كله بكيفية تختلف حسب درجة وضوح إدراكها. فكل مونادة تعكس العالم الواحد من وجهة معينة، فهي تعبر عن العالم تعبيرا يختلف عن تعبير المونادات الأخرى، وهذا ما يفسر التنوع في العالم.

إن كل مونادة تعكس العالم كله، فهي وجهة نظر للكل، إنها العالم من زاوية معينة. وكل المونادات تتصور وتسعى نحو كمال واحد هو الله. وإذا كان العالم لامتناهيا، فهو كل مركب من مجموعة من المونادات بحيث كل مونادة تحتوي على مونادات أخرى. وهذا ما يبين محدودية التصورات والإدراكات في المونادات من جهة، ووجود تراتبية فيما بينها من جهة أخرى. من هنا فالفرق بين المونادات هو فرق كيفي وليس كميا؛ فكل المونادات لها نفس الطبيعة ولكنها تختلف في درجة كمالها وتصوراتها.

فالعالم يتكون من مجموعة من المونادات اللامتناهية التي يحد بعضها البعض الآخر، بحيث لا تدرك أية مونادة منها الكمال المطلق.

لقد قدم لايبنتس تصورا عضويا للعالم يتعارض مع التصور الميكانيكي الآلي؛ فالعالم في نظره هو نسق عضوي، إذ أن كل جسم معضون يحمل قوة فعل داخلية خاصة به. من هنا يتحدث لايبنتس عن آلية طبيعية (إلهية) وليس عن آلية اصطناعية ميكانيكية. فكل جزء أو مونادة هي عضو حي يحمل في طياته جميع ما يحدث في الكل؛ فأقل جزء من المادة يتضمن عالما من الأرواح والأحياء، وأجزاء العالم تتمتع بالحياة والوضوح، والغموض ينجم فقط عن إدراكنا نحن للأشياء. فكل أجزاء الجسم (المونادات) تتمتع بالحياة، والنفس هي واحدة من تلك المونادات وهي تتمتع بالحياة أيضا، كما أنها مونادة مهيمنة.

وقد قال لايبنتس “بقانون الاتصال” الذي يحكم الطبيعة؛ بحيث لا تعرف انفصالا ولا طفرات مفاجئة. ومن هنا قال لايبنتس بنوع من الحيوية أو الوجود الحي في الطبيعة بأسرها، ذلك أن المونادات تنتشر في كل مكان من العالم، وهي تختلف فقط في مستواها الإدراكي. فقد تصور لايبنتس الكون كله على أنه جسم عضوي لا متناه يتضمن في ذاته أجساما عضوية صغيرة، وهذه بدورها تنقسم إلى أجسام عضوية لا متناهية في الصغر.

وإذا كان الإدراك والنزوع منتشران في العالم بأسره‘ فإن ذلك يعني أن كل مونادة أو ذرة روحية تمثل العالم بأسره؛ أي أنها بمثابة مرآة تعكس الكون بأسره. وإذا كانت المونادة تعكس الكون كله، فإن هذا جعل لايبنتس يعتقد بإمكان تحصيل المعرفة عن طريق مجموعة من الأفكار البسيطة المرتبة ترتيبا صحيحا. فالأفكار البسيطة تؤدي على المستوى المعرفي نفس الدور الذي تؤديه الذرات الروحية (المونادات) على المستوى الأنطلوجي. فكما أنه من الممكن انطلاقا من المونادة أن نفهم الكون كله، فكذلك انطلاقا من الفكرة البسيطة يمكن استنباط كل المعارف الممكنة.

وقد قال لايبنتس أيضا بفكرة الانسجام أو الاتساق المسبق، والذي يعود في نظره إلى الإرادة الإلهية التي شاءت أن تتفق إدراكات المونادات كلها بالرغم من أن كل مونادة منغلقة على ذاتها وليست لها “أبواب ولا نوافذ” تطل منها على العالم الخارجي. فالأصل الإلهي المشترك لكل المونادات المخلوقة هو الذي يضمن منذ الأزل حدوث انسجام بين إدراكاتها.

إن العالم منظم ومعقول ومنسجم منذ البداية، فهناك انسجام بين كل أجزائه، وبإمكان العقل البشري أن يدرك ما في العالم من نظام ومعقولية. كما أن هناك انسجام بين عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية؛ بين مملكة الجواهر المركبة أي الأجسام، ومملكة الجواهر البسيطة أي المونادات. والعلية الآلية تحكم مملكة الأجسام، أما مملكة المونادات فتحكمها الغائية. وهاتان المملكتان ليستا مستقلتين عن بعضهما البعض، بل تكونان وحدة واحدة، وإحداهما هي الصورة التي تظهر بها الأخرى.

وقد ذهب لايبنتس إلى القول بأن هذا العالم هو أحسن العوالم الممكنة، لأن الكمال الإلهي يحتم ألا يتحقق بالفعل إلا أكمل ما يمكن أن يتحقق في هذا العالم المنسجم والمنظم . فكل المونادات ترتبط بالله (المونادة الأكبر) بعلاقة أشبه بعلاقة الحاكم برعاياه أو الأب بأبنائه.

وكل المونادات تكون ما سماه لايبنتس بمدينة الله التي هي أكمل دولة ممكنة، يحكمها أكمل الملوك.

وإذا كان هناك انسجام بين مملكة العلل الفاعلة ومملكة العلل الغائية، فهناك انسجام بين أيضا بين مملكة الطبيعة ومملكة الأخلاق؛ أي بين الله منظورا إليه كمهندس لآلة الكون، وبين الله كملك لمدينة الأرواح الإلهية.

لقد سعى لايبنتس إذن إلى التوفيق بين فكرة الغائية من جهة، وبين قوانين الطبيعة من جهة أخرى؛ ففي الوقت الذي حافظ فيه على قوانين العلم، نجده قد حاول – عن طريق فكرة الاتساق الأزلي – أن يجعل للاهوت دورا في تفسير العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق