إذا رجعنا إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة “فن” اليونانية، لوجدنا أن هذه الكلمة لم تكن تعني سوى”النشاط الصناعي النافع بصفة عامة”، فلم يكن لفظ”الفن” عند اليونان قاصرا على الشعر و النحت والموسيقى و الغناء و غيرها من الفنون الجميلة، بل كان يشمل أيضا الكثير من الصناعات المهنية كالتجارة و الحدادة و البناء وغيرها من مظاهر الإنتاج الصناعي. من هنا نجد أرسطو يدرج الفن ضمن ما يمكن تسميته بالمعارف الإنتاجية التي تعني بصنع الأشياء ، بما في ذلك بناء البيوت و الحصون، و صناعة الملابس والزجاج ، بل كل ما يمكن أن ينتجه الإنسان كوضع القصائد و الخطب.
و كتاب”فن الشعر” يمثل بجانب كتاب “الخطابة” العلوم الإنتاجية في نظام الفلسفة الأرسطية لهذا فأرسطو لا يهدف من خلال كتابه وضع حقائق ثابتة و نهائية كما هو الحال في العلوم النظرية كالرياضيات و ما وراء الطبيعة، و إنما يهدف أساسا إلى مجرد المساعدة في صنع شاعر جيد، عن صياغة قواعد لنوع شعري معين، و هي قواعد لا يمكن أن تدعي لنفسها صفة الجزم النهائي.
إن الفن بهذا المعنى ينطوي على قيمة صناعية و إنتاجية تبعده عن أن يكون مجرد صدى للجمال الطبيعي. و إذا كان مؤرخو الفلسفة قد نسبوا إلى أرسطو أنه قال إن الفن محاكاة للطبيعة فإننا سنكشف من خلال تقديمنا لأفكار أ أرسطو في كتاب ” فن الشعر” أنه كان دائما ينظر إلى الفن باعتباره يصنع ما عجزت الطبيعة عن تحقيقه،إن مهمة الفنان لا تنحصر في إمدادنا بصورة مكررة لما يحدث في الطبيعة وإنما تنحصر في العمل على تعديل الطبيعة وتبديل الواقع وتنقيح الحياة. حقا إن الفنان قد يستلهم الواقع،أو يستوحي الطبيعة ،أو يصدر عن الحياة ،ولكن من المؤكد أن العمل الفني لا يمكن أن يكون هوا لواقع عينه،والطبيعة نفسها،والحياة ذاتها.
لقد اعتبر أرسطو بأن الفن في جوهره وأصله هو محاكاة للطبيعة من طرف الإنسان. وهذه المحاكاة هي طبيعة غريزية في الإنسان،وبواسطتها يستطيع الطفل مثلا أن يتعلم اللغة من خلال تقليده لما يصدر عن الكبار من كلمات، ولولاها لكان التعلم مستحيلا . بهذا المعنى فالنزعة إلى المحاكاة تولد مع الإنسان ،و بها يكتسب بعض المعارف الأولى .
يقول أرسطو:”يبدو أن الشعر نشأ عن سببين،كلاهما طبيعي،فالمحاكاة غريزية في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة،كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة … وسبب آخر هو أن التعلم لذيذ، لا للفلاسفة وحدهم،بل وأيضا لسائر الناس. فنحن نسر برؤية الصور لأ ننا نفيد من مشاهدتها علما ونستنبط ما تدل عليه،كأن نقول إن هذه الصورة صورة فلان”. (1 )
هكذا يبدو أن الشعر عند أرسطو نشا عن أمر طبيعي في الإنسان،لأن سببيه طبيعيان وهما:
1 - الميل إلى المحاكاة، وهو ما يميز الإنسان عن سائر الحيوان ويمكنه من اكتساب معارفه الأولى.
2- شعور الإنسان باللذة أمام أعمال المحاكاة.
ويرجع أرسطو نشأة الشعر إلى نزعة طبيعية أيضا في الإنسان، وهي ميله إلى اللحن والإيقاع باعتبارهما عنصرين جوهريين في الشعر . من هنا فالشعر نشأ عن المحاكاة كفطرة إنسانية من جهة، وعن ميل الإنسان الطبيعي إلى اللحن والإيقاع من جهة أخرى. يقول أرسطو:”لما كانت غريزة المحاكاة طبيعية فينا ، شأنها شأن اللحن والإيقاع ، كان أكبر الناس حظا من هذه المواهب في البدء هم الذين تقدموا شيئا فشيئا و ارتجلوا ، و من ارتجالهم ولد الشعر”. (2 )
إن أصل الشعر إذن، يرجع إلى الميل الفطري لدى الإنسان إلى الإيقاع والانسجام.
و عن هذين الميلين الفطريين نشأ في البداية الشعر الارتجالي الذي انقسم إلى شعر هجاء و شعر مديح، و عن الأول ظهرت الكوميديا، و عن الثاني ظهرت المأساة، ولهذا فإن الملهاة و المأساة أعلى مراحل تطور الشعر.
إن هدف فنون المحاكاة هو تحقيق اللذة للإنسان. فماذا يقصد أرسطو باللذة؟ واضح أن أرسطو يستخدم مفهوم اللذة بالمعنى الروحي و ليس بالمعنى الحسي. فهو يقصد تلك اللذة السامية التي تترتب عنها متعة جمالية مصدرها الإحساس و الشعور و ليس الجسد.
و فضلا عن تحقيق فنون المحاكاة للمتعة و اللذة، فإن المأساة – كأحد فنون المحاكاة و التي أولاها أرسطو عناية خاصة - تهدف على تحقيق ما اسماه أرسطو “بالتطهير” من انفعالي ا لخوف و الرحمة أو الشفقة. و هكذا يتحدث أرسطو عما يمكن تسميته بالوظيفة التطهيرية أو الانفعالية التي تجعل مهمة الفن هي تطهير انفعالاتنا. فالفن التراجيدي( المأساوي) يحدث استبعادا أو طردا لما لدينا من مشاعر الخوف و الرأفة و الحب و ما إلى ذلك من مشاعر عنيفة، بأن يستوعب في نطاق خيالي غير ضار كل ما لدينا من حاجة إلى الشعور بمثل تلك الانفعالات: فالعمل الفني هنا إنما يقوم بوظيفة إيجابية هامة ألا و هي التحرير أو التحصين الخلقي من الانفعالات الحادة التي تنتاب النفس الإنسانية.
و انطلاقا من وظيفة الفن هاته، يمكن أن نلاحظ بأن”أرسطو” أولى الفن و الشعر منه بصفة خاصة اهتماما بالغا؛ فإن كان “أفلاطون” قد استخلف بالشعراء و طرد الشعراء من جمهوريته، فإن “أرسطو” أعاد الاعتبار للشعر و اعتبره وسيلة للتعلم مثله مثل الفلسفة؛ فالشعر يعلمنا الفضيلة عن طريق التخيل، أما الفلسفة فتبين لنا صواب الاعتقاد بالاعتماد على الاستدلال. و إذا كانت الفنون محاكاة، فإنها تختلف في أمور ثلاثة:
- إما تختلف في مادة أو وسيلة المحاكاة.
- أو تختلف في موضوع أو مضمون المحاكاة.
- أو تختلف في طريقة المحاكاة.
فيما يخص وسيلة المحاكاة، يتحدث أرسطو عن ثلاثة وسائل رئيسية: الوزن (الانسجام)، و اللغة والإيقاع:
أ- فالوزن و الإيقاع يستعملان معا في الضرب على القيثارة
ب-أما الرقص فيعتمد الوزن وحده دون الإيقاع: فالراقصون يحاكون عن طريق الحركة الموزونة إما انفعالات أي عواطف و مشاعر، و إما أفعال أي سلوكات و ممارسات إنسانية محددة، و إما شخصيات معينة بكل أوصافها الخارجية أو الداخلية.
ج- و قد تعتمد فنون أخرى على اللغة فقط سواء أكانت تلك اللغة نثرا أو شعرا .
أما فيما يخص موضوع المحاكاة أو مضمونها، فقد ذهب أرسطو إلى أن موضوع الفنون هو”أفعال الناس” أو “الناس و هم في حالة فعل”، والناس إما أن يكونوا فوق المستوى العام أو كما هم عليه في المستوى العام ، أو دون المستوى العام. من هنا كانت المحاكاة الفنية تتناول إما موضوعا نبيلا وجليلا أو تتناول موضوعا رديئا ومنحطا أو تتناول موضوعا هو من النبالة والدونية في موقع وسط. فموضوع المحاكاة في المأساة هو أفعال الناس الفضلاء أي الإنسان وقد اكتسب خصالا ومميزات فوق المستوى العادي للناس،أما موضوع المحاكاة في الملهاة فهو أفعال الناس الأراذل،أي الإنسان وقد اكتسب صفات دون المستوى العام من الناس.
إن موضوع المحاكاة إذن :
- إما أن يعبر عما ينبغي أن يكون،أي يقدم مجموعة من التصورات المثالية التي يتمثلها الفنان في ذهنه تجاه ما يحاكيه،
- وإما أن يعبر عما هو كائن، أي يقدم أفعال الناس كما هي موجودة في الواقع دون أن يرفعها إلى مستوى المثال أو ينزلها إلى مستوى الحضيض،
- وإما أن يعبر عن أفعال الناس وهي دون المستوى العام، أي يقدمها في صورة ناقصة ومشوهة تبعث على الضحك والسخرية، وهو ما تفعله الملهاة
وفي جميع الأحوال، فعنصري الخلق والإبداع ضروريان بالنسبة لكل فنان محاكي.فسواء تناول الشاعر موضوعا مثاليا أو واقعيا أو منحطا، فإنه يتناوله من زاوية إبداعية تعبر عن تصورات موجودة في ذهن الفنان وليست خارجه، وهو الأمر الذي يبعد المحاكاة عن معنى التصوير الحرفي للموضوع المحاكى.
إن المحاكاة بهذا المعنى هي ما يجعل عملا ينتمي أو لا ينتمي إلى الفن. وهذا واضح في حديث أرسطو عن مهمة الشاعر وتمييزها عن مهمة المؤرخ، حيث يقول:”واضح كذالك مما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست في رواية الأمور كما وقعت فعلا، بل رواية ما يمكن أن يقع…ذالك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان في كون الأول يروي الأحداث نثرا في الوقت الذي يرويها الآخر شعرا، وإنما يتمايزان من حيث أن أحدهما يروي الأحداث كما وقعت فعلا ، بينما يرويها الآخر كما يمكن أن تقع.”(3)
إن الشعر أكثر سموا من التاريخ، فهو “يروي الكلي، بينما التاريخ يروي الجزئي”.(4) وكل هذا يبعد صفة الحرفية عن المحاكاة، ويجعلها محاكاة لنموذج الشيء كما يتمثله الشاعر و ليس كما هو موجود في الواقع. إن عنصر الخيال يلعب دورا هاما أثناء عملية المحاكاة التي يقوم بها الشاعر. فهو يقدم حقيقة عن واقع جديد أكثر علوا ومرتبة من الواقع الفعلي. ويتم ذالك بطبيعة الحال عن طريق تشكيل مادة المحاكاة والتنسيق بين أجزائها وحذف ما هو غير ضروري فيها حتى تستطيع أن تعبر عن فكرة عالمية وشاملة يتخذها الفنان إزاء الواقع الطبيعي . وهكذا فالعمل الفني الذي يخلقه الفنان المحاكي ليس عملا واقعيا بالمعنى الفعلي أي يمكن أن نعثر له عن شبيه في عالم التجربة الفعلية أو فيما هو موجود في الطبيعة من وقائع ومشاهد. فالشخصيات والوقائع التي وصفها سوفوكليس في مسرحياته أو هوميروس في ملاحمه ليست هي تلك الشخصيات أو الوقائع التي وجدت فعلا في التاريخ، وإنما هي شخصيات ووقائع تعبر عن تمثل صاحبها لما يجري فعلا على مسرح التاريخ.
إن المحاكاة في الفن قد ترتبط إما:
أ- ما هو كائن ( الواقع) .
ب- ما ينبغي أن يكون ( المثال ).
ج- ما يحكي الناس عنه ( الظن) .
وفي هذا الإطار يتحدث أرسطو عن علاقة الشعر بكل من المستحيل ، غير الممكن و المتناقض.
1- المستحيل: يقول أرسطو:”ينبغي أن نستعين في المآسي بالأمور العجيبة (المخالفة للمألوف). أما في الملحمة، فيمكن أن نذهب في هذا إلى حد الأمور غير المعقولة التي يصدر عنها خصوصا العجب”.(5) وهكذا فالتعبير عن المستحيل في الشعر يمكن تبريره على أساس أن الشاعر لا يصور الأشخاص كما هم عليه، بل على أساس أن يكونوا أحسن مما هم عليه.
يقول أرسطو: “و بالجملة، فإن الأمر المستحيل ينبغي أن يبرر على اعتبار الشعر أو ما هو أفضل أو الرأي الشائع: أما عن الشعر، فإن المستحيل المقنع أفضل من الممكن الذي لا يقنع.
أجل، قد يكون من المستحيل وجود أناس مثل الذي يصورهم زيوكسيس، لكن إنما يرسمهم خيرا مما هم،لأن من يتخذ قدوة يجب أن يكون أفضل ممن هو بالفعل. والرأي الشائع ينبغي أن يبرر الأمور اللامعقولة. و أحيانا نبين أنه ليس بلامعقول، إذ من المحتمل أن الأشياء تقع أحيانا بخلاف ما هو محتمل”(6 )
2 – غير الممكن : أما في معرض تبريره لتصوير الشاعر ل”غير الممكن”، فيذهب أرسطو إلى أن ذلك يمكن رده إما الرأي السائد أي المعتقد العام؛ فيكون ما يعبر عنه الشاعر ممكنا بالنسبة إليه و غير ممكن بالنسبة لعامة الناس، أو يمكن رده إلى أن غير الممكن في فترة زمنية قد يكون ممكنا في زمن آخر سابق أو لاحق.
3- المتناقض: يمكن تبرير ما يبدو متناقضا في الشعر انطلاقا من نفس القواعد المستخدمة في الحجاج الجدلي. فهل يا ترى يتكلم الشاعر عن نفس الشيء وبنفس الكيفية ؟ لأن التناقض قد يفسر انطلاقا من غموض المعنى واحتمال الكلمة لأكثر من معنى في الشعر.
إن ما يمكن استنتاجه أخيرا هو أن المحاكاة في نظر أرسطو ليست مجرد نسخ آلي
أو تقليد حرفي و إنما هي رؤية إبداعية يستطيع الشاعر من خلالها أن يخلق عملا جديدا من مادة الحياة والواقع طبقا لما كان أو لما هو كائن أو لما يمكن أن يكون أو كما كان يعتقد أنه كان كذلك. و بهذا تكون دلالة المحاكاة ليست إلا إعادة خلق.
وهكذا، فالفن الحقيقي – حسب أرسطو- هو تعبير خلاق و مبدع عن الحقيقة التي لا تتعدى نطاق الممكن، بخلاف الفن المزيف الذي يقدم حقائق مغلوطة تبعده عن مجال الممكن عقليا أي عن الحقيقة.
من هنا جعل أرسطو الفن في خدمة الحقيقة: فالفنان الجدير بهذا الاسم في نظره يجب عليه أن يستخدم كل طاقته الخلاقة وخياله المبدع في التعبير عن حقائق الأشياء. فالفن شأنه شأن الفلسفة يمكنه أيضا الوصول إلى الحقيقة اعتمادا على التخيل و التمثيل مثلما تصل إليه الفلسفة عن طريق التجريد والتعميم المرتبطين بالعقل.الإحالات:1 - أرسطو، فن الشعر، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة، بيروت، ص12
2 - نفسه ، ص 13
- 3 نفسه،ص 20
- 4 نفسه
- 5 نفسه، ص 69
- 6 نفسه،ص77
احدث المواضيع
الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009
المحاكاة في الفن عند أرسطو
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق