في الكتاب العاشر من الجمهورية نجد الحوار التالي :
سقراط : ثمة أمور كثيرة تجعلني اعتقد أن المدينة التي أقمناها هي افصل المدن، وأعظم ما يؤيد دلك ما حددناه خاصا بالشعر.
غلوكون: أي وجه منه تعني ؟
سقراط : اقصد ألا نقبل البتة شيئا من شعر المحاكاة، و احسب أن هذا الأمر أصبح أكثر وضوحا بعد أن ميزنا أقسام النفس المختلفة.
غلوكون : مادا تعني ؟
سقراط: هذا سر بيني وبينك لا تذيعه على شعراء التراجيديا و غيرهم من أصحاب المحاكاة وهو أن جميع شعر المحاكاة فيما يظهر لي يفسد عقول الدين يسمعونه ، اللهم إلا إذا كان عندهم ترياق يقيهم منه ، وهو معرفتهم بطبيعته الحقة.
انطلاقا من هذا الحوار نستنتج رفض أفلاطون لما يسمى بشعر المحاكاة و لهذا يحق لنا أن نطرح السؤالين التاليين: ما المقصود بالمحاكاة هنا؟ و لماذا وقف أفلاطون موقفا سلبيا من فن المحاكاة ؟
إذا ما تتبعنا المحاورة نجد أن سقراط يتوجه بسؤال إلى غلوكون قائلا: “أستطيع أن تخبرني ما المحاكاة بوجه عام ؟ فالحق أني لا أعرف ما هي” فيجيب غلوكون قائلا: “وهل تتوقع مني أنا أن أدركها؟ ” وهذا يعلن غلوكون عن عدم جرأته على إعطاء تحديد معين للمحاكاة ليترك لسقراط مهمة القيام بذلك .
وهنا يعطي سقراط مثال السرير و المنضدة حيث أن صانع الأسرة و المناضد يصنعها انطلاقا من “المثال” الذي لا يمكن أن يكون صانعه سوى صانع أكبر و أمهر يقول عنه أفلاطون بلسان سقراط “هذا الصانع ليس قادرا على صنع جميع المصنوعات فقط، و لكنه هو الذي يصوغ جميع الكائنات الحية، كما يصنع نفسه و جميع الأشياء الأخرى… الأرض والسماء و الآلهة و كل ما هو موجود في السماء أو في الجحيم تحت الأرض“.
إن الإله إذن خلق المثال الأول لسرير كامل الصفات، ثم يأتي النجار و يصنع سريرا عن طريق تقليد أو محاكاة يكون لسرير الإله المثالي، ثم يأتي المصور و يرسم السرير الذي صنعه النجار، و بهذا التقليد أو المحاكاة يكون عمله بعيدا عن الحقيقة بثلاث درجات. و الشاعر شأنه شأن المصور لا يصل إلا إلى ظواهر الأشياء دون النفوذ إلى طبيعتها أو إلى جوهرها الأصلي. و هكذا فالفن عموما هو”محاكاة للمظهر” و المحاكاة- يقول أفلاطون- بعيدة عن الحقيقة، و يظهر أنها تتمكن من صنع جميع الأشياء لأنها تلمس جانبا صغيرا منها فقط، و ليس هذا الجانب إلا شبها منها: مثال ذلك أن المصور يرسم صانع الأحذية أو النجار أو أي صانع آخر، مع أنه لا يعرف شيئا عن صنعتهم. و لكنه إذا كان فنانا بارعا استطاع أن يرسم النجار و يعرضه من بعيد فيخدع الصبيان و البسطاء حتى ليخيل إليهم أنهم يرون نجارا حقيقيا .
إن الفن لا يحاكي إذن سوى الظاهر، بخلاف الفيلسوف الذي يدرك الحقيقة و يتصل بها كما هي في عالم المثل. و من هنا فقد ذهب أفلاطون إلى أن إنتاج الشعراء يتسم بالضعف و الرداءة، فالمحاكاة لا تخلق بالنسبة إليه سوى ما هو وضيع، إنها لا تنفذ إلى أعماق الأشياء، فالشاعر يمتح من مرجعية لا تخرج عن إطار الصورة أو الظل أي عما هو ظاهري؛ فالعنصر الفاعل في التعامل مع هذه المرجعية يختزل على العموم في الأحاسيس و المشاعر الحيوانية أي المكون السيئ للروح. يقول أفلاطون: “إننا على حق في مهاجمته أي الشاعر و وضعه في المكانة ذاتها التي يوضع فيها الرسام، ذلك لأنه شبيهه في كونه ينجز أعمالا ذات ثمن بخس إذا ما قارناها بالحقيقة، و إنه ليشبهه أيضا، بينما لا تجمعه أية علاقة بالجانب الأفضل منها“.
و إذا كان أفلاطون يعترض على الفن لارتباطه بالظاهر دون الحقيقة‘ فإنه يعترض عليه لجملة من أسباب أخرى يمكن اختزالها في ما يلي: أولا: إن الفن و الشعر بصفة خاصة يؤثر تأثيرا سيئا في الطبيعة الإنسانية بما يقدم لها من نماذج ضارة: فالشاعر يفقد شخصيته في شخصيات الآخرين، و لابد أن يكون قد اكتسب شيئا من الشر إذا كان استطاع أن يتحدث بلسان الأشرار و يحسن التعبير عن مواقفهم. أما السبب الثاني فهو أن الشعر يصور الآلهة بصورة غير لائقة: فالشعراء يصفون الآلهة بصفات لو نسبت إلى البشر أنفسهم لما وجدوا فيها ما يشرفهم: إذ تظهر الآلهة لديهم غيورة، منتقمة، لاهية، ساخرة و عابثة بل خليعة في بعض الأحيان. أما أفلاطون فيريد أن تكون للآلهة أفضل صورة ممكنة و لاسيما في أذهان النشء الذين ينبغي أن تضمن لهم الدولة المثلى أفضل تربية. أما السبب الثالث فيعود إلى عدم لقدرة الشعر على تحقيق الهدف المنشود الذي هو تأسيس المدينة الفاضلة و سن القوانين الكفيلة بتحقيق التوازن الاجتماعي؛ و الفلسفة وحدها تستطيع تحقيق هذه المهمة. إن الفيلسوف- في نظر أفلاطون- هو المبدع الوحيد الذي يستطيع خلق أسس متينة تسمح ببناء مجتمع يسوده العدل و باقي الفضائل الأخرى
احدث المواضيع
الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009
المحاكاة في الفن عند أفلاطون
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق