احدث المواضيع

الاثنين، 23 نوفمبر 2009

إنسانية التواصل، إنسانية الأنظمة الرمزية

الأستاذ: محمد علي كسيرة
التمهيد: التواصل بين الضرورة والاختيار
لا نكاد نلتقي بمسألة معاصرة في الفلسفة، إلا ولها صلة بالانسان إلى درجة أمكننا أن نسلم فيها مع كانط بأن الفلسفة قد تحولت إلى أنتروبولوجيا، أي إلى دراسة تسعى قدر الإمكان إلى تمثل كل ما يتعلق بهذا الكائن، فما الإنسان؟
إن النظرة الأولية لهذا الكائن تحيلنا إلى تركيبته العضوية، فالغلاف الخارجي الذي يغطي الجسم بأكمله والمتمثل في الجلد، ليس وحدة صماء، بل هو منفتح من خلال ثقبه على العالم الخارجي، وما الفم والأذن والأنف إلا قنوات تمرر داخل الجسم ما هو خارجي عنه، حتى أنه لا قوام للجسم بذاته بل إنه يجد حيويته في تجذره في عالمه الخارجي الذي يلقى فيه غذاءه ونفسه، ليقترن كل تواصل يشبع الجسد باللذة ويقترن كل انغلاق بالألم والضعف والوهن.
إنه محكوم علينا بيولوجيا بأن ننفتح على الطبيعة الخارجية. ولكنه محكوم علينا أيضا ان نتواصل مع العالم في شكل جماعي، فمواجهة الإنسان للطبيعة لا يمكن بأية حال أن تكون فردية. إن الضرورة البيولوجية للجسد تستدعي ضرورة إجتماعية للتواصل.
إن حاجة الحيوان إلى محيطه هي نفسها حاجة المحيط إلى الحيوان، فحين يحقق حاجته في الطبيعة لضمان بقائه فإنه يضمن في الآن نفسه توازنا إيكولوجيا بيئيا، فالحياة الحيوانية ليست إلا إمتدادا للطبيعة نفسها، إذ لا يحتاج الحيوان لكي يلبي حاجاته إلى تعلم، وإنما يولد أحيانا من يومه الأول قادرا على التواصل مع محيطه بقدرته على الإنتصاب قائما. ذلك أن غريزته هي أداة تواصله وهو لا يحتاج إلى تعلم لكي يحصل على هذه الأداة، وإنما يرثها إرثا بيولوجيا من نوعه. لأن "الغريزة متخصصة إضطرارا" كما يذهب إلى ذلك برقسن. أما الإنسان، فلكي يعمل، يحتاج إلى تعلم. ولكي يتعلم يحتاج إلى الآخر، فلا تواصل مع الطبيعة دون تواصل مع الآخر وهذا ما يجعل التواصل ضرورة بشرية بالأساس لأن التواصل يقتضي سلفا وعيا بالتواصل.
إذا كان تواصلنا مع الطبيعة لا ينتظم تلقائيا، فإن تواصلنا مع الآخر يتعدى بدوره التلقائية المباشرة. وإذا كانت التلقائية تخلق نظاما في تواصل الحيوان مع محيطه فإنها غير كافية بل وأحيانا مبعثا للفوضى حين يتعلق الأمر بالإنسان. ذلك أنه لو ترك أمر التواصل الإنساني للتلقائية المباشرة لكنا إزاء رغبات إنسانية متعارضة ومتصادمة. وبناءا عليه فإن التواصل يحتاج إلى تجاوز الطابع المباشر بالتفكير في وسائط. وبهذا المعنى نكون أمام خيارين: إما أن نتواصل تلقائيا – مع ما ينجر عن ذلك من تصادم – وإما أن نختار وضع شروط للتواصل. ولحظتها نرتفع عن الطابع المباشر الذي يسم التواصل الحيواني لنحقق تواصلا مجهزا ومنظما حتى يكون من الممكن أن نتحدث عن إنسانية التواصل.
I- إنسانية التواصل:
حين نتحدث عن إنسانية التواصل يكون من الضروري أن نفهم أولا دلالة "التواصل" ودلالة "الإنسانية". إن التواصل يعني الإتصال المتبادل، وسواء أكان تبادلا للتجارب والآراء بما يعنيه ذلك من تواصل حواري أو تواصل علمي بما تحمله المعرفة من دلالة أخلاقية لاقترانها بالخير، أو تواصل تسويقي بما يمثله من دعاية تجارية وإشهار ونشر وبرماجيات أو تواصل يرتبط بشبكة وسائل الإعلام والإتصالات المختلفة. وقد يقترن بشبكة النقل والمواصلات بما تعنيه من تقريب المسافات بين البشر والأمم وبما تعننيه من إلتقاء بالآخر البعيد عنا مكانيا أو الإلتقاء به في وسائل النقل نفسها. غير أن ما نعنيه بالأساس بالتواصل هو التكافؤ بين مختلف الأطراف، ليحمل بذلك معنى التحاور بما يقتضيه من مجادلة الرأي بالرأي إثراءا وتنويعا. إننا لا نسمي مثلا الأوامر العسكرية التي يتلقاها جنديا ما تواصلية، لأنها تكتفي بالعلاقة الأحادية: باث – متقبل، ولا تسمح بتبادل الأدوار، أي بأن يتحول الباث متقبلا والمتقبل باثا، لأن هذه الخاصية بالأساس هي ما نطمح إليها وهي ما تجعل من التواصل إنسانيا. فحين نتحدث عن إنسانية التواصل فإن ما نقصده هو الإعتراف المتبادل، وأن الطرف المقابل هو كفؤ لنا، وأنه من عدم الإنسانية أن نعتبره أقل منا مرتبتا أو يحتاج إلى قيادة وتوجيه وأوامر.
II- الثورة التواصلية:
إن تطورا هائلا قد طرأ على التواصل وعلى الأنظمة الرمزية التي تحول بمقتضاها العالم إلى قرية معلوماتية وإلى سوق تجارية. لم تعد هناك أزمة نقص في المعلومة، بل أزمة معيار لانتقائها واختيارها واختبارها، ولم تعد هناك أزمة سلع بل أزمة أذواق. لم يعد الإنسان يكلف نفسه عناء التنقل في العالم طالما أن العالم ماثل بين يديه على الشاشة . لم يعد الإنسان يكلف نفسه جهد التسوق طالما أن الرواج للبضائع يكون عبر الشاشة. إن رأسالمال يتحرك رقميا، إنه لم يعد يخضع للرقابة الجمروقية، إلى درجة أمكننا أن نتحدث فيها عن إنهيار مفهوم الحدود الجغرافية ومفهوم المسافة ومفهوم المكان في عصرنا. لم يعد الإنسان في حاجة إلى قطع المسافات وتكلف عنائها طالما أن التواصل يفد إليه دون عناء أو كلفة. ولكن بقدر ما يتواصل الإنسان معلوماتيا وتجاريا مع أقصى مواقع العالم، بقدر ما ينغلق في بيته وينعزل أمام شاشة الكمبيوتر على أقرب الناس إليه. وهذا ما يجعلنا نسلم مع أدورنو: "إن التقدم يفرق بين الناس... ووسائل الإتصال تفرق بين الناس ماديا".
إن هذا الشكل من التواصل الإنساني يجعل مسألة التواصل نفسه في موضع إحراج وإشكال. ذلك أن مسألة التواصل لم تكن تطرح قديما في فضاء أثينا الديمقراطية، بل لقد اختزل الأمر في مسألة الصداقة السياسية. غير أن الفلسفة - في عصرنا الراهن- تجد نفسها مضطرة للتعاطي مع التواصل الذي يوشك أن يقتل التواصل نفسه. إننا حقا إزاء مفارقة تجعلنا نميز بين التواصل كواقعة والتواصل كرهان فلسفي، أي رهان إنساني، فحتى يكون التواصل إنساني لا بد من تجاوز طابعه المصلحي الضيق ليكون كونيا.
إذا كانت اللغة الشفوية تختصر على الاستعمالات الظرفية والمنفعية الطارئة، فإن اللغة المكتوبة تتخطى حدود المكان وحدود الزمان لكي تتأكد كنظام تواصلي يتجاوز هذه التضييقات. إن ظهور الكتابة قد طور التواصل ومثل وعاء للذاكرة الإنسانية، ولكن ثورة الكتابة لم تكن ثورة فعلية إلا بظهور المطبعة، التي جعلت الكتابة تخرج عن الكنائس والقصور، لتقتحم كل البيوت. لقد استطاعت الكتابة أن تكسر طوق السلطة الدينية والسلطة السياسية لتتحول إلى أداة تواصلية تكون في الآن نفسه توعوية وتحررية. إن انتشار الكتابة قد ساهم إلى حد كبير في ظهور لغات كانت في بدايتها شفوية لذلك فقد أسر ديكارت على أن يكتب باللغة الفرنسية في زمن لم تكن اللغة الطاغية إلا اللغة اللاتينية. وكان هدفه بالأساس أن تصل الكتابة حتى إلى النساء والأطفال في زمن كانت اللغة حكرا على الكنائس والقصور.
إن إنتشار الكتابة يوازيه تراجعا في الأمية، بقدر ما يوازيه قدرة على التواصل والإستفادة مع المعارف الإنسانية لقول غوسدورف "اللغة تقوم بتمكين التواصل ومضاعفتها، إنها تنشأ من التواصل عالما جديدا هو العالم الحق". وإذا كانت الكنائس قد سعت إلى احتكار الكتابة، فإن الكتابة على العكس، قد أدت إلى انتشار الأنظمة الرمزية الدينية. لقد أصبحت الكتب المقدسة متاحة للجميع، فلأي كان أن يختار مقدساته وأنماط تواصله الدينية.
لقد ضاعفت ثقافة الصورة من هذا الإنتشار ليزداد تشابك الأنظمة الرمزية من دين وأسطورة ولغة وصورة، لتؤدي المهمة نفسها لقول إ. كاسيرار "وكل التقدم الإنساني في الفكر وفي التجربة يعقد هذه الشبكة ويقويها" ذلك أن الأنظمة الرمزية تطور بعضها البعض بما يسمح من تيسير التواصل وجعله الأداة المثلى في التقاء الإنسان بالإنسان، إن التواصل من خلال الأنظمة الرمزية ليس إلا بديلا عن مظاهر العنف والتعسف. وبهذا المعنى أمكننا أن نحلل المسألة فرويديا لنعتبر كل هذه الأنظمة الرمزية تصعيدا يفرغ شحنة العنف الكامنة داخل كل إنسان في شكل أنماط تساهم في إثراء التواصل، بدل تعطيله عنفا وإرهابا وقمعا. ولعل هذا ما عناه وينر بقوله "إن تكنولوجيا الإتصال هي السبيل لتفادي سقوط الإنسانية مجددا في عالم هيروشيما". وبدل الحرب الباردة والعنف والعنف المضاد وبدل صراع الحضارات وصراع الديانات يكون من الأفضل أن تكون الأنماط التواصلية تفهمية تعاطفية. وبدل الحديث عن إمبراطوريات إستعمارية عظمى تتقاسم العالم يكون من الأجدر توحيد الإنسانية وانتظامها ضمن أنظمة رمزية تكون بدورها إنسانية، لذلك يكون من الضروري الإستعاضة عن ثقافة الصراع والتقاتل بثقافة التواصل الحضاري الذي يقوم فيه الرفاه بديلا عن الصراع، لقول جون هارتلي"فقد حل الترفيه محل الدفاع". ولكن ألا يكذب الواقع هذه المثالية ويجعلها مجرد إدعاءات ؟
III- أزمة التواصل:
إذا كنا غير قادرين على حسم الإجابة عن أسبقية الإنسان عن اللغة أو العكس، فإننا نعلم – على الأقل – أن اللغة ليست ذاتية، "فكل لغة هي في البداية متقبلة يتلقاها الطفل جاهزة من الوسط كما يتلقى منه غذاءه" على حد عبارة غوسدورف. وأن لا تكون اللغة ذاتية، معناه أن الدلالات التي تحملها هي مضمنة فيها سلفا، وهي ثابتة، بينما يشهد الواقع بحيوية الذات الإنسانية وبحركية الأحداث، فلا يمكن، بناء على ذلك أن يحتوي الثابت اللغوي حركية الذات والأحداث إلا لكي يطبعهما بثباته وسكونه. إن اللغة بهذا المعنى، لا تقول إلا لكي تخون مكامن النفس وأحداث الواقع ; وما أكثر تذمر الناس من خيانة العبارة، فاللغة ليست لغتي وإنما هي تمارس سلطتها بمحدودية دلالاتها.
إن سلطة اللغة كبنية وكمؤسسة خارجة عن الذات تمارس سلطتها كمدونة معجمية لدلالات محدودة هو أمر يمكن أن نشكك فيه لنبين بالمقابل مستطاعها كأداة طيعة ولكن يبقى التساؤل: طيعة في يد من؟ هل هي أداة طيعة لكل الناس؟
قد لا نضيف شيئا إذا قلنا أن السلطة السياسية تسعى قدر الإمكان إلى امتلاك أدوات السلطة واحتكارها، وما الأنظمة الرمزية إلا آليات مثلى لتنظيم البشر وتعويدهم على الطاعة. إن المستعمر يبادر أولا بتعليم لغته لمستعمره، لأن الأكثر اكتسابا للغة هو الأكثر قابلية للتطويع والإخضاع. إن الأمر نفسه ينطبق على المجال العسكري الذي تسند فيه المراتب والأوسمة إلى الأكثر درجة في التعليم لأنه الأكثر قابلية للإنصياع والخضوع. فليست اللغة هي ما يحقق إنسانية الإنسان بل على العكس هي أداة إغترابه وهي الوسيلة المثلى لإبعاده عن ذاته بإبعاده عن حريته.
إن صراعنا حول السلطة هو صراع على إمتلاك الأنظمة الرمزية التي تتحقق بها السلطة نفسها، فعن سؤال "من هو أفضل رمز تاريخي بالنسبة إليك؟" أجاب زعيم سياسي: "المسيح". وقد نفاجؤ بهكذا إجابة حين نتمثل الدولة الحديثة على أنها دولة علمانية. ولكن يبدو أن لكل دولة، بل ولكل حزب معتقده، والكل يشن الحرب ضد الكل ويسميها حربا مقدسة إلى درجة أنه من المؤسف أن تتردد على مسامعنا عبارات تحمل تناقضا مثل عبارة "الحقد المقدس"، فهل يعقل أن يكون الحقد مقدسا؟؟
لقد أصاب إبن خلدون بقوله: "إن أشد الحروب ضراوة تلك التي قامت على العقيدة"، فالمقدس في عصرنا أصبح قدرة تأثيرية على جميع الأنصار سياسيا ، ولكن تبدو المفارقة عجيبة حين نرى حروبا تحركها نوازع دينية وفي الآن نفسه يسعف المصابون إسعافا يحمل إما صليب المسيحية أو هلال الإسلام. إن المقدس الذي يدفع بالحرب هو نفسه الذي يضمد ويلاتها. إننا أمام زمن إلتباس المقدس بما يوشك أن يفقده قداسته إذ لم نعد نميز بين عمليات إرهابية وعمليات خيرية. إن أسوء ما وصلت إليه الإنسانية هو التشكيك في مقدساتها. وإذا كانت الأنظمة الرمزية لا تنضاف إلى الواقع الإنساني بل هي الوجود نفسه فإن التشكيك في مصداقيتها هو تشكيك في قيمة الإنسان نفسه كمبدع ومنتج لها.
إننا لم نعد ندري ما إذا كنا نستعمل المقدس أم يستعملها؟ نستعمل اللغة أم تستعملنا؟ ألا يمكن أن تسعفنا رمزية الصورة؟
إن الصورة نفسها لا تخلو من التوظيفات الإيديولوجية والاقتصادية. وإن الواحد منا ليجد نفسه محاطا من كل الجوانب بالصورة ملصقة على الجدران وعلى وسائل النقل العامة والخاصة، بل الأفضع من ذلك على ألبستنا، إلى درجة أمكن القول معها بأننا أصبحنا مجرد لوحات إشهارية سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية. إننا لا نستعمل الصورة ونوظفها بقدر ما تستعملنا، وهي ليست شيئا ينضاف إلى محيطنا، بل هي المتملكة له، وهذا ما يجد تأييده في قول ديبراي: "فبما أن الصورة أول ساكن للمكان، فإنها ليست ضيفا علينا وإنما هي صاحبة المحل". وإذا كان ابن خلدون قد قال: "ما دخلت السياسة شيئا إلا وأفسدته" فإن الأمر يكون أشد خطورة إذا كانت الصورة موضع تقاسم بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية. إذا كانت الإيديولوجيا تجبرنا على أن ننظر إلى العالم فقط من خلال منطلقاتها وأفكارها وأحكامها، فإن النزوع الاقتصادي يبدو أشد خطورة لأنه لا يسمح بالتفكير بل يكرس عقلية الاستهلاك، وهو لا يقدم العالم إلا في شكل فرجة ومتعة وتسلية بل أحيانا في شكل ألعاب إعلامية لا تقتصر على الصغار بل تطال الكبار أيضا.
إن المتعة الظرفية والآنية تغني الإنسان عن التفكير وعن البحث السببي في نشوء العالم، وعن العلاقات التي تحكمها، لأنها تقدم لنا مشهدا واحدا من الواقع، هو الفرجة الظرفية التي تحجب عنا النظرة العقلية والمتماسكة للعالم، ذلك أن "أصل الفرجة هو خسارة لوحدة العالم" على حد عبارة غي ديبور. وإذا كان "للدماغ البشري مطلبا أساسيا، هو الحصول على تمثل موحد ومنسجم للعالم"، فإن هذا نفسه ما تحول ثقافة الفرجة دونه، ذلك أنه "أمام منضدة المشاهدة نصمت" ونمتنع عن الحوار بيننا، لنصوب أنظارنا تجاه صورة تقدم لنا المعنى "دفعة" دون مناقشته. إن الصورة تغير أفكارنا وفي الآن نفسه تغير لغتنا ذلك أنه "في اللغة عوضت كلمة البصر كلمة التفكير والفهم" كما ذهب إلى ذلك ديبراي، وتراجعت فاعلية الفكر أمام طغيان الصورة وتحكمها في البصر.
يبدو أن قدر الإنسان أن يبدع دائما مظاهر إستعباده ; فقد اعتقدنا أن اللغة إبداعا، ولكن اتضح لنا أنها مجالا للإرغام سواء في بنيتها أو في توظيفاتها. وقد اعتقدنا أن الصورة قد يسرت لنا الفهم وجنبتنا عناء التفكير المطول الذي تقتضيه اللغة كما أن اعتقادنا في قيمة المقدس قد انهار أمام تحوله إلى آلية تحريض على العنف والعنف المضاد. وكأن الإنسانية تبدع في اتجاه يوازيه عكسيا تراجع كل تواصل إنساني، إلى درجة أننا نكاد نسلم بالموقف الطبيعي الرافض للحضارة ذات الطابع التدميري وذلك بالرجوع من جديد إلى الحالة الطبيعية. "على أنه لا علاج يقي الإنسان هذا الانقلاب في النظام الطبيعي" كما ذهب إلى ذلك إكاسيرار أي أنه لا سبيل إلى أن نحيا خارج الأنظمة الرمزية. فهل علينا أن نسلم بقدر التواصل على هذه الشاكلة؟
IV- شروط التواصل:
يمكننا أن نتوقف عند المفارقة التي تنطوي عليها الأنظمة الرمزية ; فهي من جهة ضرورية، ولكنها من جهة أخرى تطغى عليها التوظيفات اللاإنسانية. لذلك تكون شروطنا في مجملها مرتبطة بهذه الغاية ; فوفق أية شروط يكون التواصل إنساني؟
1- شرط التكافؤ:
أن يكون الأفراد متساوون ضمن التواصل وضمن الأنظمة الرمزية ولا يحق لأي كان أن يمارس وصايته على البشر بذريعة التفوق أو التحضر ذلك أن الأصل والأساس الذي تبنى عليه العلاقات بين البشر هو التكافؤ لقول هابرماس: "أسمي تواصلية،التفاعلات التي يكون فيها نالمشاركون متفقين مؤتلفين على تنسيق مخططات عملهم"
ثقافيا : التسليم بالتساوي في القدرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية دون إعتبار الثقافة حكرا على أمة دون أخرى ودون مفاضلة.
لغويا: أن يساهم التواصل في إثراء اللغات الخاصة وتمكينها من الإستفادة من الدراسات الألسنية، بدل طغيان لغات تسمي نفسها عالمية بقصد ممارسة الهيمنة الثقافية. غير أنه من الضروري أن نحذر في هذا المجال من تدخل النوايا السيئة حين تسعى إلى إحياء لغات عرقية يكون المقصد منها إضعاف اللغة الأم وإضعاف الحضارة القائمة عليها.
دينيا: تكريس حوار الديانات بدل صراعها.
فرجويا: أن تكون المؤسسات الإعلامية متاحة بالتساوي وأن تكون مصدرا لحوار حقيقي بدل الحوارات المزعومة والمصطنعة التي خلقت فضائيات غرضها الأساسي التعتيم عن فضائيات أخرى قد تكون مساهمة في تطوير الثقافات الإنسانية. وكمثال على ذلك نذكر سعي الدول العظمى إلى إرساء فضائيات بمختلف اللغات الغاية منها إضعاف الحضارات من داخلها. إن مقصدنا بالأساس هو أن نجعل الصورة إنسانية.
2- شرط الكونية:
إن ما أنتجته الإنسانية من أنظمة رمزية هو في حقيقته مكسب للإنسانية جمعاء، لذلك لا ينبغي أن تكون منفعته فئوية أو قطرية بل يجب أن تكون إنسانية وكلية.
لغويا: يكون مقصد نشر اللغة توسيع الثقافات وتنويعها بدل طمس خصوصيات الشعوب وتطويعها للخضوع.
دينيا: إذا كانت الديانات التوحيدية تلتقي في القول بوحدة الإله وتلتقي في بعض القصص الرمزية مثل خطيئة آدم وجريمة إبنه في قتل أخيه وقصص نوح وغيره من الأنبياء فمعنى ذلك أنه يوجد في الديانات ما يمكن أن يكون دافعا لتوحيد غاياتها الكونية. إنه لا بديل عن ثقافة المواجهة والإصطدام إلا بثقافة الإلتقاء والتقاطع في الأهداف الإنسانية. وعوض إثارة مسائل تثير النزاع والإقتتال فإنه يكون من الأجدر إثارة مسائل الإلتقاء ضمن ما هو كوني وإنساني
3- شرط الحرية:
لقد تحررت الإنسانية بواسطة اللغة سياسيا ومكنت الكتابة من التوعية وفضح آليات السلطة. والوظيفة نفسها تؤديها ثقافة الصورة لذلك فإن ما نشترطه بالأساس هو أن تكون الصورة إنسانية في توظيفاتها وفي مقاصدها بدل أن تكون تجارية وعوض أن تفرض الرأي الواحد والذوق الواحد، فإنه من الضروري أن تكون حافزا على تحرير الفكر وتحرير الذوق. إن الإنساني لا يمكن أن يتحقق بمخادعة الشعوب واستثارة غرائزها، بل إن الحرية الحقيقية والتواصل الحقيقي يتحققان أساسا عندما يكون الإنسان هو المقصد والقيمة. وإذا كان قد قيل قديما "أيتها الحرية كم جرائم أرتكبت باسمك" فذلك لأن شرط الحرية لا يكون باستغفال المتلقي، بل باحترامه وتمكينه من أن يكون صاحب موقف حقيقي، بدل تدجينه وتدجين أرائه ومواقفه وذوقه، لأن الحرية هي في المطاف الأخير قيمة كل القيم.
V- الرهانات الإنسانية للتواصل:
1- الرهان القيمي: وهو أن نجعل قيمة الإنسان فوق قيمة الأشياء وسابق لقيمة المردودية والربح والدعاية التجارية.
2- الرهان الفكري: أن نراهن على أن الإنسان كائن مفكر، وأن العالم بأكمله موضوع تفكير، بدل تحويل العالم إلى سوق وتحويل البشر إما إلى مستهلكين وإما إلى لوحات إشهارية تحمل ألبسة الدعاية التجارية.
3- الرهان العملي: أن تيسر الأنظمة الرمزية العلاقات العملية بين البشر وأن تؤمن قدر الإمكان السبل الكفيلة بالتقاء الناس ضمن ما يحفظ أمنهم وبقاؤهم.
4- الرهان التثقيفي: وهو أن يكون مقصد الأنظمة الرمزية تثقيف الإنسان فعليا بدل إستمالته واحتوائه فكريا وحضاريا.
5- رهان التنوع: المحافظة على المشاركة في الكونية لا بما تفرضه الدعاية من عولمة، بل بالحفاظ على الفروقات الثقافية والخصوصيات الدينية واللغوية للشعوب.
الخاتمة:
إذا كان التواصل ضرورة وجودية ومعرفية وعملية فإن ذلك لا يقف عند الطابع التلقائي، بل يقتضي تنظيما يحول التواصل الإعتباطي إلى الإنتظام فكريا ورمزيا. غير أن الإنتظام وحده لا يضمن شرط إنسانية التواصل وإنسانية الأنظمة الرمزية. لذلك يكون من الضروري أن نحدد شروطا أخلاقيا وإنسانيا كي يكون التواصل نفسه إنسانيا، وكي يكون ما ينتجه الإنسان تأكيدا لتحضره وتنمية لاستعداداته الجسمية والفكرية. بهذا المعنى فإنه يكون لزاما على التواصل أن يكون مشروطا بالتكافئ والكونية والحرية، حتى يكون الإنسان مقصدا وغاية، بدل تأليته وتشيئته ضمن "الغباء المبرمج" إعلاميا، فحاجتنا إلى المقدس واللغة والصورة لا تقف عند المتعة والإستهلاك بل مرتهنة بمدى ما تحققه من إنتزاع لقيمة الإنسان وسط طغيان قيمة الأشياء وذلك لتأكيد قدرته على التفكير بنفسه كي يكون محددا لأفكاره وأفعاله ومسؤولا عن ذوقه. ذلك أنه لا قيمة لوسائط إستبدادية تكرس وثوقية من نوع جديد، وتمارس سلطة المتعة بدل حرية التفكير، لأن القيمة الحقيقية لأي نظام رمزي تتحدد بمدى إستجابتها -لا لرغبة الإنسان- بل لقيمته ومطامحه كوجود له المنزلة والقيمة المثلى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق