احدث المواضيع

الخميس، 26 نوفمبر 2009

العيش في ظلّ التنوع الثقافي

إرفين لاسلو**
الثقافة عاملٌ جبّار من عوامل النشاط الإنساني، فهي موجودة في كل ما نراه ونشعر به. "الإدراك البريء" لا وجود له؛ فكل ما نراه ونفهمه يصل إلينا مصبوغاً بتوقّعنا، وبقابليتنا على استقباله؛ إذ تتموضع الثقافة في جذوره. فنحن نرى العالم عبّر نظّارات مصبوغة بثقافتنا، ويستخدم عدد هائل من البشر هذه النظارات، حتى دون أن يرتابوا في وجودها. وهذه النظارات اللامرئية الملقِّنة للقابلية تؤثِّر بقوة أكبر من خلال بقاء "النظارات الثقافية" غير مرئية. فما يفعله الناس، بصورة مباشرة، يتوقّف على ما يؤمنون به؛ كما أنّ عقائدهم، بدورها، تتوقّف على رؤيتهم المصبوغة ثقافياً لأنفسهم وللعالم المحيط. وبغضّ النظر عن أنّ الثقافات الحيّة في الوقت الراهن تتعرّض لضغط هائل يميل إلى تسويتها وتوحيدها، فإنها تختلف فيما بينها من حيث قيَمها وعقائدها وتمثّلاتها فيما يخصّ الإنسان والكون. وإنّ تنوع الثقافات هذا جدير بالتعرّف عليه عن قرب، حيث إنه يصوغ مقاصد وسلوكيات البشر الذين ينتمون إلى ثقافة معينة، ناهيكم عن أنّ كل ثقافة على حدة، ومن خلال تأثيرها في الثقافات الأخرى، تصوغ كذلك العلاقات في العالم المتعدد ثقافياً. في مجرى التطور التاريخي، أنشأت وكوّنت الثقافات البشرية العظيمة رؤيتَها للعالم. وفي مطلع فجر التاريخ، كان العالم يُرى باعتباره عالماً ارتدادياً أو إرجاعياً atavistic (1)، إذ لم يكن البشر وحدهم يملكون أرواحاً، بل كذلك الحيوانات والنباتات. فكل ما في الطبيعة كان حياً، وينبوع الماء في البراري المدارية (السافانا) كان ييبعث على هلع كبير أمام أرواح وقوى الطبيعة، وكذلك أمام أرواح الموتى؛ والأيل الذي وجد نفسه في قرية ما فجأةً كانت تتم مماهاته بروح أحد الأسلاف وقد جاء لزيارة أقاربه؛ والرّعد كان يعتبر إشارةً من قِبَل الجدة-الأم، أو الأب الكلي القدرة. وقد تمّ اتخام الثقافات التقليدية بحكايات عن الإدراك الحسي لكائنات غير مرئية، متموضعة في تراتبية رمزية، على امتداد التاريخ المكتوب برمّته. لكن الثقافات الكلاسيكية في اليونان القديمة استبدلت هذ النظرة إلى العالم، القائمة على الخرافة (myth)، بنظريات وتصورات قائمة على المحاكمات، رغم أنّ الأخيرة نادراً ما أُخضعت للمراجعة عن طريق التجارب والملاحظة. ومنذ أزمنة الكتاب المقدّس في الغرب، وعلى امتداد عدة ألفيات في الشرق، هيمنت على آراء البشر الإرشادات والأنماط الدينية. وقد ضعُف هذا التأثير بصورة ملحوظة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، عندما ظهرت العلوم التجريبية في أوروبا. وخلال القرون الثلاثة الأخيرة، هيمنت الثقافة العلمية-التكنولوجية على العقائد الميثيولوجية والدينية، رغم أنها لم تتمكن من إزاحتها كلياً. وقد انتشرت الثقافة العلمية-التكنولوجية الغربية في عموم الكرة الأرضية في القرن العشرين، ووجدت الثقافات غير الغربية نفسها أمام معضلة ثنائية الحدّ مفادها: هل يجب عليها الانفتاح على الثقافة الغربية، أم أنّ عليها الانغلاق على نفسها ومواصلة اتّباع طرائقها التقليدية، محافظةً بذلك على أنماط حياتها المألوفة وحِرَفها وعباداتها. الثقافة الغربية ثقافة فردانية، وللفرد فيها موقع مركزي. فهي تعتبر القيم الشخصية والحرية والطموح إلى السعادة أموراً مقدّسة، وترى أنّ الطبيعة، وجميع الكائنات الأخرى، مسخّرة لخير الإنسان بصورة رئيسية. والثقافة الغربية، بالإضافة إلى ذلك، ثقافة براغماتية، فهي تنبذ قسماً كبيراً مما لا يمكن رؤيته أو الإمساك به، أي مما لا يمكنه أن 'يتجلّى' لليد أو العين. والاستثناء الوحيد هو النظام العقائدي اليهودي-المسيحي بإلهه المتعالي، ربّ القديسين والكائنات الغيبية الأخرى، وكذلك الإيمان بخلود الروح. أما ما يتعلق بالأرواح، وكذلك الكائنات اللاجسدية وغير المرئية الأخرى، والتي تختلج أمامها الثقافات التقليدية بإجلال، فإنّ نصير الثقافة الغربية، بما يحمله من المخزون العلمي للعقل، يعمد ببساطة إلى نبذها باعتبارها خرافات، رغم أنّ جمهوراً واسعاً من السكان يؤيدون وجهات نظر مناقضة لهذه (على سبيل المثال، وحسب المعطيات التي نشرتها مجلة «Life»، في عدد كانون الأول 1995، يؤمن 69% من الأمريكيين بوجود الملائكة). لكن حتى الثقافة الغربية تُسكِن الكون بكائنات واقعية غير مرئية، وغيبية إلى حدّ ما: أقطاب وتبادلات الجاذبية والكهرومغنطيسية، وتفاعلات القوى النووية، وغيرها من الوحدات البنيوية للعلوم الطبيعية المعاصرة. ومعظم الغربيين والمتغربنين متأكدون من وجود هذه الأقطاب والتفاعلات، مثلما هم متأكدون من وجود البشر والحجارة والطاولات. في السنوات الأخيرة، وبغضّ النظر عن "استعمار الكوكاكولا" و"الماكدوناليزم"، بدأت قيَم ومفاهيم الثقافة الغربية تواجه مقاومةً. ففي أمريكا الجنوبية ظهرت ثقافة قومية جديدة مختلفة المظهر، حيث تزعج الأمريكيين اللاتينيين تبعيتُهم لأمريكا الشمالية؛ وهم يعبّرون عن عدم رضاهم عن دورهم كمتلقّين، لا كمؤسسي تيارات ثقافية تقوم بصياغة العالم المعاصر. بل إنّ هيمنة الثقافة الأجنبية باتت تعاني سكرات الموت كذلك لدى المتعلمين والعقلانيين العرب، الذين يرون في التقاليد الغربية عنصر سيطرة على بلادهم؛ إذ يعتبر العرب أنفسهم طرفاً سلبياً في الحوار البينثقافي الذي يربطهم بأوروبا وأمريكا الشمالية، بصورة استثنائية تقريباً. وباتت الهند وبلدان جنوب آسيا -رغم استمرارها في التواصل مع الثقافة البريطانية، هاضمةً الكثير من خواصها المتميزة- تدافع عن تراثها الثقافي الخاص بحماس. وفي روسيا تراكمت خبرة تاريخية واسعة للتعامل المنافق مع الثقافة الغربية، وهذا التعامل ما زال قائماً حتى الآن، وسمته الرئيسية هي الإعجاب بمنجزات الغرب في مجال التكنولوجيا، وكذلك في حقل الثقافة العليا، لكن هذا الإعجاب يترافق، في الآن نفسه، بالخشية من أنّ هذه المنجزات قد تسحق التراث الثقافي الروسي، وتُفقد بذلك الشعب الروسي أصالته. وتناوب الإعجاب والخشية هذا يميّز كذلك الأمم الشابة في الصحراء الأفريقية الكبرى؛ هذه الأمم الشحيحة الطلب على الثقافة الصناعية، مرفقةً ذلك بجهود كبيرة للدفاع عن تراثها الثقافي. فالمفكرون العقلانيون (Intellectuals) الأفارقة مشغولون بالبحث عن جذور أصولهم العرقية، في حين يتطلع قادتهم إلى تقوية الوعي القومي لشعوبهم. إنّ نقائض المقاربات الغربية لرؤية العالم والذات واقعية تماماً، رغم أنها لا تكون مدرَكة دائماً. فعلى سبيل المثال، يتمتع الأمريكيون اللاتينيون بتطور روحي أعلى بكثير من سكان الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. وإنّ لهذا الأمر جذوره التاريخية، إذ إنّ العناصر المتعالية المجرّدة (Transcendental) في الثقافة اللاتينية تعود إلى القرن الخامس عشر. وبالنسبة لأمريكا الجنوبية فإنّ علم الكلام المدرسي الكاثوليكي لأوروبا القروسطية ليس أكثر من فلسفة ديرية [نسبة إلى دير]، وقد لعبت دور منظومة اشتقاقية تحمل طابع الحكومة والمجتمع في داخلها، وتتحكم بكافة مناحي الحياة. وتعلّم الأمريكيون اللاتينيون أنّ السعادة تتنزّل من المساء كرحمة من الله، وأنّ هذه الرحمة صلاحية استثنائية من صلاحيات الكنيسة الكاثوليكية؛ لذا لم يكن من المستغرب أن يصبح الخضوع للكنيسة، تماماً مثل الإخلاص للملك وطاعة الله، من بديهيات الأخلاق اليومية. بل حتى عندما وصل العهد الاستعماري إلى نهايته، لم يحدث تكيّف بين التراث السكولاستي (المدرسي الديني) وبين الفكر العلمي الحديث. لذا فإنّ البراغماتية الأنغلوسكسونية، القائمة على استخدام مفاهيم ومناهج العلوم الطبيعية في التعامل مع المجالات المادية للحياة، أخفقت في ترسيخ أقدامها في أمريكا اللاتينية. كذلك يعدّ المذهب التجريدي Transcendentalism (2) سمة مميِّزة للثقافتين الهندوسية والبوذية في شبه القارة الهندية، وإنْ بصيغ متنوعة. وقد تمّ مزجه بالتوحيد (monotheism) والصوفية في الثقافة الإسلامية. أما الثقافات الأصلية لإفريقيا السوداء، فقد تطبّعت دائماً بالروحانية (spiritualism) والأرواحية animism (3)، ولم يتم مَحْق هذه العناصر لا من خلال تعصّب المبشرين المسيحيين، ولا من خلال الدعاية الاستهلاكية للشركات العبرقومية(4). ويحتفظ التفكير الشرقي بكثير من سمات عقائده التقليدية، فقد تشكّلت الدائرة الواسعة للثقافات التي خرجت من الصين على امتداد الألفية الأخيرة بتأثير طبيعانية naturalism (5) لاوتزو، والانضباط الاجتماعي لدى كونفوشيوس، واهتمام بوذا الصارم بالاستنارة الذاتية. وفي القرن العشرين، تفرّعت هذه المصادر الثقافية إلى تيارات متعددة، مولّدة ثقافة "يانانيا" الماوية الأرثوذوكسية، وثقافة "كونغ-داو" الهونكونغية البراغماتية، وكذلك مزيجاً من الطبيعانية والكونفوشية والبوذية ميّز ثقافة اليابان المعاصرة. وقد احتفظ فرعا هونغ كونغ واليابان، المنبثقان عن الثقافة الصينية، بالشغف بكل ما هو دقيق وعملي. لذا، ليس غريباً أنّ المجتمعات التي انتشرت فيها هذه التقاليد بصورة واسعة لا تجد صعوبة في تبنّي، بل حتى تطوير، التكنولوجيا الغربية. لكن هذه الثقافات 'تحدثنت'، لكنها لم 'تتغربن'؛ فحداثتها المميزة لها تحتفظ بخاصية ثقافية نوعية. ولهذا السبب بالذات، لا يمكن نقل مهارات الشغل، والميول الجماعية، الشرقية إلى أوروبا وأمريكا. أما كيف يمكن لهذه الثقافات المتمايزة فيما بينها أن تتعايش على كوكبنا الصغير، حيث كل شيء متعالق، فهذه أحجية هائلة. إذ من الواضح أنّ كل ثقافة تحتاج إلى أن تتطور بصورة مستقلة، محترمةً أصولها وتقاليدها؛ ولكن عليها، في الآن نفسه، أن ترتقي بنفسها إلى القيم والمنظورات التي تسمح لمشايعيها بالعيش في تناغم مع الثقافات الأخرى من جهة، ومع الطبيعة من جهة أخرى. هذا هو المطلب الأساسي، حيث أن تصادم الثقافات يشكّل تهديداً جدياً وخيم العواقب للسلام في الأسرة العالمية، أكثر من نزاعٍ مسلّحٍ ما بين أمتين أو دولتين. وعلى الرغم من أنّه يتوجب علينا، الآن، صنع الشروط الدقيقة للقوانين الفعّالة، والجذّابة بالنسبة لمعظم البشر، فقد نجحنا، في الوقت الراهن، في الوصول إلى إجماع (consensus) ملحوظ فيما يتعلق بالطبيعة العامة لهذه الشروط/الظروف. وعموماً فإنّ شروطاً كهذه، أياً كانت، يجب أن تستجيب لمتغيرات التطور الوطيد والمستديم.
ترجمه عن الروسية هفال يوسف
هوامش:
* نُشر هذا المقال في مجلة "البيئة والحياة" (العدد 4، 1999)، وهو مقطع من تقرير بعنوان "الدروب المؤدية إلى الألفيات القادمة"، الذي تلاه المؤلف في مراسم افتتاح "نادي بودابست" في كانون الأول 1996.
** إرفين لاسلو، المولود في بودابست عام 1933، بروفسور في الفلسفة وقد شغل كرسي الأستاذية في عدد من الجامعات؛ وهو كذلك مدير برنامج الأمم المتحدة للتعليم والأبحاث (سنة صدور هذا البحث)، وعميد أكاديمية علوم المستقبل Futurology في فيينا، ومؤسس الأكاديمية الدولية لأبحاث النُّظُم. اهتماماته العلمية الرئيسة هي الفلسفة، علم الجمال، التحليل المنظوماتي وعلم البيئة (الإيكولوجيا). وقد ألّف في هذا المنحى 66 كتاباً، صدرت في 18 لغة، وله حوالي 400 مقال وبحث ودراسة. أعماله الأخيرة هي: "الفضاء الخلاّق" (1993)، "الكون المتعالق" (1995)، "البِركة الهامسة" (1996)، "التطور: النظرية العامة" (1997) و"المنظور المنظوماتي للعالم" (1997).
كانت آخر منجزات البروفسور لاسلو تأسيس "نادي بودابست"، وهو عبارة عن جمعية غير رسمية وغير حكومية ضمّت الكثير من العلماء والفنانين والكتاب، وشخصيات اجتماعية ودينية، ممن يهتمون بحماية الوسط المحيط وبمصير العالم والأجيال القادمة. وقد تأسس هذا النادي تحت الشعار الإيكولوجي: "من أجل تعامل حكيم وحريص ومسؤول تجاه الطبيعة".
1- يشير هذا المصطلح إلى اعتقاد مفاده ظهور صفات النسل بعد اختفائها لأجيال، بمعنى أن العالم يكرر نفسه.
2- مذهب يقول بإمكانية معرفة الحقائق عن طريق التفكير المجرد دون الحاجة إلى إحساسات أو خبرة.
3- وهي العقيدة التي تقول بأن لكل ما في الكون (من أشياء) أرواحاً.
4- أعتقد أن هذه هي الترجمة الأصح، حيث تترجم أحياناً: الشركات المتعدية للجنسيات، أو الشركات المتعددة الجنسيات.
5- مذهب فكري يعلل الأشياء ويفسرها استناداً إلى قوانين الطبيعة ومسبباتها الطبيعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق