عبد الله زرهوني
« Le Phédon est sans doute l’un des dialogues les plus émouvants et les plus étonnants de PLATON, un texte qui ne se lit pas comme un autre »
Agnés Forstier-Nordman
« On ne parle pas de la mort comme on parle de la vertu ou des sciences mathématique, et il est impossible de lire ce dialogue- là tout à fait comme on lirait un autre »
Monique Dixaut.
مقدمة:
تعتبر محاورة "فيدون-PHEDON" لأفلاطون، واحدة من المحاورات الثلاثة المخصصة سقراط، إلى جانب محاورتي"الدفاعAPLOGIE" و"أقريطون-CRITON" . وإذا كانت "الدفاع" قد خصصت لعرض دفوعات سقراط التي أبى إلا أن تكون فلسفية أمام القضاة الذين حكموا عليه بشرب السم؛ وكانت "أقريطون" قد خصصت للحديث عن سبل الفرار من السجن التي عرضها أقريطون، وعن ضرورة طاعة القانون؛ فإن "فيدون" تظل، وبشهادة بعض الدارسين فريدة ومتميزة ليس فقط عن هاتين المحاورتين، بل عن كل ما ألفه أفلاطون على جميع المستويات: على مستوى الأسلوب الذي كتبت به والطريقة التي رويت به، وعلى مستوى الإشكالات التي أثارتها والقضايا التي عالجتها، والآفاق التي فتحتها، مما يجعلها محاورة صعبة القراءة، أو على حد تعبير Agnés Forestier- Nordman وMonique Dixaut : "نصا لا يقرأ كما يقرأ أي نص آخر" من نصوص أفلاطون وما يفسر هذه الصعوبة هو كونها محاورة تنظر في موضوع "الموت" التي "لا نتكلم عنها كما نتكلم عن الفضيلة أو العلوم الرياضية" ، والتي تظل "موضوع الانشغالات الذي يهمنا بدرجة كبيرة جدا ما دام يضع، على ما يبدو، وجودنا ذاته موضع السؤال" .
تهدف هذه الدراسة المتواضعة إلى قراءة محاورة "فيدون" لأفلاطون. وقبل مباشرة هذه القراءة، تقتضي الضرورة المنهجية تحديد ثلاثة أمور أساسية هي: نوع القراءة المزمعة، والهدف منها، والمسائل التي ستركز عليها.
يجد هذا الاقتضاء المنهجي تبريره في كون النصوص، كيفما كانت طبيعتها: أدبية أو فلسفية، أو تاريخية، أو قانونية...إلخ، تسمح بأنواع كثيرة من القراءة كالقراءة الخطية، والقراءة التيماتية، والقراءة التأويلية، والقراءة البنيوية، والقراءة التاريخية... وغيرها، بحسب الهدف المتوخى منها.
تهدف القراءة الخطية إلى الوقوف على مضمون النص، وتتبع مراحل بنائه وتمفصلاته من البداية حتى النهاية، والكشف عن آليات ذلك البناء. بينما تركز القراءة التيماتية على دراسة تيمة من التيمات التي يعالجها النص إما مستقلة أو في ارتباط مع غيرها، وإبراز خصوصية تلك المعالجة في حد ذاتها أو بمقارنتها مع غيرها من المعالجات في نصوص أخرى. وتهدف القراءة التأويلية إلى استنطاق النص وإخراجه من دلالاته الحقيقية إلى دلالات مجازية بغية الكشف عن المضامين المسكوت عنها، والوقوف على الدوافع الخفية التي تؤطر القول وتوجهه سواء كانت سيكولوجية أو سوسيوثقافية، أو أنطولوجية ومعرفية بصفة عامة. بينما تهدف القراءة البنيوية إلى دراسة النص من خلال التركيز على بنيته الداخلية ورصد عناصرها النظرية اللغوية والفكرية، ومختلف العلاقات التي تربطها وتؤطر عملها من أجل إنتاج المعاني والدلالات. أما القراءة التاريخية فتهدف إلى دراسة النص لاعتباره جزءا من بنية فوقية عامة تعكس وتعبر في نفس الوقت عن بنية تحتية للمجتمع أو العصر الذي ينتمي إليه صاحبه.
على ضوء هذا التحديد الموجز لبعض أنواع القراءات الممكنة للنصوص، سأعمد في هذا البحث إلى القراءة الخطية لمحاوره "فيدون". ولا يعني هذا الاختيار إقصاء كل الأنواع الأخرى جملة وتفصيلا، بل يعني إمكانية حضور هذه الأخيرة في بعض جوانبها لأن الاختلاف بينها ليس مطلقا، إذ يحدث أن يحصل التقاطع بينها في دراسة النصوص.
ليس الهدف من قراءة "فيدون" إذن، شيئا آخر غير الوقوف على مضامينها، وتتبع مراحل بناء هذه المضامين وتمفصلاتها من بداية المحاورة حتى نهايتها، والكشف عن منطق ذلك البناء. وبما هو كذلك، فإن تحقيقه يتطلب تقديم معطيات حول المحاورة، وضبط الإشكال أو الإشكاليات التي تسعى إلى معالجتها، وتحديد الأطروحة أو الأطروحات التي تتضمنها كإجابة على هذه الأخيرة، ورصد البنية الحجاجية التي تؤطر كل هذا.
يفرض الهدف من قراءة محاورة "فيدون" إذن، تقسيم البحث إلى فصلين وخاتمة. يعرض الفصل الأول معطيات تخص شكل الحوار في المحاورة، وموقعها ضمن محاورات أفلاطون، وأماكن الحوار، وأزمنته، وشخصياته؛ بينما يحدد الثاني أهم الإشكالات التي أثيرت في الحوار والأطروحة أو الأطروحات المقدمة للإجابة عليها؛ ويبحث في الحجج والمفاهيم التي انبنت عليها تلك الأطروحات؛ وتقدم الخاتمة تقويما لكل ما ذكر، وبعض الملاحظات حول الترجمات المعتمدة في قراءة محاورة "فيدون" .
تم القيام بتحديد الإشكالات والأطروحات بموازاة رصد الحجج والمفاهيم التي انبنت عليها هذه الأخيرة، دون تناول كل واحدة على حدة، بسبب بسيط يكمن في أن محاورة "فيدون"لا تتمايز فيها هذه الأمور بشكل واضح. إذ لم تصغ فيها الإشكالات منذ بداية الحوار منفصلة عن أطروحاتها ومنطقها، بل جاءت محايثة لبعضها البعض وفق التدرج في الحوار، عكس ما يجده القارئ مثلا في "الجمهورية" التي تمت فيها الصياغة الإشكالية منذ الكتاب الأول وكانت الكتب التسعة الأخرى بمثابة الجواب عليها .
الفصـــــــل الأول:
معطيــات حول محاورة " فيدون"
يستطيع دارس فلسفة أفلاطون أن يستنتج من الأعمال المنجزة حولها- سواء تعلق الأمر بالتحقيق والترجمة، أو بالتأريخ والشرح- أن قراءة محاورات أفلاطون تطرح بعض الصعوبات في الفهم. ولا يرجع ذلك إلى أسلوب أفلاطون، أو إلى كون محاوراته جاءت مبتورة وفقد من بعضها الشيء الكثير ، أو إلى كونها تعرضت للانتحال وغير ذلك من الآفات. بل يرجع إلى طبيعة المتن الأفلاطوني نفسه، الذي جاء على شكل محاورات Des dialogues اتخذت إما صورة العرض أو الحوار المباشرين، وإما الصورة الحوار المحكي؛ وتمت بين شخصيات كثيرة في أزمنة وأماكن متعددة؛ وألفت في تواريخ مختلفة إما دفعة واحدة أو بكيفية متقطعة؛ وتحيل في معظم الأحيان على أسماء لشخصيات، وآلهة، وأماكن، وأزمنة، وأحداث أسطورية موغلة في القدم يعجز القارئ على تكوين صورة واضحة بصددها.
وبالجملة، يمكن القول بأن ما يجعل قراءة المحاورات الأفلاطونية صعبة خمسة مسائل هي: مسألة شكل الحوار فيها، ومسألة تسلسلها الزمني، ومسألة أماكنها، ومسألة أزمنتها، ومسألة شخصياتها.
تثير مسألة شكل الحوار في المحاورات الأفلاطونية أكثر من تساؤل. ذلك أن أفلاطون لم يؤلفها على صورة واحدة، إذ جاء بعضها على شكل عرض تم بسطه من طرف إحدى شخصياته، وجاء بعضها على شكل حوار محكي، بينما جاء بعضها الآخر على شكل حوار مباشر دون تقديم. وتكمن الصعوبات التي تطرحها هذه المسألة في معرفة الخلفيات التي دفعت أفلاطون إلى اختيار هاته الشخصية دون غيرها لعرض الحوار، أو لروايته، أو المشاركة فيه؛ كما تكمن فيما يترتب عن ذلك من مضاعفات: إذ عوض أن نكون في زمان ومكان واحد يتم فيه الحوار، نصبح في أماكن وأزمنة متعددة، أي في مكان وزمان الحوار الفعلي، ومكان وزمان روايته، ومكان وزمان تأليفه.
تثير مسألة التسلسل المفترض أن يكون بين المحاورات الأفلاطونية تساؤلات لا تقل تعقيدا عن تلك التي تثيرها مسألة شكل الحوار فيها، فإذا كان من السهل معرفة شكل الحوار في كل محاورة على حدة، فإن مسألة الموقع الزمني لها ضمن المتن الأفلاطوني صعب للغاية. وما يجعله كذلك هو غيابه معطيات تاريخية ومؤشرات من خارج النصوص تسمح بترتيبها وتمييز السابق منها عن اللاحق. إذ باستثناء ما يوفره نص كل محاورة من معلومات قليلة مرتبطة بأحداث تاريخية محددة، وما تسمح به الدراسة البنيوية من تعقب للألفاظ، والمفاهيم، والأفكار، والإشكالات، والتصورات، والخصائص الأسلوبية، والنظر فيما لحقها من تطوير، وإغناء يعجز الدارس لأعمال أفلاطون عن الحسم بدقة حول أي المحاورات أسبق من الأخرى .
تطرح أسماء الأماكن الواردة في محاورات أفلاطون نفس الصعوبات لكونها تحيل على الجغرافية القديمة لبلاد اليونان، وصورة العالم كما تمثله أهلها في ذلك الوقت. وبصرف النظر عما يمكن التقاطه من داخل النصوص، من تحديدات كالتمييز بين بلاد الشعب اليوناني وبلاد الأجنبي أو "البرابرة"؛ وبين المدن – الدول اليونانية كأتينا، وإسبارطة، وميليا، وإيليا... وغيرها؛ وبين المدن الصغرى كطيبة وبيرايوس، وفليونت، فإن هذه التحديدات تبقى عامة وفضفاضة، ولا ترفع الإحساس بعدم الدقة في ضبط الأماكن التي تمت فيها حوارات أفلاطون. وما يدل على هذا الأمر هو عجز المترجمين والمحققين والدارسين لأعمال أفلاطون على الحسم في تحديد أماكن حدوث أغلب الحوارات، أو أماكن روايتها وتأليفها .
تكشف الصعوبات التي تطرحها المسائل السالفة الذكر: أي شكل الحوار في المحاورات الأفلاطونية، وتسلسلها الزمني وأماكن حدوثها عن مسألتين أخريين من الواجب على من يروم قراءة محاورات أفلاطون الانتباه إليهما: مسألة أزمنتها وشخصياتها.ذلك أن الأزمنة التي جرت فيها الحوارات الأفلاطونية تثير بعض المشاكل. إذ غالبا ما لا تحيل على زمان واحد بشكل مباشر بل على أزمنة مختلفة ومتباعدة قليلا أو كثيرا: زمان الحوار الفعلي (إن كان في الحقيقة فعليا)، وزمان روايته وسرده (حين يكون محكيا)، وزمان تاليفه من طرف أفلاطون (إن كان أفلاطون بالفعل قد ألفه في زمان واحد ومتصل). وهي أزمنة لا يمكن معرفة تواريخها إلا على التقريب، من خلال بعض المعطيات التي يتضمنها نص الحوار، أو بعض المصنفات التاريخية التي هي قليلة في الأصل .
ولا تخلو مسألة الشخصيات التي يوظفها أفلاطون في محاوراته من مشاكل شأن مسألتي الأماكن والأزمنة. وهي مشاكل ترجع إلى كثرة عددها نظرا لكون النصوص الأفلاطونية حوارات تقتضي أطرافا عديدة، كما ترجع إلى ندرة المعلومة التاريخية حول هوياتها باستثناء ما توفره نصوص أفلاطون ذاتها أو غيره من الفلاسفة (خاصة أرسطو). إذ غالبا ما يتم جمع عناصر إخبارية من هذه المحاورة أو تلك لتكوين صورة ما عن شخصية من الشخصيات، خاصة تلك التي ترد في أكثر من محاورة، أو الاعتماد على ما ورد بصدد نفس الشخصية عند أحد المعاصرين في ذلك الوقت . أضف إلى هذا كله ما تثيره الشخصيات المثبتة أسماؤها في عناوين المحاورات دون تبرير من طرف أفلاطون، وورود شخصية "سقراط" كشخصية مركزية في كل المحاورات عدا "القوانين"، وما يطرحه ذلك من تساؤلات حول إمكانية ضبط الحدود الفاصلة بين فلسفة سقراط وفلسفة أفلاطون داخل المتن الأفلاطوني ككل.
تلك هي أهم الصعوبات التي تطرحها الأعمال الأفلاطونية أمام كل من يريد قراءتها. ولما كانت محاورة "فيدون" واحدة منها، فهي لا تشكل استثناءا، إذ تفرض قراءتها تبين شكل الحوار فيها، وموقعها بين المحاورات الأفلاطونية، وأماكن الحوار وأزمنته وشخصيته.
1- شكـــل الحـــوار فــي "فيدون"
لم يؤلف أفلاطون كل محاوراته على نفس المنوال وبنفس الطريقة. إذ على الرغم من كونها حوارات صاغ بعضها في صورة عرض مباشر Exposé direct، وبعضها في صورة حوار مباشر Dialogue direct، وبعضها الآخر في صورة حوار محكي Dialogue raconté، كما يظهر في الجدول التالي:
المحاورات شكل الحوار
- هيبياس الأكبر Hippias Majeur
- هيبياس الأصغر Hippias Mineur
- إيون Ion
- أقريطون Criton
- لاخيس Lachsés
- أوطيفرون Eutyphron
- جورجياس Gorgias
- مينون Ménon
- أقراطيلوس Cratyle
- فايدروس Phédre
- السوفسطائي Sophiste
- السياسي Le Politique
- فيليبوس Philèbe
- القوانين Lois حوار مباشر
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
-----
- الدفاع Apologie
- مينيكسين Ménexène
- طيماوس Timée
- كريتياس Critias عرض من طرف سقراط
عرض مباشر من طرف سقراط
عرض من طرف طيماوس
عرض مباشر من طرف كريتياس
- بروتاغوراس Protagoras
- خارميدس Charmide
- ليزيس lysis
- أوتيديموسEuthydéme
- المأدبة Banquet
- فيدون Phédon
- الجمهورية République
- بارمنيدس Parménide
- تييتيت Théetéte حوار محكي مباشرة من طرف سقراط
حوار محكي من طرف سقراط
حوار محكي من طرف سقراط
حوار محكي مباشرة من طرف سقراط
حوار محكي من طرف أبولودورعن أريستوديم
حوار محكي مباشرة من طرف فيدون
حوار محكي من طرف سقراط
حوار محكي مباشرة من طرف أنتيفون.
حوار مقروء مباشرة من طرف عبد شاب
يتضح من الجدول أن عددا من المحاورات التي جاءت في صورة العرض أربعة، وعدد التي جاءت في صورة الحوار المباشر أربعة عشر، بينما التي جاءت في صورة الحوار المحكي تسعة. وتنتمي محاورة "فيدون" إلى هذا النوع الأخير. لكنها مع ذلك تتمتع ببعض المميزات: فإذا كان سقراط في المحاورات الخمسة، "بروتاغورس"، و"خارميدس"، و"ليزيس"، و"أوتيديموس"، و"الجمهورية"، راويا ومقدما للحوار ومشاركا فيه؛ وإذا كان كل من "أبولودور" و "أونتيفون" و"العبد الشاب" على التوالي في المحاورات الثلاثة: "المأدبة"، و"بارمنيدس"، و"تييتيت"، رواة للحوار غير مشاركين فيه، ولا تحمل المحاورة التي يرويها كل منهم إسمه كعنوان، ويحكون الحوا ر من البداية حتى النهاية دون توقف أو تقطع؛ فإن محاورة "فيدون" تسجل على هذه المستويات اختلافا لأن الراوي للخلاف فيها هو "فيدون" نفسه الذي تحمل المحاورة إسمه كعنوان، وهو بالإضافة إلى كونه راويا يمثل طرفا في الحوار، والحوار الذي يحكيه لم يكن مسترسلا منذ البداية حتى النهاية، بل حدثت فيه توقفات وفواصل شكلت "حوارات صغيرة" داخل الحوار ككل .
تثير هذه المعطيات حول شكل الحوار "فيدون"، حسب M.Dixaut، بعض التساؤلات منها : لماذا جاءت على المستويات السالفة الذكر المختلفة عن جميع المحاورات؟ لماذا اختار لها أفلاطون اسم "فيدون" كعنوان؟ ولماذا جعل "فيدون" طرفا في الحوار وراويا في نفس الوقت؟ ولماذا حظي عنده بما لم تحظ به أية شخصية أخرى في كل المحاورات باستثناء شخصية "سقراط" التي وردت فيها كلها ما عدا محاورة "القوانين" .
2- موقع "فيدون" بين محاورات أفلاطون
لم يحصل الإتفاق بين دارسي محاورة "فيدون" حول موقعها ضمن المتن الأفلاطوني:
يميز "إميل شامبري" في تعليقاته على محاورة "فيدون" بين تاريخين: تاريخ رواية الحوارمن طرف فيدون لاشيكراط، وتاريخ تأليف أفلاطون للحوار الذي دار بين سقراط وأتباعه في السجن.
لم يحسم "شمبري"، في التاريخ الأول واكتفى بالإشارة- اعتمادا على المعطيات الواردة في الحوار التمهيدي بين فيدون واشيكراط – إلى انقضاء مدة من الزمن غيرقصيرة بين يوم اعدام سقراط ومرور فيدون على مدينة "فليونت" حيث سيروي قصة موت سقراط لاشيكراط ؛ ويسجل بصدد تاريخ التأليف للمحاورة من طرف أفلاطون، بأنه كان موضع مناقشات كثيرة بين الباحثين، وبأن هناك تقليدا سائدا بموجبه تم تقسيم محاورات أفلاطون إلى ثلاث مجموعات أساسية: مجموعة أولى تسمى ب "المحاورات السقراطية" التي عرف فيها أفلاطون الآراء الفلسفية على طريقة أستاذه سقراط، وتتضمن "هيبياس الأكبر"، و"جورجياس"، و"منيكسين"؛ ومجموعة ثانية عرض فيها أفلاطون أفكاره الخاصة، وبالخصوص نظرية المثل، وتضم "مينون"، و"أقراطيلوس"، و"المأدبة"، و"الجمهورية" و"فايدروس"؛ ومجموعة ثالثة عرض فيها آراءه الميتافيزيقية وتضمم "طيماوس"، و"تييتيت"، و"بارمنيدس"، و"كريتياس". وتم بموجب هذا التقسيم اعتبار "فيدون" محاورة سابقة لمحاورة "الجمهورية" وممهدة لها.
يقر "شمبري" بانتماء "فيدون" إلى المجموعة الثانية، لكنه يعتبرها لاحقة لـ"لجمهورية" لاعتبارات كثيرة ذات صلة بالمضامين .
يسلم "ليون روبان" في تعليقاته على "فيدون" بصعوبة تحديد تاريخ تأليفها، لكنه يقر بوجود صلة ما بينها وبين "المأدبة" حيث تحكي هذه كيف "عاش الحكيم" بينما تحكي تلك "كيف مات" ، وبأنهما كتبتا بعد "جوجياس"، و"مينون"، وبأن ما أثارتاه من تساؤلات سيتضح بدقة في "الجمهورية" و"فايدروس". كما يرى بأنهما محاورات تنتمي إلى مرحلة النضوج التي عرض فيها أفلاطون على لسان سقراط أفكاره وتصوراته الخاصة. وهو ما يعني في الأخير أن "فيدون" متزامنة مع "المأدبة"، وبأنهما معا سابقتان على "الجمهورية" و"فايدروس"، ولاحقتان لـ"جورجياس" و"مينون".
يرى A.Forestier-Nordman بأن محاورة سابقة على "الجمهورية" وأنها ألفت بعد 399 ق.م. تاريخ موت سقراط، وتنتمي إلى المجموعة الأخيرة من المحاورات المكتوبة بين سنة 387 ق.م. وسنة 347ق.م، التي عملت على تفعيل التساؤل الجدلي وتناول التصور الأفلاطوني للفلسفة؛ ويقر في الأخير بأنها ألفت في نفس الفترة التي ألفت فيها "المأدبة" أي حوالي 382ق.م.
يقر د. عزت قرنى، في ترجمته ودراسته لمحاورة "فيدون" باستحالة التحديد الدقيق لتاريخ تأليفها، ويفسر ذلك بخلوها من أية إشارة تاريخية إلى عصر أفلاطون تساعد على التحديد. لكنه مع ذلك، يرى بأنها تنتمي إلى محاورات مرحلة النضوج مثل "المأدبة" و"الجمهورية"، وبأنها ممهلة لهذه الأخيرة لسببين: لكونها مطبوعة بالبحث وعدم الحسم في القضايا التي تناقشها، ولكون "الجمهورية" أتت كمحاورة عرض فيها أفلاطون نظرياته في صورتها النهائية. ويظيف بأن بعض المعطيات التاريخية يمكن أن تساعد على تحديد تاريخ تقريبي لتأليفها تتمثل في: كون أفلاطون ولد سنة 427 ق.م، وأسس الأكاديمية سنة 388ق.م، وكتب "الجمهورية" بعد التاريخ، وقام برحلة إلى جنوب إيطاليا ومصر والساحل الإفريقي عاد منها سنة 382 ق.م، وفي غضون هذه السنة كتب "فيدون"؛ ولما كان موت سقراط سنة 399 ق.م، فإن المدة الفاصلة بين تاريخ الحوار الفعلي وتاريخ تأليفه، هي حوالي سبعة عشر سنة.
يرى M.Dixaut بأن الحديث عن موقع "فيدون" ضمن المتن الأفلاطوني لا يستقيم إلا بتحديد ثلاثة تواريخ: تاريخ الحوار بين سقراط وأتباعه يوم إعدامه وتاريخ سرد هذا الحوار من طرف فيدون على إشيكراط ومجموعة من الفيثاغوريين، وتاريخ تحرير الحوار من طرف أفلاطون في الأخير. التاريخ الأول في نظر M.Dixautغير مشكوك فيه، لأن سقراط مات في نهاية شهر فبراير أو مارس من سنة399 ق.م، وقت الحج السنوي إلى "ديلوس" ؛ أما رواية حوار فيرى بأنها قد تمت إبان عودة فيدون بعد موت سقراط بما يقر أو يزيد على عام، إلى مسقط رأسه "إليس Elis" أثناء مروره بفليونت Phlionte حيث التقى بإشيكراط ومجموعة من الفيثاغوريين، أي حوالي 398 ق.م؛ أما بالنسبة لتاريخ التأليف، فيرى بأن اعتبارات خارجية أكثر مما هي داخلية للنص، تؤشر على أن "فيدون" أقرب من "أقراطيلوس" و "المأدبة" بحيث إنها جميعا تتموضع في نهاية ما يسمى بالمرحلة الأولى لكتابة المحاورات بعد رحلة أفلاطون سنة 386-387 ق.م ، وبالضبط بعد كتابة "الجمهورية". وما يبرر هذا الأمر حسب M.Dixaut هو أن "فيدون" خصصت كما "المأدبة"، والكتب الوسطى من "الجمهورية" لتحديد التصور الأفلاطوني للفلسفة وصورة الفيلسوف، وأن ذلك قد تم مباشرة بعد تأسيس الأكاديمية حوالي 387 ق.م، حيث كان سقراط الذي مات سنة 399 ق.م، بالنسبة لأفلاطون، التجسيد الفعلي للفيلسوف الحقيقي. ولاعتبارات أخرى مستمدة من مقارنات بعض المعطيات الموجودة في النصوص، يقر بهذا التسلسل بين المحاورات: "المأدبة"، "أقراطيلوس"، "الجمهورية". ويرى بأن "فيدون" قد ألفت حوالي 383-382 ق.م.
3- أماكن الحوار وأزمنته في "فيدون"
يقود الكلام عن شكل الحوار في محاورة "فيدون" وموقعها ضمن المتن الأفلاطوني ضمن الكلام عن أماكن الحوار وأزمنته. إذ رغم تضارب آراء المؤرخين، والمحققين، والمترجمين حول الموقع الحقيقي لـ"فيدون" ضمن محاورات أفلاطون، تتضمن المحاورة فقرات محددة تشير إلى أماكن الحوار وأزمنته في ترابط تام، أتت في بداية المحاورة وفي نهايتها بالخصوص .
تحمل الفقرات الأولى من الحوار التمهيدي في المحاورة مؤشرات تدل على أن لقاء بين إشيكراط وفيدون قد تم في مدينة "فليونت" خلاله طلب منه إشيكراط إخباره على الدقة عن الكيفية التي انتهى بها سقراط: "(...) ما ذا قال الرجل قبل موته؟ وكيف قضى؟، و"(...) ما ذا قيل، ومن كان حاضرا من أصحابه إلى جانبه (...)" . ويتضح من خلال كلام إشيكراط في هذه الفقرات، أن ما دفعه إلى طلب كل هذا من فيدون أمور منها: شغف إشيكراط وجماعته إلى معرفة كل شيء عن موت سقراط، وعدم قدوم أي شخص أجنبي من أثينا، حيث أعدم سقراط، إلى "فليونت" منذ مدة طويلة، وعدم علمه وأصدقائه بتفاصيل الحادث ما عدا إصدار حكم الإعدام فيه، وعجزهم عن فهم عدم تنفيذ الحكم مباشرة بعد إصداره، حيث ظل سقراط في السجن لمدة غير قصيرة.
وإذا كان فيدون قد استجاب لطلب إشيكراط وجماعته بأن فسر لهم انقضاء مدة غير قصيرة على حكم سقراط وعدم تنفيذه في وقته بناسبة الحج إلى "ديلوس" ، ووصف لهم حالة سقراط وأتباعه من الناحية السيكولوجية يوم تنفيذ الحكم: سقراط بمعنويات جد مرتفعة، وفيدون ذاته بنفسية متأرجحة بين التأثر والإعجاب، و "أبولودور" بنفسية هائجة غير راضية بالأمر الواقع؛ وإذا كان ذكَر لهم من تَذكَّره من الحاضرين، فإن ما يمكن أن يسفاد من هذا الحوار التنفيذي من جهة أماكن الحوار في المحاورة، هو وجود مكانين دار فيهما على حالين مفترقين: أثينا Athénes وفليونت Phlionte. حيث في أثينا أعدم سقراط ودار الحوار بينه وبين أتباعه، وفي "فليونت" حكى فيدون لإشيكراط وجماعته مضامين هذا الحوار.
وللتحديد أكثر، يمكن القول، إن الحوار التمهيدي بين إشيكراط وفيدون قد دار بالضبط في ناد للجماعة الفيثاغورية في فليونت التي تعتبر إلى جانب أثينا واحدا من المراكز الكبيرة التي لاذ إليها الفيثاغوريون على إثر اضطهاد نحلتهم حوالي 454 ق.م. وتقع إلى الغرب من أثينا في الشمال الشرقي من شبه جزيرة "البيلوبونيز". وتفيد بعض المصادر التاريخية أنها المكان الذي شهد ميلاد مصطلح "الفيلسوف- محب الحكمة" حيث استعمله "فيثايغوراس" لأول مرة، ردا على سؤال حاكم "فليونت" الطاغية: "من أنت؟" تفاديا للإدعاء بأنه "حكيم"، وتواضعا واعتقادا منه أن "الحكمة" تخص الآلهة وحدها .
كما يمكن أن يستفاد من نفس الحوار التمهيدي بأن الحوار الذي دار بين سقراط وأتباعه، والذي سيرويه فيدون لإشيكراط وجماعته في فليونت قد دار في أثينا. فإلى أثينا التي رأى فيها السقراط النور، وحاور في مرافقها العمومية حول القضايا الواردة في محاورات أفلاطون سواء باسمه أو نيابة عن هذا الأخير الذي جعله الحوار المركزي إلا في محاورة "القوانين"، والتي سيعيش فيها محنته حتى النهاية بالطريقة التي تحكيها "الدفاع" و"أقريطون"، و"فيدون" ذاتها؛ إلى أثينا ستحملنا رواية فيدون لما دار بين سقراط وأتباعه في اليوم الأخير من حياته، بل إلى ساحة الأغوراAgora d’Athénes بالضبط، حيث السجن القريب من المحكمة الذي حبس فيه سقراط، والذي كما تنبئها فقرة من الصفحات الأخيرة في نهاية المحاورة يتألف من حجرتين: حجرة أولى هي التي ألف أن يزوره أتباعه فيها يوميا ويقضوا معه ساعات النهار طوال تلك المدة التي مكثها في السجن، والتي ستُفك أغلاله ليتحاور معهم ويشرب السم في الأخير فيموت؛ وحجرة ثانية هي التي سينتقل إليها صحبة أقريطون بعيد غروب الشمس ليستحم ويؤتى له بأطفاله ونساء من أهله ليتبادل معهم الحديث ويقدم لهم وصاياه الأخيرة ويستعد لشرب السم .
دار الحوار إذن، في محاورة "فيدون" في مكانين مختلفين وعلى حالين مفترقين لأنه كان حوارا محكيا. ومن الطبيعي أن يدور في زمانين مختلفين على نفس الطريقة. إذ هناك زمان الحوار "الفعلي" الذي دار بين سقراط وأتباعه في السجن في "ذلك اليوم" كما تردد أكثر من مرة في المحاورة ودون أي تحديد ما عدا التأكيد على أن ذلك كان بين "من طلوع الشمس حتى الغروب" ، وإن رأى بعض الباحثين والمؤرخين ربما كان يوما من نهاية شهر فبراير أو شهر مارس من سنة 399 ق.م. وهناك زمان رواية الحوار من طرف فيدون، الذي يظل بدوره غير محدد لعدم احتواء المحاورة على أية إشارة؛ وإن رأى بعض الباحثين والمؤرخين بأن اليوم الذي التقى فيه فيدون بإشيكراط، هو اليوم الذي مر فيه على فليونت عائدا إلى مسقط رأسه "إليسElis" بعد موت سقراط بما يزيد أو يقل على عام، أي حوالي سنة 398 ق.م. .
4- شخصيات الحوار في "فيدون".
لأن المناسبة أليمة بكل المقاييس، ولأن إشيكراط أصر في طلبه لفيدون الذي كان حاضرا وشاهدا للفجيعة على أن يحكي كل شيء وعلى أدق وجه: "(...) ماذا قيل، وما ذا حدث، ومن كان حاضرا (...)" ، ورد في المحاورة- بخصوص مسألة الحاضرين- نحو سبعة عشر إسما باستثناء إسم سقراط الذي أعدم، وفيدون الذي روى الحادث، وإشيكراط الذي طلب الرواية، وأسماء الآخرين ممن حضروار من أتباع سقراط وحاوروه في السجن ولم يتذكرهم فيدون ، أو ممن حضورا رواية الحوار في "فليونت"، علاوة على زوجته Xantipe وأطفاله الثلاثة وذويه؛ كما وردت ثلاثة أسماء لمن تغيبوا وهم: أفلاطون الذي كان مريضا، وأريستيبوس وكليمبروتس اللذان كانا في مدينة Egine .
حرص فيدون في ذكره لكل هؤلاء، على ذكر أسماء الآثينيين أولا، والأجانب ثانيا كما في الجدول التالي:
يجمع أغلب الدارسين بأن هؤلاء الحاضرين يوم إعدام سقراط رغم اختلاف انتماءاتهم واهتماماتهم ومستواياتهم، يمثلون زمرة من أصدقاء وأتباع سقراط المتأثرين بآرائه وشخصيته .
ECHECRATE- إشيكراط: ولد في "لوكريس". تلميذ قديم للفيثاغوري "فيلولاوس". ينتمي إلى مجموعة الفيثاغوريين الذين اضطهدوا ففروا إلى "فليونت". ويظهر من المحاورة أن طلبه من فيدون إخباره عن حيثيات إعدام سقراط، قد تم بحضور جماعة من هؤلاء، ربما في ناد خاص بهم، والذين إن ظلوا صامتين مستمعين لرواية الحوار، كانوا ممن يقدمون سقراط ويسعون إلى معرفة كل شيء عن آخر يوم من حياته.
- PHEDON فيدون: تسجل كل الترجمات لمحاورة"فيدون" الغموض الذي يلف مسألة اختيار أفلاطون لفيدون عنوانا للمحاورة. كما تسجل بأن كل ما نعرفه بشخصيته يكاد يكون مجرد أفكار مستقاة من كتاب "ديوجين اللايرسي": "حياة ومذاهب وحكم الفلاسفة المشهورين". وتتلخص هذه الأفكار في كونه ينحدر من أسرة عريقة من مدينة "إليس Elis"، وأنه سجن إبان سيطرة إسبارطة على مدينته. وأنه تحرر بعد ذلك بإيعاز من سقراط إلى أصدقائه الذين اشتروه. ومنذ ذلك الوقت اشتغل بالفلسفة بأثينا التي غادرها بعد موت سقراط بعام تقريبا، ليعود لمسقط رأسه "Elis"، ويؤسس مدرسة هناك. وقد نسب إليه "ديوجين اللايرسي" عدة محاورات.
- APOLLODORE أبوللودور: يعد واحدا من أتباع سقراط المخلصين والمتعلقين به أشد التعلق، ورافضا لحكم الإعدام الصادر في حقه، يتميز بحسب ما يستفاد من المحاورة بعاطفته الجامحة، ويبدو شخصية مندفعة غير قادرة على تحمل الألم الناتج عن فقد سقراط. هو الذي سينقل الحوار الذي دار في "المأدبة" عن أرستوديم".
- CRITON أقريطون: شخصية ورد إسمها في محاورة "الدفاع" (38ب). حاور سقراط في محاورة "أوتيديموس" (304 ب). وهو الذي عنونت محاورة "أقريطون" باسمه حيث يظهر كمتحدث باسم أتباع سقراط الذين عملوا على إقناعه بالفرار من السجن. تقدمه محاورة "فيدون" كصديق مخلص لسقراط: إذ هو الذي سيتكلف بأمر خدمه بمرافقة زوجة سقراط XANTIPE إلى المنزل لصراخها ونواحها (60 أ،) وسيبلغه وصية السجان في ذلك اليوم لكي يقلل من الحديث حتى يكون لشرب السم مفعول سريع (63 د)، وهو الذي سيصحبه إلى الحجرة الثانية في السجن ليستحم ويستقبل دويه (116ب)، بل هو آخر من سيوجه إليه سقراط الكلام طالبا إياه بألا ينسى تقديم ديك كقربان لإله الشفاء Esculape، بل هو الذي سيقفل فمه ويطبق جفنيه حين يموت (118 أ)، وربما هو الذي سيدفنه حسب ما يستفاد من كلام سقراط (116 أ).
- CRITOBULE كريتوبول: ابن أقريطون. ورد اسمه في محاورة "الدفاع" كواحد من الأصدقاء الذين وفروا المال لدفعه كغرامة لإنقاذ سقراط من الموت، بعد أن ضمن أقريطون للقضاة بقاءه في أثينا كما تفيد محاورة فيدون (115 د).
- HERMOGENE هيرموجين: واحد ممن حاوروا سقراط في محاورة "أقراطيلوس" وانتصر لأطروحة اعتباطية العلاقة بين الأسماء والأشياء.
- EPIGENE إيبيجين: تشير كل الترجمات لمحاورة "فيدون" إلى شح المعلومة عنه، وبالتالي عدم القدرة على التعرف عليه.
- ESCHENE إسخين: ابن "ليزانياس" الذي ورد اسمه في محاورة "الدفاع" (33 هـ) كواحد ممن طلب منهم سقراط الإدلاء بشهاداتهم أمام القضاة لتبرئة ذمته من تهمة إفساد أخلاق أبنائهم.
- ANTISTHENE أونتيستين: واحد ممن تابعوا دروس السوفسطائي "جورجياس"، قبل أن يرتبط بسقراط فيتأثر بقدرته على الصبر والتحمل، ويصبح زعيم المدرسة "الكلبية" فيما بعد.
- CTESIPPE كتيسيبوس: ورد ذكر اسمه في محاورة "ليزيس" (203 أ)، وتقدمه محاورة "أوتيديموس" كابن عم مينيكسين (273 أ).
- MENEXINE مينيكسين: ابن عم كتيسيبوس. ورد اسمه كما سبقت الإشارة في محاورتي "ليزيس" و "أوتيديموس". وحملت محاورة "مينيكسين" اسمه، وتقدمه كطفل ذكي لا يقبل السخرية ويميل إلى تعاطي السياسة (234 أ).
- PHEDONDES فايدونديس: لا يعرف عنه أي شيء.وهو على ما يبدو، لا يمث بصلة لـ فيدونداس PHEDONDAS الذي ذكره "اكسينوفون" في "المذكرات". (I.2. 48).
- EUCLIDES أقليدس: من ميغارا. ولد حوالي 450 ق.م، وتوفي حوالي 380ق.م. أكبر من أفلاطون بحوالي عشرين سنة. يعتبر مؤسس المدرسة الميغارية كما يعد من أتباع سقراط (ولذا يسمى أوقليدس الميغاري أو السقراطي تمييزا له عن أقليدس الرياضي صاحب كتاب "العناصر".). عرف بصياغته للحجج واشتهر بالجدل بكيفية قربته إلى طريقة "زينون الإيلي" في صياغة المفارقات. قضى ردحا من الزمن في أثينا، وعاد بعد موت سقراط إلى ميغارا صحبة أفلاطون الذي قضى في ضيافته بعض الوقت. برع في التعليم والكتابة.
- TRIPSION تربسيون: ينحدر بدوره من ميغارا، ويعد من أتباع سقراط. وتقدمه محاورة "تييتيت" كمحاور لأوقليدس.
- ARISTIPPE أريستيبوس: ولد حوالي 435 ق.م وتوفي حوالي 366ق.م. من مدينة "قورينة" بالساحل الشمالي الأفريقي (قرب برقة بليبيا). سافر إلى أثينا وصار من أتباع سقراط. وبعد وفاته رحل إلى بلاط "ديونيسيوس" في سراقوصة، حيث كان يعلم بأجور عالية. تُنسب إليه بعض الشذرات التي تفيد بأن فلسفته كانت تتمحور حول "اللذة".
يختم فيدون إفادته بأسماء الحاضرين يوم إعدام سقراط بهذا القول مخاطبا إشيكراط: "هؤلاء هم فيما أعتقد، على وجه التقريب، من كانوا هناك" .
غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن كل هؤلاء الذين تم ذكر أسمائهم، لم يحاوروا سقراط. بل كان أغلبهم مستمعا، ولم يشارك في الحوار إلا خمسة هم: SEMISAS، و CEBES، و CRITON، و PHEDON، وواحد لم يتذكر فيدون اسمه.
ويمكن القول، بالانطلاق من المحاورة بأن سيمياس وكيبيس هما اللذان ساهما بالحوار، أما الثلاثة الآخرون فكانت تدخلاتهم قليلة، إذ لم يتجاوز كلام أقريطون إبلاغ سقراط وصية السجان بألا يتحدث كثيرا حتى يكون شرب السم عند الغروب مفعولا سريعا، وهي الوصية التي تعامل معها بعدم الاكثرات . كما لم يكن كلام فيدون مع سقراط برغبته، بل رغبة سقراط الذي توجه إليه بالخطاب في نوع من المداراة والمجاملة بغية التلطيف من وقع اعتراضات سيمياس وكيبيس على الحاضرين . أما تدخل الشخص الذي لم يتدخل فيدون إسمه، فلم يتجاوز تقديم ملاحظة لم يكن فيها مصيبا . وكان كيبيس هو المحاور الأساسي لسقراط في المحاورة، إذ تطلب الرد على اعتراضاته مجهودا كبيرا من سقراط، واستغرق وقتا طويلا من زمن الحوار.
الفصل الثاني:
مضامين محاورة "فيدون"
" – فيدون: هؤلاء هم فيما أعتقد، على وجه التقريب من كانوا هناك .
- إشيكراط: والآن: عَمَّ، فيما تقول، كان الحديث؟
- فيدون: سأحاول أن أروي لك كل شيء من البداية..."
يشكل الحوار التنهيدي الذي دار بين إشيكراط وفيدون في "فليونت" الجزء الأول من المحاورة. وأهم ما يميزه: تصمنه معظم المعطيات السابقة الواردة في الفصل الأول من هذا البحث، وانتهاء فيدون من ذكر أسماء الحاضرين في ذلك اليوم الذي أعدم فيه سقراط: "هؤلاء هم فيما أعتقد، على وجه التقريب من كانوا هناك"؛ بينما يشكل الحوار الذي دار بين سقراط وأصدقائه في أثينا الجزء الثاني من المحاورة ، وأهم ما يميزه كبر حجمه. يبدأ بتساؤل إشيكراط - بعد تعرفه على أسماء من حضروا- عن مضمون الحوار: "والآن: عم، فيما تقول، كان الحديث؟"، وبإعلان فيدون استعداد رواية كل شيء: "سأحاول أن أروي لك كل شيء من البداية" .
إن السؤال الذي طرحه إشيكراط على فيدون، والذي يشكل الحد الفاصل بين حوارهما في "فليونت"، وحوار سقراط وأصدقائه في "أثينا"، هو نفسه السؤال الذي كان من الطبيعي طرحه مباشرة بعد تقديم المعطيات السابقة حول المحاورة. لأن هدفه هو الكشف عن مضامينها.
لكن، إذا كان هذا السؤال واضحا ومركزا في صيغته، فإنه قد أثار جدالا واسعا بين الباحثين ودارسي محاورة "فيدون"، أفضى إلى قراءات متعددة ومختلفة على أكثر من مستوى: على مستوى تحديد طبيعة الموضوع الرئيسي فيها، والمواضيع الثانوية؛ وعلى مستوى تحديد الإشكالات التي عالجتها والمنطق المتحكم في ذلك، وقيمتها، وآفاق البحث التي تفتحها . والتزاما بالقراءة الخطية للحاورة، التي اخترتها ولتيسير هذه المهمة ميزت في حوار سقراط مع أصدقائه بين ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لحظات:
- اللحظة الأولى (من ص 59ج إلى ص69 د):
- تعتبر هذه اللحظة من الحوار- الذي دار بين سقراط وأصدقائه في السجن- مهمة للغاية. وحتى إن بدت على مستوى الشكل أقرب إلى محادثة عادية من حيث طبيعة الأسئلة المطروحة، والقضايا المتناولة، والطريقة المعتمدة، فهي لحظة مؤسسة لما سيأتي. إذ سيتم الارتقاء خلالها شيئا فشيئا من البسيط المتداول والعادي والمألوف إلا ما هو فلسفي. بل يمكن القول ان الإشكالات التي ستثار، والقضايا التي ستنبثق لاحقا، تجد جذورها في هذه اللحظة.
بدأ فيدون الرواية بإخبار إشيكراط، عن كيف علم أصدقاء سقراط مساء اليوم السابق لتنفيذ الحكم، برجوع السفينة من "ديلوس" ، فاتفقوا على المجيء إلى السجن باكرا؛ وكيف أخبرهم الحراس في الصباح على أنه اليوم الأخير لسقراط، وكيف دخلوا عليه بعدما فك هؤلاء قيوده، وبجانبه زوجته XANTIP وأصغر أطفاله، التي سيصحبها رجال أقريطون، بإيعاز من سقراط، لعدم صبرها وصراخها. وكيف كان جالسا على سريره يدلك يده رجله من أثر القيد عليها؛ وكيف بادر إلى الكلام مخاطبا أصدقاءه عن طبيعة العلاقة الغريبة بين الألم، الذي ما فتئ يحس به فور فك قيوده، واللذة التي أعقبته مباشرة.
أورد فيدون، أن أول من حاور سقراط هو "كيبيس"، وأن ما دفعه إلى ذلك هو ذكر سقراط – في إطار حديثه عن الألم واللذة- إسم "ESOPE إيسوب" الكاتب المشهور بنسج الأساطير والخرافات والتي وظف سقراط بعضا منها وهو في السجن- خلال المدة التي تأجل فيها تنفيذ الحكم- لنظم بعض الأشعار، مما أثار، حسب كيبيس، انتباه ودهشة EUHENOS الذي استفسر عن الدافع الذي جعل سقراط ينظم الشعر وهو ما لم يفعله قط، طالبا منه توضيح الأمر ليتمكن من إخبار EUHENOS .
يرد سقراط على كيبيس، بأنه لم ينظم الشعر قط، وبأن هناك نبوءة قديمة دعته مرارا إلى الاشتغال بالموسيقى، وأنه لما كانت الموسيقى نوعين: عادية هي الشعر، وعليا هي الفلسفة، فقد اشتغل بالفلسفة.
ولما أجل العيد الإلهي إعدامه وهو في السجن، فكر في نظم الشعر لإراحة ضميره، وتحقيق النبوءة القديمة. لكن مع ذلك لم يصنع الخرافات والأساطير كباقي الشعراء، بل اعتمد على واحدة من هاته هي التي وضعها "ESOPE " في نظم ابتهال إلى الإله "أبوللون" الذي أجل موته. وبعد تبريره لنظم الأشعار، يطلق سقراط من كيبيس أن يبلغ كل هذه التوضيحات إلى EUHENOS، ويبلغه تحياته ووداعه، ودعوته إلى أن يلتحق به إن كان فعلا فيلسوفا.
يلاحظ كيبيس بأن سقراط بنى دعوته هذه لـ EUHENOS على مصادرة مفاذها: أن الأولى لمن يشتغل بالفلسفة أن يرغب في الموت شريطة ألا يكون ذلك بالعنف، لأن الانتحار فعل غير عادل وغير مسموح به. وهي مصادرة تتضمن تناقضا تتمثل في أنه إذا كانت الرغبة في الموت من خصال الفيلسوف الحق، فلماذا يكون الانتحار فعلا يكون غير عادل؟.
ظن سقراط في البداية بأن كيبيس وسيمياس يعرفان الجواب، باعتبارهما تلميذين للفيثاغوري "فيلولاوس". لكن لما تبين له بأنهما لا يعرفان كل التعاليم الفيثاغورية، ذكرهما بأنها تنص على: "أننا نحن البشر في مركز معين، وأنه يجب على المرء، بالتالي ألا يحرر نفسه بنفسه من هذا المركز ولا أن يهجره هاربا (...) إن الذي يعنى بأمرنا والحراس علينا، إنما هم الآله، وإننا نحن البشر من ممتلكات الآلهة (...)" . غير أن هذا الجواب (الفيثاغوري- الأورفي) لم يقنع كيبيس مما دفعه إلى طرح السؤال من جديد: ما الذي يبرر عدم جواز الانتحار؟ ولماذا هو فعل غير عادل؟ ؛ وهو السؤال الذي طرحه سيمياس بهذه الصيغة: "لم يفر أناس حكماء على الحقيقة من أسياد أفضل منهم [أي الآلهة]، ولم يهجرونهم غير مكثرتين؟" . بل خصص السؤال وحصله في حالة سقراط الفيلسوف الذي يستعجل الموت في فرح ولا مبالاة: " (...) كيف تتحمل هكذا في يسر أن تتركنا نحن وقادة أخيارا (...) ألا وهم الآلهة؟" .
يفسر سقراط طلبه الموت في فرح باعتقاده في حياة أخرى أفضل من هاته، يجزى الأبرار فيها ويعاقب الأشرار، وفي إمكانية الالتقاء هناك برجال أخيار وآلهة خيرة حكيمة غير آلهة الأولمبس. غير أن سيمياس يطلب من سقراط، وبأسلوب لبق تبرير هذا الاعتقاد وتبيان أساسه: "(...) كيف إذن يا سقراط، هل لديك نية أن تحتفظ لنفسك بهذه الفكرة وتذهب؟" . بل يعاتبه ضاحكا على هاته الصورة التي يقدمها عن الفيلسوف ككائن يمارس ويتدرب عليها ويحيى من أجلها ويسعى إليها في عجل دون أن يتسرب إليه الحزن، باعتبارها صورة تكرس احتقار العامة للفيلسوف.
يدعو سقراط سيمياس وكيبيس إلى فحص مفهوم الموت ذاته: " (...) ولكن فلنتكلم نحن فيما بيننا، ولندع هؤلاء الناس جانبا: ألا نعتبر أن الموت شيء ما؟" . وأنه ليس شيئا آخر غير انفصال النفس عن الجسد بحيث يكون بمفرده ومنفصلا عن النفس قائما بذاته، وتكون النفس من جهة أخرى بمفردها منفصلة عن الجسد وقائمة بذاتها . وبعدها يلاحظ بأن العامة قد تكون محقة في احتقارها للفيلسوف، لكونها تعتبر كل من لا يهتم بالجسد واللذات يحيى من أجل الموت ولا تستحق حياته أن تعاش؛ ولكون ما يميز الفيلسوف الحقيقي هو عدم الانسياق وراء الملذات والعناية بالجسد من مأكل ومشرب، وحيازة الملابس والنعال وألوان الزينة... إلخ؛ بل بالاهتام بالنفس وتخليصها من كل ما له علاقة به.
ما يجعل الفيلسوف يتشوق إلى الموت ويستعجله في فرح، حسب سقراط، أمران: أولهما، أن النفس حين لا تزال ملوثة وممتزجة به يشوش عليها، فلا يتيسر لها إعمال العقل، وتعجز عن إدراك جواهر الأشهاء وحقائقها (العدل في ذاته، والخير في ذاته، والجمال في ذاته...أخ)، بما يضعه أمامها من عوائق بسبب الحواس، والحاجة إلى إطماعه ورعايته، وما يتعرض له من أمراض، وما يملأه من ألوان الحب والشهوة والخشية والأوهام وكثير من السخافات، وما بسببه من فتن وخلافات ومعارك بشهواته في امتلاكه الثروات وملئه للفراغ الذي كان من المفروض أن تتمتع به النفس لتشتغل بالفلسفة وتمارس التأمل العقلي. ففي هذه الحالة التي لا تزال النفس ملوثة بطبيعة الجسد ليس لديها من وسيلة لممارسة الفكر الحقيقي وإعمال العقل والتطلع إلى الوجود الأصيل، إلا عدم الاهتمام به ومحاولة التطهر منه الذي ينحصر في انفصالها عنه قدر الإمكان و "في تعويدها على أن تلم أطرافها من كل ناحية، وأن تتجمع وأ، تحيا بقدر المستطاع (...) وحيدة قائمة بذاتها وقد تحررت من الجسم كما يتحرر من القيد (...)" ؛ وثانيهما، أن الموت يوفرها الفرصة للانعتاق الكامل والتحرر منه، حيث تكون وحدها بعد الموت في حضرة موجودات مماثلة طاهرة.
ليس الموت في نظر سقراط، سوى تحرر النفس من الجسد. وبما هو كذلك يسعى الفلاسفة الحقيقيون إليه، ويتدربون عليه. وما دام الأمر كذلك: فكيف يثور الفيلسوف الحق ويحزن عندما يمثل الموت أمامه؟ بل كيف لا يستعجله ؟ أو يخافه؟ وما يسعى إلى تحصيله، أن الحكمة الخالصة، لا يوجد إلا هناك؟ .
هكذا يصبح كل من يذعر من الموت أو يثور ضدها حسب سقراط، صديقا للجسد ومحبا للثروة ومظاهر التشريف، وليس صديقا للحكمة ومحبا لها . وهكذا يكون الاعتدال والشجاعة أخص بالفلاسفة الحقيقيين الذين يعاملون الرغبات في استهانة، ولا يخافون الموت. غير أن الاعتدال والشجاعة عند الفلاسفة ليس بنفس المعاني التي عند العامة: فهما اعتدال وشجاعة مؤسسين على الحكمة وعلى التوازن وليس على الخوف والاختلال. إذ كثيرون هم الذين من عامة الناس يبدون الاعتدال والشجاعة، لكنهم يبدونهما إما خوفا من الحرمان من بعض الملذات، أو من شرور قد تكون أعظم، طالما أن الموت في نظر العامة هي أعظم الشرور .
ينهي سقراط إجابته عن الأسئلة التي أثيرت في هذه اللحظة من الحوار مع كيبيس وسيمياس، والمتعلقة بدواعي استعجاله الموت في فرح، بالتأكيد على ضرورة تأسيس كل الفضائل من شجاعة واعتدال وعدالة على الحكمة، باعتبارها أم الفضائل، وأداة للتطهر، والضامن للارتقاء إلى حضرة الآلهة والرجال الطيبين والخيرين كما تقول "الأسرار" الأورفية .
- اللحظة الثانية: (69 هـ - 77 أ)
تدشن هذه اللحظة بداية الحوار الفلسفي في المحاورة. إذ يطرح فيها كيبيس قضية"النفس"، وتتمثل في هذا السؤال/ الإشكال: "(...) ما الذي يمنع، بعد أن تفارق النفس الجسد، ألا تصبح في أي مكان بعد ذلك، وأن تفسد وأن يفقد أثرها في نفس اليوم الذي يموت فيه الإنسان، وأنها ما أن تغادر الجسد وتبتعد عنه، حتى تتشتت كأنها نَفَس أو دخان، وأن تتبدد في الهواء ولا يعود لها وجود في أي مكان؟" ؛ "كيف أن النفس تظل موجودة بعد موت الإنسان؟ وكيف أنها تحتفظ بنوع من النشاط وبالفكر"؟ .
يقترح سقراط فحص هذا الإشكال بالنظر فيما إذا كانت أنفس الموتى الموجودين في العالم الآخر لا تزال موجودة أم لا. وأول ما يقوم به: التذكير بالمعتقد الديني القديم الذي ينفي وجود أي مصدر آخر يأتي منه الأحياء غير الموتى في جميع الكائنات وكل ما له نشأة وتكون: "إن النفوس التي أتت من هنا توجد هناك، ومن جديد فإنها ستعود إلى هنا وتولد من الموتى" ؛ وبدها يشرع في البرهنة على صحة الأطروحة من خلال حجتين:
• الحجة الأولى : حجة الأضداد من الأضداد.
يصوغها سقراط عبر خطوات: يطلب في البداية من كيبيس الذي أثار الإشكال التسليم بوجود الأضداد من قبيل الجميل والقبيح، العدل والظلم، والكبير والصغير، الضعيف والقوي، الأسرع والأبطأ، الأسوأ والأحسن؛ ويقر بعد ذلك بضرورة نشأة ضد من ضده: "حينما يصير شيء ما كبيرا، أليس هناك ضرورة ما تقضي بأنه كان صغيرا من قبل أن يصير بعد ذلك كبيرا؟(...) وإذا حدث وأصبح شيء أسوأ مما كان، ألم يصبح كذلك من حالة كان فيها أحسن؟ وإذا صار أعدل فمن حالة كان فيها أظلم؟" ؛ ويعمم في خطوة ثالثة، هذه الضرورة على جميع الأضداد: "كل شيء ينشأ على ذلك الطريقة، أي الشياء المتضادة من أضدادها" ؛ ويستنتج في خطوة رابعة بأنه: مثلما أن الجميل يأتي من القبيح، والعدل من الظلم، والكبر من الصغر... فكذلك الميت يأتي من الحي والحي من الميت. بل إن عملية النشأة تكون متبادلة بين الشيء وضده، إذ كل منهما ينشأ من الآخر نشأتين: الحياة تصبح الموت، ومن الموت تصبح الحياة حياة من جديد؛ ويصل في الأخير إلى الإقرار بأن نفوس الموتى في العالم الآخر (هاديس) وجودة، ومن هناك تعود إلى الظهور، وأن الكائنات الحية والبشر الأحياء ينشأون مما هو ميت.
يلجأ سقراط، بعد الاستدلال على بقاء النفس قائمة بذاتها بعد الموت، بحجة الأضداد من الأضداد، إلى اختبار قوة الحجة بإظهار النتائج غير المقبولة للفرد المضاد لها: إذا لم يكن هناك تبادل دائم بين الأشياء التي تظهر إلى الوجود من بعضها البعض بشكل دائري بحيث يكون لكل ضد نشأتين، أي إذا كانت النشأة تحصل في اتجاه واحد مستقيم من شيء إلى ضده فقط، وليس بالعودة من ضده إليه، فإن كل الأشياء سيكون لها في النهاية نفس الشكل، ونفس المصير، وستعاني من نفس الحالة وسيتوقف نشوء الأشياء . أو: إذا حدث ومات كل ما يشارك في الحياة، وصح أن الأشياء الميتة تبقى على حالها فلا تبعث من جديد إلى الحياة، فإن كل شيء سينتهي وتهوي الأشياء كلها إلى قاع الموت، فلا تكون هناك حياة. ولا يلحق هذا المصير الضدين: الموت والحياة فقط، بل كل الأضداد، حيث يسظل من ينام نائما إلى الأبد، وما يتصل متصلا إلى ما لا نهاية.
• الحجة الثانية: حجة المثل والمعرفة تذكر.
لم يعترض أي من الحاضرين على الحجة الأولى. بل سيذكر كيبيس الذي أثار المشكلة، بحجة أخرى سبق لسقراط أن بثها في موضع آخر غير محاورة "فيدون" ، هي حجة: وجود المثل والمعرفة تذكر. ومضمونها – كما جاء على لسان كيبيس- أن المعرفة عند الإنسان ذكر لأن ما نتذكره الآن سبق أن علمناه في زمن سابق. ولما كان علمنا يتم بالنفس فمعنى ذلك أن النفس قد وجدت في مكان ما قبل أن تأخذ الشكل الإنساني الحال لها، وأنها شيء خالد.
يتوسع سقراط في فحص هذه الحجة، ويبين قوتها الاستدلالية على الشكل التالي :
بتعريفه التذكر كعملية تحضر إلى الذهن بمقتضاها صورة شيء ماثل أمام الحواس، أو شيء تم نسيانه بفعل الزمن وعدم الانتباه.
بتأكيده أن التذكر قد يتم، أحيانا، ابتداء من المشابه لذاك الذي نتذكره، وأحيانا من المختلف عنه.
باستدراكه أن التذكر يحصل ابتداء من المشابه بالمقارنة بينه وبين الشيء المتذكر لمعرفة إن كان التشابه بينهما تاما فيكونان متساويان، أم ناقصا فيكونان غير متساويان.
بتأكيده أن تبين التساوي بين الشيء المتذكر والشيء المدرك بالحواس رهين بوجود مثال "المساواة في ذاتها" .
بتبريره ضرورة وجود المثال في كل تذكر، بكون مثال "المساواة في ذاتها" وكل المثل الأخرى (الخير في ذاته، والجمال في ذاته... وما إلى ذلك) سابق في وجوده على الأشياء المتساوية (أو الخيرة، أو الجميلة... ).
باستدراكه، بأن هذه المثل مغايرة لتحققها في الأشياء لأن "المساواة في ذاتها" مثلا ليست هي "المساواة التي في الأشياء".
بتأكيده أن معرفة المثل لا تتم بالحواس ولا بالأشياء الواقعية التي تشارك فيها لأن تساوي هذه الأخيرة مهما بلغت درجته يكون دون "التساوي في ذاته" أو "المساواة في ذاتها".
بإقراره أن معرفة المثل قد تمت حيازتها سابقا قبل البدء في استعمال أية حاسة وقبل الميلاد، وأنه يحدث أن يقع نسيانها فيفقد الإنسان ما سبق أن حازه من المعارف.
باستنتاجه -بناء على ما سبق- أن "المعرفة هي الحفاظ على العلم بعد الحصول عليه وعدم فقده"، و "النسيان هو فقد العلم" بعدما تم تحصيله؛ وبأن وظيفة الحواس تكمن في المساعدة على استعادة المعارف المفقودة أو المنسية؛ وبأن التعلم لا يعني اكتساب أشياء جديدة، بل استعادة لعلم كان مملوكا في السابق، أي تذكرا؛ وبأن الإنسان قد يولد وهو عالم بالأشياء فيظل يعلمها طوال الحياة، وقد يولد وهو فاقد لما سبق أن حازه بفعل الزمن أو النسيان، فيبدأ بالتعلم بواسطة الحواس أي في تذكر ما سبق أن حازه في المعرفة قبل أن يولد، ابتداء من الأشياء المشابهة لتلك التي يتذكرها أو من المختلفة عنها.
يخلص سقراط على التأكيد، بأن ما يثبت الوجود المستقل للنفس ككيان منفصل عن الجسد ممتلك للمعرفة، هو وجود المثل ذاتها التي حاز الإنسان معرفتها سابقا فيكون دائما عالما بها طوال الحياة، أو متذكرا لها إذا حدث أن نساها وغفل عنها .
- اللحظة الثالثة: (77 ب- 84 ب).
هي اللحظة التي قدم فيها كيبيس وسيمياس بعض الملاحظات حول الحجة السابقة، وقدم سقراط بعض التوضيحات وحجة أخرى: إذ سيلاحظ سيمياس – مدعما من طرف كيبيس- بأن حجة "المعرفة تذكر" لا تفيد إلا في تأكيد الوجود السابق في النفس قبل حلولها فيالجسد، وبأن المطلوب هو البرهنة على وجودها بعدها الموت قائمة بذاتها كما كانت في البداية، عكس ما تعقده العامة من أنها تندثر وتفسد وتتلاشى بمجرد مفارقتها للجسد.
يرد سقراط عليهما بأنه قد وفى الأمرين حقهما، وأن البرهان قد تم ويكفي ضم حجة "المعرفة تذكر" إلى حجة "الأضداد من الأضداد" ليتم التأكد من شقي القضية: وجود النفس سلفا قبل أن تحل في الجسد، وبقاؤها موجودة قائمة الذات بعد انفصالها عنه: "فإذا كانت النفس موجودة قبلنا، وإذا كان من الضروري ألا تأتي إلى الحياة وتولد ن أي شيء آخر إلا إذا كان ولدت مما هو ميت، ومن حالة الموت، فكيف لن يكون ضروريا أن تكون موجودة بعد الموت، حيث سيكون من الواجب عليها بعد ذلك أن تولد من جديد" .
يلبي سقراط رغبة كيبيس وسيمياس بعودته لفحص النتائج المترتبة عن الحجتين الأولى والثانية بحجة ثالثة تخص طبيعة النفس.
• الحجة الثالثة: بساطة النفس:
يبني سقراط هذه الحجة عبر خطوات، يمكن تلخيصها على الشكل التالي:
التنبيه إلى ضرورة تبين النوع الذي تنتمي إليه النفس: أهي من عداد الموجودات التي تعرف التبدد فنخشى من أن يصيبها بعد فراق الجسد؟ أم من عداد الموجودات التي لا تعرفه فنطمئن عليها؟
ربط خاصية التحلل بالأشياء المركبة، ونفيها عن الأشياء البسيطة.
تمييز الأشياء المركبة عن البسيطة اعتمادا على مقياس التغير والثبات: بحيث إن الأشياء التي تبقى دائما هي هي في ذاتها ودائما على نفس الحال هي البسيطة، والأشياء التي تكون أحيانا على نحو، وأحيانا أخرى على نحو آخر هي المركبة.
تطبيق هذا التمييز على المثل والأشياء الواقعية، باعتبار المثل ك "المساواة في ذاتها" و "الجمال في ذاته" ثابتة باقية أبدا كما هي في ذاتها، في حين أن الأشياء الواقعية "المتساوية" و"الجميلة" متغيرة أبدا، مما يجعل المثل تدرك بالعقل وتكون غير مرئية، بينما الأشياء الباقية تدرك بالحواس وتكون مرئي.
الانتقال – بناء على هذا التمييز- من المقابلة بين الأشياء الواعقية كموجودات مرئية مركبة متغيرة مدركة بالحواس، وبين المثل كموجودات غير مرئية بسيطة ثابتة مدركة بالعقل، إلى المقابلة في الإنسان بين الجسد والنفس.
الإقرار بأن النفس في طبيعتها تنتمي إلى الموجودات غير المرئية البسيطة، بل تشبه ما هو |إلهي خالد ومعقول؛ وأن الجسد ينتمي إلى الموجودات المرئية المركبة، بل يشبه ما هو إنساني فان وغير معقول.
الاستدال على بساطة النفس وكثافة الجسد، بكون النفس تضل وتضطرب حين تستخدم الجسد (الحواس) في فحص شيء ما، لأن الجسد يجذبها نحو الأشياء المرئية المتغيرة وليس نحو المثل؛ أما حين تكون لوحدها منفصلة عن الجسد، فإنها تكون في معزل عن الضلال وعلى حالة الفكر L’Etat de pensée.
الاستنتاج في الأخير- بناء على كل ماسبق- بأن الجسد هو الذي يتحلل بعد الموت، وإن كان في بعض الحالات يظهر وكأنه باق على حاله محتفظا على بعض أجزائه (في حالة البرودة أو التحنيط)، وبأن النفس تذهب مجتمعة كما كانت إلى ذلك العالم الآخر المشابه لها: النبيل والطاهر، وغير المرئي إلى جوار إله طيب وحكيم لتعيش السعادة التامة والأبدية، أو تعود لتحل في أجساد أناس طيبين أو حيوانات وديعة كالنحل، والنمل، والزنابير. أما إذا لم تكن طاهرة فأحد أمرين: أن تظل تلف وتدور حول المقابر والمدافن فتصير شبحا وخيالا قابلا لأن يراه البعض، أو تحل في أجساد حيوانات دنيا كالحمير، أو متوحشة كالصقور والذئاب.
- اللحظة الرابعة: (84 ج – 107 د).
تتميز هذه اللحظة من الحوار، بكونها لحظة تقديم الاعتراضات وإبداء بعض الشكوك حول التصور الذي تقدم به سقراط عن النفس في إطار البرهنة على وجودها السابق قبل أن تحل في أي جسم، ووجودها بعد الموت في استقلال عن الجسد تبعا لدرجة تطهرها وهي تغادر العالم.
يتدخل سيمياس في البداية، فيعترض على سقراط مؤكدا بأنه يتصور النفس في علاقتها بالجسد كالانسجام في علاقته بالقيثارة . وضيف: إذا صح أن القيثارة ذات طبيعة جسمية مركبة وفانية، بحيث يمكن أن تتهشم وتتقطع الأوتار فيذهب الانسجام الذي هو شيء إلهي غير مرئي وجميل كل الجمال، فلا يبقى له أثر ويفنى، فإن نفس الشيء يصح قوله بصدد النفس والجسد: ذلك أن الجسد ذو طبيعة مادية مركبة معرضة للفساد، والنفس التي توجد من مزيج العناصر التي تركب منها الجسد، وإن كانت ذات طبيعية إلهية كما هو الحال في أشكال الانسجام في الأصوات، تبدأ في الفناء فورا لمجرد ما يتوتر الجسد تحت تأثير الأمراض والآفات فيسترخي وينزاح عن التوازن والاعتدال. بل قد تفسد بينما تقاوم بقايا الجسد وتبقى مدة طويلة حتى تتعفن أو تحترق.
يقرر سقراط عدم الرد على سيماس، ويدعو كيبيس إلى التدخل لإبداء رأيه حتى يسهل عليه الرد عليها معا.
يبني كيبيس اعتراضه على ما سبق أن أثاره سيمياس، ويؤكد بأن البرهان على صحة التصور الذي تقدم به سقراط حول النفس لم يستقم بعد. ذلك أن ما تمت البرهنة عليه، حسبه، هو مسألة وجود النفس السابق عن الحلول أن ما تمت البرهنة عليه، حسبه، هو مسألة وجودها في مكان ما بعد الموت، أي مصيرها.
يوضح كيبيس اعتراضه، ويقدمه في شكل استدلال وفي صورة تشبيه كما فعل سيماس هو تشبيه العلاقة بين النفس والجسد بالعلاقة بين حائك الملابس بالملابس التي يحيكها. ومضمون هذا الاستدلال كالتالي: إذا كان يحدث أن الحائك – الذي يحيك ملابس كثيرة تستهلك مرات عديدة وتندثر قبل فنائه- يفنى قبل اندثار آخر ملبس يحيكه من جراء التعب والعمل، فإن النفس- التي تستهلك أجسادا عديدة تفنى (أي الأجساد) قبل فنائها (أي النفس)- قد يحدث أن تفنى قبل فناء آخر جسد حلت فيه نتيجة لما قد يصيبها من الإرهاق جراء نشأتها المتكررة فتسق ونتهوى مع ميتة آخر جسد .
يدرك سقراط بأن سيمياس وكيبيس يشكان في خلود النفس ويقران بفنائها، وبأن اعتراضيهما في الحقيقة يمثلان أطروحة مضادة لأطروحته قائمة على حجج مناقضة لتلك التي أقامها. ولذلك يؤكد في تواضع، بأن تعارض الحجج لا يجب أن يدفع إلى الشك وفقدان الأمل في الوصول إلى حجج يقينية لا تقبل الطعن، وبأن من يفعل ذلك هم السوفسطائيون الذين يتراشقون بالحجج ويدعون امتلاك القدرة على الاعتراض على أية قضية وإثبات أخرى؛ مما يقود في النهاية إلى الشك في إمكان قيام معرفة يقينية، وإلى كراهية الحجج التي تنطوي على تعميم فاسد وقصر في النظر. يوضح سقراط، بعد ذلك، بأن الخطأ لا يكمن في حججه، بل في عجز سيمياس وكيبيس عن تبين قوتها الاستدلالية.
يحمل سقراط المسؤولية لسيمياس وكيبيس في العجز عن تبين فحوى نظريته والأدلة التي أقامها عليها، فيدعوهما إلى مواصلة فحص الحجج وتعميق البحث .
يذكر سقراط، أولا، بفحوى اعتراضي سيمياس وكيبيس، ويذكرهما ثانيا، بفحوى حجة "المعرفة تذكر" الذي يفيد بأن النفس توجد في مكان ما قبل أن تقيد في الجسد، ويطلب منهما تحديد موقفهما منها: أموافقان على قوتها أم يقولان بتفهافتها.
بعد إعلان سيمياس وكيبيس الموافقة التامة على صحة مضمون حجة "المعرفة تذكر"، يشرع سقراط في مناقشة سيمياس، فينبهه إلى أنه يجمع بين شيئين يستحيل الجمع بينهما: القول من جهة، بأن النفس موجودة سلفا في مكان ما قبل أن تقيد في الجسد وفقا لحجة "المعرفة تذكر"، والقول من جهة أخرى، بأنها لاحقة للجسد باعتبارها انسجاما ينتج عن توثر عناصر الجسد؛ ويطلب منه اختيار إحدى النظريتين عوض الجمع بينهما، لأنه من غير المعقول القول بأن النفس سابقة عن الجسد ولاحقة له في ذات الوقت.
يتنازل سيمياس، على الفور، عن نظرية "النفس انسجام"، معتذرا لأنها في نظره غير مقنعة، ولأن ما جعله يقول بها ككثير من الناس هو ما تتضمنه من الاحتمال، ويتمسك بنظرية "النفس انسجام" دون عودة سقراط إليها من أجل فحصها والوقوف على بعض النتائج المترتبة عن التسليم بها. إذ يتضمن القول بالانسجام، حسبه، القول بالانسجام على نحو أقل أو أكثر، وعلى نحو أفضل أو أسوأ، طالما أن العناصر التي يتركب منها (القيثارة، الأوثار، الأصوات) تقبل الزيادة أو النقصان، الكبر والصغر... إلخ. والنفس لا تقبل الحديث عنها بهذه الطريقة، لأنه لا يمكن إقامة التراتب والتفاضل بين الأنفس فنقول: هذه نفس أفضل، أو أكثر، أو أكبر، أو أسوأ، أو أقل، أو أصغر من تلك؛ ولأن مجرد وجود "النفس الطيبة" يفضي بالضرورة إلى القول بوجود انسجامين في النف: الأول أصلي يشكل ماهيتها بما هي انسجام، والثاني يضاف إليها باعتبار أن الطيبوبة في حد ذاتها انسجام، وهذا مجال لأن الانسجام واحد بالطبيعة لا يقبل الزيادة أو النقصان، كما لا يقبل الكبر أو الصغر؛ ولأن وجود "النفس الشريرة" يفضي إلى إدخال الانسجام على النفس، على اعتبار أن الشر هو الانسجام، فتصبح لا انسجاما؛ وأخيرا، لأن هناك نتيجتين متناقضتين تترتبان عن كل ما سبق: إما أن كل الأنفس الشريرة؛ وإما أن القول بالنفس كانسجام قول باطل لأن الواقع يشهد بوجود الأنفس الشريرة .
يستمر سقراط في فحصه لنظرية "النفس انسجام"، ليؤكد بأن اعتبار الانسجام مترتبا عن مجموعة من العناصر المادية يتضمن ضرورة أن يكون سلوكه متطابقا مع سلوك تلك العناصر التي هو مركب منها، فلا يفعل ولا ينفعل بشيء غير ما تفعله وتنفعل به تلك العناصر، بحيث يكون قائدا لها لا تابعا .
يرى سقراط، بأن الأمر في حال النفس ليس على هذا الشكل، لأن النفس هي التي تقود الجسد، بل تعارضه وتخالفه خاصة حين تكون حكيمة. وتتخذ معارضتها ومخالفتها لانفعالات الجسد طوال الحياة تقريبا طرقا متعددة: إذ تعاقب الجسد أحيانا بعنف لا يخلو من الألم (بالرياضة البدنية والطب)، وأحيانا بالتهديد والتأنيب، وأخرى باللطف والتحاور مع الشهوات وألوان الغضب والخوف كما لو كانت تتكلم مع أشياء أخرى. وبالجملة يقول سقراط: "(...) لو كانت (النفس) انسجاما، فإنها لن تستطيع أن تصدر أنغاما معارضة للتوترات أو الارتخاءات أو الاهتزازات وغير ذلك من الحالات التي تنفعل بها العناصر التي هي مكونة منها، وإنما هي تستطيعها، ولن تستطيع على أي وجه، لها قيادة وتوجيها" .
يختم سقراط فحصه لنظرية: النفس انسجام، التي تقدم بها سيمياس ولم يتمسك بها أو يدافع عنها، بالتأكيد على أن كل الصعوبات النظرية والمفارقات التي أثارتها ترجع في الأصل إلى الانطلاق من فرض خاطئ .
ينتقل سقراط إلى مناقشة الاعتراض الذي تقدم به كيبيس، بعد أن كشف عن تهافت اعتراض سيمياس، فيذكر مرة أخرى- وبتفصيل- بفحواه وبكل النتائج التي يمكن أن تترتب عنه. يقول سقراط مخاطبا كيبيس: "هذا هو فحوى مطلبك: أنت ترى أنه من اللازم علينا أن نبرهن على أن النفس لا يأتي عليها فناء وأنها خالدة، وذلك إن كان للفيلسوف الذي على وشك الموت أن يكون على ثقة وأن يعتقد أنه، ميتا، سيجد هناك في العالم الآخر سعادة لا تقارن (...)" .
يسجل سقراط، بأن المسألة التي يثيرها هذا الاعتراض صعبة، وتتطلب الفحص الدقيق لمشكلة علة الكون والفساد- La Cause qui préside la génération et la coruption وتذكر كيبيس بأن تجربته في البحث عنها قد أخذت منه وقتا طويلا قبل أن يهتدي إلى منهج يقيني بصددها: لجأ في البداية إلى طريقة "التفسير الميكانيكي" للأشياء والظواهر كما فعل "أنكاساغورس" والفلاسفة الطبيعيين، فلم ي* منها إلا الحيرة؛ واعتمد طريقة "التفسير الغائي" التي توصل إليها بنفسه؛ ثم لجأ إلى طريقة التفسير ب "المفاهيم"؛ إلى أن نظره على "نظرية المثل" باعتبارها المنهج البديل لكل الطرق السابقة .
يخبر سقراط، بأن "نظرية المثل" قد أفادته في حل مشكلة علة الكون والفساد. لكونها ساعدته على تبين أن ما يجعل الأشياء في الواقع "جميلة" أو "خيرة" أو "كبيرة" هو مثل: "الجمال في ذاته"، و "الخير في ذاته"، و"الكبر في ذاته"، بحضورها في الأشياء أو بمشاركة هاته فيها على نحو مباشر. كما يخبره بأن هناك نتائج تترتب عن التفسير بالمثل: تتمثل أولها في طبيعة المثل ذاتها؛ ويتمثل ثانيها في استحالة مشاركة الشيء الواحد المتعين في مثل متضادة في نفس الوقت، كما يستفاد من هذه العبارة: "سيمياس أكبر من سقراط وأصغر من فيدون"؛ ويتمثل ثالهما في استحالة اجتماع الضدين في مثال واحد؛ ورابعها في وجود أشياء كثيرة تشارك في المثل نوعا خاصا من المشاركة يترتب عنه عدم قبولها للصور المضادة لتلك التي تحملها.
يوضح سقراط النتيجة الأولى، بأن المثل المستقلة عن الأشياء المادية الواقعية استقلالا مطلقا من قبيل "الجمال في ذاته"، و "الخير في ذاته"، و "الكبر في ذاته"؛ والمثل الحاضرة المتجسدة في الأشياء ك "الجمال" و "الخيرة"، و"الكبر" الذي "في الأشياء" .
ويفسر النتيجة الثانية، استحالة حضور المثالين المتضادين – في نفس الوقت- في الشيء الواحد المتعين، بكون العبارة: "سيمياس أكبر من سقراط وأصغر من فيدون" لا تعني أن سيمياس يشارك بالطبيعة – في ذات الوقت- في "الكبر في ذاته"، وفي "الصغر في ذاته". بل تعني: أن سيمياس هو أكبر من سقراط بسبب "الكبر في ذاته" حين يقارن سقراط، وأصغر من فيدون بسبب "الصغر في ذاته" حين يقارن بفيدون. إذ لا يحضر "الكبر في ذاته"، والصغر في ذاته" في سيمياس في وقت واحد. بل يحضران وفي وقتين مختلفين وعلى حالين مفترقين: يحضر الأول فيه وقت مقارنته بسقراط، ويحضر الثاني فيه وقت مقارنته بفيدون
ويفسر النتيجة الثالثة: استحالة اجتماع الضدين في المثال الواحد – سواء كان مثالا مستقلا عن الأشياء المتعينة في الواقع (الكبر في ذاته)، أو مثالا حاضرا ومتجسدا في تلك الأشياء (الكبر الذي فينا)- لكون "الكبر في ذاته"، أو "الكبر الذي فينا" لا يمكن أن يقبل "الصغر"، ويبقى كما كان "كبرا"، أي أن يكون نفسه ضدا فيصير ضد نفسه إلا بأحد الطريقتين: إما بالانسحاب من أمام "الصغر" وترك المجال له، وإما بالفناء تحت تأثيره. وبأن هذا لا ينطبق على جميع الأضداد. لأن أي ضد لا يرغب، بل لا يجرؤ أن يصير ضده طالما أنه لا يزال هو كما كان. وبيان ذلك- حسبه- هو استحالة أن يبقى الثلج ثلجا بقدوم الحرارة إليه، أو النار نارا بقدوم البرودة إليها. إذ لابد من أحد أمرين: إما أن ينسحب الثلج والنار على التوالي من أمام الحرارة والبرودة، وإما أن يفنيا تحت تأثيرهما. لأنه لا وجود لثلج حار، كما لا وجود لنار باردة .
يوضح سقراط، النتيجة الرابعة، بأن مشاركة الأشياء المادية الواقعية في المثل لا تتم دائما بالطريقة التي سبق الحديث عنها خلال لحظات كثيرة من الحوار. أي، الطريقة التي سبق الحديث عنها خلال لحظات كثيرة من الحوار. أي، الطريقة التي بمقتضاها تشارك أشياء في المثل على نحو مباشر وتحمل أسماءها وتعلل بها، تماما كما تشارك "الوردة" في مثال "الجمال في ذاته" بشكل مباشر، فتحمل إسمه "وردة جميلة"، وتعلل به بحيث تكون العلة في جمالها هو مثال "الجمال في ذاته".
هناك أشياء تشارك في المثل على نحو غير مباشر، وتسمى بأسمائها وتعلل بها تماما كما هو الأمر في الأعداد: حيث يشارك العدد (3) مثلا، في مثال "الفردية في ذاتها" على نحو غير مباشر، ويحمل إسمه (أي الفردي) إلى جانب إسمه الخاص (أي ثلاثة)، ويعلل به بحيث تكون العلة في كونه عددا فرديا، هو مثال "الفردية في ذاتها"؛ كما أن هناك أشياء تشارك في المثل على نحو مباشر، وتسمى بأسمائها، إلا أنها تعلل بغيرها من الأشياء لوجود علاقة جوهرية بين هذه الأشياء وتلك المثل: تماما، ويحمل إسمه (أي الفردي)، إلا أنه يعلل بشيء آخر غير "الفردية في ذاتها" هو "الوحدة" لوجود علاقة جوهرية بين "الوحدة" ومثال "الفردية في ذاتها".
يستنتج سقراط من النتيجة الرابعة المترتبة عن "نظرية المثل"، حجة أخرى حول مسألة "النفس" تفيد في الرد على اعتراض كيبيس الذي ألح عليه للبرهنة على خلودها وعدم فنائها.
• الحجة الرابعة: استحالة قبول الأشياء الحاملة للخصائص المتضادة بعضها البعض.
تنبني هذه الحجة على اعتبار أن الأضداد التي من نوع "اكبر" و"الصغر" ليست وحدها التي لا تقبل أن تصير أضداد نفسها، كما تفيد النتيجة الثالثة المترتبة ع "نظرية المثل"
خاتمة:
«le Phédon raconte une mort, celle de Socrate. Mais le récit de cette mort est occasion de tenir un discours différent sur la mort. Car Socrate ne se contente pas de mourir, il meurt après avoir parlé, parlé de la mort précisément. »
M.Dixaut. Ibid .P .11
" (...) والموضوع المباشر لهذه المحاورة هو النفس وخلودها. ولكنها تعرض كذلك لنظرية "المثل" الشهيرة، ولفلسفة أفلاطون في المعرفة والأخلاق جميعا، ويزيد من تأثيرها أنها تحدِّث في ذلك كله في إطار رواية ما تحدث في يوم إعدام سقراط (...)"
أحمد غريب.أورده د . عزت قرنى.
مصدر سابق. ( ظهر الكتاب).
روى فيدون لإشيكراطيس، مضمون الحوار الذي دار بين سقراط وأتباعه يوم إعدامه. تم تتبع الرواية من البداية حتى النهاية. ومع ذلك يبقى السؤال الذي طرحه إشيكراطيس على فيدون : "عم كان الحديث؟"1 قائما. وما يبقي عليه أمران: أولهما، أن القضايا التي أثيرت في الحوار كثيرة ومتداخلة إلى الدرجة التي يحار القارء فيها للجزم عن أيها تشكل موضوع المحاورة؛ وثانيهما، أن مواقف أفلاطون من هذه القضايا ظلت – في حدود ما تقوله المحاورة – مواقف غير محسومة.
اختلف دارسو محاورة "فيدون" مندالقديم حول الترتيب المناسب للقضايا التي تضمنتها. وكان أول ما دشن هذه العملية هو " تراسيل THRASYLE " الذي اعتبر موضوعها هو النفس، فوضع لها عنوانا جانبيا هو " في النفس".2 ومنذ ذلك الحين خصص البعض هذا الموضوع فجعله: "في خلود النفس"،3 واعتبره البعض الآخر هو "الموت"4... وهكذا.
لكن مع ذلك، تظل المادة المعرفية لـ"فيدون" غنية تستعصي على الاختزال إلى بضع مسائل ترتب حسب مقياس " ما هو أساسي " و " ما هو ثانوي"، لسبب بسيط هو أن حوار سقراط مع أتباعه لم يقتصر على مناقشة مسألة الموت فقط، أو مسألة طبيعة النفس، أو مسألة خلودها. بل امتد لإثارة قضايا لا تقل عواصة عن هذه من قبيل: صورة الفيلسوف الحقيقي وهو يواجه الموت، ومصير النفس، ونوع العناية الذي تستحقه؛ كما امتد لإثارة مسألة المثل ، والمعرفة، والأخلاق، وكل ما استتبع ذلك من مناقشة للإرث "الديني"، و "العلمي" السائدين في ذلك الوقت من قبيل "الأسرار الأورفية"، و "التعاليم الفيثاغورية"، و "تفسيرات الطبيعيين".
وما يزيد الأمر تعقيدا، هو أن أفلاطون لم يحسم في أغلب هذه القضايا المثارة في حوار سقراط مع أتباعه:
ناقش مسألة "النفس". غير أن مناقشته لها لم تتجاوز كونها حديثا مؤسسا على المعتقدات الدينية القديمة، وعلى تعريفه للموت ومقارنته النفس بالجسد، وليس على حدها ذاتها. مما جعل موقفه الأخير من طبيعتها، مجرد أفكار مبثوتة على امتداد المحاورة لا يخلو جمعها من إثارة بعض المشاكل. فهو في اللحظة الثانية من الحوار، يقر – في إطار البرهنة بحجة " المعرفة تذكر" – بأنها كيان قائم بذاته ينتمي إلى عالم المثل، وحائز على معرفة هذه الأخيرة وعلى الفكر؛5 كما يعتبرها في اللحظة الثالثة – في إطار البرهنة بحجة " البساطة " – موجودا بسيطا غير مركب.6 وعن جوهر هذا الكيان أو هذا الموجود يقدم على امتداد المحاورة تصورين مختلفين : تصور أول، بمقتضاه يعتبر جوهر النفس هو الفكر، ويستبعد كل ما له علاقة بالجسد من شهوة ورغبة وانفعال لكونها أشياء غريبة عنها؛ وتصور آخر بموجبه يعتبر جوهر النفس هو الحياة، في اللحظة الرابعة من الحوار حين البرهنة على خلودها بحجة: "استحالة قبول الأشياء الحاملة للخصائص المتضادة بعضها البعض".1
لم يوضح أفلاطون طبيعة العلاقة بين الفكر والحياة، كما لم يوضح مسوغات اسناد هاتين الخاصيتين – وإن لم تكونا متناقضتين – إلى جوهر واحد هو جوهر النفس. علاوة على حديثه عن "النفس" تارة بإسم المفرد، وأخرى باسم الجمع دون فحصها: هل هي واحدة بالطبيعة أم متعددة؟.
لا تخلو كذلك مناقشة أفلاطون لمسألة "مصير النفس" من الغموض. إذ تلاحظ فروق كثيرة بين ما أورده – على لسان سقراط- في كلامه وهو يعرف الموت ، ويبرهن على خلودها خاصة بـ "حجة البساطة"2، وما أورده في كلامه وهو يقص "الأسطورة" التي تحكي عن رحلة النفس إلى عالم "هاديس".3
يستفاد من كلامه في الموضع الأول، بأن النفس تفارق الجسد وتتحرر منه، بمجرد ما يموت الإنسان، ثم بعد ذلك تغادر بسهولة أو بصعوبة أو تبقى متوطدة في العالم المنظور، حسب درجة تطهرها من تلوث الجسد أثناء الحياة. بينما يستفاد من كلامه في الموضع الثاني أن الميت يقاد بـ "الدايمون" الخاص به إلى منطقة تتجمع فيها نفوس الموتى لتجري عملية فرز النفوس الطيبة عن الفاسدة؛ وأن ذوي النفوس الطيبة وحدهم هم الذين تنفصل نفوسهم عن أجسادهم لتنتقل إلى جوار الآلهة، أو تعود لتحل في جنس لطيف ووديع؛ وأن ذوي النفوس الفاسدة يعذبون فلا تنفصل نفوسهم عنهم إلا بعد وقت طويل لتخلد في الشقاء، أو تعود لتحل في أجساد شبيهة بتلك التي كانت فيها قبل الموت.
وتثير مسألة "خلود النفس" بعض الشك في قوة الحجج التي أقام عليها أفلاطون أطروحته، خاصة وأن الحجة الثانية "المعرفة تذكر"، والحجة الرابعة "استحالة قبول الأشياء الحاملة للخصائص المتضادة بعضها البعض" مؤسستين على "نظرية المثل" التي يتحفظ أفلاطون – على لسان سقراط – بصدد وجودها، ويعتبرها مجرد فرض تم الانطلاق منه.4 مما يطرح إمكانية نسف الصرح الاستدلالي الذي تأسست عليه فكرة الخلود ككل. إذ كيف يمكن للمعرفة أن تكون تذكرا إذا لم تكن المثل موجودة من قبل، وتكون النفس قد حازت معرفتها سلفا؟ بل: كيف يتسنى للأشياء الحاملة للخصائص المتضادة ألا يقبل بعضها البعض إذا لم تكن هناك مثل منها تستمد تلك الخصائص؟.
لكن: هل يمكن اعتبار تعدد وتنوع القضايا التي ناقشتها "فيدون"، وعدم الحسم فيها سببا كافيا لنزع أية قيمة فلسفية عنها؟ وهل يجوز اعتبار لجوء أفلاطون – على لسان سقراط- إلى الإرث "الديني" و "الأسطوري" القديم، مؤشرا على ضعف" الروح الفلسفية" أو "الحس الفلسفي" في المحاورة؟.
الظاهر، أن وحدة وقيمة محاورة "فيدون" تكمن بالأساس في تعدد القضايا التي أثارتها، وفي لايقينية الإجابات التي قدمتها. إذ بعدم الحسم وباللايقين تبث "فيدون" الدعوة إلى ممارسة قراءات من نوع آخر، لا ترتبط بالنص في استرساله الخطي، بل تخترقه في قضاياه نفسها، وفي مفاهيمه، وآلياته، وبنياته العميقة بغية الكشف عن مختلف القوى، والخلفيات، والعلاقات التي تؤطر القول فيه وتوجهه؛ ومن أجل رصد الامتدادات والآفاق التي يفتحها على المحاورات الأخرى.
ممتاز جدا حضرتك تحياتى لك استاذ عبدالله اخيرا لقيت تفسير للمحاورة تتناسب معه كل التساولات التى كانت خاطرة ببالى استمر الله الموفق لك
ردحذف