نشرت"حنا أرندت" سنة 1958 كتابها: "راحيل فارنها نعن، سيرة حياة يهودية ألمانية في زمن الرومانسية"، شكل هذا الإصدار فرصة خصبة بالتفكير في حياتها الخاصة والتعبير عن حريتها، لما وجدته من تماثلات مع حياة راحيل التي كانت بالنسبة لها " آخر الأنا" "Alter Ego " .
ليست "حنا أرندت" أكثر من كونها إنسانا من لحم ودم، امرأة، تحاول من خلال اهتماماتها الفلسفية وذكاءها في التفكير المنصب على "المجال العمومي" والحياة النشطة أن تضفي بعض الانسجام والنظام على مسار حياتها و اختياراتها المتقلبة باستمرار تحت تأثير القهر النازي والانتماء اليهودي والممارسة التفكيرية العقلانية. لا يمكن فصل كل مشروعها الفكري عن هذه الهواجس الحياتية الحميمة ولا عن ذلك الحوار الدائم مع الأصدقاء الطيبين مثل "ياسبرس" أو الأنانيين و"دون جوانيين" مثل "مارتن هايدغر" حيث كانت في حاجة ماسة لأن تسر لهم حيرتها وقلقها ومفارقاتها التي تعجز عن الحسم فيها بذكائها العقلاني الترانسندنتالي.
بعيدا عن مواقفها الفكرية والسياسية اللامعة والجرئية وفي هوامش سيكولوجيتها كمثقفة عالمة بالوضعية الإنسانية المعاصرة تبدو" حنا أرندت "امرأة بملامح شخصية ممزقة وتائهة بين أوروبا المدمرة بفعل الحرب والولايات المتحدة الأمريكية، وبين "هايدغر" العشيق "الأناني" وزوج بروليتاري شيوعي "هنريش بلوخر"، تبدو"حنا أرندت" عاجزة عن الحسم.
كان لاكتشافها المذكرات الخاصة "لراحيل فرنها نغن" أثر حاسم في تفكيرها ووعيها بأزمة حياتها الذاتية، وسط أوربا تعيش جموح نزعة إنسانية مفرطة في العقلانية لا تعترف إلا بمواطنة متعالية "تراتسندنتالية" معادية لكل انتماء جماعي خاص أو "نوعي" وجدت"أرندت" نفسها مقحمة أيام النازية في سلوك جماعي منتشر في الأوساط اليهودية الأوربية؛ نسيان الهوية اليهودية والتنكر للأصول التاريخية الخاصة.
كيف يمكن للمرء أن يتنكر لقطعة حية من ذاته وحياته؟
من العبث كما قالت "أرندت": "حينما يتحرشون بك كيهودية أن ترد عليهم عذرا أنا كائن بشري".1
"راحيل" تلك المرأة اليهودية الألمانية التي واجهت نفس المأزق ونفس الأزمة في زمن الرومانسية الألمانية، تحمل كل ألوان القلق والتيه، هاجرت من فلسطين، أرغمت على التنكر لتاريخها وأصولها، اشتغلت بالفكر والثقافة. وجدت "حنا" ضالتها في "راحيل" وأجلت كل أسئلتها السياسية والفلسفية لتخصص الوقت الكافي لتقلب ثنايا مذكراتها لأجل اكتشاف تفاصيل المعاناة. لكن "حنا" انخرطت في هذا المشروع بكل خشوع لأنها كانت تعي أن مذكرات "راحيل" تمثل مذكراتها هي، لم تكن "حنا" إلا الوجه الآخر "لراحيل" المنعكس في مرآة التاريخ الألماني البئيس. كانت الجملة المثقلة بدلالة أزمة الهوية التي تتوغل في أعماق الوعي الذاتي لتحوله إلى سديم حالك، تعيد حنا قراءتها عدة مرات في اليوم لتكتشف فيها كل معاني الأزمة الوجودية التي عصفت بهذه المرأة اليهودية الجميلة والرقيقة، وربما بكل إنسان يهودي: "ليس من حقي أن أقوم بأي اختيار ولا أي قرار ولا أي تصرف. أنا لا شيء، لست امرأة ولا أختا ولا عشيقة ولا زوجة ولا حتى مواطنة". كيف كانت هذه الجملة ترن في أذان"أرندت" المنظرة السياسية والفلسفية "للمواطنة الفعالة" العشيقة الممزقة بين زوج يهودي وشيوعي وعشيق ألماني فيلسوف متواطئ مع إلايديولوجية التوتاليتارية؟. لعل"أرندت" كانت تقرأ في تفاصيل معاناة "راحيل" تفاصيلها الخاصة، لكن لم تكن مستعدة أن تصل إلى نهاية النفق المغلق الذي وقعت فيه "راحيل"؛ في ظل التطور الذي حققته جمهورية فايمر"Weimar" ديمقراطيا واقتصاديا أصبحت الحياة أكثر وداعة ورفاهية، تعد النساء بآفاق مستقبلية مفتوحة على كل الأحلام الوردية، لكن أفق حياة "راحيل" يضيق يوما بعد يوم.
"راحيل فارنهاغن" حياة يهودية المانية في زمن الرومانسية" مؤلف نشرته "أرندت" سنة 1958 يشكل مفتاح حياة أرندت نفسها: نفس المعاناة ونفس الأصول والمآزق. غير أن "أرندت" كانت حريصة عبر استعراض تفاصيل حياة صديقتها أن تبحث عن مسلك للفكاك من المصير المحتوم الذي وقعت فيه "راحيل" .
إذا كانت "حنا" تسقط ذاتها على السيرة لأنها هي بدورها في مواجهة نفس المأزق: التنكر لهويتها اليهودية، كانت "راحيل" مجبرة على ذلك ولم يكن من حقها الاختيار، ارتدت عن ديانتها واعتنقت المسيحية لأجل الزواج بأحد النبلاء الكاثوليك، غيرت اسمها من "راحيل" إلى"ليوين" Lewin، انغمست في زخم الحياة الألمانية الباذخة والبرجوازية. حملتها هذه التراجيديا التنكرية إلى اعتبار أصولها اليهودية كمصدر عار و "غثيان" La nausée إلى حد الحكم بالإبادة العرقية على اليهود: "يجب إبادة هذا العرق اليهودي أو على الأقل طرده خارج ألمانيا". لا محالة أن "راحيل" كانت تطمح للإندماج في هذه الطبقة الأرستقراطية المثقفة مهما يكن الثمن المطلوب، هي التي كانت تستقبل في صالونها الأدبي الاخوة "هيمبولد" Humbold، schlegol، شلايخماخروغوته الأديب الذي تزداد شهرته يوما بعد يوم وعبر كل الأرجاء، لكنها فجأة وجدت نفسها معزولة في زاوية مغلقة، حاصرها بكل وحشية أصلها اليهودي من جديد.
هزمت "راحيل" ولم يتبق أمامها خيار سوى أن تظل جثة هامدة. بلا حراك خوفا من كل هذا العالم الصاخب من حولها "بفعل إيقاع الاستبداد المسيحي "الطهراني" الأرستقراطي للدولة البروسية Prussien. الفشل المطلق.
"أرندت"امرأة من زمن آخر وفي مجتمع مفتوح الآفاق، لكن "راحيل" وقعت في المصيدة واشتد عليها الخناق ولم يكن أمامها غير جلد الذات والدخول في انتحار داخلي وصامت.
ما يوحد بين هاتين المرأتين هو الأصل اليهودي والعيش في ألمانيا وعشق الثقافة والفكر، لكن ما يفرق بينهما هو الإطار التاريخي. "أرندت" ترعرعت في أفق تاريخي ترسخت فيه بعمق العلمانية وانهيار الحدود العقائدية، هاجرت إلى أمريكا حيث لا موقع للقومية العرقية،و الأرض المقدسة للفردانية والليبرالية، لم تجد ما يفرض عليها التنكر ليهوديتها أو ما يتطلب منها التضحية بأصولها وذاكرتها لأجل الاندماج.
في يوليوز 1964 حين كانت أزمة محاكمة "أيخمان" تضرب بقوتها الأوساط الثقافية اليهودية كتبت "أرندت" رسالة رد إلى Gershom schodem التي اتهمها "بعدم حب الشعب اليهودي": "الحقيقة الأساسية التي يجب معرفتها هي أنني لم أسع أن أكون غير ما أنا في ذاتي".
الأصول اليهودية هي مسألة انتماء مرتسمة في الجسد بشكل فطري، كانت "أرندت" تؤمن بهويتها اليهودية البادية على ملامحها: "إن ملامحي يهودية، أنا امرأة مختلفة في ملامحها عن باقي النساء". حرصت على الاقتراب أقصى ما يمكن من معاناة"راحيل" و أن تخترق تفاصيل حياتها لترسم لنفسها أفقا جديدا لامرأة يهودية و مواطنة كونية في زمن الليبرالية والحرية الذاتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق