يحضر اسم حنا أرندت في الفكر المعاصر حضورا نوعيا و ملتبسا في الآن نفسه، معروفة لدى النخبة الثقافية، خصوصا بعد صدور كتابها "أسس التوتاليتارية"(1) الذي دعم رصيدها الفكري و أخرج اسمها إلى دائرة النور، في الولايات المتحدة الأمريكية حيث صدر المؤلف أول مرة، و بعد ذالك في فرنسا. لكن الالتباس الذي صاحب هدا الحضور يكمن في صعوبة موقعة فكر هده السيدة الجريئة هل كفيلسوفة وفية لسنوات دراستها الجامعية على يد "مارتن هايدغر" و "كارل ياسبريس" أم كفيلسوفة سياسية تبعا لمنهجها في التفكير الذي يروم بحث القضايا السياسية من منظور "أركيولوجي"، أم كفكرة سياسية تسعى لبلورة نظرية جديدة في علم السياسة؟(2).
مهما تكن الصعوبات الكامنة في ثنايا هذه الأسئلة و المفارقات التي تثيرها أطروحاتها السياسية و الفكرية بصفة عامة، فإننا ندرك بسهولة شديدة مع بداية قراءة أي مؤلف لها أننا أمام فكر جديد الخصوصية يسعى لإخضاع اللحظة المعاصرة لمشرحة النقد و التحليل الجريء و الهادئ في نفس الوقت. لم تكن ضرورة هذا النقد غائبة عن وعي عشيقها
" هايدغر" الذي غرق في نقد لا يؤدي إلى أية نهاية بناءة: "المسالك الموصدة للقرن العشرين".
استطاعت أرندت بفضل تحللها من أي التزام إيديولوجي، و بإيمانها بأن الحرية الفكرية أكبر ضمانة للموضوعية،أن تضع الأصبع على الجرح المفتوح في جسد الجسم المعاصر: الأورام التوتاليتارية التي تنخر الجسم السياسي المعاصر. لا أحد قبلها فعل ذالك لأن الجميع غرق في العدمية أو التواطؤ بشكل من الأشكال.
بدل الصمت و الانطواء الذي يخدم دولة الوصاية و الاستبداد اختارت أرندت مغامرة إعادة تأسيس جذري للسياسة /السياسي كمجال عمومي متعدد و مستقل عن كل هيمنة إيديولوجية أو تسلط قانوني يلغي حق الاختلاف و الحرية الكامنة في المبادرة الفردية و حقوق الأقليات.
تبرز أرندت أكثر من غيرها كمدافعة عن الحرية في القرن العشرين ،عن حرية ملتبسة في نظر البعض تصل إلى حد الفوضى. لكن أرندت استطاعت بمهارة عالية أن تمد جسورا واصلة بين الحرية و القانون و الالتزام بعيدا عن أي ترنسندنتالية كانطية أو كانطية جديدة، أو رومانسية روسوية. و الدفاع في نفس الوقت عن العصيان المدني، لأجل غرض سياسي واحد هو خلق توازن بين السلطة كاستمرارية و بناء مفتوح للفضاء السياسي كمجال للاختلاف . استطاعت الجمع بين كل هذه المفاهيم و العناصر دون أن تلتمس مخرجا من أي نسق فلسفي تقليدي و دون أن تقع في شراك أي مأزق تلفيقي لأنها لم تتنازل عن حريتها أبدا لمصلحة أي دوغمائية ميتافيزيقية أو إيديولوجية.
ما هي ملامح التصور السياسي في فكر حنا أردنت؟.
تكمن الصعوبة الأولى التي تواجهنا في البحث عن هذه الملامح في كون أن بيبلوغرافيا أرندت متنوعة للغاية و لا نجد فيها كتابا بعينه يشمل كل مقومات تصورها للسياسة. لكن هناك مؤلفات أساسية و مهمة مثل " وضعية الإنسان المعاصر" كدراسة في الأنماط المتعددة للفعالية الإنسانية و أشكال الاستلاب المعاصر، و" أزمة الثقافة" الذي يضم مقالات متنوعة حول موضوعات أساسية في السياسية و الحرية والتاريخ "، و "أسس التوتاليتارية" كدراسة نقدية جذرية لظاهرة التوتاليتارية في القرن العشرين. إلى جانب مؤلفات أخرى مهمة تحكمها غاية أساسية هي إعادة الاعتبار للسياسة كممارسة للحرية في المجال العمومي.
يظل جوهر الإنسان بالنسبة لأرندت هو" الفعل" كملكة فطرية تؤهله " للبدء من جديد". على هذا الأساس تطمح ارندت لبناء فهم جديد للسياسة غير أن الإبداع ليس بالضرورة " فعلا". الفعل وحده النشاط الذي يربط فيما بينه دون وساطة الأشياء و المواد و بالتالي فإنه يتطابق مع الوضعية الإنسانية المتعددة. هذا التعددية في نظر أرندت لا يجب أن تغيب عن أدهاننا فنحن نتقاسم العالم مع الآخرين لكي نشكل لحمة إنسانية واحدة لكنها متعددة و تقوم على اختلاف لانهائي.
الفعل السياسي على وجه التحديد و الفاعلية الإنسانية التي تضع الناس في تواصل مباشر دون أن تكون الغاية هي خلق رأي عام أو إجماع ، لأنه من قبيل الحماقة التضحية بهذه التعددية لأجل ما هو مطلق أو عام حتى باسم المصلحة العامة، لان هذه التعددية هي المصلحة الأساسية و العامة التي يجب الحرص عليها.
على هذا الأساس يصبح من وجهة نظر أرندت من باب المحال رد المجال السياسي إلى المبادرة المشتركة أو الجماعية، يتحدد المجال السياسي انطلاقا من إمكانياته الخاصة و اللامحدودة التي توفرها الحرية .
تعود ارندت كما عادتها دائما إلى الأصول التاريخية و السياقات التي أحاطت بتشكل المفاهيم لتكتشف أن مفهوم الحرية تبلور بداية في المجال السياسي ، لكن الفلسفة فيما بعد قامت بترحيله إلى مجال" الذات" لتصبح الحرية خاصية " ذاتية " ، قبل أن تكون الحرية صفة للفكر " الذاتي " فهي واقعة امبريقية أو فنومنولوجية تنكشف عبر المعيش اليومي ، من خلال تبادلات الناس وتعاملاتهم اليومية . كانت في الزمن الإغريقي الحرية شكلا من التنظيم السياسي الجماعي الذي يعيش الناس في ظله خارج كل هيمنة أو تمييز بين الحاكم والمحكوم.
لا يهمنا هنا بقدر كبير تمجيد ارندت للنموذج الإغريقي حيث أن كلمة POLICE التي اشتقت منها عبارة POLITIQUE كانت تعني المدينة CITEالتي تمتلك نظاما تدبيريا يقوم على المشاركة المباشرة في النقاش العام والفعل(3) . هذه العودة إلى الأصول الإغريقية هي مجرد شرط ابستمولوجي يستدعي التأصيل الدلالي للمفهوم، ولا يمكن اعتماد النموذج الإغريقي مهما مارس علينا إغراء كمقياس امثل للسياسة و الحرية . ما يهمنا هنا هو أن الحرية كما تفهمنا ارندت هي القدرة على الفعل الملموس الذي ينعكس عبر الممارسة السياسية . تتحول هذه الحرية بصيغة أخرى إلى قدرة على التقرير في شان القضايا الإنسانية من خلال المشاركة من طرف الكل أو على الأقل الذين يرغبون في تدبير الشيء العمومي " CHOSE PUBLIC LA " (4).
يشكل هذا البسط للحرية كأساس للفعل السياسي ما هو عميق وأصيل و أحيانا أخرى ما هو مفارق في فكر ارندت التي تنأى بنفسها عن تقاليد الفكر السياسي . يقضي هذا التعريف للسياسة كحرية على كل إمكانيات بروز التوتاليتارية أو أشكال الحكم الاستبدادي ، لكنه في نفس الوقت يقوض النزعة الليبرالية " الجوفاء" التي ابتذلت الحرية واختزلتها في الحريات الفردية التي لا تضمن إجرائيا لكل مواطن أن يكون شريكا حقيقيا في الحكم والتدبير .
هكذا يتحدد الفعل والحرية بشكل تبادلي: الفعل الحر هو المبادرة الجماعية التي تخلق شيئا جديدا ليس كغاية خارجية حيث يتحول هذا الفعل إلى مجرد وسيلة فقط ، بل من اجل إعادة خلق مستمر " للمجال السياسي " الذي لا يحيا إلا انطلاقا من هذه الفعل المشترك والمتجدد.
تستدعي السياسة في نظر ارندت تجمعا بشريا يكون الناس فيه سواسية في حق القرار والإرادة، من خلال هذا التجمع تبرز " السلطة " ليست كثمرة تنازل أو تفويض الحقوق الفردية الطبيعية لفائدة فرد أو هيئة ، بل إن السلطة لا تكون مادية أو أذاتية و يمكن بالتالي احتكارها أو توارثها ،لأنها تلك الرابطة المعنوية التي تجمع بين أناس يناقشون ويتصرفون بشكل جماعي ، يمكن أن يكون "الحكم"POUVOIR LE ممارسة باسم الجماعة ولا يقبل أن يكون في نظر ارندت تفويضا أو بيعة لان من شان ذلك أن يقود لا محالة إلى تدمير التعددية والاختلاف (5).
درج الفكر السياسي الحديث على اعتبار"العنف " النقيض السلبي" للحكم، بمعنى إن كانت السلطة مؤسسة غايتها الوصول بالحياة و الفردية نحو العدالة و السعادة، فان العنف يشكل الخراب المحقق لكل هذه الفضائل. هل درجت حنا ارندت على نفس النهج؟ في كتابها :"من الكذب إلى العنف" وصفا فنمولوجيا للعنف كظاهرة غير قابلة للتوقع ومتعددة المظاهر، كواقعة تحدث قطيعة جذرية في نظام الأشياء . العنف مثل الفعل كل واحد منهما يخلق أثرا ويرتبط بالوضعية الإنسانية. قد يكون العنف أحيانا مبررا بغايات تحررية في حالة الثورة مثلا. غير أن طريق الثورة المبنية على العنف لا يقود إلى بناء أي شيء ذي قيمة ولا ينتظر منه أن يؤسس الحرية(6). يظل العنف دوما تلك الوسيلة الموجهة لغاية خارجية وهي الاستيلاء على السلطة، ويظل من جهة ثانية يستمد أصله من فرد أو مجموعة أفراد"نواة ثورية" دون أن يكون موضوع تداول جماعي حر. في حال حرب تحرير يخلق العنف فراغا دون أن يملا أي حيز، كما يمكن للعنف أن يدمر حكما قائما دون أن يخلق حكما بديلا.
تخلص ارندت إلى نتيجة أساسية و هي أن العنف ليس في ماهيته سلطة أو مظهرا لسلطة مضادة في لعبة اختبار القوة أو إنه بباسطة شطط في استعمال السلطة، وإنما هو النقيض الجذري للسلطة. يسمح هذا التمييز الواضح بين العنف والسلطة الذي تقيمه ارندت بتعريف السلطة كواقعة ايجابية وخلاقة، أما العنف في نظرها لا يملك أية وظيفة ذات جدوى، ولا يشكل جسر عبور نحو الأمن والرفاه الشخصي والجماعي. يمكن للسلطة أحيانا أن تعفي نفسها من تبرير أفعالها لكنها لا تقوى منطقيا على الاستغناء على الشرعية، لآن كل سلطة شرعية هي قوة نابعة من الفعل الجماعي وغايتها حماية " المجال السياسي " ، وبالتالي فان الحكم الشرعي لا يمكن أن يتحول إلى طغيان يخرق القوانين أو إلى توتالتارية تدوس كل القوانين الوضعية لأجل تطويع البشرية تبعا لقوانين الطبيعة أو التاريخ .(7)
تبحث ارندت في كتابها " الوضعية الإنسانية " عن معالم تسمح لها بتحديد مجال ممارسة الحكم أو جغرافية السلطة كواقعة اجتماعية، بمعنى آخر رسم الحدود الممكنة بين العام والخاص من خلال البحث عن ضمانات لحماية المجال الخاص من تدخل"السياسي". فالهروب من السياسة يظل في نهاية الأمر اختيارا يدخل في نطاق الحرية الذاتية (8)، إلا أن القانون ليس من غاياته الأساسية حماية الحريات الفردية والملكيات الشخصية لان المدنية ذات أولوية على الفرد منذ الإغريق(9) ، و وظيفة القاعدة القانونية كما هو شان السلطة هي بناء " جسم سياسي "(10).
يمتلك كل شيء من وجهة نظر ارندت معقوليته من خلال حدوده ، فالقانون يوفر القواعد كمدخل أساسي للعبة السياسة التي تضفي بدورها استقرارا على التعددية اللامتناهية للقضايا الإنسانية ، التي بدون هذه القاعدة المؤسساتية تتحول إلى فوضى عارمة . ولا تكون وظيفة القانون فقط مجموع وضع القواعد الضابطة للفعل عبر الجواز والمنع بل تحديد جغرافية المجال السياسي ومنحه شكلا ونمطا وظيفيا واستمرارية.
لا يشكل القانون من وجهة نظر ارندت وصفات إجرائية جاهزة لتدبير الحياة العامة ولكنه في العمق يرسم الخطوط الفاصلة بين المجال السياسي والمجال الطبيعي. فالإنسان كائن طبيعي خاضع لسيرورات بيولوجية وطبيعية ، وخاضع في نفس الوقت لقهر الضرورة المتضمن في هذا السيرورات . تبعا لذلك لا يملك الإنسان أي حق ، فالطبيعة ليست أساسا لوجود إنساني حقيقي لأنها مجال اللامتوقع والعارض واللامتساوي والقدري ، وعلى هذا الأساس ترى ارندت أن الادعاء الذي ساد في الفكر السياسي الحديث ( اعتبار الحقوق الطبيعية قاعدة لتشريع وضعي يضمن العدل والأمن بين الناس في جسم اجتماعي ) نتج عنه شعار ضخم في نهاية القرن التاسع عشر ينطوي في واقع الأمر ، من وجهة ارندت ، على خداع لا يمكن تجاهله، إذ لا يمكن لأي فرد أن يتمتع بأي حق مزعوم من هذه الحقوق الإنسانية من منطلق فردانيته الخالصة أو الإنسانية التي تجتم في ذاتيته المحضة . تجربة ارندت الشخصية كلاجئة لمدة عشرين سنة وعملها لفائدة أطفال اللاجئين اليهود وأيضا المدة القصيرة التي قضتها في معسكرات الاعتقال النازية رسخت في ذهنها أن الحق في الانتماء إلى جماعة أو جسم سياسي دون الخضوع، بالطبع، لقهر دوغمائية وإيديولوجية لهذا الانتماء .
على القانون أن يضمن في هذا الاتجاه شروط استمرارية واستقرار الجماعة السياسية التي يحيا الأفراد في ظلها في وجه العوارض الطبيعية للنزوع الإنساني ، وكذلك في مواجهة العوارض اللامتوقعة " للفعل " . كل قانون يقوم في " درجة الصفر" على الاتفاق والرضا وفي شكل وعد، كأسمى ملكة إنسانية بامتياز(11). فالمجال السياسي هو أولا ارض هذا التوافق الذي يتبلور في هيئة عقد أفقي يتم بين أناس سواسية في المسؤولية وإرادة تشريع القوانين وفق القاعدة الجماعية، هو لحظة أساسية لتأسيس المجال السياسي ، وفي نفس الآن لحظة تأسيس للحرية والمساواة كمبادئ للفعل التي لا يمكن للسلطة نكرانها أو القفز فوقها(12) . لا تقدم ارندت بخصوص الإشكال التقليدي لأساس تشريع القانون سوى تحديدات سلبية، مادام القانون لا يمكن أن يستمد قاعدته من السيرورات الطبيعية ولا من السيرورات التاريخية، وكما لا يمكن استخلاصه من قواعد قبلية عقلية و مطلقة أو ترانسندنتالية فيتبقى أن يكون القانون خاضعا لقاعدة " الاعتباطية " بمعناها " السوسيري " ،أي التوافق الخاضع للرضا والقبول . لا تستمد هذه الصناعة البشرية ضماناتها من الخارج سواء كانت الطبيعة أو قوة إلهية بل من ذاتها ، ليس لها من سلطة سوى الاتفاق الحر . ليس القانون أداة قهر ولا
سلاحا لعدالة اجتماعية ، وليس كذلك متاريس لحماية متاع شخصي من تعسف الدولة ، بل هو مجموع نصب التي تحدد مجال السلطة . وظيفة القانون في النهاية هي ضمان التوازن بين القديم والجديد ، بين الدائم والعارض . لقد كان طموح فكر ارندت هو رد الاعتبار للتقاليد في لحظة تاريخية تميزت بالعداء اتجاه كل ما يمت للتقليد أو الماضي بصلة، أي" النسيان الجماعي " "أو فقدان الذاكرة " الذي ابتليت به مجتمعات القرن العشرين.(13)
لكن ارندت تفسح مجالا واسعا للتجديد كمطلب وجودي في التاريخ ولأجل المستقبل، على أن ارندت تكون مطالبة هنا بإيجاد تسوية مرضية بين طرفي مفارقة التقليد والتجديد . لا يمكن إخضاع القوانين لتقلبات المزاج وتحولات وجهات النظر ، لكن يتوجب تطوير الحقوق تبعا لمقتضيات التاريخية التي يطرحها المجال السياسي نفسه . إنها في نفس الوقت مفارقة استقرار القانون وإبداعية " الفعل ".
تجيب ارندت ولو جزئيا عن التساؤلات التي تطرح ضمنيا انطلاقا من هذه المفارقات في نص نشر سنة 1970 تحت عنوان "العصيان المدني "(14) الذي دعم رصيد شهرتها في أمريكا " كيسارية رومانسية "، لكن هذه الصورة زائفة في زمن كانت في أثار المكارتية لا تزال قائمة ، إذ لا يمكن العثور في هذا النص عن أي دفاع رومانسي أو حماسي عن العصيان العنيف أو ثورة مسلحة .
تفهم ارندت العصيان المدني في حدود معنى ضيقة لا تجعله يتجاوز كونه رد فعل" أقليات منظمة " وموحدة في ما بينها بقرارات مشتركة، دون أن تكون مصالح مادية مشتركة تجمع بين أفرادها في الأصل، في مواجهة سياسة حكومية قد تكون في غالب الأحيان مدعومة من طرف الأغلبية(15)، لا يماثل العصيان المدني في نظر ارندت الاعتراض أو الرفض النابع من الوعي الأخلاقي، لأنه غالبا ما تكون حالات العصيان والتمرد بعيدة عن كونها تمظهرات وعي أخلاقي رزين ، وإنما وجهات نظر مشتركة قد تكون سياسة في بعض الأحيان ووجدانية في الغالب من الأوقات تبيح للأفراد الموحدين خرق القوانين التي تبدو في نظرهم عاجزة عن مسايرة طموحاتهم الجماعية ، أو حكومة تكون شرعيتها الدستورية موضع تشكيك خطير .(16)
لا تنخرط ارندت في التقليد الديكارتي الذي يجعل من " الأنا " الأرضية الانطولوجية الآمنة للحقيقة والحرية ، ليس هناك من مبرر في نظرها لإقامة تقابل بين الحرية التي تستقر في أعماق الذات والحرية القلقة والمتوترة التي تستمر في المجال السياسي ، لكن الفعل الأساسي يتوقف على قدرة التفكير المتعدد الذي لا ينزع نحو الهروب من السياسة ، ولكن الذي ينخرط فيها ويتحمل مسؤولية في خضمها بنفس طويل الأمد . إذا كانت ارندت قد طالبت بضرورة تشريع قانون يشرعن العصيان المدني لأنها كانت حريصة على أن تضمن حق الأقليات والجماعات في التعبير عن الحيف الذي يطالها كلما كانت الحاجة ماسة لذلك (17). يضمن الدستور الأمريكي في الولايات المتحدة للشعب الحق في التجمع والتظاهر لكن بشكل سلمي لإدانة عمل الحكومة، غير أن هذه الصيغة في نظر ارندت غير واضحة وغالبا ما يتم تأويلها بشكل ماكر تبعا للظرفية من طرق القوى المهيمنة لمنع الأقليات من التظاهر، مما يولد أحيانا عصيانا عنيفا ناتجا عن يأس تواصلي .
لا يجب أن يقودنا هذا الدفاع عن العصيان المدني إلى حد اعتبار ارندت راديكالية أو يسارية ، كما تم اتهامها بذلك في الولايات المتحدة الأمريكية ، وكأنها تحرض على الثورة أو خرق القوانين ومس سيادة المؤسسات بل يجب أن تظل في حدود فهم دفاع ارندت كمدافعة بحماس قوي عن حقوق الأقليات . نلمس هذا الدفاع في أكثر من مقام عبر كل نصوص ارندت، كان الهاجس الأساسي الذي يحرك هذا الدفاع هو مقاومة سيادة منطق الأغلبية ولو تحت غطاء شرعية سلطة القانون لكن ارندت ترسم حدا لهذا العصيان المدني، لا يمكن تجاوزه حتى لا يكون عبثا، وهو ضرورة احترام التقاعد والتوافق الأولي كمدخل أساسي لتشكل المجال والفعل السياسيين.(18)
نلاحظ ابتعاد ارندت بشكل واضح عن ضمانات العقد المدني التي تصورها " جون جاك روسو " من وجهة نظرها ليست هناك بداهة متضمنة في " المصلحة العامة " تفرض على الجميع التنكر أو التخلي عن فردانيتهم وهويتهم ومطالبهم لأجل الانتماء للجسم الاجتماعي ( المجتمعي ) والسياسي . ليست ارندت من صنف أولئك المفكرين المتواطئين مع فكرة الحفاظ على وحدة الجسم المجتمعي السياسي لما فيها من رومانسية وجدانية. هذه الوحدة لا تتحقق إلا من خلال التعدد والاختلاف الخلاق الذي يمنح هذا الجسم استمرارية عبر إعادة تشكيل نفسه بأشكال مغايرة كلما اقتضت الضرورة لذلك.
لا يضمن القانون في نظرها هذه الوحدة إلا بشكل هش لهذا تشترط ارندت وجود سلطة باعتبارها طرفا أساسيا لضمان هذه الوحدة ، لكن دون أن تعتمد على وسائل خارجية لإكراه الناس على الامتثال للقانون بل، عليها تليين الإرادات عن طريق الحوار والاعتراف بالمطالب (19). تعود ارندت كعادتها إلى الأصول الاتيمولوجية للمفاهيم لإعادة اكتشاف المعنى الأصيل ، السلطة autorité تحيل على لفظة auctor التي تتضمن في الآن نفسه معنى الشخص المحرض على الفعل ومعنى الزيادة والتراكم(20) ،إن كانت السلطة بهذا المعنى الأخير تراكم وبناء مستمر ، فان مجال الحريات هو الورش الأساسي المفتوح أمام السلطة لكي يخوض رهان العمل فيه باستمرار، لكن هذا البناء المتجدد و إن كان يتجه نحو المستقبل فعليه أن يحافظ على جسور وثيقة مع الماضي.
بشكل عام، تجد المفارقة سابقة حلا لها حيث يتصالح التجديد و الاستمرارية، الاختلاف و الوحدة، العصيان و السلطة. على أساس جدلية الهدم و البناء كدينامية انطولوجية هايدغرية يمكننا أن نفهم النقد السياسي الذي رسمت أرندت أهم خطوطه العامة.(21)
من خلال التشديد أرندت على الفعل باعتباره بداية متجددة و غير متوقعة لا يمكننا تصور ملامح قبلية للتاريخ. التاريخ هو سرد un récit لا يتوقف من البدء و لا ينتهي أبدا، و لا يمكن لأية عقلانية أن تقدم مفاتيحه. على هذا الأساس ليس في وسع أي فكر سياسي أو أية نظرية القفز نحو مستقبل لم يتحقق بعد، الزمن الحقيقي هو زمن البدء و إزاء التاريخ بتقلباته و سيلانه اللامتوقع، ليس أمام الفكر إلا خيار واحد هو الفهم بطريقة تراجعية.
في إطار هذا الفهم يجب على النظرية، حسب أرندت، أن تظل مشدودة للواقع كما تظل الدائرة مشدودة لنقطة مركزها الفهم أيضا لا ينشأ إلا من خلال وقائع التجربة المعيشة، و عليه أن يظل وفيا لها لأنها وحدها قادرة على إرشاده نحو الوجهة السليمة.(22)
إن كانت أرندت تبدو متحمسة للعودة إلى التاريخ كأرضية صلبة للتفكير في السياسة و المجال السياسي لان انتشال السياسة من وباء النسيان " و داء فقدان الذاكرة" هو الرهان المركزي الذي ناضلت ثقافيا من أجل تحقيقه.
إنه الدرس المستفاد من تجربة الحركات التوتاليتارية التي دفعت الكل نحو العدمية و فقدان الذاكرة الجماعية. تظل هذه الذاكرة هي التاريخ و لا يمكن تبعا لمنهج اشتغال أرندت بحث التاريخ بشكل ترانسندنتالي، بل كنبش في الوثائق و الوقائع لأجل الفهم و ليس من أجل استخلاص القوانين القبلية و المطلقة أو الوقوع ضحية تأويلات وجدانية أو إيديولوجية.
إن كانت أرندت تؤكد في أكثر من مقام أن هويتها الفكرية تتحدد انطلاقا من التفكير في الحقل السياسي لأن الفكر الفلسفي أتبث تبعا لمنطق اشتغاله صعوبة تصور مجال للحرية خارج مجال الذات. لكن أرندت رغما عنها تظل تمارس التفكير الفلسفي بطريقتها الخاصة و بما يخدم قضاياها السياسية، كما أن الاهتمام بالعودة للأصول اللغوية للمفاهيم كمنهج بحث جديد تدشنه بالوقائع و المعيش اليومي هو إعجاب يالظاهراتية الهوسرلية، مع تعليق الحكم سواء في نقدها للتوليتارية أو " تفاهة الشر"، يحضر الحياد ليفسح المجال للوقائع و الوصف دون الانسياق وراء التأويلات الدوغمائية.
إنها حنا أردنت التي كانت تعي بحساسية مفرطة مأزق اللحظة و انحراف الوعي السياسي و الفكر الفلسفي المعاصرين عن الرهانات الأساسية:" في مكان ما وسط النفق حيث لا يحل لا يلوح لا ضوء المدخل و لا ضوء المخرج فإن بصرنا المعتم لا يجب أن يغفل لحظة عن التقاط أي خيط نور حتى و لو كنا قد فقدنا الأمل في الخروج أصلا"(23). ذلك هو القصد و الرهان الذي خاضت أرندت غمارهما، البحث عن مسلك للخروج من مأزق وعي القرن العشرين العدمي، دونما اعتماد طريقة ملتوية أو تلفيقية لكن عبر السير الهادئ و الشجاع في طريق النقد و التفكيك دون الوقوع في العدمية الهايدغرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق