تفاهة الشر عبارة استعملتها حنا ارندت لأول مرة بما يثيره هذا الاستعمال في الذهن من مفارقات: كيف يكون الشر تافها، و هي تتحدث عن شر جذري، بما يحمله من عنف و الام عصية على التحمل و الوصف؟ يتعلق الأمر بشكل خاص بجرائم الإباذة العرقية التي تعرض لها اليهود في ألمانيا النازية على الخصوص و روسيا الستالينية بشكل جزئي.
السياق الذي رافق استعمال العبارة ارتبط بتغطيتها الصحفية لجميع المحاكمات التي تمت ما بين أبريل 1961 إلى ماي 1962 ، في ماي من سنة 1960 تم إلقاء القبض على "ايخمان" Eichmann في بوينوسرس من طرف المخابرات الإسرائيلية ليرحل للمحاكمة التي بدأت في أبريل من سنة 1961 في أورشليم "القدس".
لعب ايخمان دورا كبيرا في ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال إبان الحرب العالمية الثانية، لكنه ظل في نظر ارندت رجلا عاديا مشغولا قبل كل شيء بمهنته و مركزه برجوازي،لا هو باليهودي و لا بالشاذ جنسيا و لا بالمتعصب أو المنحرف و لا بالمغامر"،بتفاهة الشخص الذي تصفه أرندت تثبت تفاهة أفعاله.لكن هل ما قام به ايخمان كان حقا فعلا تافها؟.
مقاربة ارندت سياسية بالدرجة الأولى على شاكلة مقاربتها لكل الظواهر التي عالجتها في معظم مؤلفاتها التي تسعى عبرها رسم ملامح رؤية سياسية جديدة،الشر قبل كل شيء فعل موجه نحو الغير يتم في المجال السياسي العمومي، فعل يلتقي بأفعال ذوات أخرى، وتتصارع فيما بينها. تطلب منا أرندت أن نفكر قي هذا الفعل داخل حقل الحرية و الإرادة في بعده السياسي و ليس الأخلاقي.
لا تعني هنا عبارة تفاهة الشر التقليل من فضاعة الجرائم التي كان ايخمان شريكا فيها، و لا اختزالا لتجربة "المحرقة" كمجرد حادثة عابرة في التاريخ، بل على العكس من ذلك، كانت أرندت تفكر في تقدير الصعوبة الكبيرة في الحكم على جرائم بلغت حدا قويا من البشاعة، مادام مرتكبوها أناسا عاديين و في غاية التفاهة. لقد كان من السهل اعتبار ايخمان مجرما شيطانيا خرج عن العقيدة "الثوراتية" و حب "الشعب المختار"، لكن ارندت تسير في اتجاه استبعاد كل المؤثرات الوجدانية و العقدية و الايديولوجية التي تفسد عليها الحكم الهادئ و الموضوعي". لكن أمثاله كثيرين لا هم بالساديين و لا بالمنحرفين "أنهم عاديين بشكل مخيف".
تطرح عبارة الشر إذن إمكانية اللانساني غير المتوقع في كل واحد منا التي تنبع بالضرورة من تعسف النسق التوتاليتاري الذي يفترض أن الجرم يجب أن يتم بشكل تجعل مقترفيه لا يشعرون بشراسته و فضاعته.
كما تطرح العبارة ضمنيا أن النسق التوتاليتاري يحرض، بشكل قبلي، على قتل الحيوان السياسي في الإنسان و أن يحتفظ فقط إلا بمظهره البيولوجي.
كان الأمر، بالنسبة للنازيين على وجه الخصوص، فيما يتعلق بالمحرقة بتطهير النوع الإنساني من كل الشوائب العرقية، و التحقق من إمكانية خضوع النوع البشري لتجربة القضاء على كل الملكات الزائدة ليرتد في النهاية إلى الإنسان الحيواني الذي يكتفي بغريزة التصرف المكيانيكي على شاكلة كلاب" بافلوف". لقد تم ذلك من خلال القضاء على كل ما يربطه بالمجال الاجتماعي ،و تدمير المجال الاجتماعي كله بما يحمله من دلالات إنسانية.
هؤلاء المتهمون يشكلون أولا منتوجا مرا لتجربة أللانتماء إلى العالم التي تصل في تقدير ارندت إلى مستوى" الفاجعة الأنطولوجية" التي يصاب بها الوجود الإنساني. انه لمن الضروري فهم ميكنزمات تهديم الشخصية الأخلاقية الذي يدفع الإنسان إلى فقدان كل مرجعية أخلاقية للخير و الشر، عبر رد الكائنات البشرية إلى حدود الحيوانية المحضة، حتى نفهم أن الذين كلفوا بتنفيذ هذه التجارب لم يعد في استطاعتهم النظر إلى موضوعات تجاربهم ككائنات مشابهة لهم في النوع، في الوقت نفسه يتم نزع كل إحساس بالذنب من ضمير هؤلاء الجلادين القساة،لأن الإحساس بالذنب يتطلب أن يكونوا على وعي تبعا لتقدير أخلاقي بطبيعة الأذى الذي يلحقوه بالإنسانية.
كان النظام النازي و بخاصة المؤسسات التي انتمي اليها ايخمان في الأشهر الأخيرة للحرب العالمية الثانية تمحو كل أثار ما ارتكب من جرائم، كان هذا يعني ضمنيا أن النازيين كانوا يدركون أن ما اقترفوه كان مخالفا للعرف الدولي.
اخفق النازيون إذن، في تخليص النوع البشري من "الأعراق الدنيا"، لكن هل كانوا سيشعرون بنشوة الإنجاز أو الذنب لو أنهم نجحوا في مشروعهم؟.لن نجيب بدل" ارندت" و لكن من الصعب تخيل ذرة واحدة من تأنيب الضمير قد تمس هؤلاء المجرمين مادامت لديهم قناعة راسخة بأنهم كانوا يطيعون الأوامر العليا و القانون.إن تفاهة الشر تقوم أيضا على أساس هذه الطاعة العمياء للقانون
.لقد استطاعت "ارندت" أن تصف بدقة متناهية "ايخمان"الذي شكل معضلة حقيقية لكثير من الضمائر التي لم تتقبل أن يكون الشر عاديا أو تافها، و أن يوجد كامنا بالقوة في كل إنسان.إن تحليل سلوك "ايخمان" الرجل العادي دفع " ارندت" الى نحث مفهوم"تفاهة الشر" الذي يتعارض مع مفهوم "الشر الجذري". تفاهة الشر بالنسبة لها فكرة تقوم على أن الفاعل ليس هو منبع الشر و لكنه فقط أداة تنفيذ، مما يحتم علينا التفكير في طريقة أخرى لاتهامه.
في المحكمة و أمام قضاة يستعصى إقناعهم لجأ "ايخمان" لتبرير أفعاله إلى مبدأ طاعة الأوامر كواجب أخلاقي، بذلك يكون " ايخمان" في نظر" ارندت" قد أقحم، دون أن يدري، التصور الكانطي للواجب الأخلاقي في مأزق يصبح فيه الشعار الكانطي:" تصرف انطلاقا من المبدأ الذي ينص على أن تكون أرادتك في الوقت نفسه قانونا كونيا" مقلوبا على الصيغة التالية:"تصرف بالطريقة التي إذا علم بها الفوهررFührer باركها".هذا التعديل اللاوعي للواجب الأخلاقي الكانطي الذي اتخذ منه "ايخمان" واجبا قطعيا بموجبه يتجاوز كل فرد الامتثال العادي للقانون إلى الامتثال الذي يقوم على توحد الإرادة الذاتية بالإرادة الكلية التي يمثلها القائد.حينما يتبنى إنسان عادي هذا المبدأ يتحول إلى "ايخمان".
إن فهم "ايخمان" للواجب الأخلاقي الذي يقتضي منه الإخلاص للقائد و الوطن كان قاسما مشتركا بين كل الألمان على وجه التمام في فترة الحرب العالمية الثانية، لكن المسؤولية عن الجرائم المقترفة ليست أمرا بديهيا و لا تحصيل حاصل، لأنها تفرض الوعي و الحرية لدى فاعلها. نكون مع مثل هذا النوع الجديد من المجرمين إزاء صنف من البشر يرتكبون أفعالا شرسة في وضعيات تنعدم لديهم فيها القدرة على الوعي، لأنهم تحولوا ببساطة إلى كائنات ميكانيكية.هذا ما يجعل"ايخمان" يتهرب من الاتهام التقليدي بأنه مجرم في "حق الإنسانية" لكونه لم يمتلك نية فعل ذلك عن قصد، و إنما مقتضيات الواجب المهني تفرض عليه ذلك.يطرح مثل هذا التصريح في نظر "ارندت" مشكلة حقيقية: في غياب نية فعل الشر و عندما يكون خلل لسبب أو آخر قد أصاب القدرة على التمييز بين الخير و الشر هل هناك مسؤولية أخلاقية، إذن؟.تلاحظ "ارندت" تحول مجرى المشكل أثناء المحاكمة، لم يعد الشر خرقا للقانون بل أصبح امتثالا له ،إنه تحول خطير لمعنى الخير و الشر. كيف نحكم ،إذن؟.
تلوم"ارندت" القضاة عن عدم قدرتهم على إدراك هذا المعنى الجديد للخير و الشر، و تعتبر عدم تبين هذا الأمر لم ينتج عنه أي تجديد أو تكييف للقانون ليستوعب هذا المعنى الذي يفوق التصور.كان يجب أمام هذا الأسلوب من الشر وضع قانون لم يسبق له مثيل، إما ليؤسس الحق في النسيان الكلي للانتماء لجماعة معينة أو للإنسانية ككل أو يجرمه .كان على القضاة في نظر "ارندت" أن يخاطبوا "ايخمان" بالصيغة التالية في النطق بالحكم: " لقد قدرت أخيرا أن الجرائم التي ارتكبت في حق اليهود أثناء الحرب العالمية الثانية من أكبر الجرائم في تاريخ الإنسانية، و اعترفت أيضا بالدور الذي قمت به في ذلك و تؤكد في الآن نفسه غياب أي ميل أصيل لديك للإجرام، و لم يكن بوسعك في الآن نفسه التصرف بشكل آخر، و أنك لا تشعر بأي ذنب. لنفترض أن سوء الحظ قادك لتكون وسيلة لتنفيذ تلك الجرائم.و لكن لأنك ساندت سياسة ترفض تقاسم الأرض و الحياة مع الشعب اليهودي و الإنسانية ككل، و كأنك أنت و رؤساءك من كان لهم الحق في تقرير مصير من يجب و من لا يجب أن يقيم على وجه الكرة الأرضية، لأجل هذا السبب فقط يجب أن تشنق".
تشدد أرندت بحرص على ضرورة تغيير تصورنا لمسألة الجرم نفسه، ليس الجرم كقصد و فعل هو ما يجب محاكمته في مثل هذه الجرائم ،بل الجرم باعتباره مسا مباشرا بفكرة الانتماء للجماعة.هذا الرفض للآخر و عدم قبول العيش معه في نفس الحياة و على نفس الأرض و رفض أن تكون الأرض مجالا مشتركا للناس على اختلافهم هو ما أرادت " ارندت" تسليط الضوء عليه في مرافعتها النظرية عبر فصول الكتاب.
يكون الشر في النهاية في صورته القصوى و التافهة هو رفض التواصل مع الغير و رفض قبوله كما هو.هكذا تحل أرندت تشابك خيوط مفارقة تفاهة الشر، أي ذلك التشابك بين الإرادة و المسؤولية، و بين الواجب القانوني و الواجب الأخلاقي.كيفما كانت الملابسات التي تحيط بفعل الشر فانه واقع لا يمكن نكرانه والتنصل من المسؤولية عنه. هذا هو الدرس المستخلص من محاكمة ايخمان في "أورشليم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق