احدث المواضيع

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

تطبيق كتابي على السؤال الحر في مفهوم االحقيقة

نص الموضوع:

اكتب إنشاء فسفيا متكاملا انطلاقا من السؤال التالي:

هل يمكن التأكيد على أن الحقيقة تمثلات فكرية تكتفي بتصوير أمين لواقع موضوعي ؟

مقـدمة :

ليس من السهل الخوض في إشكالية الحقيقة، لأن الوقوف عند تاريخ الفلسفة يوحي بوجود تنوع في التناول والتحديد، وهذا أمر قد يدفع إلى تصور كل حديث عن الحقيقة باعتباره حديثا عن حقائق. وبالرغم من أن الشكاك المذهبيين لا يعترفون بوجود الحقيقة، فإن ذلك لم يثن مجهود الفلاسفة والمفكرين في التأمل في قيمة الحقيقة وطبيعتها و سماتها ومميزاتها. والسؤال الذي يمكن اعتباره أساسا لمقاربتنا يدفع بنا إلى التأمل في نوعية العلاقة الموجودة بين الحقيقة والواقع، وبالأخص التفكير فيما إذا كانت الحقيقة فكرا يجسد الواقع بأمانة. ومن أجل مقاربة هذه الإشكالية سنحاول أن نتخذ من التساؤلات التالية منطلقا للتفكير: كيف يمكن للحقيقة أن تتحدد في فكر يكتفي بالاستنساخ الميمي للواقع؟ ألا يمكن أن نتمثل الحقيقة كمفهوم قادر على تجاوز الارتباط المباشر بالواقع؟

عـرض

قبل تحديد أي شكل علائقي بين الحقيقة والواقع ؛ فإن متطلبات الموضوع تحتم علينا أن نحاول بدءا القيام بالتحديد الإجرائي لمفهومي الحقيقة والواقع. لنكتشف أن التحديدات الفلسفية للواقع تؤكد أن الفلاسفة يتمثلون الواقع، إما باعتباره وجودا ماديا عيانيا حسيا واختباريا، وإما باعتباره وجودا مجردا وعقلانيا. مما يدفع إلى التأكيد على أن التحديدات الفلسفية بتنوعها تلتقي حول اعتبار مفهوم الواقع ينطبق على كل معطى موضوعي يوجد خارج الذات ويتميز باستقلاله عنها. وجدير بالذكر أن نشير إلى أن تاريخ الفلسفة يبين أن الفلسفة التقليدية دأبت على تحديد مفهوم الحقيقة في إطار ربطه بالواقع. ومن خلال ذلك يمكن أن نلاحظ بأن تمثلين أساسيين يطغيان على التحديد الفلسفي التقليدي للحقيقة : أحدهما ينطلق من أن الحقيقة هي الواقع ذاته، والطبيعة الأنطولوجية للواقع (أي وجوده) تكفي لتأكيد ذلك. والتمثل الآخر ينطلق من علاقة المطابقة بين الحقيقة والواقع. ويعني ذلك أن كل تصور فكري يعتبر حقيقة إذا كان يستنسخ الواقع ويصوره بأمانة. ويمكن اعتبار الإشكالية الفلسفية التي سنعمل على مقاربتها تتموقع في إطار التمثل الأخير. وذلك ما يستوجب –أولا- أن نفهم الكيفية التي يمكن أن تتجلى بها الحقيقة باعتبارها فكرا يكتفي بتصوير الواقع واستنساخه.

إن هذا التمثل بالذات هو الذي حاول ديكارت الخروج عنه، لما أكد هذا الفيلسوف أن الحقيقة لا توجد بنحو جاهز في الواقع، وإنما الحقيقة بناء عقلي تقوم به الذات. هكذا نجد ديكارت يرفض الاستعانة بالحواس كأساس للمعرفة فيحاول أن يؤسس الحقيقة انطلاقا من العقل والبرهان. ليبين أن الحقيقة نتاج عقلي صرف: فبإعمال العقل تكتشف الذات أن هناك نوعين من الحقيقة، حقيقة لا تحتمل الشك وهي كل حقيقة بديهية تستمد برهانها من ذاتها، ثم حقيقة تستمد صدقها من برهان خارج عن طبيعتها. وبما أن البديهيات صادقة بذاتها، فإن كل برهان يتأسس عليها يؤدي حتما إلى الحقيقة.

لكن لا يجب أن ننسى أن محاولة تصحيح المعارف القبلية، دفعت بديكارت إلى الشك في كل شيء بما في ذلك الشك في وجود العالم. ليعاود ديكارت محاولة تأسيس معرفة يقينية حول العالم .. هكذا سوف يتوصل هذا الفيلسوف إلى أن حقيقة العالم تتمظهر في صفة الامتداد.

ومعنى ذلك أن ديكارت يستبعد أن تكون للعالم خاصية أخرى غير الامتداد (=الحيز المكاني الذي تشغله المادة). وتكفي مساءلة ديكارت عن طبيعة هذا التصور: هل هو حقيقة أم افتراض عقلي؟ لنكتشف بأن ديكارت يؤكد بأن الإنسان لا يبرهن من أجل تأسيس افتراض وإنما لبناء الحقيقة، وبما أن تصور العالم استنتاج عقلي يتأسس على البرهان فهو ليس بأي حال تصورا افتراضيا وإنما هو حقيقة. ومن ذلك نفهم أن ديكارت يريد منا أن نعتقد أن ما يتوصل إليه العقل حول العالم (=الواقع) ليس مجرد تمثلات عقلية منطقية مجردة وإنما كذلك حقيقة صادقة على الواقع وتصوره بأمانة.

انطلاقا مما سبق لاحظ بعض الإبستيمولوجيين أن التأثيرات الأفلاطونية في فلسفة ديكارت واضحة. ومهما كان الأمر، لا يمكن أن ننكر أن أفلاطون سبق ديكارت إلى الشك في قدرة الحواس على تمكين الإنسان من المعرفة. وتأثر أفلاطون ببعض الفلاسفة اليونان الذين رفضوا الاعتماد على الحواس كان واضحا كذلك.. وحتى لا نتيه عن الخيط الناظم لموضوعنا، نؤكد أن نظرية المثل الأفلاطونية تلخص التصور الإبستيمولوجي لهذا الفيلسوف: فأفلاطون يرى أن عالم المثل، هو عالم الحقيقة. والعقل هو الأداة الإبستيمية لبلوغ هذا العالم. ومن هذا المنطلق يستبعد هذا الفيلسوف الحواس لأنها بمثابة قيود تشد الإنسان إلى عالم المحسوسات (=عالم الزيف)، وتمنعه من الوصول إلى الحقيقة. ليتبين من ذلك أن التصور الأفلاطوني ينصب في إشكالية العلاقة بين الحقيقة والواقع. فالواقع هنا هو واقع انطولوجي معقول (=عالم المثل) يتمثل في عالم مفارق للعالم المادي الحسي. وإدراك ذلك العالم (=المعقول) هو تمثل للحقيقة، ومن ثم يمكن اعتبار الحقيقة فكرا يصور الواقع ويستنسخه. فأسطورة الكهف تبين كيف أن السجين الذي تمكن من الخروج من الكهف، رجع ثانية بحمولة فكرية عن طبيعة العالم الخارجي، ليقنع السجناء الباقين داخل الكهف بأنهم بعيدون عن الحقيقة. هنا يفرض السؤال التالي نفسه: هل يمكن اعتبار التصور الأفلاطوني التصور اليوناني الوحيد الذي يربط بين الفكر والواقع ؟

يجمع نقاد الفكر الفلسفي على أن العصر الذهبي للفلسفة اليونانية تعكسه فلسفتا أفلاطون وأرسطو. وقد كان القاسم الفكري الذي يجمع الفيلسوفين يتمثل بالخصوص في محاربة الفكر السفسطائي. إلا أن ذلك لم يمنع أرسطو من انتقاد فلسفة أستاذه (أفلاطون)، حيث ابتدأ بإنكار وجود عالم مفارق للعالم المادي الحسي. ومن ثمة رفض أرسطو أن توجد الحقيقة خارج هذا العالم، إلا أنه يرى أن أساس بلوغ الحقيقة هو العقل: فهذا العالم يتألف - في اعتقاد أرسطو- من أشياء لها صور وجواهر. وبلوغ الحقيقة يتحدد في تمثل "عالم الماهيات".

وعلى خلاف أفلاطون، يعتقد أرسطو أن بإمكان العقل أن يستعين بالحواس شرط أن نعرف أن الحقيقة تتمثل فيما يتم إدراكه بالعقل وليس بالحواس. فالمنطق يجسد المكانة التي يعطيها هذا الفيلسوف للعقل. وهنا يتأكد أن أرسطو يعتقد (أيضا) أن الحقيقة تتمثل في عالم أنطولولجي معقول (=عالم الجواهر والماهيات) إلا أنه عالم محايث للعالم الحسي (=عالم الصور). وبذلك يلتحق أرسطو بركب من يؤكد أن الحقيقة عبارة عن تمثلات فكرية تعكس الواقع، ولو أن هذا الواقع ليس قابلا للإدراك الحسي.

جدير بالذكر، أن نشير أن فلسفة القرون الوسطى تأثرت بفلسفتي أفلاطون وأرسطو بنسب متفاوتة، إلى أن ظهر ديكارت فحاول أن يؤسس للقطيعة الإبستيمولوجية بين الفلسفة اليونانية والحديثة. ولا يهمنا الآن أن نؤكد مدى نجاح ديكارت في ذلك، إلا أن الأكيد هو أن ظلال الفكر الأفلاطوني والفكر الأرسطي تمتد إلى الفكر الحديث ولو بصفة غير مباشرة... ومع ذلك يتحتم علينا أن نطرح السؤال التالي: ألا يمكن أن نجد فلسفات ترفض أن تتمثل الحقيقة في فكر يجسد الواقع ويستنسخه؟

يمكن اعتبار نظرة كانط إلى طبيعة الحقيقة من التمثلات الفلسفية التي حاولت أن تبين تعالي الحقيقة عن العقل. فهذا الفيلسوف يعتبر الحقيقة بناء تتظافر عليه كل من الحواس والعقل. إلا أن كانط يحدد الوظيفة الإبستيمية للعقل في تحويل الانطباعات الحسية التي تنقلها الحواس عن العالم الخارجي ثم ترجمتها إلى معرفة. وبما أن العالم (في اعتقاد كانط) ينقسم إلى ظواهر ونومينات، يظل "عالم النومينات" متعاليا عن المعرفة، ومن ثمة تبقى الحقيقة نسبية باعتبارها غير مطابقة كليا للواقع الموضوعي. أو بعبارة أخرى، يرى كانط "أننا لانعرف من الأشياء إلا كيفية إدراكنا لها".

إذا كانت الفلسفة الكانطية تؤكد نسبية الحقيقة لاعتبارات عدة يمكن حصر بعضها في أن هذا الفيلسوف أراد للفلسفة أن تبتعد عن التفكير الميتافزيقي ؛ فإن ذلك لا يعني أنه لا توجد في الفلسفة تصورات اختارت أن تخرج عن المنحى التقليدي للحقيقة باعتبارها فكرا يطابق الواقع. ذلك فعلا ما يجسده التصور الوجودي عند هيدغر. حيث أكد هذا الفيلسوف أن التطابق لا يكون إلا بين شيئين متماثلين في الطبيعة والشكل وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون هناك تطابق بين الفكر والأشياء. فللأشياء صفات هندسية ومادية لا يمكن إسقاطها أبدا عن الفكر، لأن هذا الأخير من طبيعة معنوية. ذلك ليعطي هيدغر للحقيقة بعدا وجوديا، يتمثل في اعتبارها علاقة تلاق بين الذات والموضوع. أي أن الحقيقة هي نوع من العلاقة التي تنفتح فيها الذات انفتاحا حرا عن الموضوعات الخارجية. إن الحقيقة، بحسب هذا الاعتقاد، علاقة تترك فيها الذات الموضوع يظهر أمامها بالشكل الذي يظهر به دون أن يفقد كليا خصائصه الأصلية، إلا أن الذات تمارس في إطار هذه العلاقة حريتها الفردية في تعاملها مع الموضوعات الخارجية. لهذا يؤكد هيدغر أن "الحقيقة هي الحرية". وإذا عرفنا أن التمثل الوجودي للحرية يتلخص في تمثل هذا المفهوم في إطار الممارسة الفردية للحرية نفهم جليا أن الحقيقة تتعالى على أن تكون مجرد فكر يكتفي باستنساخ معطيات واقع موضوعي.

إن تاريخ الفلسفة حافل بالسجال الفكري حول الحقيقة وطبيعتها، ومن الصعب الإحاطة بهذا السجال في ظرف وجيز. ومن ثمة لابد من الإشارة إلى وجود فلسفات أغنت بتمثلاتها إشكالية العلاقة بين الفكر والواقع، وهي وإن كانت ترفض أن تعتبر الحقيقة مجرد فكر يستنسخ الواقع ويصوره، إلا أنها تعطي شروحا خاصا لمعنى المطابقة، ذلك ما يمكن –مثلا- أن ندركه في الطرح البرغمائي عند وليام جيمس –مثلا- لما أكد هذا الفيلسوف أن المطابقة الفعلية بين الحقيقة والواقع، تتجلى في قدرة الحقيقة في تقديم تمثلات نلمس منفعتها العملية على أرض الواقع، وبالتالي في مدى قدرة الحقيقة في تطوير الواقع وتغييره. كما يرفض برغسون أن تكون الحقيقة مجرد فكر يكتفي باستنساخ ما كان أو ما هو موجود، لأن للحقيقة قيمة إبستيمية تتجلى في استباق وتوقع ما سوف يكون.

وفي حقيقة الأمر إن استقراء تاريخ الفلسفة يبين أنه يصعب أن نجد التفافا مطلقا حول تمثل مفهوم الحقيقة بمعنى واحد، وما دمنا بصدد التفكير في مدى ارتباط الحقيقة بالواقع يمكن أن نجد تمثلات قاربت المسألة بطريقة متميزة بحيث أنها لم تتصور الحقيقة في صورة فكر يطابق الواقع، وإنما تصور الحقيقة في صورة خطاب يميز فئة اجتماعية أو مجتمعا بأسره. ويكفينا الاكتفاء بمجرد الإشارة إلى موقفي ابن رشد وميشيل فوكو. فلما صنف ابن رشد الناس إلى خطابيين وجدليين وبرهانيين ؛ أراد (بذلك) أن يؤكد أن الناس قد يختلفون حول الحقيقة الواحدة فيصبح بالتالي لكل فئة خطابها الذي ترقى به إلى مستوى الحقيقة. ويتميز ميشيل فوكو بتأكيده على أن لكل مجتمع خطابه الذي يعتبره هو الحقيقة (فالمجتمعات المعاصرة - مثلا -تحدد الحقيقة في الخطاب العلمي). ومعنى ذلك أن كل مجتمع يحدد في ذات الوقت الهيئات والمؤسسات التي توكل إليها مهمة الإشراف على الحقيقة. فالحقيقة –إذن- من طبيعة مؤسساتية، لذا يعتقد ميشيل فوكو أن كل صراع تعرفه المجتمعات هو صراع حول الحقيقة وذلك بهدف الحد من هيمنة أشكال الخطابات غير المؤسساتية...

خـاتمة :

كاستنتاج عام يمكن القول بأن الاختلاف الفلسفي واضح للعيان، حيث يمكن بسهولة أن نبين مدى الاختلاف الموجود بين تيارات تربط الحقيقة بالواقع وتعتبر الحقيقة مجرد نقل أمين لمعطيات واقع موضوعي، وفي المقابل يمكن أن ندرك أن هناك فلسفات ترفض أن تحصر الحقيقة في فكر يكتفي بالنقل السلبي لمعطيات الواقع. إلا أن هذا الاختلاف لا يجب أن يرقى بنا إلى الشك المطلق في وجود الحقيقة، فقد أو ضح باشلار أن الحقيقة العلمية لا تتقدم إلا بتجاوز الخطأ.. ومن هذا المنطلق يتبين أن الحقيقة ليست مجرد نقل سلبي للواقع، وإنما الحقيقة بناء تتفاعل فيه الذات مع الواقع، وقد يكون هذا أحد أسباب تغاير الحقيقة واتصافها بالنسبية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق