احدث المواضيع

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

تطبيق كتابي على السؤال الحر في مفهوم الغير

نص الموضوع

أكتب إنشاء فلسفيا على ضوء السؤال التالي :
هل يمكن تحديد العلاقة مع الغير في الصداقة؟

مقـدمة

لقد اختلف الفلاسفة حول الوجود الاجتماعي للإنسان. فمنهم من اعتبر الإنسان "حيوانا مدنيا واجتماعيا" بالطبع، ومنهم من اعتبر ذلك ظاهرة مكتسبة... إلا أن الحقيقة الثابتة هي أن الإنسان وجد نفسه دائما محاطا بغيره من الأغيار. والفرق بين الفيلسوف والإنسان العادي، أن هذا الأخير تغلب عليه العادة، فيعتبر أن كل ما هو عادي هو طبيعي. أما الفيلسوف فإنه إنسان دائب التساؤل والبحث، لأنه يرفض الاعتقاد بحقيقة ثابتة وجاهزة. لذا نعتقد، أن الفلسفة فكرت بالضرورة في أشكال العلاقات التي يمكن أن تربط بين الأنا والغير، بين الإنسان والإنسان. والسؤال المطروح علينا يدفعنا إلى أن نفكر في إحدى العلاقات التقليدية التي كثيرا ما نسمع أنها تجمع بين الناس ونقصد بها علاقة الصداقة. فكيف يمكن تحديد الصداقة كعلاقة يمكن أن تجمع بين الأنا والغير؟ وإلى أي مدى يمكن أن نحصر العلاقات بالغير في الصداقة فقط ؟

عـرض

صحيح أن النزعة القومية كانت تغلب على اليونان، في نظرتهم إلى المجتمعات الأخرى. حيث كان اليونان لا يستعبدون بعضهم البعض، ويفضلون أن يكون عبيدهم من المجتمعات المباينة لهم. ويعتبر هذا من بين الأسباب التي تفسر النظرة الأنطولوجية التي طغت على الفلسفة اليونانية في معالجتها لإشكالية الغير... لكن هذا لم يمنع، أن تكون لفلاسفة اليونان نظريات قيمية أخلاقية. ومن ثمة، يمكن اعتبار الفكر اليوناني من أقدم الفلسفات التي عالجت إشكالية الصداقة. فكان أفلاطون – مثلا – يعتبر الصداقة من العلاقات الحميمة، التي يمكن أن تربط بين الأنا والغير باعتبارها شكلا من أشكال المحبة والمودة. إلا أن هذا الفيلسوف، يعتقد أن هذه العلاقة، لا يمكن أن تجمع بين الفرد وشبيهه، أو بين الفرد وضده. فالطيب لا يصادق الطيب، ولا الخبيث يستطيع أن يصادق الطيب. وهذا يدفعنا إلى أن نحاول الكشف عن المنطق الذي من خلاله فكر أفلاطون. يعتقد هذا الفيلسوف أن الصداقة هي علاقة تروم من خلالها الذات كمالها. ومن ثم، فإن الطيب لا يصادق الطيب، لأن كلاهما يبلغ، من الكمال، ما يجعله يكون في غنى عن الآخر. بل يعتقد، أفلاطون، أن علاقة الشبيهين يمكن أن تنقلب بسهولة إلى عداوة نظرا للتنافس الذي يمكن أن ينشأ بينهما. ولكن، ماذا بالنسبة لعلاقة الخبيث والطيب ؟ ألا يحتاج الخبيث لصداقة الطيب ؟ ! يرى أفلاطون أن الخبيث، يوجد في نقص مطلق، لا يستطيع معه، أن يطمح إلى ما هو أفضل، لذا لا يستطيع أن يستفيد شيئا من مخالطة الطيب. هكذا نفهم – إذن - أن هذا الفيلسوف يحدد الصداقة في الحاجة إلى الغير، لكن شرط أن تكون الأنا في نقص نسبي تستطيع من خلاله أن تطمح إلى بلوغ كمالها. ومن ثمة، فإن من يروم صداقة الطيب، لا يجب أن يكون خبيثا مطلقا، ولا طيبا مطلقا.

أما أرسطو فذهب في مجرى مخالف لمجرى أستاذه. فكان أكثر واقعية، لما اعتبر الصداقة من العلاقات الفضلى، التي لا يستطيع أن يستغني عنها أي إنسان مهما كان مركزه الاجتماعي. فالصداقة رباط يحتاج إليه الغني والفقير الحاكم والمحكوم. لأن المرء إذا كان محاطا بأصدقاء أوفياء، استطاع أن يتفرغ للتفكير والعمل. ومن ثم، يعتبر أرسطو أن الصداقة نبل وشرف، وبالتالي فضيلة لا يستطيع أن يبلغها إلا من كان يتحلى بصفات الغيرية. هكذا يعتقد، هذا الفيلسوف، أن علاقة الصداقة حظيت باستمرار باهتمام المشرعين : لأنه لو كان رباط الصداقة يجمع بين الناس، لما احتاجوا إلى قوانين أو تشريعات. إلا أن الصداقة – في اعتقاد أرسطو - لا تقوم على المنفعة أو المتعة، لأنها ستزول بزوالهما. فالمتعة والمنفعة هي من العلاقات التي تربط بين الإنسان والأشياء لا بين الإنسان والإنسان. هكذا نفهم أن أرسطو يقصد بالصداقة : صداقة الفضيلة باعتبارها غاية في ذاتها ولذاتها.

إن الفكر اليوناني، في معالجته لإشكالية الصداقة، يبدو مثاليا بعض الشيء. إلا أن هذا النوع من الخطاب قد نسمعه – اليوم – عند كثيرين، سواء اطلعوا على أفكار أفلاطون وأرسطو أو لم يطلعوا عليها. على كل حال، لا يمكن للمرء أن يحاول مقاربة مفهوم الصداقة، دون أن يسقط في مقاربة هذه العلاقة في إطار ما ينبغي أن يكون. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل التالي : هل يمكن أن نمركز العلاقات بالغير في الصداقة فقط؟ سنكون دوغمائيين لو تجاهلنا التاريخ، لأنه يشهد على أن العلاقات بين الناس، لا تتأسس بالضرورة على الصداقة. لأنها تتأسس، أيضا، على علاقات السلب والإقصاء والإبعاد، وبالتالي أشكال الغرابة...

فهيغل – مثلا – يرجع الصراع القائم بين الأنا والغير، إلى أن الإنسان يعمل على إسقاط ذاته على محيطه باعتباره موجودا لذاته. ومن ثمة، تكون العلاقة، بين الأنا والغير، تتحدد في إطار "جدلية السيد والعبد". حيث أن الأنا والغير يدخلان في صراع حتى الموت، محاولة من كليهما انتزاع اعتراف الطرف الآخر. وتكون نتيجة هذا الصراع أن ينتصر أحدهما على الآخر، فيبقيه حيا حتى يرى فيه امتدادا لذاته. ويفضل الطرف الثاني الهزيمة والخضوع بدل الموت. هكذا يتحول أحدهما إلى سيد والآخر إلى عبد (ثم ستستمر بشكل من الأشكال من خلال الشغل)..

إذا كان التمثل الهيغلي يعالج هذه المسألة في إطار فلسفي شمولي ومطلق ؛ فإننا نجد دراسات، تعتبر نفسها ذات خلفيات علمية، تكرس جميع ضروب الغرابة والسلب. ذلك أن بعض الدراسات الاستشراقية – مثلا - كانت تؤسس النظرة إلى الثقافة الإنسانية على مرجعيات إتنية (عرقية). من قبيل ذلك، أن إرنست رينان – مثلا - يميز (على مستوى الإبداع) بين الجنسين الآري والسامي. فيرى، أن الفلسفة العربية الإسلامية لم تكن إلا ترجمة وتقليدا للفكر اليوناني، على اعتبار أن العقلية السامية عقلية متحجرة. وغير بعيد عن هذا نجد كثيرا من الدراسات الأنثروبوميترية Anthropométrie تكرس مثل هذه التمايزات بين الأجناس والسلالات. وفي نفس التوجه، نجد الدراسات الإتنولوجية ethnologie للفي برول ) Lévy-Bruhl )، تكرس الفروق بين الأقوام البدائية والمتحضرة. حيث يعتقد هذا المفكر أن "العقلية البدائية" عقلية ما قبل منطقية mentalité pré-logique ، وبالتالي عقلية لا تستطيع أن تفكر خارج الخرافة والأسطورة. أما "العقلية الغربية" فهي عقلية منطقية mentalité rationnelle وبالتالي عقلية علمية. فهل نستطيع أن نشك بعد هذا في وجود أطروحات تعمل على تكريس الاختلاف والتباين، وجميع أشكال العنصرية والغرابة ؟ !!

إن هذا الشعور السلبي تجاه الغير، هو ما يفسر قيام أطروحات معاصرة مناوئة لتضخيم التمايز، وتدعو إلى احترام الاختلاف. وذلك ما يمكن أن نلمسه عند جوليا كريستيفا – مثلا – لما رفضت التحديد السطحي للغريب في النموذج الحقوقي. وبتعبير أبسط، لما رفضت التحديد السطحي للغريب، في الشخص الذي نرفض له حق المواطنة، ونتخذه مشجبا نعلق عليه كل شرور المجتمع. فاعتبرت أن الغريب هو شعور ينتاب الجميع، باعتباره ذلك الشعور الذي "يسكننا جميعا على نحو غريب"، ويدفع بنا نحو التمرد على قيم المجتمع. إلا أن موقف ليفي ستروس كان أكثر وضوحا، لما رفض أسطورة التفوق القومي. فرفض هذا المفكر- بطريقة لا تدع مجالا للشك - تميز إتنيات (أجناس عرقية) على غيرها بخصوصيات ثقافية راقية. فالتراكم الثقافي - في نظر ليفي ستروس – بناء حضاري إنساني، ونتيجة للمثاقفة acculturation وليس نتيجة لثقافة معزولة. وهذا ما يدفعنا إلى طرح السؤال التالي : ما الدافع إلى تكريس أشكال الغرابة ؟

يعتقد كل من غيوم Guillaume وبودريار Boudrillard ، أن ذلك يرجع إلى الغيرية المفقودة التي نلمسها في ضروب الاستعمار والاستيعاب الثقافيين، ومن محاولات طمس التمايز الثقافي، وبالتالي التأكيد على قطبية polarisation الثقافة التي تعتمدها بعض المجتمعات، انطلاقا من اعتبار ثقافتها، النموذج الوحيد للثقافة البشرية. لذا يدعو المفكران إلى ضرورة إحياء الشعور بالغيرية الجذرية altérité radicale أي ذلك الشعور بالنقص، الذي يدفعنا إلى الاعتراف بهوية الآخر وتميزه الثقافي، وهو شعور ينفع الأنا ذاتها في إدراك خصوصياتها ومميزاتها.

خـاتمة

كاستناج عام لهذا الموضوع يتضح أن العلاقة بالغير لم يحددها كل المفكرين في إطار الصداقة فقط، بل تنوعت الأطروحات بين من يعتبر الصداقة قيمة أخلاقية نبيلة، وبين أطروحات تعمد على تأكيد الإقصاء والنبذ والاختلاف. لذا لا بد من أن نعرف أن هذا النوع من الأطروحات موجود .. إلا أن ذلك لا يمنع من التفاؤل وبالتالي التأكيد على أن هناك أطروحات تحارب هذا النوع من الفكر انطلاقا من أرضية علمية صلبة. ونحن لا نستطيع أن نكون – بدورنا – إلا ضد جميع أشكال الغرابة، والإقصاء والإبعاد، وجميع أشكال النبذ، مستمدين تصورنا من القيم الإنسانية السمحة، ومن روح الفلسفة التي تقصي جميع أشكال العنف باعتبارها دعوة إلى التسامح، والإيمان بالاختلاف..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق