|
المقدمة
تتمركز المواضيع التقليدية للفلسفة، في مواضيع ثلاثة : الوجود، المعرفة، القيم. وحينما نفكر في هذه المواضيع، نجد الإنسان يشكل فيها قطب الرحى. ومن ثمة، يمكن أن نعتبر الإنسان موضوع الفلسفة بامتياز. وهذا ما جعل فيورباخ، يؤكد أن كل فلسفة تؤسس خارج الإنسان، وبمعزل عنه لا يمكن اعتبارها فلسفة. والقولة التي نحن بصدد مقاربتها، تطرح أمامنا إحدى القضايا المصيرية المرتبطة بمسألة الوجود الإنساني. وتجعلنا، بذلك، مضطرين إلى التفكير فينظرة المحلل النفسي إلى الحياة السيكولوجية، وبالتالي تطويقها فكريا فهما ومناقشة ونقدا. فما هي الأطروحة التي تحملها القولة بين ثناياها ؟ وما هي أبعادها الفكرية ؟ وما قيمتها الفلسفية ؟
العرض
حتى نسهل على أنفسنا مأمورية الاقتراب من التصور الفكري الذي تطويه القولة داخلها، يتحتم علينا أن نتوقف أولا عند مفهومين أساسيين (في القولة) هما مفهوم المحلل النفسي ومفهوم الجبرية. فمن هو المحلل النفسي ؟ إنه ذلك العالم الذي يعتقد بأن الحياة النفسية للإنسان تتمركز حول اللاشعور. وهذا الأخير منطقة تتضخم بفعل الصراع بين المكونات الأساسية للشخصية ونقصد : الهو والأنا والأنا الأعلى. فالأنا يضطر - تحت تأثير متطلبات الواقع، وخوفا من غضب الأنا الأعلى - إلى أن يكبت كثيرا من رغبات الهو في هذه المنطقة. فاللاشعور – إذن - عبارة عن منطقة مظلمة، وضبابية، لا يشعر الإنسان بوجودها داخله. ويعتقد المحلل النفسي، أنه لا يمكن الوصول إلى مكنون هذه المنطقة إلا بمنهج علمي دقيق، يصطلح على تسميته بمنهج التحليل النفسي. وهذا المنهج عبارة عن طرق متنوعة أشهرها التنويم الميغناطيسي. بعد أن اقتربنا من مفهوم المحلل النفسي يتاح لنا الآن أن نتمثل مفهوم الجبرية. فهذا المفهوم يحمل دلالات متنوعة بعضها يرتبط بقضايا ميتافزيقية كمسألة القدر في الفكر الإسلامي. وحتى لا نتيه وراء الدلالت الفلسفية المتعددة، سنلجأ إلى تحديد إجرائي للمفهوم، يساعدنا على الارتباط المباشر بالقولة التي نحن بصدد مقاربتها. فالجبرية إذن مفهوم يحمل معان مناقضة للاختيار والإرادة والمسؤولية. فأن نقول - مثلا - بأن الإنسان مجبر فمعنى ذلك أننا نسلب عنه كل معاني الإرادة والمسؤولية والاختيار في إتيان أعماله، وبالتالي سلوكياته.
إن هذه المقاربة الأولية لمفهومي المحلل النفسي والجبرية، تدفعنا إلى التساؤل عن المقصود بتميز المحلل النفسي بإيمانه بجبرية الحياة السيكولوجية ؟ ! إذا انطلقنا من إيمان المحلل النفسي بوجود منطقة اللاشعور، سيجعلنا ذلك، ندرك بسهولة لماذا يصطلح على تسمية مدرسة التحليل النفسي بالمدرسة اللاشعورية. فهذه المدرسة تؤمن إيمانا قطعيا بأن سلوكاتنا السوية والمرضية من إملاء اللاشعور لهذا تعمد - بالدرجة الأولى - على سبر أغوار اللاشعور لفهم سلوكات الشخصية. وهذا ما يجعلنا نؤكد بشكل قطعي أن هذه القولة تدور في فلك التمثلات الفرويدية لمفهوم اللاشعور، ذلك لأن فرويد يقول صراحة:"..ضرورة فرضية اللاشعور آتية من كون معطيات الشعور ناقصة نقصا شديدا. فغالبا ما تحدث لدى الإنسان السليم والمريض على حد سواء أفعال نفسية يفترض تفسيرها أفعالا أخرى لا يشهد لها الوعي بالوجود." ومعنى ذلك أن مدرسة التحليل النفسي تشبه العلاقة بين الشعور واللاشعور بجبل الجيد iceberg . وهذا التشبيه، يؤكد أن هذه المدرسة تعتقد بأن السلوكات التي يمكن للإنسان أن يجد لها مبررات عقلية في وعيه، أو يعتبرها نتيجة لإرادته، تجد لها التفسير الحقيقي في اللاشعور. فمكبوتات اللاشعور في نظر هذه المدرسة ليست ميتة، ولكنها يقظة، تعبر عن نفسها بطريقة رمزية وملتوية في أعمالنا وسلوكاتنا. وخير نموذج على ذلك نظرة هذه المدرسة إلى الإنجازات البشرية السامية (كالفن والرياضة ..إلخ) حيث تعتبرها مجرد تصعيد للمكبوت الجنسي. هكذا يمكن أن ندرك، وبسهولة، أن هذه المدرسة تؤكد على حتمية الوجود البشري باعتباره أداة يسخرها اللاشعور لتحقيق أهدافه.
إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا النطاق هو : هل يمكن أن نعتبر هذا من مميزات هذه المدرسة ؟ إذا انتهينا إلى التأكيد القطعي إلى تخصيص التحليل النفسي بحتمية الوجود الإنساني سنكون متجاهلين لكثير من الحقائق الفكرية : فلما أرادت العلوم الإنسانية أن تدرس الإنسان دراسة موضوعية، تنوعت إلى مدراس اعتقدت ضرورة اقتباس المنهج التجريبي، وأخرى (من بينها مدرسة التحليل النفسي) ارتأت أن للإنسان خصوصيات تميزه عن الظاهرة الطبيعية، لذا وجب البحث عن مناهج أخرى ملائمة للطبيعة الإنسانية. إلا أن جميع تلك المدارس (باستثناء المدرسة الشعورية) اتفقت حول حتمية الوجود الإنساني. ففي الخطاب السيكولوجي السلوكي نجد تأكيدا قطعيا على هذه الحقيقة، حيث يقول واطسون (مؤسس هذه المدرسة) بصريح العبارة : " أعطوني عشرة من أطفال أصحاء أسوياء التكوين ، فسأختار أحدهم جزافا ، ثم أدربه ، فأصنع منه ما أريد : طبيبا ، أو فنانا ، أو عالما ، أو تاجرا ، أو لصا أو متسولا ، وذلك بغض النظر عن ميوله ومواهبه ، أو سلالة أسلافه ". ونفس التصور يتبناه الخطاب السوسيوثقافي، الذي يعتبر الإنسان منتوجا حتميا لمحيطه الاجتماعي باعتبار التنشئة الإجتماعية المحدد الأساسي لمكونات الشخصية. ويكفي أن نشير – كنموذج في هذا الإطار - إلى أطروحة لوسيان مالصون، التي تؤكد على أن العزل المبكر للطفل البشري عن أي محيط سوسيوثقافي، سيخلق منه كائنا متوحشا لا يمكن أن ندعي انتسابه إلى أي مجتمع بشري، نظرا لغياب غريزة خاصة بالنوع يمكن أن تجعل من الإنسان إنسانا. وبتعبير آخر : إن إنسانية الإنسان تتوقف على وجوده داخل مجتمع معين يكسبه ثقافة مميزة.
إن هذا ما يؤكد، أن ما ورد في القولة، ليس تصورا ينفرد به المحلل النفسي بل هو تصور يطغى على العلوم الإنسانية. مما جعل بعض الإيبيستيمولوجيين يعتقدون، أن هذا التقارب في النظرة، هو الذي أدى إلى تفاعل متبادل بين الخطابين السيكولوجي والسوسيوثقافي، وأدى بالتالي إلى ظهور مفاهيم تؤكد تقاربهما في النظرة إلى حتمية الكائن البشري كالمفاهيم التالية : العقل /أو الضمير/ الجمعي (دوركايم) اللاشعور الجماعي (يونج)، اللاشعور البنيوي (ليفي ستروس) ...الخ.
بل، ويمكن تعميم هذه النظرة على بعض الطروحات الفلسفية، ذات الارتباط المباشر بنشأة العلوم الإنسانية. فهذا ماركس، يؤكد على أن الوجود الإجتماعي للإنسان، يحتم عليه أن يدخل مع غيره من الناس في علاقات إنتاج مستقلة عن إرادته. وهذا ميشيل فوكو (البنيوي) يؤكد، بشكل لا يدع مجالا للشك، أنه لا يسع المرء، الآن، إلا أن يواجه ب " ضحك فلسفي كل من لا يزال يريد أن يتكلم عن الإنسان، وعن ملكوته أو تحرره".
إن مقاربة القولة، بهذه الطريقة، قد تدفع إلى الظن بأن الإجماع منعقد حول ما ذهبت إليه القولة، على الرغم من إدراكنا لعدم تميز التحليل بحتمية الوجود الإنساني.
سنكون مخطئين إذا اعتقدنا ذلك. فالخطاب الفلسفي، لا يربط الإنسان بعوامل موضوعية كانت السبب في تشكله، ولا يعترف بأن للإنسان وجودا موضوعيا قابلا للملاحظة الموضوعية. فنعرف جليا، كيف أن ديكارت – الأب الروحي للفلسفة الحديثة – نظر إلى الإنسان من خلال الثنائية جسد/فكر. وأكد أن الخصائص الجسمية لا يمكن اعتبارها مطلقا خصوصيات تميز الإنسان، ليبين أثناء عملية الكوجيتو بأن الخاصية الأساسية المميزة له هي التفكير. لقد أبان ديكارت العلاقة التلازمية المطلقة بين وجود الإنسان وخصوصية التفكير لما قال : " إذا انقطعت عن التفكير انقطعت عن الوجود". هكذا ندرك بأن الشخصية، في اعتقاد ديكارت، وجود مجرد يرتبط بالوعي بالمعنى المطلق لهذا المفهوم.
ومع ذلك يمكن اعتبار ديكارت من القائلين بثبات الوجود الإنسان وإن كان هذا الثبات سابق على الوجود البشري. ومعنى ذلك أن ديكارت فسح المجال لإمكانية التنبؤ بكينونة الإنسان مادام قد حددها في خاصية التفكير ومن ثم نستطيع أن نتعرف – انطلاقا من هذا المبدأ – على أي فرد حتى قبل وجوده. وهذا أمر رفضه سارتر بشدة لما أكد على أن وجود الإنسان أسبق من ماهية حيث أن الفرد يوجد أولا، ثم يحدد ما سيكون بعد ذلك. وبهذا لا يتناقض سارتر مع ديكارت وحسب، بل ويتناقض مع جاء في القولة. لأن سارتر يؤكد بأن إنسانية الإنسان مشروع، يقوم الفرد ببنائه بكامل الوعي، والحرية، والمسؤولية. فالإنسان، أثناء بنائه، يمر من مرحلة اختيار قلق نظرا لما ينفتح أمام وجوده من إمكانات يستطيع، من خلالها، الفرد أن يحقق في إطارها وجوده لذاته. والفرد، أثناء بنائه ذاته، لا يبني نفسه وحسب، ولكنه يبني الإنسانية جمعاء. ومن خلال ممارسة الفرد لحريته، في بناء فرديته، يقدم، في ذات الوقت، الصورة الفردية المطلقة التي يجب أن يكون عليها الموجود البشري باعتباره وجودا في ذاته.
ونستطيع أن نموقع موقف برغسون في نفس السياق. باعتبار هذا الفيلسوف يرفض حتمية الإنسان، وتظهر، بالتالي، معارضته لنظرة المحلل النفسي للإنسان. وذلك من خلاله تأكيده على أن لحظات الحياة البشرية، هي عبارة عن لحظات أصيلة متميزة ومتجددة. فكل لحظة، من لحظات الحياة البشرية، غير قابلة للتكرار ولا يستنسخ بعضها بعضا. وبالتالي تصبح حياة الفرد غير قابلة للتنبؤ. فهي أشبه بلوحة فنية لا يستطيع الفنان نفسه أن يتنبأ بما ستكون عليه حتى ينتهي منها.
الخاتمة
انطلاقا مما تقدم، يتبين أن تأكيد القولة على حتمية الحياة النفسية، هو تأكيد غير فردي وغير معزول. فهو موقف كثير من الطروحات الفكرية المنتسبة إلى العلوم الإنسانية والقريبة منها. إلا أنه، في مقابل ذلك، نجد طروحات تؤكد على أهمية المبادرة الفردية في بناء الشخصية وهي، في معظمها، طروحات فلسفية. فهل هذا معناه أن لا مفر من مؤازرة الموقف العلمي ؟! لا يجب في هذه القضية أن ننسى أمرين : أحدهما يتجلى في موقف المدرسة السيكولوجية الشعورية الرافض لحتمية الوجود البشري ؛ والثاني يتجلى في أن العلوم الإنسانية من طبيعتها أنها علوم احتمالية، و لا أدل على ذلك أكثر من تعدد الخطاب والصراع بين المدارس. إلا أن هذا لا يعطينا الحق في التشكيك المطلق في علميتها. لكن، لابد من التأكيد، على أنه من الصعب، أن يكون الإنسان، في آن واحد، الذات العارفة وموضوع المعرفة، الأمر الذي تفرضه عليه العلوم الإنسانية. ومع ذلك، نؤكد أن العلوم الإنسانية، ساعدت الإنسان على أن يعرف ذاته، تلك المعرفة التي استطاع الفرد أن يستغلها ليتمرد ضد كل تحنيط وتنميط للوجود البشري في أنموذج واحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق