نص الموضوع : ... نفهم بكل سهولة أنه في حالة الطبيعة، ليس هناك شيء ما، هو خير أو شر بالإجماع، بما أن كل إنسان في هذه الحالة يفكر في مصلحته وحدها، ويقرر حسب مزاجه الخاص وحسب اعتباره لمصلحته الخاصة، ما هو خير أو ما هو شر، وبما أنه ليس مرغما بأي قانون على طاعة أي إنسان آخر سوى نفسه. سبينوزا Spinoza حلل هذا النص وناقشه من إعداد د. نجيب بلدي/ المرجع : كتاب الفلسفة الحديثة نصوص مختارة ص ص 244 - 245 محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي- دار الأمان الرباط- الطبعة الأولى 1991 |
المقدمة
من الخصوصيات التي تميز الفكر الفلسفي أنه فكر ماهوي لا يكتفي بإثارة القضايا من خارجها بل يحاول الغوص داخلها. ونضيف إلى ذلك أن الفكر الفلسفي فكر تساؤلي ونقدي لأنه إعادة نظر متواصلة في الأفكار القبلية والجاهزة. ومن القضايا التي فكر فيها الفلاسفة قضية الحق باعتبارها إشكالية فلسفية قابلة أن تثار في كل وقت وحين. والنص الذي نحن بصدد مقاربته يعبر عن موقف سبينوزا من إشكالية الحق وعلاقته بطبيعة الفرد وحالة المجتمع. فكيف عالج سبينوزا هذه الإشكالية؟ وما هي القيمة الفلسفية لهذا النص ؟
العـرض
إن القراءة المتمعنة في النص، تبرز بوضوح التقابل الذي أقامه سبينوزا بين حالة الطبيعة وحالة المجتمع، فأكد بشكل قاطع انتفاء القيم في حالة الطبيعة. ومن ثمة، لا يعرف الإنسان في حالة الطبيعة معنى الواجبات والحقوق ولا معنى الخير والشر، ولا معاني الملكية الفردية. فالقيم الأخلاقية، وبالتالي قيم الخضوع والطاعة والواجب لم تظهر – حسب هذا الفيلسوف - إلا بظهور المجتمع.
بعد أن تعرفنا عن الأطروحة التي يعرضها سبينوزا في هذا النص، يتاح لنا الآن أن نتمثل الطريقة الفكرية التي بنى بها الفيلسوف تصوره ذلك من خلال مرافقته فكريا عبر فقرات النص.
لقد أبان سبينوزا، في بداية النص، وبشكل لا لبس فيه، أن حالة الطبيعة تتميز بانعدام القوانين التي يمكن أن تفرض على الفرد الخضوع لغيره. فحالة الطبيعة، تتميز بغياب توافق اجتماعي حول معاني القيم، وبالتالي لا ينصاع الفرد إلا إلى أهوائه الذاتية. ليستنتج الفيلسوف من خلال ذلك، أن حالة المجتمع هي التي تتميز بالإقرار الجماعي على ضرورة طاعة قانون الدولة، ومن ثمة يقع استحسان السلوكات التي تذعن لمتطلبات المجتمع، وتعتبر السلوكات المخالفة للقانون عصيانا تتم المعاقبة عليه، ولا يتمتع الفرد بخيرات الدولة إلا بقدر امتثاله للقوانين. ليعود سبينوزا بعد ذلك فيلح على أن حالة الطبيعة حالة تنعدم فيها قوانين تضبط ممتلكات الأفراد، وبالتالي حالة ينتفي فيها معنى الحق والواجب. ومن ثم، لا يمكن التقييم الأخلاقي لسلوك الأفراد في إطار قيمتي الخير والشر أو قيمتي العدل والجور، نظرا لغياب مرجعيات حقوقية وأخلاقية، وبالتالي يعتبر كل فرد هو سيد نفسه لا يعمل إلا وفق نزوات فردية. لينتهي النص باستنتاج الفيلسوف أن المرجعيات الأخلاقية لا تقوم على أساس طبيعي (يرتبط بطبيعة النفس البشرية) لأن القيم الأخلاقية مستمدة من خارج الذات وليس من داخلها.
يتضح إذن من خلال ما سبق أن سبينوزا حاول أن يربط ظهور القوانين، وبالتالي مفهوم الحق، من خلال المقارنة بين حالتي الطبيعة والمجتمع. فيؤكد أن مفهوم الحق le Droit مفهوم يرتبط بالمجتمع. ومن أجل أن ندرك ما إذا كان الحق واجبا مطلقا، يستدعي منا ذلك، أن نتمثل تصورالفيلسوف بصورة أفضل، سنعمل على الانفتاح عن الأبعاد الفكرية التي يلمح إليها مضمون النص.
يعتقد سبينوزا أن الحق الطبيعي، الذي يوجد عليه الإنسان في حالة الطبيعة، يعطيه حقا مطلقا في أن يتصرف وفق ما تشتهيه طبيعته. ومن ثم يكون أشبه بالحيوان، فحين يأكل السمك الكبير الصغير - مثلا - لا نستطيع الحديث عن الاعتداء والظلم والجور نظرا لانتفاء هذه القيم عنده. إلا أن فوق الحق الطبيعي يوجد حق أسمى وهو حق الطبيعة. وحق الطبيعة هو القانون الأسمى الذي بموجبه تفرض الطبيعة سيطرتها على جميع مكوناتها والسمة الأساسية للطبيعة هي النظام، وبالتالي التصرف وفق قوانين حتمية مضبوطة. فما الذي يجب القيام به حتى تتأسس العلاقات بين الأفراد في إطار منظم ومضبوط ؟ يعتقد سبينوزا أن الناس يتنوعون إلى من فطر على العمل وفق منطق العقل ومن فطر على العمل وفق منطق الشهوة. وبما أن تعميم الحق الطبيعي سيؤدي إلى تقاطع المصالح وتعارضها، وبما أن الشهواني يعتبر كل من يحول بينه وبين تحقيق غاياته عدوا له، وبما أن الشهواني لا يتصرف إلا وفق منطق "الغاية تبرر الوسيلة"، وبما أن هذا المنطق لا يضر بالذي يعمل وفق منطق العقل فقط، بل يضر كذلك بمن يعمل وفق الشهوة، لأن شهوته ستتعارض مع غيره من الشهوانين ؛ يرى سبينوزا أنه يتحتم تأسيس العلاقات بين الأفراد على منطق العقل. فتأسيس المجتمع على منطق العقل يفترض إقامة قوانين تحدد الحقوق والواجبات، ويصبح، بذلك، الحق الذي تؤسسه الدولة واجبا مطلقا، وليس في ذلك أي تعارض مع الحق الطبيعي مادام العقل مكون من مكونات الطبيعة الإنسانية الذي يتميز به أفراد دون سواهم.
بعد أن تمثلنا موقف سبينوزا من إشكالية الحق في صورتها الكلية، يتاح لنا الآن أن نعمل على تقييم هذا التصور من خلال البحث عن الأطروحات المعززة لرأيه، والمناقضة له، عملا بمبدأ ماله وما عليه حتى تتسم مقاربتنا بالموضوعية الضرورية، حتى لا يكون رأينا مجحفا في حق هذا الفيلسوف.
من الأطروحات القريبة، نسبيا، من تمثل سبينوزا، نجد نظرية توماس هوبس على اعتبار أن سبينوزا عمل أثناء تكوينه على القراءة المكثفة لكتاباته.
فقد أكد هوبز أن الطبيعة العدوانية والأنانية للأفراد تمنعهم من أن يعيشوا في وفاق، وأن كل ما يمكن أن ينجم عن تلك الطبيعة هي "حرب الكل ضد الكل". هكذا اعتقد أن منطق العقل غلب على الأفراد وجعلهم يتنازلون عن أنانياتهم الفردية ليعيشوا في إطار مجتمعي يكونون فيه تحت سيطرة حكم فرد واحد. وبهذا تكون القوانين المسطرة في هذا النوع من المجتمع واجبا مطلقا.
كما أن التصورين الكانطي والهيجلي لا يبتعدان كثيرا عن منطق سبينوزا وهوبز. فكانط يعتقد أن كرامة الإنسان لا تكمن في أن ينظر إلى نفسه كحيوان، بل أن يحاول أن يتمثل في ذاته في إطار طبيعته الأخلاقية. ومن ثمة، سيجد نفسه مضطرا إلى تأسيس العلاقات مع غيره في إطار من الواجب الأخلاقي الذي يضمن له ولغيره الكرامة الأخلاقية اللازمة. أما هيغل فيعتقد أن الطبيعة العدوانية للأفراد تمنعهم من تأسيس الحق دون أن يكون انتقاما. ومن ثم، كان لابد من تنظيم العلاقات بين الأفراد على أساس حق كوني وشمولي. وذلك لا يتاح إلا بإيكال إحقاق الحق إلى سلطة محايدة، فتصبح بذلك تشريعاتها واجبا مطلقا .
يلاحظ، مما تقدم، أن الأطروحات المؤكدة على وجوب الحق تتأرجح بين أطروحات تنحو منحى ميتافيزيقيا (الأطروحة الهيجلية نموذجا)، وأطروحات تتجه نحو تجاوز الطبيعة الفردية من أجل تأسيس الحق في إطار اجتماعي دون الابتعاد عن المعنى الدلالي للحق الطبيعي كما هو الشأن بالنسبة لسبينوزا في نظرته إلى العقل كمكون من مكونات الإنسان، أو بالنسبة لهوبز الذي يدعو إلى إيكال الحق إلى فرد واحد يحكم الجميع وفق طبيعته الخاصة. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل التالي : ألا توجد أطروحات لا تؤكد إلزامية الحق ووجوبه المطلق ؟
لقد كانت فلسفة الأنوار، القطب الفكري الأساسي، الذي تمحورت حوله نظريات، يمكن اعتبارها مرجعا في مسألة حقوق الإنسان. ولا يستطيع أن يجادل أحد مكانة روسو كأحد أعمدة فكر الأنوار. وهذا الفيلسوف يتفق مع سبينوزا نسبيا في ضرورة تجاوز حالة الطبيعة نحو المجتمع، لأن روسو يعتقد أن الإنسان في حالة الطبيعة كان حيوانا غبيا خيرا بالطبع، لا يدرك أي شر في إيذائه لغير من الناس. ومن ثم يرى أن الانتقال إلى حالة المجتمع تشكل مكسبا. إلا أن روسو لا يؤكد مطلقا إلزامية الحق المؤسس في المجتمع، حيث أن الحق الذي يتأسس على القوة لا يمكن اعتباره حقا مطلقا أبدا. فالقوة والحق من طبيعتين متميزتين : القوة قدرة فزيائية والحق قيمة أخلاقية. ومن ثمة، فإن إقامة الحق على القوة لا يؤدي إلى توليد الشعور بالواجب، لأن الطاعة ستكون للأقوى. لذا يشترط روسو أن يتأسس الحق على تعاقد اجتماعي ينتج عنه مجتمع ديموقراطي يمثل إرادة الجميع. ومن ثمة نلمس عند روسو عدم كفاية الانتقال إلى عالم الثقافة (المجتمع) حتى يتأسس الحق، بل لابد للمجتمع أن يقوم على أسس ديموقراطية. وفي فلك هذه الأفكار، تحركت تمثلات بانجمان كونسطان باعتباره أحد القريبين من فكر الأنوار. فأكد هذا السياسي الفذ أن الامتثال للقانون واجب نسبي : أي يجب الامتثال للقانون متى كانت منه منافع، ويجب العمل على تجاوزه متى كانت أضراره تفوق منافعه.
لقد تنوعت أطروحات أكثر حداثة (وأقرب إلى عصرنا) في التأكيد على نسبية الخضوع للحق الذي تؤسسه المجتمعات. فهذا ليو ستروس يؤكد عدم وجود معيار أسمى لتقييم الحق الوضعي، نظرا لتنوع المجتمعات في تحديد المثل الأسمى الذي يتوجب أن يؤسس عليه الحق. ومن ثم يؤكد هذا المفكر أن وجود القوانين لا يعني بالضرورة وجود الحق، لأن بعض القوانين يمكن أن تكون مجحفة وظالمة. لهذا السبب تؤكد جاكلين روس أن الحق لا يكون إلا في إطار دولة الحق، ومن ثمة تربط هذه المفكرة الصورة الواقعية لدولة الحق والقانون بفصل السلط، واحترام الفرد باعتباره قيمة مؤسسة، وبالتالي جعل الدولة في خدمة الفرد وليس العكس. هكذا نفهم – من هذه المفكرة – عدم كفاية تأسيس المجتمع ليقوم الحق، لأنه لابد من تأسيس مجتمع يضمن الحريات العامة والفردية.
الخاتمة
كاستنتاج مما تقدم، يتبين، أن طرح سبينوزا الذي يميز بين حالة المجتمع وبين حالة الطبيعة، وأهمية حالة المجتمع في تأمين الحق ؛ تتأرجح حوله الأطروحات نحوالتأكيد الشبه المطلق، والتحفظ الذي نلمسه في الأطروحات التي تؤكد عدم كفاية الانتقال إلى حالة المجتمع وتشرط وجود مواصفات في نوعية المجتمع حتى يتم إحقاق الحق. ونحن، بدورنا، لا نستطيع إلا أن ننضم إلى من يؤكد ضرورة إقامة الحق في مجتمع يستطيع فيه الأفراد المطالبة بالحقوق دون التغاضي عن القيام بالواجبات، مجتمع يقوم على مبدأ فصل السلطات، مجتمع يحس فيه الأفراد بتكافئهم أمام الحق والقانون. وتجدر الإشارة مبدئيا إلى أنه لا يكفي أن تخرج القوانين من مؤسسات شرعية وتمثيلية، بل يجب الحرص كذلك على تحيينها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق