|
مقـدمة
تعتبر إشكالية الشخصية قضية فلسفية بامتياز، نظرا لتضارب التصورات حول تحديد الطبيعة الإنسانية. فمن الفلاسفة من حدد الطبيعة الإنسانية في العقل، ومنهم من حددها في النطق، ومن حددها في الضحك..إلخ. الأمر الذي يفسر تغاير النظرة الفلسفية إلى الإنسان. ولما ظهرت العلوم الإنسانية حاولت أن تأخذ الإنسان بعيدا عن التأملات الفلسفية، وذلك من خلال استعمال طرائق موضوعية. لكن ذلك لم يمنع هذه العلوم، من أن تتسم بدورها بالتنوع والاختلاف (في النظرة إلى طبيعة الإنسان). والنص الذي سنقوم بمقاربته يضعنا أمام إشكالية من الإشكاليات التي تعالج ضمن مفهوم الشخصية، ألا وهي إشكالية العلاقة بين الفطري والمكتسب، بين الطبيعي والثقافي، وبالتالي التفكير في الوظيفة التي يقوم بها كل منهما في تحديد طبيعة الشخصية ونظم بنائها. فما هو التصور الذي يتبناه النص ويدافع عنه ؟ وإلى حد يمكن تعميم ذلك التصور ؟ وبالتالي ما هي القيمة الفلسفية لهذا النص؟
عــرض
من خلال قراءة متأملة في مكونات النص، يتضح أن الأطروحة التي تتبناها مارغريت ميد M. Mead تتلخص في تهميش دور الطبيعي في تحديد السمات المميزة لشخصية كل من الذكر والأنثى، وبالتالي التأكيد على أن السمات المميزة لشخصية كل منهما تتوقف على نوعية الإشراطات التي يفرضها هذا المجتمع أو ذاك على الأفراد. وهذا ما يؤكد أن هذا التصور يلتقي كليا مع تمثلات الخطاب السوسيو ثقافي الذي يعتبر الشخصية نتاجا اجتماعيا، وحتمية سوسيوثقافية.
بعد أن توقفنا عند الأطروحة التي يتبناها النص ويدافع عنها، يتاح لنا، فيما يلي، محاولة تتبع الخطوات الفكرية التي سارت عليها مارغريت ميد، وذلك محاولة منا لاستكشاف الخط المنهجي الذي اتبعته، للدفاع عن تمثلها وبالتالي تأكيد التصور الذي تبنته.
ومن هذا المنطلق، يتبين أن هذه الباحثة ابتدأت أولا بالتأكيد على أن سمات الطبع الخاصة بالذكور والإناث لا تلعب فيها الوراثة إلا دورا شكليا، تماما كما هو الأمر بالنسبة للعادات والسلوكات، وطريقة اللباس، ونوعية الحلاقة الخاصة بهذا الجنس أو ذاك. لتنتقل، هذه الباحثة، فتؤكد هذا الطرح من خلال أنماط السلوكات التي نجدها عند الذكور والإناث في قبائل الأرابيش، قياسا بنفس الجنسين في قبائل المندوغومر. وبالتالي إظهار أن أنماط السلوك تلك، غير قابلة للتفسير بأسباب طبيعة أو إتنية (=عرقية)، لأنه لا يمكن أن نجد لها من تفسير سوى تدخل العامل الثقافي. الأمر الذي يؤكد – في نظر الباحثة - أن الطبيعة البشرية، تتسم بالمرونة، ويجعلها ذلك قابلة للتشكيل وفق النماذج الاجتماعية، التي يحددها كل مجتمع بالنسبة للأفراد الذين ينتمون إليه. لتستنج مارغريت ميد (من ذلك) أن المجتمع هو الذي يعمل على تحديد شخصية كل من الذكر والأنثى، ويعمل على تشكيلها وبنائها انطلاقا من نوعية التنشئة الاجتماعية، التي يوفرها لهذا الجنس أو ذاك. ومن ثمة، تجد الشخصية نفسها مضطرة إلى الخضوع إلى التأثيرات المجتمعية والاستجابة لرغبات المحيط السوسيوثقافي.
يبدو، من خلال التمعن، في النص أن الحجة الأساسية التي أقامت عليها مارغريت ميد تصورها تتجلى في المقارنة بين أفراد قبائل الأرابيش قياسا بأفراد المندوغومر. حيث أن القراءة الأولية للنص تظهر، بدء، أن هناك اختلافا بين أفراد القبيلتين: فأفراد الأرابيش مسالمين ومطاوعين(..)، في حين أن أفراد قبائل المندوغومر عدوانيين(..). إلا أن الذي تريدنا مارغريت ميد أن ننتبه إليه هو غياب الفروق بين الجنسين في كل من القبيلتين، حيث لا نجد فروقا بين شخصية كل من الذكر والأنثى في القبيلتين معا، وعلى هذا الأساس، تحاول ماغريت ميد، أن تكذب وجود طبيعة فطرية خاصة بالأنثى، وأخرى خاصة بالذكر.
بعد أن توقفنا عند التصور المعروض داخل النص، وقمنا بتتبع المنطق الذي على ضوئه حاولت المؤلفة أن تزكي ذلك التصور ؛ يتاح لنا – الآن - أن نحاول مناقشة موقفها، ونظهر، بالتالي، حدود مصداقيته من خلال العمل على مساجلته اعتمادا على أطروحات مزكية له، وأخرى مناقضة لزعمه.
وقبل ذلك، لابد أن نشير إلى أن من له اطلاع مسبق بالبحث الميداني لمارغريت ميد، يعرف أن المعاينة التي قامت بها هذه الباحثة شملت كذلك أفراد قبيلة ثالثة وهي قبيلة تشامبولي، حيث اكتشفت هذه الباحثة أن هذه القبيلة يلاحظ فيها تميز بين شخصيتي كل من الذكر والأنثى. إلا أن هذا التميز مختلف عما تعودنا عليه في مجتمعنا، لأنها وجدت أن شخصية الأنثى شخصية عدوانية ومتسلطة، في الوقت الذي كانت فيه شخصية الذكر شخصية مسالمة ومطواعة. ويمكن تحديد القبيلة الأخيرة هذه في إطار ما يعرف في تجارب العلوم الإنسانية بالمجموعة الضابطة. أي المجموعة التي تحسم في ضبط الفرضيات التي ينطلق منها العالم (أو الباحث)، وتضمن له صحة النتائج التي توصل إليها.
ومن الأكيد، أنه لن تصادفنا صعوبات كبرى، في إيجاد طروحات تعزز تصور مارغريت ميد ضمن الخطاب السوسيوثقافي. فيمكن أن يتأكد موقفها – مثلا - من خلال تصور دوركايم Durkheim لأن هذا العالم السوسيولوجي، أظهر بأن الفرد مرغم بأن ينشرط وفق رغبة المجتمع، لأن الظواهر الاجتماعية – في اعتقاده - بمثابة "أشياء"، لا يمكن للفرد أن يتجاهلها دون أن يتعرض لضغطها. لكن الدعم المباشر لموقف مارغريت ميد نلمسه، خصوصا، ضمن الأطروحات التي عالجت دور الطبيعي ومدى تأثيره في تشكيل شخصية الإنسان، ونقصد على وجه الخصوص أطروحتي مالصون وليفي ستروس. فتصور لوسيان مالصون L.Malson يعزز كليا موقف مارغريت ميد لأن هذا المفكر يؤكد من خلال أطروحته "الأطفال المتوحشون" أن عزل طفل ما عن أي محيط اجتماعي سيجعل منه "طفلا متوحشا"، غريب الأطوار. وذلك ما يؤكد غياب طبيعة بشرية، وبالتالي غريزة خاصة بالنوع الإنساني. وعليه، فإن شخصية الإنسان تتوقف حتما على وجوده داخل محيط ثقافي.
كما يأتي تصور ليفي ستروس ليؤكد – بدوره- موقف مارغريت ميد لما بين (من خلال نموذج ظاهرة القرابة) أن الثقافي هو الذي يوجه الطبيعي ويؤطره. ذلك أن إقامة علاقات القرابة بين أفراد المجتمع، لا تخضع لأساس طبيعي (الغريزة الجنسية مثلا)، وإنما تؤطرها قاعدة ثقافية تتجلى أساسا في تحريم الزواج من المحارم.
يمكن، إذن، أن نستنتج بأن جميع المواقف التي تندرج ضمن الطرح السوسيوثقافي لها تمثلات موافقة لتمثل مارغريت ميد، إلا أن حصر المواقف المؤيدة للتصور المعروض داخل نفس الخطاب، فيه كثير من الاختزال، لأن تأييد موقف الباحثة يمتد إلى الخطاب السيكولوجي نفسه، لأننا نستطيع، أن نؤكد، أن المدرسة السلوكية تتفق مع كل تصور يرى أن شخصية الفرد هي نتيجة حتمية لنوعية التكوين الخارجي التي يتلقاها الأفراد، وأن المدرسة السلوكية تهمل كليا العوامل الفطرية والوراثية. ونعتقد أن قولة واطسون (مؤسس السلوكية) في هذا الشأن تغنينا عن المزيد من التفاصيل حيث قال هذا المفكر صراحة: " أعطوني عشرة أطفال أصحاء أسوياء التكوين ، فسأختار أحدهم جزافا ، ثم أدربه ، فأصنع منه ما أريد، (...) وذلك بغض النظر عن ميوله ومواهبه، أو سلالة أسلافه."
و يندرج موقف المدرسة اللاشعورية، ضمن نفس النهج. حيث يتضح، جليا، أن التصورات الفرويدية تعزز – نسبيا - طرح مارغريت ميد: فرغم أن هذه المدرسة تؤمن أن مكونات الشخصية الإنسانية تتألف من جانب فطري (الهو)، وآخر مكتسب (الأنا والأنا الأعلى)، إلا أنها تعتقد أن الثقافي هو الذي يوجه الطبيعي. لأن تحكم مكونات الهو في سلوكات الشخصية يعادل المرض النفسي وانحراف الشخصية بينما يقاس السواء النفسي في نظر هذه المدرسة بقوة الأنا (التي تمثل الثقافي).
إن التفكير النقدي المتبصر في الأطروحات المؤكدة لتمثل مارغريت ميد يقودنا دون شك إلى أن القاسم المشترك، الذي يجمع العلوم الإنسانية، بل والفلسفات التي ساهمت إلى حد كبير في بلورة تصورات هذه العلوم (كالماركسية والبنيوية). وهذا ما يضطرنا إلى الاعتراف بأن العلوم الإنسانية، تتفق إلى حد كبير مع تصور ماغريت ميد في اعتبار الإنسان منتوجا يستجيب بشكل حتمي لتأثيرات المحيط الاجتماعي. وهذا يدفعنا في نفس الوقت إلى طرح التساؤل التالي : ألا يمكن أن نجد طروحات تحاول أن تدحض مثل هذا الزعم؟
إذا كانت مارغريت ميد (ومن يسير في نهجها) تعتبر الشخصية مجرد منتوج حتمي لتأثيرات المجتمع، فيتضح لا محالة أن المواقف المعارضة لتمثل النص تتجلى بالخصوص في كل موقف يؤكد الحرية الفردية. وذلك ما نستطيع أن نلمسه في مواقف تنتسب بالخصوص إلى الخطاب الفلسفي كالتصورين البرغسوني، والسارتري. حيث يؤكد برغسون، بطريقة لا تدع مجالا للشك، أن الشخصية البشرية عبارة عن بناء متجدد، وكل لحظة من لحظات حياتها عبارة عن لحظة أصيلة. ومما يؤكد اختلاف التموقف البرغسوني مع تصور مارغريت ميد، رفض برغسون لإمكانية التنبؤ بمصير الشخصية لما رفض أن تمثل الشخصية ببناء هندسي. وأكد - على العكس - أن مصير الشخصية أشبه ما يكون بمصير لوحة فنية، حيث يصعب على الفنان نفسه أن يعرف ما ستنتهي إليه اللوحة قبل أن يفرغ منها.
أما سارتر، فيعارض تمثل مارغريت ميد لما بين أن كينونة الإنسان مشروع لا ينتهي. فالفرد هو من يبني مشروعه بكامل الحرية والإرادة، وذلك في إطار من التوتر والقلق، يخرج منه الإنسان بناء على اختيار حر. لذا نجد سارتر، يرفض أن تكون للإنسان طبيعة ثابتة سابقة لوجوده. كما يرفض أن تكون الشخصية بناء يتم من خلال عوامل خارجية، لأن "الجحيم هو الآخرون" (سارتر). ومن ثمة، فإن معارضة سارتر لتصور النص، تتمثل في التأكيد على أن كينونة الفرد، تتجلى بالخصوص في تمرد الفرد عن الإكراهات الخارجية، وبالتالي العمل على الحفاظ على الكرامة من خلال تأكيد الحرية الفردية.
إنه لا يمكن اختزال المواقف المعارضة للموقف المعروض داخل النص في مواقف فلسفية فقط، لأنه يمكن أن تنضم المدرسة الشعورية إلى هذه المواقف (وقد لا نستغرب من ذلك، إذا عرفنا أن الفيلسوف برغسون يعتبر من ملهمي هذه المدرسة). ويتمثل الاختلاف الأساسي بين هذه المدرسة ومارغريت ميد في كونها تؤكد أن شخصية الفرد تتميز بفردانية أكيدة ومن ثم تبقى شخصية الفرد خارج الإدراك المباشر، وخارج التنبؤ، وأن الفرد وحده، هو من يعرف ما يحدث على مستوى شعوره الباطني. ومن ثمة يظل الفرد هو الوحيد القادر على أن يعبر عما بداخله.
خـاتـمة
يتبين من خلال ما تقدم أن موقف النص يندرج ضمن تصورات الخطاب السوسيوثقافي، التي تلتقي في اعتبار شخصية الفرد كنتيجة لتفاعله مع محيطه الاجتماعي، فلا غرو إذن من أن نجد أن جميع الأطروحات التي تزكي تصور صاحبة النص، تنتمي أساسا إلى الخطابات التي تؤمن بالشخصية كبناء حتمي. ومن ثمة ستكون الخطابات التي تختلف مع مضمون النص تتجلى في الخطابات التي تؤكد على العكس تفرد الشخصية ورجوعها إلى الإرادة الحرة للفرد. فأي التصورات يجب ترجيحها؟
يبدو، أنه من الصعب أن نقف ضد العلوم الإنسانية دون أن نشكك في علميتها وقدرتها على الدراسة الموضوعية للإنسان. لكن الملاحظ في ذات الوقت أن مدارس العلوم الإنسانية تختلف في مناهجها وتمثلها للإنسان، الأمر الذي يؤكد أن للظاهرة الإنسانية خصوصيات تميزها عن الظاهرة الطبيعية. ومن أسباب ذلك، أن الظاهرة الإنسانية ظاهرة واعية. لذا نؤكد – مع بول هودار – أن الشخصية ليست مجرد منتوج سلبي يستجيب للمؤثرات الخارجية وتتحكم فيه قوانين ثابتة، كما أن نتائج العلوم الإنسانية نفسها تجعل الفرد أكثر وعيا بذاته، الأمر الذي يجعل الشخصية قادرة على التمرد والسمو نحو عوالم جديدة لم تكن بالضرورة محددة فيما قبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق