|
مقـدمة
لقد كان ظهور الفكر الفلسفي عند اليونان بمثابة ثورة عقلية على الأسطورة وبالتالي انتقال من المتوس إلى اللوغوس. ومنذ ذلك الحين ظلت الفلسفة لصيقة بالعقل بل كثير من الناس يعتبرون العقلنة من الخصائص الأساسية للفكر الفلسفي. ورغم ذلك، لم يسلم تاريخ الفكر الفلسفي، من تمثل العقل تمثلا متنوعا في طبيعته ووظائفه. كما لم يسلم ذلك التاريخ، من حضور انتقادات متوجهة إلى العقل. والنص، الذي نحن بصدد مقاربته، يتحرك في فلك تلك الانتقادات. فهو يتحرك، بالتحديد، في فلك السجال الفكري الذي يدور حول نوعية العلاقة التي تربط العقل باللاعقل. وسنحاول مقاربة هذا النص، من خلال محاولة الإجابة على التساؤلات التالية: ما هو موقف المؤلف من إشكالية العلاقة بين العقل واللاعقل؟ وما هي القيمة الفلسفية التي يمثلها ذلك الموقف؟
عـرض
إن قراءة النص، قراءة متأملة في أبعاده وخلفياته الفكرية، تبين أن المؤلف يتبنى موقفا منتقدا للعقل المنغلق ويدعو إلى الانفتاح عن المتناقضات التي لا تستطيع العقلية الدوغمائية المنغلقة الاعتراف بحضورها داخل الفكر العقلي. ويصطلح المفكر على تسمية العقل القادر على الانفتاح بالعقل المعقد.
بعد أن توقفنا عند التصور العام للمؤلف، يتاح لنا أن نتفحص أكثر ذلك التصور من خلال الوقوف عند أهم المراحل الفكرية للنص، وذلك محاولة منا لاستجلاء المنطق الذي من خلاله بنى المؤلف تصوره. وعليه، فإننا نلاحظ أن المؤلف ابتدأ، أولا، بمحاصرة العقل من خلال ثنائية الإمكان والوجوب. ونقصد بذلك أنه يتأكد منذ بداية النص أن المؤلف مقتنع من جهة بإمكانية انفتاح العقل على قضايا لاعقلية، بل يؤكد أنه يتوجب على العقل، أن يكون منفتحا. لأنه لا يمكن للعقل أن يتنكر لوجود ظواهر تجمع بين العقل واللاعقل.
ويبدو، أن ذلك الإلحاح، يستمده المفكر من تاريخ العقل. لأنه انتقل، بعد ذلك، إلى الإشارة إلى مرحلة كان فيها العقل منغلقا قبل أن يصبح مركبا، فأبان أن العقل المنغلق كان اختزاليا، لا يستطيع الجمع بين المتناقضات والتقابلات. في حين أن العقل المركب (=أو المعقد) يستطيع أن يقبل بحضور اللاعقل في ذاته، وبالتالي الاعتراف بعدم قابلية العقل المطلقة للتعقل. ليفسر المؤلف ذلك، من خلال بسط مواصفات العقل المركب ومميزاته: فهو عقل لا يعمل قطعيا من خلال مبدأ عدم التناقض، لأنه لا يؤمن بالتعارض المطلق، بل يرى أن المتناقضات في تفاعل جدلي وفي تكامل فالذكاء مثلا يستدعي الوجدان.. ليخلص المؤلف، من خلال ذلك، إلى أن الإنسان كينونة تجمع في ذاتها بين العقل واللاعقل.
بعد هذا انتقل المؤلف ليلاحظ أن العمل على الحيلولة دون تسرب الأفكار الطوباوية والميتولوجية، أمر يوجب الحفاظ على العقل كرقابة منطقية، لما يتحلى به العقل من روح نقدية. إلا أن ذلك لا يجب أن يكون - في الوقت نفسه – ذريعة من أجل الانغلاق، فيؤكد المؤلف -من خلال ميرلوبونتي- أن المهمة المطرحة على الفكر اليوم، هي ضرورة العمل، على أن يكون العقل قادرا على أن ينفتح لاستيعاب أمور يبدو أنها تسبقه وتتجاوزه. ليتنهي المؤلف بالتذكير على أن الواقع يتضمن باستمرار أمورا تتجاوز العقل إلا أن العقل ليس بناء ستاتيكيا، نظرا للمرونة التي يتحلى بها والتي تتجلى في قدرته على التعقد والانفتاح على ما هو لاعقلي. بعد أن تمثلنا موقف المؤلف، وعملنا على الوقوف عند أبرز المحطات الفكرية التي يحتوي عليها النص، ليس فقط من أجل العمل على توضيح التصور، وإنما –كذلك- لمحاولة تقييمه. الأمر الذي يتيح لنا إمكانية طرح التساؤل التالي: إلى أي حد يمكن أن نعتبر موقف المؤلف موقفا فاعلا وإيجابيا، في إشكالية العلاقة بين العقل واللاعقل؟
حتى يتسم تقييمنا بالموضوعية اللازمة، سنحاول نقد تصور المؤلف بناء على محاكمته من خلال مجموعة من التمثلات الفكرية، بعضها يزكي تصوره، والبعض الآخر يتناقض معه.
لقد كانت – دون شك – تمثلات إدغار موران E.Morin من التمثلات الفكرية التي كانت إلى ضرورة الانفتاح عن اللاعقل، وبالتالي تأسيس نوع جديد من العقلانية: عقلانية تدعو إلى الكشف عن العقل ضمن اللاعقل. وما نؤكده من خلال إدغار موران ليس في الواقع إلا تكريسا للتصور التي استكشفناه من خلال النص، وذلك حتى نستطيع بالتالي التساؤل حول مدى إمكانية إلغاء الحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل؟
ذلك ما تؤكده مجموعة من التصورات. حيث يمكن الجزم على أن هربرت ماركوز لا يتناقض إطلاقا مع منطوق النص. فهذا الفيلسوف، يعتقد بأن العقل يحمل، في ذاته، بذور اللاعقل حينما يتحول إلى سلطة مفرطة في استعمال العقل. فالمجتمعات التي تؤسس نفسها على المردودية والإنتاجية، يضطر فيها الإنسان إلى التحايل على العقل، حتى يستطيع تلبية "الإيروس" والرغبات ذات الطبيعة الوجدانية.
أما الأطروحة الفرويدية، فإنها تؤكد ما جاء في النص من خلال تصورها للعلاقة الموجودة بين الشعور (الذي يخضع لمنطق العقل) واللا شعور (الذي يتجاوز الإدراك العقلي)، ومن ثم تكون السلوكات التي يجد لها الإنسان تبريرات عقلية، هي في الواقع استجابات لرغبات (=مكبوتات) لاشعورية. ومن ثم، يكون سلوك الإنسان العقلي والمنطقي، تعبير عن المكبوت ذي الطبيعة اللبيدية (=الجنسية). ويكرس فرويد العلاقة بين العقل واللاعقل من خلال نظرته إلى الحلم. فالحلم، الذي يدخل عادة في عالم المتخيل، يحمل في ذاته سيرورات رمزية ومنطقية، يسطيع من يعرف (=المحلل النفسي مثلا) قراءتها، وتأويلها، أن يفسر الأسباب الحقيقية للسلوك الإنساني سواء منه المرضي أو السوي.
إن التصور الفرويدي – إذن – يؤكد أطروحة النص من خلال رفضه للحدود الفاصلة بين العقل واللاعقل، وبالتالي ما قد يعتبر عقليا يجد تبريراته في اللاعقلي، وما يعتبر لا عقليا ليس كليا كذلك لأنه يحتوي في ذاته على سيرورات منطقية عقلية. وذلك، تقريبا، ما نلمسه في موقف غرانجي،الذي يظهر أن الهوى الذي يعد أساسا ذي طبيعة انفعالية، لا يخلو كليا من حضور العقل داخله. لأن الهوى يوظف –حسب غرانجي- سيرورات منطقية، وذكية، حتى يتمكن من تحقيق غاياته الانفعالية.
بعد أن توقفنا عند بعد التصورات الفكرية التي تزكي –إلى حد ما- موقف المؤلف ؛ يتاح لنا أن نتساءل: ألا يمكن أن نجد للموقف تصورات معارضة؟
سنكون دوغمائيين إن نحن نفينا ذلك. فما من أطروحة وإلا ويمكن أن يكون لها نقيض ؛ إلا أنه من الطرافة بمكان، أن نجد أن التصورات المعارضة لما جاء في النص، تعتبر من الأطروحات التي أدى السجال الفكري بينها إلى ظهور الموقف نفسه الذي يتبناه المؤلف. ومن ثمة نكتشف بأن الأطروحات المناقضة لتصور النص هي ذاتها متعارضة. ونقصد بذلك المواقف التي تمثل اللاعقل من جهة، والأطروحات التي تمثل العقلية المنغلقة من جهة أخرى. وبما أن الموقف لا يحتم علينا أن نظهر أوجه التعارض بينها، سنكتفي بإبراز بعض أسباب تعارضها مع تصور المؤلف...
هذا ما يمكننا من القول، أن التيارات الفكرية التي تضع نفسها في طرف مقابل للعقل تماما (كالسوريالية، والوجودية، والرومانسية...)، تعارض المؤلف لأنها تعتبر الإنسان كينونة لاعقلية، ووجدانية بالدرجة الأولى. حيث نجد في السوريالية le surréalisme –مثلا- دعوة إلى التعبير الحر عن الفكر، في غياب أي ضوابط عقلية أوأخلاقية أوجمالية. ومن ثمة يمكن اعتبار السوريالية، ثورة فكرية على السلطة المفرطة للعقل. كما نجد كيركجارد (الأب الروحي للوجودية) يرفض أن نحدد طبيعة الإنسان في وجوده العقلي وذلك ما يتضح بجلاء في قولته المأثورة: "أنا أفكر، فأنا إذن غير موجود".
كما تتمثل المواقف المعارضة للنص في المواقف التي تمثل العقلية الدوغمائية المنغلقة، والتي تندرج في إطارها مواقف أرسطو، وديكارت، كانط. يكفي، مثلا، أن نظهر، بأن أرسطو أقام المنطق على مبدأ عدم التناقض، الذي يفيد أن الشيء الواحد، لا يحتمل أن تجتمع فيه صفتان متناقضتان ؛ حتى يتبين، من ذلك التعارض المطلق مع تأكيد المؤلف أن التناقض هو خاصية العقل المركب لأنه يجمع بين العقل واللاعقل. كما ، لا يجب أن تنسينا محاولة ديكارت لنقد المنطق الأرسطي، تشبث هذا الفيلسوف بالبرهان بالخلف، وهو في نهاية المطاف برهان يتأسس على مبدأ عم التناقض. إلا أن المؤشر الفعلي، الذي يجعل ديكارت يعارض النص تمام المعارضة، يتمثل بالخصوص في نظرته إلى كينونة الإنسان وحصرها في العقل فقط، واعتبار هذا الأخير أساس المعرفة. لأن العقل يحتوي على أفكار فطرية، يمكن اعتبارها أوليات المعرفة.
ويتعارض كانط مع النص لأنه لم يخرج عن شعار الأنوار في استخدام العقل، فلا يتخلى عن استخدام العقل إلا الكسول والجبان. فهذه دعوة واضحة، من كانط، إلى التشبث الدوغمائي بالعقل، لأنه يرادف عند هذا الفيلسوف الكرامة والحرية والمسؤولية. ومعنى ذلك أن من يتخلى عن العقل، يتخلى –في الآن نفسه- عن إنسانيته.
خـاتـمة
كاستنتاج عام لهذا الموضوع، يتضح، أن الأطروحات المباينة لموقف المؤلف، تتمثل أساسا في أطروحات تؤكد: إما أن الإنسان كينونة عقلية كلية، وإما كينونة لا عقلية كلية. فلا غرابة، بالتالي، أن تمثل الأطروحات التي تؤيد موقفه، في أطروحات لا تلغي الكينونة المزدوجة للإنسان (العقل واللاعقل). أو أكثر من ذلك، أطروحات تؤكد الاندماج بين العقل واللاعقل. ولا يسع المرء أمام هذا الموقف إلا أن يزكي تصور المؤلف، لأن أكبر المتاهات التي وقع فيها الإنسان هو تحديد كينونته كوجود خالص إما في العقل، وإما في اللاعقل. فالإنسان تفاعل جدلي بين العقل والوجدان، بين العقل والخيال، بين الذكاء المتـقد والعاطفة المتأججة. ففي حياتنا تحضر أشياء لا تجد لها مبررات عقلية. ومن ثم لابد من الدعوة إلى عقلية مرنة ومنفتحة، عقلية تتشبث بالعقل، لكنها، في ذات الوقت، عقلية تؤمن بضرورة الاعتقاد بأن ما هو عقلي لا يلغي كليا ما هو لاعقلي، ولا يتعارض معه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق