|
مقـدمة
تعتبر الظاهرة اللغوية ظاهرة استأثرت باهتمام الفلاسفة والمفكرين منذ القدم، على اعتبار أنها ظاهرة يمكن أن تكون موضوع دراسات متعددة ومتباينة في آن واحد. ومن الإشكاليات التي استأثرت باهتمام الفلاسفة بالتحديد، تمكن الإشارة إلى اللغة كخصوصية تميز الإنسان، ونوعية العلاقة التي تربط اللغة بالفكر ..إلخ. أما النص الذي نحن بصدد مقاربته، فإنه يعالج إشكالية أصل اللغة، مقدما تصورا خاصا ومميزا حول هذه الإشكالية. وسنعمل على مقاربة هذا الموقف من خلال الاهتداء بالتساؤلات التالية: ما هو موقف المؤلف من إشكالية أصل اللغة؟ وإلى حد يمكن تأكيد الطرح الذي المتبنى في هذا النص؟
عـرض
من خلال القراءة المتفحصة للنص يتبين أن تصور المؤلف كان واضحا وحاسما، حيث أكد بطريقة لا تدع مجالا للشك أن أصل اللغة مواضعة واصطلاح. وأن التواضع اللغوي إنجاز يحتكره الحكماء.
ومن أجل أن نتمثل هذا الموقف بصورة أكثر جلاء ؛ فإن الأمر يحتم علينا أن نحاول تتبع النص من خلال أهم اللحظات الفكرية التي بلور المؤلف من خلالها تصوره. وعليه، يمكن أن نلاحظ بسهولة أن المؤلف ابتدأ هذا النص – أولا - بإبراز موقفه النهائي من أصل اللغة وذلك بترجيح كفة المواضعة، لينتقل إلى مستوى آخر يبرز فيه الضرورة القصوى التي تدفع الحكماء إلى الاضطرار إلى المواضعة اللغوية، انطلاقا من مبدأ "الحاجة أم الاختراع". فيحصر المؤلف تلك الحاجة في التعبير عن القضايا غير الماثلة أمام الإدراك الحسي، والاستغناء عن الإحضار المادي للأشياء، والقضاء على أشكال الاستحالة الطبيعية: حيث يستطيع الإنسان – بواسطة اللغة – الجمع بين المتناقضات، وإحضار الأشياء الفانية. الأمر الذي يمكن أن نستشف منه، أن المؤلف يريد التأكيد على الطابع الرمزي للغة فضلا عن طابعها الاصطلاحي. ومن خلال منطوق النص يتضح أن المؤلف يؤكد أن المجهود في سن اللغة يرجع الفصل فيه إلى الحكماء، حيث انتقل بعد سرد بعض أسباب الحاجة إلى اللغة ليضع أصبعه على الطريقة التي ينهجها الحكماء في تسمية الأشياء: كأن يقفوا على جنس معين (الإنسان مثلا) من الموجودات فيشيروا إليه ويطلقوا عليه اسما، وإن أرادوا خاصية من خصوصياته أشاروا إليها بدورها وأطلقوا عليها اسما، ليجرى بعد ذلك تداول هذه الأسماء بين الناس. لينتهي المؤلف إلى ضرورة تعميم هذا التصور حول جميع أشكال المواضعة اللغوية...
بعد أن كشفنا عن الموقف المعروض داخل النص، وحاولنا أن نتمثل المنطق الذي على أساسه يشرح المؤلف تصوره حول المواضعة. يتاح لنا الآن بعد وضوح الصورة والتصور، أن نحاول التفكير في مصداقية ذلك الموقف من خلال تأطيره الفكري بين آراء متقابلة تساعدنا على الكشف عن مكامن القوة والخلل من خلال محاسبة موضوعية تؤكد ما له وما عليه.
انطلاقا من ذلك، يتبين لأول وهلة، أن أهم تصور معارض لتصور المؤلف، يكمن في أطروحة المحاكاة. وهي أطروحة تؤكد – على عكس ما جاء في النص – أن أصل اللغة تصوير ميمي للأصوات الصادرة عن الطبيعة كما هو الشأن – مثلا – بالنسبة للكلمات التالية: دوي الرعد، خرير المياه، فحيح الأفعى، صهيل الحصان ...إلخ. ويعتبر الموقف الأفلاطوني من أهم المواقف الفلسفية في هذا الشأن، لأن هذا الفيلسوف يعتقد – على نقيض ما ورد في النص – أن الأسماء لابد أن تكون من جنس الأشياء حتى تستطيع التأثير فيها. لهذا السبب أكد أفلاطون أن إنتاج اللغة من اختصاص المشرع (=الفيلسوف) لأنه أدرى الناس بطبائع الأشياء.
وفي مقابل التمثلات السابقة، يتأكد أن التمثل اللساني يسير في اتجاه تصور المؤلف، لأن الطروحات اللسانية تجمع على الطابع الاصطلاحي والرمزي للغة. ذلك هو ما يمكن أن نستشفه من تمثل دي سوسير في تأكيده على العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول. والدليل على ذلك - في نظره - يتجلى في تنوع اللغات في التعبير عن نفس التصور بأسماء متباينة(مثلا كلمات شجرة وarbre و tree كلمات متباينة إلا أن لها نفس المدلول). وذلك تصور قريب من تمثل أندري مارتيني الذي يظهر من خلال تصوره حول تمفصل اللغة أن أصل اللغة لا يعدو أن يكون فونيمات (= وحدات صوتية فارغة من معنى) معدودة ومحدودة.
إن ما تقدم لا يجب أن يدفعنا إلى استصدار أحكام متسرعة، لأن التفكير المتبصر يؤكد أن تأييد الموقف اللساني لتصور المؤلف ليس قطعيا ونهائيا. لأن التمثلات اللسانية تجزم على أن المواضعة في مجال اللغة، ليست من احتكار مشرعين أو حكماء. فالطابع الاصطلاحي والتواضعي في مجال اللغة ظاهرة سوسيولوجية جماعية، بحيث يشارك جميع أفراد الجماعة اللغوية في تعميم المصطلح وتدويله. ومن هذا تظهر المفارقة المؤكدة بين الموقف اللساني والتصور المعروض داخل النص.
خـاتمة
انطلاقا مما تقدم، يتبين أن موقف المؤلف تتنوع حوله الأطروحات الفكرية بين أطروحات ترفضه رفضا قطعيا، وأطروحات يمكن اعتبارها تأييدا نسبيا له. فالرفض المطلق أمر نستشفه من أطروحة المحاكاة التي تؤكد على العلاقة الطبيعية والضرورية بين الأسماء والأشياء. أما التأييد النسبي يمكن أن نلمسه في نظرة الموقف اللساني إلى طريقة المواضعة. ونحن لا نستطيع إلا التأكيد على خطأ تمثل الأصل الطبيعي للغة (= المحاكاة)، لأن وجود كلمات تحاكي أصوات من الطبيعة لا يشير في النهاية إلا إلى مرحلة بدائية من مراحل تشكل اللغة. ومع ذلك، فإننا نساند كل ما ذهب إليه التوجه اللساني. الأمر الذي نبرز من خلاله معارضتنا لموقف المؤلف لأن حصر وضع اللغة على فئة دون أخرى موقف مثالي يفتقر إلى سند علمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق