العلم والنسبية
إن الشرط الأول الذي ينبغي أن يلبيه من يباشر البحث في الظواهر الطبيعية هو أن يحتفظ بحرية فكرية تامة ومرتكزة على الشك الفلسفي على أنه ينبغي أن لا نكون بتاتا ريبيين بل علينا أن نثق بالعلم أي بالحتمية وبالعلاقة المطلقة والمحتومة بين الأشياء وذلك في ميدان الظواهر التابعة للكائنات الحية كما في كل الميادين الأخرى. ولكن ينبغي أن نقتنع في نفس الوقت بأننا لا نمتلك تلك العلاقة إلا بكيفية تقريبية ونسبية وأن النظريات التي نحصل عليها بعيدة كل البعد عن أن تمثل حقائق قارة. و عندما نضع نظرية عامة (من بين تلك النظريات ) العلمية فإن الأمر الوحيد الذي نكون قد تيقنا منه هو أن كل النظريات تصبح خاطئة إذ أضفينا عليها صبغة الإطلاقية. فهي ليست سوي حقائق جزئية ومؤقتة ولكنها ضرورية لنا كدرجات نرتكز عليها لنتقدم في البحث وهي لا تمثل إلا الحالة الراهنة لمعارفنا وبالتالي عليها أن تتغير بنمو العلم، وبسرعة أكبر كلما كانت العلوم ( التي تنتمي إليها ) أقل تقدما في تطورها ومن جهة أخرى فإن أفكارنا تأتينا عند رؤية الأحداث التي لاحظناها في البداية والتي نؤولها في ما بعد إلا أنه يمكن أن تتسرب إلى ملاحظاتنا أسباب كثيرة للخطأ رغم كل انتباهنا و كل فطنتنا فنحن لا نستطيع أبدا أن نثق في أننا قد رأينا كل شيء و ذلك لأن وسائل الملاحظة غالبا ما تعوزنا أو غالبا ما تكون منقوصة جدا و ينتج عن ذلك أن الاستدلال وإن كان يقودنا في العلم التجريبي فهو لا يفرض علينا حتما نتائجه و يبقي فكرنا حرا في قبولها أو رفضها.
كلود برنار: مدخل لدراسة الطب التجريبي
***
العقل التجريبي ليس من طبيعة الإنسان, يجب أن نميز بين التجريبي والعقلاني وغيره من أساليب التفكير, فالمناهج التجريبية لا تستثمر فقط في مجالاتها التقليدية ( الظواهر الفيزيائية والبيولوجية ), ولا تستعمل فقط في المجالات الإنسانية المستحدثة ( علوم الإنسان ), ولكن أيضا في عديد المجالات الحياتية: حقول الممارسة اليومية, التطبيقات الهندسية, البدائل والأطروحات الأخلاقية والسياسية حتى إن الحديث عن فلسفة تجريبية بات مشروعا اليوم ورغم نزوع هذا المنهج لإعلان سيادته على أغلب مجالات التفكير والعمل فإنه ما زال يفتقد من حيث نتائجه لليقينية, وتطبيقاته الواقعية تجرنا إلى استخلاص طبيعة الخطأ والاتفاقية التي تؤسسه. ومن هنا فالخاصية المميزة للباحث العلمي الأصيل هي الاندهاش إذ عليه أن يتساءل حول مدى صحة الإجابات المقبولة والحلول المتوفرة علميا. لكن النقد لا يكون نقدا إلا إذا كان مؤسسا. فإن كان تفسير ما مقبولا عند الأقدمين, فإن الدهشة و تحديدا وازع إبداع حقيقة جديدة يمثل ماهية وجوهر المعرفة العلمية.
يجب أن نعي بأن المباحث التجريبية, وإن كانت نورنا الأوكد لمعرفة الحقيقة الواقعية فإنها لا تقدر على الإجابة إلا على جزء محدود من التساؤلات الإنسانية ففي هذا العالم المعطى, يعيد العلم زرع شبكات نظامية تتحول بدورها إلى مستنقعات للجهل والخطأ للألم واليأس. فالعقل التجريبي يحوي داخله مشروعية حضور المبحث الميتافيزيقي و حضور القيم الأخلاقية والدينية, إنه يؤكد مطلب بول إلوارد:" اتركوني إذن أحكم حول ما قد يساعدني على الحياة... "
جــــــان فوراستييه . شروط العقل العـــــــــــــلمي ص 250 /251
***
العالم العلمي
إذا تأمل مؤرخ العلم سجل بحوث الماضي من زاوية مبادئ و مناهج التاريخ المعاصر فقد لا يملك إلا أن يهتف قائلا: آه عندما تتغير نماذج التفسير يتغير معها العالم ذاته. وانقيادا للنماذج التفسيرية الجديدة يتبنى العلماء أدوات جديدة, و يتطلعون بأبصارهم صوب اتجاهات جديدة.
بل وأهم من ذلك أن العلماء إبان الثورات يرون أشياء جديدة ومغايرة عندما ينظرون من خلال أجهزتهم التقليدية إلى الأماكن التي اعتادوا النظر إليها و تفحصها قبل ذلك. ويبدو الأمر و كأن الجماعة العلمية المتخصصة قد انتقلت فجأة إلى كوكب آخر حيث تبدو الموضوعات التقليدية في ضوء مغاير وقد ارتبطت في الوقت ذاته بموضوعات أخرى غير مألوفة وطبعا إن شيئا من هذا لم يحدث: فلم يقع أي تغييرا أو تبديلا في المواقع الجغرافية, وكل شأن من شؤون الحياة العادية يجري كعادته خارج المخبر على نحو ما كان تماما. ومع هذا فإن التحولات التي طرأت على النماذج التفسيرية تجعل العلماء بالفعل يرون العالم الخاص بموضوع بحثهم في صورة مغايرة. وطالما أن تعاملهم مع هذا العالم لا يكون إلا من خلال ما يرونه و ما يفعلونه فقد تحدونا رغبة في القول بأنه عقب حدوث ثورة علمية يجد العلماء أنفسهم يستجيبون لعالم مغاير.
تومــــــاس كون: بنية الثورات العلمية ص 165
***
الخطأ و العلم
لا يرد العلم إلى مجموعة مبادئ تم وضعها نهائيا و ترتيبها على نحو عقلي... فالصرح العلمي هو بالضرورة في حالة عدم توازن و في تقدم مطرد حيث لا يلعب الخطأ دور عرض نفسي فحسب و إنما هو أيضا إذا صح القول جزأ لا يتجزأ من حركة الفكر الذي ينشئ العلم حتى إنه يمكننا أن نذهب إلى حد تعريف المعرفة العلمية بضرب من المفارقة بأنها المعرفة الخاطئة و نعني بذلك أنها هي وحدها المعرفة التي تفضي إلى إمكانية إضفاء معنى دقيق على الخطأ وإلى الاعتراف به والاستناد إليه للانطلاق من جديد. فقد كان رياضيو القرن السابع عشر يعتقدون أنه بإمكانهم البرهنة على مصادرة أقليدس الخامسة فقدموا في هذا الصدد العديد من البراهين و كان ذلك خطأ . غير أن هذا الزعم الواهي تجلى ونما بشكل سمح بإمكانية الكشف الدقيق عن ضمنياته. وقد كان هذا التحليل لمعرفة خاطئة منطلقا لمراجعة العلم الهندسي. و بوسعنا أن نجد بسهولة في التاريخ شواهد معروفة على مثل هذا التمشي... و قد لا نكون تفطنا بما فيه الكفاية إلى أن الأخطاء تتضح على نحو خاص و يمكننا أن نذهب إلى حد القول أن تقدم العلم, في جانب منه يتمثل في تحويل الخطأ من حالة الخطأ العامي ـ أي المعرفة المبهمة ـ إلى حالة الخطأ العلمي أي المعرفة القابلة للدحض. وعلى هذا النحو فالعالم لا ينفك يقوض نفسه ليولد من جديد أو بالأحرى ليولد حقا.
جيل قاستون قرانجي : الفكر الصوري و علوم الإنسان
***
العلم و الرأي
حين نبحث عن الشروط النفسية لتقدم العلوم سرعان ما نتوصل إلى هذا الاقتناع بأنه ينبغي طرح مسألة المعرفة العلمية من زاوية العوائق ولا يتعلق الأمر باعتبار العوائق الخارجية مثل تعقد الظواهر و زوالها ولا بإدانة ضعف الحواس والعقل الإنساني: ففي صميم فعل المعرفة بالذات تظهر التباطؤات والاضطرابات... هاهنا سنبين علل الجمود والنكوص و هاهنا سنكشف علل العطالة التي نسميها عوائق ابستملوجية...
إن العلم في حاجته إلى الاكتمال كما في مبدئه يتعارض تعارضا مطلقا مع الرأي وإن حصل للعقل أن أيد الرأي الشائع في نقطة خاصة فذلك لأسباب أخرى مختلفة عن الأسباب التي تؤسس الرأي بحيث يكون الرأي من وجهة الحق دائما على خطأ. إن الرأي يفكر دائما بصورة سيئة إنه لا يفكر إنه يترجم الحاجات إلى معارف وهو إذ يشير إلى الأشياء وفقا لمنفعتها إنما يحرم نفسه من معرفتها. لا نستطيع أن نؤسس شيئا على الرأي: يجب أولا تقويضه إنه أول عائق يجب تخطيه ولا يكفي مثلا تصحيحه في نقاط خاصة بالاحتفاظ بمعرفة شائعة ظرفية بوصفها نوعا من الأخلاق المؤقتة. إن العقل العلمي يمنع أن يكون لنا رأي بخصوص مسائل لا نفهمها وبخصوص مسائل لا نحسن صياغتها بوضوح فقبل كل شيء يجب أن نجيد طرح المسائل. ومهما قيل فإن المسائل لا تطرح ذاتها بذاتها في الحياة العلمية... وبالنسبة إلى عقل علمي تكون كل معرفة إجابة عن سؤال. و إذا لم يكن ثمة سؤالا لا يمكن أن تكون هناك معرفة علمية. لا شيء بديهي. لا شيء معطى. كل شيء مبني.
غاستون باشلار: تكوين الفكر العلمي ص 13 /14
***
الثورات العلمية
إذا كان المنهج المعاصر يستند إلى الاكتشافات التي حدثت في العلوم التجريبية فإن تطور المنهج ينطوي بدوره على القوة المحركة الرئيسية لتقدم العلم. إذ العلم المعاصر يرتكز على قاعدة تجريبية تتحسن و تكتمل باستمرار ولو تطورا تدريجيا لم يعرف التاريخ له مثيلا من قبل هذا التقدم يحمل طابعا ثوريا جليا نظرا للتغير المستمر في نقاط أساسية كثيرة عند نظرتنا للطبيعة. و هذا يخص الفيزياء قبل أي علم آخر. إن الثورة لتي حدثت في الفيزياء أواخر القرن السادس عشر لا تزال مستمرة حتى في أيامنا الحاضرة. حيث غدت النظريات الكلاسيكية عاجزة عن تفسير ذلك السيل الدافق من الوقائع التجريبية الجديدة الخاصة بالعالم الصغير ( أو الميكروفيزياء ) إذ أن وضع نظرية عامة للجسيمات يتطلب في نظر العلماء مثال هيزنبرغ و بور أفكارا جديدة تماما أفكارا غير مألوفة تحطم القواعد العامة المعهودة ولم تقتصر الثورة في العلوم الطبيعية على الفيزياء وحدها فقد امتدت لتشمل ميادين الكيمياء و تمتد الآن إلى البيولوجيا التي شهدت تحولا حقيقيا في معرفة الحياة و تفسير آلية الوراثة.
جورج لابيكا: ما هي الماركسية
قيمة العلم
لقد أدت المعرفة العلمية إلى تحقيق تقدمات تقنية عجيبة، من ذلك ترويض الطاقة النووية وكذلك بوادر الهندسة الو راثية. فالعلم ينير إذن (إذ يفك ألغازا ويبدد غموضا) ويثري(إذ يمكن من تلبية حاجات اجتماعية، وبالتالي من ازدهار الحضارة). فهو بالفعل علم فاتح منتصر
ومع ذلك فإن هذا العلم المنير والمثري والفاتح والمنتصر ما انفك يطرح علينا مشاكل خطرة تتعلق بالمعرفة التي ينتجها وبالعمل الذي يؤدي إليه وبالمجتمع الذي يغيره. فهذا العلم المحرر يجلب في نفس الوقت إمكانات استعباد الإنسانية. المعرفة الحية هي التي أفرزت الخطر المهدد بمحق الإنسانية . ولكي نتصور هدا المشكل ونفهمه، ينبغي أن نتخلص من الخيار الغبي: إما علم طيب لا يجلب إلا المحاسن وإما علم فاسد لا يجلب إلا المساوئ.وإنما يتعين علينا ـ على العكس من ذلك ـ أن نمتلك منذ البداية تفكيرا قادرا على أن يتمثل وأن يفهم ما في صميم العلم من الازدواجية أي ما في صميمه من التعقيد الداخلي.
ادغار موران
الفيزياء المعاصرة والحتمية
إن مسألة الحتمية لا تطرح لدى الفيزيائي كما تطرح لدى الفيلسوف . وفعلا، ليس على الفيزيائي أن يتناولها من جانبها العام و الماورائي ، بل عليه أن يبحث لها عن تعريف دقيق ، في إطار الوقائع التي يدرس . غير أن هذا التعريف الدقيق لا يمكن ، على ما يبدو لنا، أن يرتكز إلاّ على إمكانية توقع صارم لما يحدث في المستقبل من الظواهر. فالفيزيائي يرى أن هناك حتمية حين تمكنه معرفة بعض الوقائع التي تلاحظ في الحاضر، أو لوحظت في أزمنة سابقة ، مقترنة بمعرفة بعض قوانين الطبيعة، من التوقع بشكل قطعي بأن هذه الظاهرة التي يمكن ملاحظتها أو تلك ، ستقع في فترة لاحقة معينة.
إن تعريف الحتمية هذا، القائم على إمكانية توقع الظواهر، يبدو التعريف الأوحد الذي يمكن أن يقبله الفيزيائي لأنه التعريف الوحيد الذي يمكن التثبت منه فعلا. غير أنه ينبغي ألاّ نتجاهل أن تعريف الحتمية الفيزيائية هذا يثير بعض الصعوبات .
أولا، بما أن في الطبيعة تأثيرا كونيا متبادلا، وبما أن حركة أصغر الذرات يمكن أن تتأثر بحركة أبعد الكواكب فان التوقع الصارم بظاهرة ما تقع مستقبلا قد يقتضي مبدئيا معرفة حالة الكون الراهنة معرفة تامة ، وهذا ما لا يمكن تحقيقه .
غير أنه من الواضح أن هذا اعتراض نظري ، لأن توقع ظاهرة ستقع ، يمكن عموما أن نحصل عليه فعلا، بفضل عدد محدود من المعطيات المتعلقة بالحالة الراهنة.
وأهم من هذا الاعتراض ، ذاك الذي يمكن أن نستخلصه مما تتسم به ملاحظاتنا وقياساتنا من طابع تقريبي ضرورة. ولما كانت المعطيات التي توفرها الملاحظة أو القيس تعتريها الأخطاء التجريبية دوما، فان التوقعات التي نستطيع أن نقوم بها انطلاقا من هذه المعطيات الناقصة يعتريها هي الأخرى شيء من عدم الدقة، بحيث إن التثبت من قابلية الظواهر بأن يتم توقعها توقعا صارما والتثبت تبعا لذلك من الحتمية كما حددناها سلفا يظل تثبتا تقريبيا. بيد أن هذا الاعتراض الجديد لا يبدو إلى الآن غير قابل للتذليل لأن دقة ملاحظاتنا وقياساتنا يمكن أن تتحسن ، إما بتجويد الطرق أو بتطوير أساليبنا التجريبية. وإذا تحسنت دقة ملاحظاتنا شيئا فشيئا فإننا نحصل دائما على إمكانية توقع صارمة، ونستطيع أن نعتبر الحتمية قد أقيمت بضرب من التقارب الأقصى.
ويبدو أن لا شيء في الفيزياء الكلاسيكية يتعارض مع فكرة إمكانية توقع الظواهر المستقبلية توقعا يزداد اكتمالا كلما ازدادت أساليبنا في الملاحظة و القيس دقة.
وفي هذا المعنى كان يبدو من المفروض التسليم بالحتمية الفيزيائية قبل تطور معارفنا بشأن الظواهر الكوانطية. غير أن الفيزيائيين ، حين تدرجوا في سلم المقادير نزولا، وتوصلوا إلى دراسة ظواهر عالم الذرة حيث تبين الكوانطات عن وجودها ، أدركوا أن التوجه نحو إمكانية توقع صارم لا يمكن التمادي فيه إلى ما لا نهاية له على أساس دقة متزايدة باطراد لمعطيات الملاحظة و القيس . و فعلا فإننا حين نريد، في المجال الذري ، أن نحصر أكثر فأكثر حالة الأشياء الراهنة كي نتمكن من الإخبار عن الظواهر المستقبلية بدقة أشد، فإننا نصطدم باستحالة الزيادة، في الوقت نفسه ، في دقة المعطيات التي قد نحتاجها. فهنا يكمن ، كما نعلم ، أحد الاستتباعات الأساسية لعلاقات الارتياب التي يعود الفضل فيها إلى هيزنبرغ . ويقدر ما توجه ملاحظاتنا وقياساتنا بشكل يسمح لنا بتدقيق بعض المعطيات ، خسرنا من هذه الجهة بالذات على مستوى الدقة المطلوبة في بعض المعطيات الضرورية الأخرى.
إن تحاليل بور و هيزنبرغ الرفيعة والعميقة تبدو قد نجحت في إثبات هذا الأمر، إذ بينت بوضوح أن هذه الملابسات التي لم يكن الفيزيائيون المتشبعون بالأفكار الكلاسيكية ليتوقعوها بالمرة، هي استتباعات ضرورية لوجود " الكوانطوم الفعل " نفسه . وبما أن " الكوانطوم الفعل " يبدو اليوم إحدى الحقائق الأساسية في الفيزياء على الإطلاق ، فقلما نشك في أن ارتيابات هيزنبرغ ذاتها تكتسي طابعا أساسيا للغاية ، إذ بسببها تصبح عملية التوجه نحو قدرة على التوقع توقعا تاما ( وهي التي كانت تسمح لنا قي الفيزياء القديمة بإقرار وجود حتمية في الظواهر بضرب من العبور إلى الحد الأقصى متعطلة عندما نصل إلى مستوى عالم الذرة، ذاك المستوى الذي يكف فيه " الكوانتوم الفعل "عن أن يكون منعدم القيمة و يبدأ في التدخل فعلا .
لوي دي بروغلي " المتصل والمنفصل"
إذا كانت التجربة هي بداية كل معرفتنا ونهايتها في خصوص الواقع فما هو الدور الذي نبقيه للعقل في مجال العلم ؟
يتألف نسق كامل في الفيزياء النظرية من مفاهيم وقوانين أساسية لربط هذه المفاهيم بالاستتباعات التي تنجر عنها بواسطة الاستنتاج المنطقي .
فهذه الاستتباعات هي التي ينبغي أن تناسبها تجاربنا الخاصة. إن التفريع المنطقي لهذه الاستتباعات هو الذي يفوز في تأليف نظري محض ، بأكبر قسم من المصنف . لقد حددنا للعقل وللتجربة منزلتهما من نسق الفيزياء النظرية : أما العقل فيمنح النسق بنيته ، وأما معطيات التجربة وما تتبادله فيما بينها من علاقات فينبغي أن تتناسب و استتباعات النظرية تناسبا تاما.
فالنسق في جملته ، وبوجه خاص مفاهيمه الأساسية و القوانين التي يقوم عليها، لا تتأسس قيمتها وتبريرها إلاّ على إمكان تناسب من هذا القبيل ، وإلا فإن هذه المفاهيم . والقوانين قد لا تعدو ابتكارات حرة يبتكرها الفكر البشري ، لا تبررها قبليا طبيعة هذا الفكر ولا غيرها من الوسائل مهما يكن نوعها. إن المفاهيم والقوانين الأساسية التي لا يمكن أن نذهب بها في الاختزال المنطقي شوطا أبعد تكون في نظرية ما الجانب الذي لا غنى عنه والذي لا يبقى فيه من الناحية العقلية إمكان للاستنتاج . وقلما يتيسر أن ننفي أن غاية المراد لكل نظرية إنما جعل عناصرها الأساسية غير القابلة للاختزال أبسط ما يكون ، وعددها أقل ما يمكن ، دون العدول عن تصور معطى من معطيات التجربة تصورا ملائما. فإذا صح إذن أنه لا يمكن أن نحصل على القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية عبر الاستدلال ، انطلاقا من التجربة، بل ينبغي أن تكون ابتكارا حرا، فهل يحق لنا أن نأمل في الاهتداء إلى المسلك السليم ؟ إنني مقتنع بأن البناء الرياضي المحض يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تصل بينها والتي تعطينا مفتاح فهم الظواهر الطبيعية. ويمكن للتجربة، بطبيعة الحال ، أن تقودنا في اختيارنا المفاهيم الرياضية التي ينبغي أن نستعملّها، غير أنه لا يمكن أن تكون المصدر الذي تنبع منه هذه المفاهيم .
ولئن ظلت التجربة بالتأكيد مقياس المنفعة الوحيد لبناء رياضي ما في خصوص الفيزياء، فان المبدأ الخلاق بحق يكمن في الرياضيات . إنه يصح عندي إذن ، على نحو ما، أن الفكر المحض قادر على فهم الواقع ، وذلك ما كان القدامى يحلمون به .
أينشتاين
" في منهج الفيزياء النظريّة"
الحتمية الكونية
ينبغي أن ننظر إلى حالة العالم الراهنة باعتبارها نتيجة لحالته السابقة وعلة لحالته اللاحقة. إن عقلا يسع علمه، في لحظة ما، كل القوى المحركة للطبيعة، والوضع المناسب للّكائنات التي تتألف منها - هذا إن كان في وسعه أن يخضع هذه المعطيات للّتحليل - إن هذا العقل قد يلم في نفس الصيغة بما في أكبر أجسام الكون ، وما في أخف الذرات من حركات ، فلا يبقى لديه شك في كائن ما، وقد يصبح المستقبل ماثلا أمامه كما الماضي . إن الفكر الإنساني ، وقد بلغ بعلم الفلك غاية الكمال ، يقدم عن هذا العقل صورة تقريبية أولية . فاكتشافاته في مجال الميكانيكا والهندسة، وما ينضاف إليهما من اكتشافات في الثقالة الكونية، مكنته من أن يفهم بنفس الصيغ التحليلية، حالات نظام العالم ، ما سبق منها وما لحق . وقد اقتدى الفكر الإنساني ، بتطبيق نفس المنهج على موضوعات أخرى من موضوعات معارفه ، إلى إرجاع الظواهر التي يلاحظها إلى قوانين عامة، وإلى توقع تلك التي تؤدي إلى انكشافها بالضرورة ظروف محددة. فكل هذه الجهود الرامية إلى البحث عن الحقيقة، تنزع إلى تقريبه باستمرار من العقل الذي ترسمنا ملامحه ، لكن أنى له أن يدركه ؟
لابلاس
" رسالة في الاحتمالات "
نقد الحتمية الكونية
يبدو لنا أن هذا النص الذي يكثر الاستشهاد به في المناقشات الفلسفية ينطوي على مثالية مفرطة. وفعلا فإن الفكر الفلسفي ، شأنه شأن الفكر العلمي لا يمكن أن يهتم إلا بظواهر مهيكلة، وبأنظمة يمكن تحديدها وهي منعزلة، وذلك عن طريق سلسلة متدرجة من المقاربات المحكمة.
وبالجملة، فإن كل حتمية جزئية وخاصة و جهوية. هي تدرك من وجهة نظر مخصوصة، وضمن سلم من المقادير يتم اختياره ، وفي حدود تضبط بشكل صريح أو ضمني . ومقابل ذلك فإن كل ما ندرسه بعناية علمية محدد وواقع تحت تأثير حتمية محددة. فمبدأ اللاّ تعين ذاته ، مبدأ هيزنبرغ. يخضع لتقنين محدد وهو يمثل قطاعا خصوصيا من قطاعات الحتمية له تعابير وقوانين جبرية صارمة.
باشلار
" النشاط العقلاني للفيزياء المعاصرة "
التعميم والعلم
نص فلسفي- لانجفان (التطور البشري) من التوطئة.
إنَ مهمَة العلم التي بدأت منذ آلاف السنين، تتمثـــَل في مواصلة تكيَف دقيق أكثر فأكثر لعقلنا مع الواقع، وفي بناء تمثــَل يتلاءم أكثر فأكثر مع العالم الذي يحيط بنا وننتمي إليه، لكي نفهمه أوَلا، ثم ننتقل من الفهم إلى التنبؤ، وفيما بعد للعمل. فما هي الطريقة التي نتّبعها في تحقيق هذا البناء الذي يستوجب عددا من الوقائع في تزايد لا ينقطع؟
إنَها التـَدرج. فعندما نكون قد اعتقدنا أنـَنا فهمنا مجالا معينا من الواقع، مثلا مجال الميكانيكا الذي يخص توازن الأجسام وحركتها على مستوى إدراكنا، وعندما نكون قد نجحنا، بخلق المفاهيم الملائمة، في بناء تمثـَل مرضي لهذا المجال، فإنـَنا بطبيعة الحال نميل إلى سحب طرق التحليل و المناهج و المفاهيم التي نجحت في المجال الأوَل، على مجالات لا تزال غامضة وغير معروفة. وهذا ما نسميه منهج التعميم وتفسير المجهول بالمعلوم. على أنَ هذه المحاولات، مهما كانت شرعية، لا تنجح دائما. وكل فشل تقع فيه يؤدي إلى أزمة ينبغي أثناءها إعادة النظر في الأفكار، وحتى في تلك التي تكون منها أساسية ومألوفة أكثر من غيرها. كما ينبغي تعديل المفاهيم وتجديدها للوصول إلى تأليف يوَحد مجموعة من الوقائع أكثر شمولا، على أسس أكثر اتساعا. ومن خلال مثل هذه الأزمات التي تشبه كل واحدة منها بعض الشيء الطفرات التي يفسر بها علماء الحياة اليوم تطور أنواع الأحياء، يستمر نمو العلم، أي تمثـــَل العالم بالفكر.
لانجفان.التطور البشري (من التوطئة)
***
الحقيقة العلمية
اعتبر النظريات العلمية العلميّة اختراعات إنسانية هي بمثابة شِباك نصنعها بأنفسنا لنصطاد بها العالم. فهي اختراعات تختلف لا محالة عن إبداعات الشعراء، وحتى عن اختراعات التقنيين.إذ ليست النظرية أداة فحسب.فما تطلبه هو الحقيقة. ونحن نختبر نظرياتنا لِـنُـقْصي ما كان منها غير صحيح.وإننا لنتوّصل هكذا إلى تحسين نظرياتنا –حتى بما هي أدوات- وذلك من خلال استنباط شباك تتلاءم شيئا فشيئا مع مهمّة اصطياد أسماكنا، أي العالم الواقعي. و لكنها مع ذلك لا تكون قط أدوات كاملة، بل هي شباك عقلية نحن صنعناها و ينبغي ألاّ ننخدع فنحملها على أنها تــَمثـــّلٌ يستوفي كلّ جوانب العالم الواقعي، حتى و إن كانت هذه النظريات باهرة النجاح أو بدا لنا أنها تعطينا مقاربات بارزة للواقع.
كارل بوبـر. الكون المفتوح. دفاعا عـــن اللاحتميّة
***
التقدم التقني
" نشهد منذ بداية العصر الحديث تطورا لا مثيل له من قبل في المعارف التي تكوّن العلم والتي تتبنى علنا صفة العلم. ونقصد بالعلم هنا معرفة تكون صارمة وموضوعيّة وغير قابلة للشك وصادقة. و تتميز هذه المعرفة العلميّة عن كلّ الأشكال التقريبيّة، بل المشكوك فيها من المعرفة والمعتقدات والخرافات الّتي سبقتها، بقوة بداهاتها وبراهينها وحججها و بالنّتائج المذهلة التي توصّلت إليها، وهي نتائج قلبت وجه الأرض رأسا على عقب. ولكن من المؤسف أن هذا الانقلاب قد شمل الإنسان ذاته فإذا كانت المعرفة، الّتي هي فهم متزايد للكون، مكسبا لا شك فيه، فلماذا اقترنت هذه المعرفة بانهيار كل ّالقيم الأخرى، وهو انهيار خطر لدرجة أنه يهدد وجودنا نفسه. ففي حين أن كلّ منتجات حضارات الماضي كانت مقترنة صعودا ونزولا وكأنها على توافق تام، شبيهة في ذلك بتعاقب الموج، ها نحن نشاهد قبالتنا ما لا أحد شاهده من قبل: الانفجار العلمي وقد اقترن بإفلاس الإنسان: هذه هي الوحشية الجديدة، وهي وحشية قد لا نتمكن هذه المرّة من تخطيها."
ميشال هنري " الوحشيّة "
***
التقدم التقني
قدم المنهج العلمي الذي مكننا من السيطرة على الطبيعة بفعالية متزايدة مفاهيم محضة و لكنه قدم أيضا مجموع الأدوات التي سهلت سيطرة الإنسان على الإنسان على نحو مطرد الفعالية من خلال السيطرة على الطبيعة فلقد أصبح العقل النظري رغم كونه يبقى محضا ومحايدا خادما للعقل العملي ولقد كان هذا الترابط مفيدا لكليهما أما اليوم فما تزال السيطرة قائمة وازدادت توسعا بفضل التكنلوجيا بما هي تبرر توسع السلطة السياسية واستيعابها لكل مجالات الثقافة.
إن التكنلوجيا في هذا العالم تعقلن أيضا افتقار الإنسان للحرية وتقيم البرهان على أنه يستحيل تقنيا أن يكون الإنسان سيدا على نفسه و أن يحدد نمط حياته الخاصة وبالفعل فإن نقص الحرية لا يبدو واقعة لا عقلانية أو واقعة ذات صبغة سياسية وإنما يعبر بالأحرى عن أن الإنسان خاضع لجهاز تقني يزيد من رغد الحياة ويزيد من إنتاجية العمل. إن العقلانية التكنولوجية لا تضع مشروعية السيطرة موضع اتهام وإنما هي بالأحرى تحميها وأفق العقل الأداتي ينفتح على مجتمع كلياني عقلاني لقد اتخذت حركية التقدم التقني عل الدوام محتوى سياسيا ولقد أصبح لوغوس التقنية لوغوس العبودية المستديمة وقد كان في الإمكان أن تكون قوة التكنلوجيا قوة محررة بتحويل الأشياء إلى أدوات و لكنها أصبحت عقبة في وجه التحرر بتحويلها البشر إلى أدوات.
هربرت ماركيز: الإنسان ذو البعد الواحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق