احدث المواضيع

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

المنطق و الرياضيات

الحقيقة والصلاحيّة

يجب أن لا نخلط بين صلاحية استدلال ما وحقيقة القضايا التي تكوّنه . وإليك ، على سبيل المثال ، استدلالين على غاية من البساطة :

كل مثلث هو ثلاثي الأضلاع إذن فكل ثلاثي الأضلاع مثلث

كل مثلث هو رباعي الأضلاع ، إذن فبعض رباعي الأضلاع مثلث.

إذا فكرنا برهة من الزمن تبيّن لنا أن الاستدلال الأول غير مقبول منطقيا رغم أن القضيتين فيه حقيقيّتان ، وأن الاستدلال الثاني مقبول رغم أن القضيتين فيه باطلتان .

وغالبا!ما نعبر عن هذا التمييز بأن نقابل الحقيقة المادية بحقيقة صورية ، وبأن ننعت استدلالا صالحا بأنه حقيقي من حيث صورته ، بصرف النظر عن حقيقة مادته ، أي عن محتواه . و لمّا كان المنطق لا يهتمّ إلاّ بهذه الصورة، سمّي منطقا صوريا. فما هي إذن صورة الاستدلال ، وماذا نفهم من عبارة حقيقة صورية ؟

فلننظر في القياس التقليدي :

كل إنسان فان سقراط إنسان إذن فسقراط فان

من الواضح - بادئ ذي بدء - أن صلاحية هذا الاستدلال لا ترتبط البتة بالشخص المعني فيه . فإذا كان هذا الاستدلال صحيحا بالنسبة إلى سقراط ، فهو صحيح أيضا بالنسبة إلى أفلاطون و ألسبياد ، أو بالنسبة إلى أي كان . ويمكننا إذن أن نعوّض فيه اسم سقراط بحرف " س "، يقوم بدور المتغير اللامحدد ، ويشير إلى المكان الذي يحتله اسم إنسان ما (...) و سنطلق على هذا المتغيّر " س "، الذي يمثل شخصا ما، اسم: متغير فردي ويمكننا وقتئذ أن نكتب استدلالنا بهذا الشكل المبسّط:

كل إنسان فان " س " إنسان إذن ف " س " فان

ولنتقدم خطوة ثانية : إن صلاحية هذا الاستدلال لا تتوقف أيضا على المفهومين الماثلين فيه: إنسان ، فان ، فمن الجائز إذن تعويضهما بغيرهما دون أن يفقد الاستدلال قوته ، وسأعمد ، بيانا لهذه الإمكانية ، إلى تعويض الكلمتين اللتين تعنيان هذين المفهومين بحرفين رمزيين هما: ف ، ج ، قادرين على تمثيل مفاهيم أيا كانت ، سيكونان متغيرين مفهوميين ، ومن ثم ينشأ شكل جديد :

كل " ف " هو " ج " " س " هو " ف " إذن فإن " س " هو " ج "

إنني أستخلص ، بهذه الطريقة، الهيكل المنطقي الاستدلالي ، بتجريده ، تدريجيا، من محتواه الأصلي . فالحروف الرمزية تشير فيه إلى أماكن شاغرة يمكن ملؤها بمحتوى ما، مع مراعاة شرط وحيد، وهو أن نضع مكان "  س " اسم شخص ، ومكان " ف " و " ج " ألفاظا تعبّر عن مفاهيم . فتلك الحروف شبيهة بأماكن البياض في " صيغة " مطبوعة يُطلب منّا إكمالها بالقلم ، من خلال إشارات وتعليمات تضفي - !حدها - على الورقة قيمة الإرشادات . والأمر هنا سواء بسواء . لم يعد أمامنا إلا شكل استدلال ، أو إن شئنا قالب استدلالات ، يعطينا استدلالا إذا ما صببنا فيه مادة. غير أنه ، مهما تكن هذه المادة ، فإنّ الاستدلال صحيح ، لأن صلاحيته لا تتوقف إلا على شكل القالب وهو شكل يظل ثابتا لا يتغير.

تلك هي الحقائق التي يتابع المنطقي بحثها والنظر فيها . الحقائق الصورية التّي لا يتبقّى منها غير صياغتنا لها، إلي جانب الحروف الدالة على أمكنة شاغرة لمحتوى ممكن ، سوى عبارات ليس لها أيّ معنى تجريبي ، ولا تمثل من الخطاب إلا لحمته المنطقية وسداه مثل: لو. . . ، إذن ، كل ، هو ، و...

ر.بلانشي "مدخل إلى المنطق المعاصر"

***

الرياضيات التقليدية والمعاصرة

القضايا الرياضية يقينية بنسبة ابتعادها عن الواقع وغير يقينية بنسبة اقترابها منه. هذا ما أوضحته لنا منظومة الأوليات فالتقدم الذي حققته هذه المنظومة مرده إلى أنها منطقية شكلية أي مستقلة عن الواقع الحدسي: لنضرب مثلا على ذلك من نقطتين في المكان نستطيع دوما أن نرسم خطا مستقيما واحدا لا أكثر. فكيف تفسر الرياضيات القديمة هذه المصادرة أو البديهية ؟ و كيف تفسرها الرياضيات الحديثة ؟

التفسير القديم: كلنا يعرف ما الخط  المستقيم ؟ و ما النقطة ؟  هذه المعرفة أهي نتيجة للفكر أم نتيجة للواقع أم للاثنين معا إن الرياضي ليس مجبرا على الإجابة عن هذا السؤال بل يتركه للفيلسوف لكن الرياضي القديم يعد هذه المصادرة واضحة بذاتها قبل كل تجربة.

التفسير الحديث:فلا يعنيه وضوح المصادرة و إنما صفتها الشكلية أي انفصالها عن حدث واقعي لأنها في نظره إنشاء حر يقوم به الفكر الإنساني. فالمصادرة في نظره هي التي تحدد الموضوع لا العكس كما في الرياضيات القديمة و لهذا ترى الرياضيات الحديثة في المصادرات أو ( البديهيات ) تعريفات ضمنية.

ولهذا فالرياضيات الحديثة تتحلل من كل محتوى فهي شكلية خالصة فكلمة نقطة أو خط أو أمثالها يشير في الرياضيات الحديثة إلي مفهومات خالية من كل محتوى.

      أنشتاين: الهندسة و التجربة

***

الاستدلال الرياضي

        إذا كان لنا أن نتكلم عن " معجزة إغريقية " في تطور الفكر الإنساني, فلعله يجدر بنا أن نلمس ذلك في البروز المفاجئ لنمط من التفكير لم يوجد عمليا حتى مجيء الإغريق, وهو النمط الذي رفعه الإغريق دفعة واحدة إلى درجة من الكمال لم يضاهيهم فيها أحد طوال عشرين قرن, إنه الاستدلال الاستنتاجي بمعنى تسلسل من القضايا مرتبة ترتيبا  يجد القارئ أو السامع نفسه معه مجبرا على أن يقر بصحة كل قضية من تلك القضايا مادام أنه سلم بصحة القضايا التي سبقتها في الاستدلال.

إن الشرط الجوهري لتطبيق الاستدلال الاستنتاجي هو صحة المقدمات, فعندما تكونت الرياضيات بصفتها علما مستقلا وعندما شرع الإغريق في تقنين قضايا هذا العلم انتهى بهم الأمر إلى قضايا أولية أي إلى قضايا لا بد من التسليم بصحتها دون برهان. بعض هذه القضايا تسمى عند أقليدس أوليات وبعضها الآخر مصادرات... وهي على ما يبدو تعتبر قضايا بديهية بحكم أنها متضمنة ضرورة في التمثل الذهني الذي يمكن أن يكون لنا عن هذه المفاهيم أما المصادرات فتتعلق بالكائنات الرياضية بالمعنى الدقيق.

وشهد هذا الموقف تطورا في تحول التحليل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومن هنا جاءت الضرورة المطلقة التي غدت تفرض نفسها على كل رياضي وهي ضرورة أن يعرض استدلالاته في شكل أكسيومي أو في شكل تتسلسل فيه القضايا بمقتضى قواعد المنطق وحدها وذلك بغض النظر إراديا عن كل البداهات الحسية التي يمكن أن توحي بها للفكر الحدود التي تتضمنها هذه الاستدلالات.

ديودني: تيارات الفكر الرياضي الكبرى

***

إنّما الأوليات مواضعات

لا يرى أغلب الرياضيين في هندسة لوباتشفسكي سوى مجرد أمر طريف من وجهة نظر المنطق ، بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك : فإذا كانت عديد الهندسات ممكنة ، أواثقون نحن من أن هندستنا هي الصحيحة ؟ لقد علمتنا التجربة - دونما شك - أن مجموع زوايا المثلث يساوي زاويتين قائمتين ، ولكن مرد ذلك إلى أننا لا ندرس إلا مثلثات على غاية من الصغر، والفرق... حسب لوباتشفسكي - يكون متناسبا ومساحة المثلث : ألا يمكن أن يصبح ذلك الفرق محسوسا لو كنا نتعامل مع مثلثات أكبر أو لو كانت مقاساتنا أكثر دقة ؟ إن الهندسة الإقليدية - بذلك - تغدو هندسة وقتية.

ولكي نناقش هذا الرّأي ينبغي علينا أن نسأل أولا عن طبيعة الأوليات الهندسية أهي أحكام تأليفية قبلية ، كما يقول كانط ؟

إذا كان الأمر كذلك ، ألزمتنا تلك الأوليات بقوة لا نقدر معها على أن نتصور قضية مناقضة ولا أن نقيم عليها بناء نظريا. ولم تكن ثمة عندئذ هندسة لا إقليدية (...)

أينبغي - إذن - أن نستخلص أن أوليات الهندسة حقائق تجريبية ؟ ولكن لا يمكن إجراء تجارب على خطوط مستقيمة أو على محيطات دوائر مثالية، فالتجارب لا تكون إلاّ على أشياء مادية، فعلام تكون التجارب التي قد تتأسّس عليها الهندسة ؟ إن الجواب سهل :

لقد رأينا آنفا أنه علينا أن نبني الاستدلال دوما كما لو كانت الأشكال الهندسية تتصرف تصرف الأجسام ، و ما قد تستعيره الهندسة من التجربة، إنما هو خصائص تلك الأجسام (. . .).

غير أن صعوبة تظل قائمة ، وهي صعوبة يعسر تذليلها : إذا كانت الهندسة علما تجريبيا، بطل كونها علما صحيحا، وكانت بذلك موضع مراجعة متواصلة، بل وأكثر من هذا، إنها ستكون - منذ الآن - على ثقة من خطئها إذ أننا نعلم أنه لا يوجد جسم غير متغير البتة.

فالأوليات الهندسية ليست - إذن - لا أحكاما تأليفية قبلية ولا وقائع تجريبية .

هي مواضعات ، وتقود اختيارنا لها من بين كل المواضعات الممكنة وقائع تجريبية، ولكنه اختيار يظل حرا لا تحده إلا ضرورة تجنب كل تناقض . وعلى ذاك يمكن للمصادرات أن تظل صحيحة قطعا وإن لم تكن القوانين التجريبية التي حددت تبني تلك الصادرات إلا تقريبية.

وبعبارة أخرى نقول : إن أوليات الهندسة ليست إلا تعريفات مقنّعة.

وعندئذ، ما قولنا في السؤال التالي : هل إن الهندسة الإقليدية صحيحة ؟ إنه سؤال لا معنى له البتة.

وهو سؤال بمرتبة سؤالنا إن كان النظام المتري صحيحا والمقاييس القديمة خاطئة، وإن كانت الإحداثيات الديكارتية صحيحة و الإحداثيات القطبية خاطئة. فلا يمكن أن تكون هندسة أصح من أخرى، إنّما تكون أكثر ملاءمة لا غير.

بيد أن الهندسة الإقليدية هي الأكثر ملاءمة وستظل كذلك .

أولا : لأنها هي الأبسط ، وليست هي كذلك تبعا لعاداتنا الفكرية فحسب ، أو تبعا لما قد يكون لنا من حدس مباشر بالفضاء الإقليدي ، بل هي الأبسط في ذاتها كما أن عبارة جبرية كثيرة الحدود من الدرجة الأولى أبسط من عبارة جبرية كثيرة الحدود من الدرجة الثانية. ثم إن صيغ حساب المثلثات الكروي أشد تعقيدا من حساب المثلثات المستوي ، وهي لتبدو كذلك حتى لمن رام تحليلها وهو يجهل دلالتها الهندسية.

ثانيا : لأنها على درجة كبيرة من التوافق مع خصائص الأجسام الطبيعية، تلك الأجسام القريبة من أعضائنا ومن أعيننا والتي نصنع منها آلات قيسنا.

بوانكاري" العلم و الفرضيّة"

***

المنهج الأكسيومي

إن الأكسيومية ( منظومة الأوليات ) تمكننا من اقتصاد مهم في التفكير، فنجمع نظريات عديدة في واحدة، ونتصور الكثرة.

بيد أننا نغنم الكثير أيضا بالنسبة إلى المعرفة نفسها: نغنم أولا في مجال تنظيمها الجملي. فكما ميز علم التشريح المقارن بين الأعضاء المتماثلة في تنوعها الرائع، يقوده في ذلك مبدأ تماثل المستويات ، فإن منظومة الأوليات باكتشافها للمماثلات الصورية ، تكشف لنا عن ضروب من التناسب الذي ما كان - يخطر ببال ، بين مجالات متنوعة من علم بعينه ، بل عن بعض أوجه القرابة التي تربط بين علوم كانت تبدو غريبة بعضها عن بعض.

وتمكن الأكسيومية من خلال إبرازها للبنية الثابتة المشتركة بين نظريات تبدو في الظاهر متنافرة - من الإلمام بها بالفكر ومن النظر الجامع في سياق روية أكثر تأليفا - لمشاهد فكرية شاسعة لم نكن نعرفها إلا مجزأة، وذاك ما يمكن العقول المولعة بتتبع تزايد المعارف أكثر من ولعها بتنظيمها المنسجم - من أن تصيب مغنما، لأن هذا التنظيم يكشف الثغرات التي تدعو المماثلة إلى سدها، وتستفيد كل نظرية من غيرها من النظريات التي صرنا نعرف أنها قريبة منها، فننقل هنا النتائج الحاصلة في موضع آخر، وهي نتائج ما كان الحدس ليوحي بها. وإذا بصرامة الطريقة المتبعة عند العرض تؤدي - آخر الأمر - إلى خصبها بالنسبة إلى الاكتشاف .

وتضاف إلى هذه المزايا التي تمنحها الأكسيوميّات الأولى - وإن بدرجة محدودة - المزايا الأخرى التي في الأكسيوميّة المصاغة صوريا، وهي مزايا كل حساب رمزي: الوثوق، والموضوعية وليس الطابع شبه الآلي الذي يسم مناهجه أقل فوائده، فهو يمكن من تنفيذه باستعمال الآلة، ومن تخصيص الفكر لعمليات من مستوى أرفع. وقد بدأت الحاسبات الأمريكية الكبرى تتحول، بفضل الترميز والصياغة الصورية للنظريات، وبفضل متماثلات الصورة الناتجة عن ذلك، إلى " آليات مفكرة " أو على الأقل إلى مساعدات علمية تتجاوز قدراتها بكثير تنفيذ العمليات الحسابية أو المشكلات العددية البحت. فمن جملة المشكلات غير العددية التي هي قادرة على حلها " مشكلات القرار" المتعلقة بمنظومات الأوليات المصاغة صياغة صورية، إن هذه الاستعمالات ما زالت جديدة ويصعب التكهن بتطوراتها، ولكن من السهل أن نتصور انه لولا مساعدة هذه الآلات، ولو اقتصر الفكر على طاقاته دون غيرها، لرفع الترميز والصياغة الصورية من التجريد الأكسيومي إلى الدرجة الثانية من القوة إن صح القول.

ر. بلانشي" الأكسيومية "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق