ترجمة: حسن بن حسن
تقديم:
منذ الاهتزازات الكبرى التي تعرض لها سؤال الأخلاق مع نيتشه لم تبرز فلسفة عملية جديرة بهذا الاسم قادرة على فرض استئناف التفكير الإيجابي فيه حتى السبعينات من هذا القرن حين ظهر إلى الوجود كتاب جون راولس نظرية العدالة (نشر في هارفارد عام 1971 وترجم للفرنسية ونشرته دار سوي عام 1987).
يقول هابرماس بأن نظرية العدالة لراولس يُمثل نقطة تحول في الفلسفة العلمية المعاصرة والفضل يرجع إليه في عثور الأسئلة الأخلاقية المكبوتة لزمن طويل على منزلتها كأسئلة قابلة للدراسة العلمية الجادة(2).
وفي الوقت الذي كانت فيه نظرية العدالة تشق طريقها في العالم الأنجلو-ساكسوني كانت نظرية أخلاقيات التواصل لكل من هابرماس وآبل (J.Habermas et K.Otto Apel) تشق طريقها في أوروبا معيدة هي الأخرى للفلسفة العملية توجهها وراهنيتها - لاشك أن ضرورات تاريخية وطلبا ملحا يدفعان إلى استئناف التفكير الإيجابي في سؤال الأخلاق، غير أن هذا الاستئناف موسوم سلبا بنتائج المعارك الطاحنة لهذا السؤال، فهابرماس وراولس، كلاهما يسعى لبلورة فلسفة عملية لا ميتافيزيقية، والمقصود بذلك فلسفة لا تنغرس في آلماهيات والطبائع والخصائص الذاتية للأفعال. والطريق الوحيد المفتوح أمامهما لذلك هو البحث عن مصدر إجرائي صرف للأخلاق يهتم بصورة وشكل صدور القاعدة الأخلاقية أكثر مما يهتم بمضمونها(3)، والحداثة السياسية بمسطرتها في إفراز الاختيارات والقرارات، أي باستصدارها من مسطرة المناقشة العمومية المعبرة عن الإرادة العامة ستمثل المورد الذي يجعل التفكير آللاميتافيزيقي في الأخلاق ممكنا، لذلك فإن العمود الفقري لفلسفتي راولس وهابرماس واحد رغم اختلاف الحقلين اللذين يشتغلان فيهما، فمقاربتيهما معا لسؤال الأخلاق مقاربتان مسطريتان procédurales أي تُرجعان خاصيتي العموم والتجريد الحيويتين للقاعدة الأخلاقية إلى مصدرها ومسطرة إفرازها لا إلى خصائصها الذاتية المضمونية، المضمون هنا يستمد معقوليته من مسطرة إفرازه -لا يعني هذا أنْ لا خلافَ بين هابرماس ورولس، بل ن النقاط التي يفترقان فيها عديدة، غير أن اختلافهما يظل في خط فكري واحد لذلك بقول هابرماس بأن خصومته مع راولس خصومة عائلية(4)، وأهم ما يختلفان فيه الاحتفاظ بمفهوم الحقيقة من عدمه، فنظرية راولس برمتها تقوم على افتراض وضعية خيالية لمتحاورين خياليين مفصولين عن أهوائهم ومصالحهم الفردية بغشاوة من الجهل الأمر الذي يمكنهم من الحياد الايديولوجي ومن عقلنة تصوراتهم ونقاشهم.
هذا النموذج المتخيل للحياد الايديولوجي يدفع راولس إلى الاستعاضة عن مفهوم الحقيقة بمفهوم المعقولية raisonnabilité، بمعنى أن مبادئ العدالة تستمد عمومها وتجريدها من معقوليتها لا من انغراسهما في تربة جوهرية substantielle للحقيقة. وأما هابرماس فيرى أن استتباعات تعليق مفهوم الحقيقة ثقيلة وأننا في حاجة إلى حقيقة لا ميتافيزيقية لا إلى إنكار هذا المفهوم مطلقا. وأما بول ريكور، ومع أنه أحد الوجوه الفلسفية الكبيرة للقرن العشرين، ومع أنه يمكن النظر إلى فلسفته برمتها على أنها فلسفة للفعل، فإن فلسفته الأخلاقية لم تتبلور بكيفية واضحة مستقلة إلا في كتابه Soi-même comme un autre (1990)(1) وما يختلف به ريكور عن هابرماس وراولس هو اقتناعه بأن المقاربة المسطرية على أهمية التحويل الذي أحدثته لا تكفي كمدخل لسؤال الأخلاق لأنها لا تحل مشكل المضامين حلا شاملا، وريكور يعدد المداخل لسؤال الأخلاق -كما هو الشأن في كل القضايا التي يتناولها- والأخلاق هي الثمرة التي تتجه إليها فلسفته برمتها، وما يهمنا في التقديم لهذا النص هو أنه يميز بين ثلاثة مستويات لسؤال الأخلاق: مستوى القيم ويستعيد فيه أرسطو والتراث اليوناني ويعرفه بالغاية الأعم للأخلاق وهي العيش السعيد مع ومن أجل الآخرين وفي مؤسسات عادلة، وأما المستوى الثاني فمستوى الإكراه والإلزام، أي مستوى القواعد القانونية والأخلاقية النافذة بفعل قوة الإلزام وفي هذا المستوى حسب ريكور تنحصر صلاحية نظريتي راولس وهابرماس. وأما المستوى الأخير فيسميه بالحكمة العملية مستعيدا في ذلك مفهوم الPhronêsis اليوناني وما يجره وراءه من أسئلة مستعصية شهدت تعبيرها الخطابي منذ التراجيديا اليونانية، والمقصود بالحكمة العلمية القدرة على التمييز والفصل في الحالات القانونية والأخلاقية المستعصية التي يتعارض فيها عموم القاعدة القانونية في تجريدها مع خصوصية بعض الحالات الفردية، الحكمة العلمية هي فقه التطبيق والتنزيل.
لا شك أن ريكور بإضافته للبعد القيمي الغائي للعيش السعيد مع ومن أجل الآخرين وفي مؤسسات عادلة يدخل بعدا ميتافيزيقيا حذرا للفلسفة الأخلاقية ولكنه بعد لا جوهري بما أنه لا يتحدد بمضمون ملموس بعينه وإنما يتعلق بقصد فارغ يحتاج للامتلاء. وتتبين أهمية هذا البعد في كونه المرجعية العليا في حالة تعارض القاعدة العامة مع الحالة الفردية، ولاشك أن لهذا المفهوم صلة قرابة حتى وإن كانت بعيدة ومحتجبة بمفهوم القانون الطبيعي - يهمنا أخيرا في التقديم لهذا النص أن نلاحظ أن المسارات الفكرية للأزمنة الحديثة برمتها قد تشكلت في الغالب انطلاقا من نواتين: الحداثة العلمية-التقنية والحداثة السياسية، هاتان النواتان الصلبتان بمحمولاتهما الفلسفية وطاقتهما التحريرية هما منبعا ومصدرا الإمكان التاريخي في الأزمنة الحديثة. ولئن تشكل عالم الأفكار في القرن التاسع عشر انطلاقا من الأصداء والتموجات الفكرية للحداثة العلمية فإن الحداثة السياسية تعود في الثلث الأخير من القرن العشرين وبعد انهيار الايديولوجيات الشمولية وتواري النزعات الحسية وبعد بلوغ فلسفات التشكيك مداها لتشكل المنبع والمورد لاستئناف التفكير الفلسفي في الحقل العلمي. وأما هذا النص في مجمله فيدور حول الفلسفة العملية لراولس وهابرماس وريكور بما هي مساع لعقلنة العيش المشترك بعقلنة صراعاته(6) والمبادئ والقواعد المتحكمة به - والمقصود بالعقلنة تغليب الجانب الإرادي التوافقي في العيش المشترك على الجانب اللاإرادي وعلى العلاقات القهرية والمخزونات الدوغمائية، ولهذه العلة، ولأن العقلنة إحدى حاجاتنا الماسة فقد رأيت أن أترجمه.
النص:
ما أتوق إليه في هذه المحاضرة هو أن أعين سامعي على امتلاك خيوط حوار معاصر ينخرط فيه مفكرون أوروبيون وأمريكيون كبار. البؤرتان المستقطبتان للنقاش في هذا الحوار هما أولا نظرية العدالة لجون راولس J.Rawls وما أثاره من حوارات بين القانونيين والاقتصاديين وعلماء السياسة والفلاسفة وذلك انطلاقا من العالم اللانڤلوساكسوني خاصة، وثانيا، أخلاقيات النقاش لهابرماس وآبل (J.Habermas et K.otto Apel) وما تثيره هي الأخرى من نقاش في نفس الدوائر المعرفية ولكن هذه المرة انطلاقا من أوروبا الغربية.
الرهان المشترك بين الحوارين هو معرفة ما إذا كان من الممكن أن نبلور مبادئ (أو قواعد) عامة في حقول الأخلاق والقانون والسياسة والاجتماع لا تتأثر في عموم صلاحيتها باختلاف الأشخاص والجماعات والثقافات ولا تحددها الظروف الخاصة للتطبيق ولا -خاصة- المستجدات الحديثة.
ويُعترض على هذا المنحى في التفكير بأمور عديدة، منها الطابع المجرد لهذه المبادئ المفترضة الذي يتجاهل تنوع أحوال تنزيلها ومنها خاصيتها اللاتاريخية الغربية عن اختلاف الموروثات الثقافية للشعوب وعن الانغراس الدائم للقواعد المنظمة للعيش المشترك في الممارسات الخاصة بهذه الجماعة أو تلك.
لإضاءة هذا الحوار، سأرسم إطارا إشكاليا متعدد المستويات تختلف فيه المواجهة بين الكوني والتاريخي بحسب المستوى الذي نتناولها فيه - ولغرض بيداغوجي سأتبنى التمييز بين ثلاثة مستويات لصياغة الإشكالية الأخلاقية كما أعرضها في كتابي Soi-même comme un autre، وهي المستويات التي تغطي الحياة الخاصة والقانون والبنيات الاقتصادية-الاجتماعية للمجتمع المدني والمؤسسات السياسية.
- I -
في المستوى الأول الذي أخصص له مصطلح القيم éthique لقرابته الدلالية من الآداب السارية فعلا في المجتمع سأحدد التخلق La moralité في معناه الأعم على أنه الأمل في العيش السعيد (أو في الحياة الطيبة) مع ومن أجل الآخرين وفي مؤسسات عادلة - المقطع الأول من هذه الجملة الثلاثية يحدد غاية هذا المستوى من مقاربتنا (السؤال التاريخي والكوني) وهو بلوغ السعادة في الحياتين العامة والخاصة، ومن هذا التحديد الأولي. وقبل المرور لما بعده يتبين التمازج والاختلاط بين البعدين التاريخي والكوني، فمن جهة يمكننا أن نقول مع أرسطو بأن كل فعل وكل ممارسة تتجه إلى هذه الغاية وتتحدد بالنسبة إليها. فكل الناس يريدون أن يكونوا سعداء، ولكن هذه الغاية كي تتحول إلى قيمة تحتاج إلى الامتلاء بمضامين محددة ومعقولة تمكننا من تقويم الأفعال من جهة خيريتها أو سوئها.
هاهنا وفي هذه المسافة بين تجذر الرغبة في الحياة السعيدة وبين السعادة كأفق، تتدخل هذه الفضائل الفرعية –(كي تمنح لهذه الرغبة ولهذا الأفق الشكل والصورة)(*)- أي الاعتدال والشجاعة والكرم والصداقة الخ.. غير أن هذه التحديدات الأخلاقية الكبرى تضرب بجذورها باستمرار في الحياة الخاصة لشعب ما كما تؤكده مختلف المنظومات الأخلاقية الموروثة من اليونان، لذلك فإن الفيلسوف لا يفعل هنا سوى التفكير فيما يسميه شارل تايلر Charles Taylor بالتقييمات الصلبة (أي المضامين الاجتماعية المستقرة التي تُمنح لهذه القيم) وهو ما فعله أرسطو حين انطلق من المعتقدات الأكثر رسوخا وقبولا والتي شهدت صياغاتها الخطابية مع الشعراء اليونان هومير Homère وإيزشيل Eschyle وسوفوكل Sophocle وأوروبيد Euripide ومع الخطباء والمؤرخين والساسة.
هذا الاختلاف بين الخصوصي والكوني يصبح أكثر تخصيصا وأكثر هشاشة في الآن ذاته حين ننتقل إلى المقطع الثاني من الغاية المذكورة آنفا أي "مع ومن أجل الآخرين".
هاهنا، للارتباط بالآخر وجهان: الأول ارتباط مباشر مع آخر حاضر معي لحما ودما ويتجسد في العلاقة المتبادلة للصداقة والحب، وربما في هذه العلاقة المباشرة تجد الغايات القيمية الكونية تعبيرها الأوفى والأعم. فنحن نجد ثناءا متشابها على الصداقة في كل الثقافات، ومع ذلك، فلا يمكن أن نهمل الاختلافات الموجودة مثلا بين البنية الأرستقراطية للمدينة اليونانية وبين أشكال التضامن الشعبية في المجتمعات الحديثة - إن الجدل بين الخصوصي والكوني سيفرض نفسه في الجزء الثالث من الغاية المذكورة آنفا أي "في مؤسسات عادلة". صحيح أن الخاصية الصراعية للتواصل لن تظهر إلا في المستوى الثاني الذي سنتعرض له بعد حين (أي مستوى الإكراه القانوني)، ومع ذلك فإن الضمأ للعدالة لا يختص بمستوى الواجب والإلزام ولكنه أيضا مكون أساسي للأمل في العيش السعيد.
(لقد قلنا بأن للارتباط بالآخر وجه أول غير أنه ليس الوحيد)، فالعيش المشترك لا يقتصر على الأقربين ولكنه يمتد إلى الأبعدين الذين ارتبط بهم (ارتباطا غير مباشر) عن طريق المؤسسات المتنوعة المهيكلة للحياة الاجتماعية. وحينها تتوسع دائرة شركائي في الحياة الاجتماعية إلى كل الذين أقاسمهم العيش المشترك والذين يتحددون بالنسبة لي بأدوارهم ووظائفهم لا بمعرفتي المباشرة لهم- وهذه العلاقة بالكافة المختلفة عن العلاقة (الحميمية) للصداقة والحب هي المؤسسة لما تسميه حنه أرندت Hannah Arendt بالتعدد الإنساني La pluralité humaine، وهذا التعدد هو الذي نمسك فيه بجذور الشأن السياسي أي بإرادة العيش المشترك.
يمكننا بهذا الصدد أن نعتبر إرادة العيش المشترك ظاهرة كونية ولكن ما أن نترجم هذه الإرادة إلى التوق إلى مؤسسات عادلة حتى يختلط الكوني بالسياقي والظرفي اختلاطا معقدا ونكون مباشرة أمام السؤال: ما هي المؤسسة العادلة؟
والتساؤل عن المؤسسة العادلة لا ينفصل عن السؤال الأول: مع من نريد أن نعيش؟ وحين نطرح هذا السؤال ترغمنا الاختلافات الثقافية وتاريخ المؤسسات القانونية بمزيجه المعقد من العقلانية والأحكام المسبقة على امتحان معايير أخرى تختلف عن انشغالنا الأولي بالعيش السعيد.
يمكننا بهذا الصدد أن نقول بأن فكرتنا الأولية عن العدالة ليست سوى ترجمة للأمل في الحياة السعيدة في مستويات العيش المشترك الثلاثة: الحوارية والجماعية والمؤسساتية، وهذا الارتباط بين الحياة الطيبة وبين العدالة قد وجد تعبيره القار -الذي لم تستنفذ فاعليته الوجدانية والعقلية- في مفهوم المصلحة العامة.
- II -
إذا كانت الأطروحتان الكونية والسياقية تجدان حججا متساوية في تفكير اليونان في الحياة السعيدة فإن الأطروحة الكونية تتقدم على مقابلتها حين نمر إلى المستوى الثاني للتخلق الذي لا يتحدد بالأمل في الحياة السعيدة (أي لا يتحدد بمعنى نفسي) وإما تحدده مفاهيم الإلزام والواجب والمنع. يمكن أن نتساءل: لماذا لا نبقى في المستوى القيمي للأمل في العيش السعيد؟
والجواب هو أن الحياة الاجتماعية مجال رحب ومخيف لمختلف أنواع الصراع: صراع المصالح والعقائد والقناعات الذي لا يدخر أي مستوى من مستويات العلاقات الإنسانية، وهذه الصراعات تتجه لاتخاذ كل أشكال العنف في التعبير عن نفسها ابتداء بنقض العهد وانتهاءا بالقتل، وهذا العنف يلحق الأضرار البليغة بالأفراد والمؤسسات على حد سواء. هاهنا يتدخل الميل للثأر ليضيف عنفا إلى عنف في سلسلة لانهاية لها كما في تراجيديا الأورستي l’orestie اليونانية.
من هنا تولد الحاجة لحكم غير منحاز يتجسد في مجتمعاتنا المتحضرة في مدونات قانونية مكتوبة، في مؤسسات عدلية وهيئات قضائية وأخيرا في نظام من العقوبات يهب الأخلاق العامة وجهها الإكراهي والإلزامي.
هذه الضرورة الاجتماعية للتحكيم تثير التساؤل عن طبيعة القواعد المحددة لحقل المباح والممنوع (أي عن مصدر وعلة شمولها وعمومها) والمخولة للاستعمال المعترف بشرعيته للعقاب والكيفية التي نبرر بها هذه القواعد ودورها التحكيمي تثير تساؤلا أعم عن مبررات القواعد المنظمة للحياة الاجتماعية.
وتجد الأطروحة المدافعة عن عموم الأخلاق التي سيطورها كل من راولس وهابرماس صياغتها الدقيقة لدى كانط، وأول فرضية ينطلق منها كانط هي أنه يوجد عقل عملي إلى جانب العقل النظري(1)، وأن للثاني، كالأول مستويين: ما-قبلي يتعلق بشروط إمكان كل الأحكام الاختيارية ومستوى بعدي أو اختباري مكون من الرغبات واللذات والمصالح والأحكام المسبقة والادعاءات اللاعقلانية.
ولكن فيما يتمثل الماقبلي العملي؟ الجواب: في العموم الأخلاقي المستقل عن ظروف تنزيله. ولكن كيف نصوغ هذا العموم (صياغة عملية)؟ عن طريق وضع قاعدة مجردة للتعميم تتحكم بكل المبادئ الوجهة لأفعالنا.
يصوغ كانط هذه القاعدة على المحو الآتي: (على أن أتساءل في أي فعل أهم به)، ماذا سيحصل لو فعل كل الناس مثلي؟
وللوهلة الأولى يبدو أن دور هذه القاعدة ينحصر في اختبار ادعائنا لعموم المبادئ المنظمة لأفعالنا ومع ذلك فإنه يصعب تجريدها من أي إيحاء نفعي(2). وحين صاغ كانط هذه القاعدة الامتحانية لم يكن أمام ناظريه سوى التعارض المنطقي المتجسد في الاستثناء الذي يمكن أن يحطمها، وسنرى فيما سيأتي كيف أن هابرماس وآخرين قد حاولوا معالجة هشاشة هذا التمييز بين التعارض المنطقي والتعارض النفعي. ومع ذلك فلا يمكننا أن نحشر كانط في هذه الزاوية وأن نتهمه بأن معيار عموم قاعدته مونولوجي صرف. فلقد وسع كانط نفسه مجال العموم بوضعه صيغتين أخريين للواجب الأخلاقي، الأمر الذي يمكننا من صياغة ثلاثية للواجب الأخلاقي شبيهة بالمبدإ القيمي الثلاثي الذي بدأنا به هذه الدراسة (أي الأمل في العيش السعيد مع ومن أجل الآخرين وفي مؤسسات عادلة). لقد صاغ كانط العموم والواجب الأخلاقيين في القواعد الآتية:
1- اعمل كما لو أن القاعدة المنظمة لعملك شاملة وطبيعية.
2- اعمل بالكيفية التي تمكنك من معاملة الإنسانية في شخصك وأشخاص الآخرين لا كوسيلة فحسب وإنما كغاية في ذاتها.
3- اعمل كما لو أنك بالنسبة لغايات عملك فاعل ومشرع في الآن ذاته.
هذه المبادئ تحدد الاكتفاء(3) في أوجهه الثلاثة: الشخصي والجماعي والعالمي-السياسي Cosmopolitique، وعلى هذه الخلفية الكانطية يجب فهم محاولة راولس وضع تعريف عام لمبادئ العدالة. وأما تجريد مسعى راولس (أي عمومه وحياده الأيديولوجي) فيجد تعبيره في افتراض وضعي خيالية لا تاريخية يطلق عليها اسم الوضعية الأصلية situation imaginaire يكون كل المشاركين فيها محجوزين (عن منافعهم الشخصية وانتماءاتهم الثقافية والإيديولوجية) بغشاوة من الجهل أو من العذرية المعرفية une voile d’ignorance تمكنهم من عدم اعتبار مصالحهم الفردية أو المضار التي يمكن أن تلحقهم من نتائج هذه المناقشة المفترضة (المتجردة من الأهواء).
وأما هذه المناقشة أو المداولة للرأي فتدور حول قواعد التوزيع في المجتمع: توزيع المنافع التجارية (أجور-مواريث-امتيازات اجتماعية..) والمنافع غير التجارية كالأمن والصحة والتعليم وخاصة مواقع المسؤولية والسلطة والتسيير في كل المستويات المؤسساتية للمجتمع.
هذه الرؤية الافتراضية للمجتمع بما هو نسق لتوزيع مختلف أنواع المنافع ستمنح لونا خاصا للشكلية(4) الموروثة عن كانط - الشكلية هنا لا تتعلق بامتحان خاصية العموم وإنما بمسطرة التوزيع هذه المسطرة ستحدد في ضوء المبدأين الكبيرين للعدالة لدى راولس: لكل شخص الحق المتساوي مع الآخرين في نظام يضمن الحدود القصوى من الحريات الأساسية المتساوية بين الجميع بشرط أن يكون متوافقا مع النظام العام للحريات في المجتمع(5).
2- ينبغي تنظيم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بالكيفية التي: أ- تكون فيها فعلا وبكيفية معقولة في مصلحة الجميع -ب- وبالكيفية التي تفتح الوظائف والمواقع أمام الجميع بدون تمييز.
هذا المبدأ الثاني يستهدف التوزيع اللامتكافئ في مجتمعاتنا الراعية للقيم المضافة. ولكن قبل تحليل المبدإ الثاني، يلح راولس على ضرورة تطبيق المبدإ الأول. ذلك أنه لا معنى لمعالجة التوزيع اللامتكافئ بدون المساواة المجردة للمواطنين أمام القانون بمعنى أن الفروق الاجتماعية والاقتصادية لا يمكن أن تكون مبررا لانتهاك المبدأ الأول للعدالة.
وأما بالنسبة للمبدإ الثاني فيفصله راولس -وخاصة شطره الأول- على النحو الآتي: النظام الأعدل أو على الأقل، الأقل حيفا على الآخرين، لاقتسام المنافع هو الذي يعوض عن الزيادة في منافع الأكثر حظوظا بتخفيف الضرر عن الأقل حظوظا.
سنرى لاحقا النقد الذي تعرض له هذا المبدأ من قبل دعاة الخصوصيات الجماعية les Communautariens. وما يهمنا الآن هو أن النظرية كانت عرضة للنقد في نقطتين: الأولى تجريد مسطرة التوزيع التي لا تأخذ في الاعتبار التنوع الفعلي للمنافع المعروضة للتوزيع، فهل نخضع نظام المكافآت والأجور في إدارة ما لنفس توزيع السلطة فيها؟
وأما النقطة الثانية فالآتية: أيمكن لمبدأ للعدالة صيغ في وضعية خيالية لا تاريخية أن ينظم مجتمعا تاريخيا فعليا؟ وبأكثر دقة، أي صنف من المجتمعات القائمة حاليا أكثر قابلية للخضوع لهذه الصيغة للعدالة التوزيعية؟(6).
ولكن قبل فحص هذه الاعتراضات المتعلقة في الحقيقة بالمستوى الثالث من التخلق الذي سأخصصه للحكمة العملية، سأعرج على أخلاقيات المناقشة لدى هابرماس وآبل. للوهلة الأولى يبدو أن الأمر في أخلاقيات التواصل مختلف تماما عن راولس. فمع راولس يتعلق الأمر بالتوزيع بمعناه الواسع الآنف، وأما مع هابرماس فإن الأمر يتعلق بمشكل النقاش وبأكثر دقة بالحجاج، ومع ذلك فإن هذين المنحيين ليسا بعيدين عن بعضهما. فمن جهة أولى، إرساء مبادئ للعدالة في الوضعية الأصلية وتحت شرط غشاوة أو حجاب الجهل لدى راولس ثمرة لنقاش مفتوح يمكن إدراجه في باب أخلاقيات النقاش، ومن جهة أخرى، لأي شيء نعطي الأولوية في النقاش إذا لم يكن لاقتسام المنافع المولد للصراعات؟ يمكن لهابرماس إذا كما لراولس أن ينطلق من تعدد تصورات المنفعة في مجتمع متعدد كمجتمعنا، غير أنه لا يمكننا العثور على قواعد للوفاق في هذا التعدد والصراع. أين نعثر عليها إذا؟ نعثر عليها في الممارسة اللغوية بما أن كل العلاقات الإنسانية تمر ضرورة من الخطاب أو تتخذ أشكال تعبيرية خطابية.
إضافة لذلك، فإن التهديد بالعنف المبرر للمرور من أخلاق السعادة إلى أخلاق الإكراه والإلزام كما رأينا يدفعنا للبحث عن الإجابة الإنسانية الوحيدة عن مشكل العنف في كيفيات إعلاء مختلف الصراعات إلى مستوى الخطاب (البحث عن حل مشكل العنف في كيفيات التصريف الخطابي للصراعات الاجتماعية بما أن العنف لا يمارس دون وساطة خطابية). غير أن اقتسام الكلام في المجتمع لا يمكن أن يتم دون قواعد معيارية تنظم النقاش. كل المشكل هنا إذا يتمثل في المرور من الانعكاس اللغوي للصراعات الاجتماعية إلى الحق في الحجاج والمناقشة. السؤال إذا في معرفة ما إذا كانت هناك قواعد ذات صلاحية عامة لإدارة كل نقاش ممكن وكل حجاج عقلي. يجيب هابرماس عن هذا السؤال بالإيجاب مستندا في ذلك إلى استخدام للتناقض مختلف عن الذي استعمله كانط في تبريره لقاعدة التعميم التي رأيناها سابقا. فالتبرير النهائي لوجود معايير عامة صالحة لإدارة النقاش يتم بإجلاء التعارض العملي -لا الشكلي كما فعل كانط- الذي يمكن أن يقع فيه كل معارض لهذا الرأي.
يمكن أن نواجه أي معترض على هذه الأطروحة على النحو الآتي: حين تقول بأن النقاش لا يخضع لقواعد عامة (غير متحيزة) فإنك تحاجج وتفترض بدورك قاعدة عامة (هي عدم خضوع النقاش لقاعدة) تسري عليك وعلى غيرك وبذلك تناقض نفسك (بمعنى أنه إذا كان إخضاع النقاش لقواعد عامة الصلاحية متعذر فإن النقاش ذاته يصبح عديم المعنى).
وأما بالنسبة للقواعد المشرّعة للتواصل فسهلة ومحدودة: لكل إنسان حق مساو للآخرين في الكلام، كما له الحق في استيفاء حججه وعرض أحسنها لمن يطلب منه ذلك، على كل إنسان أن يستمع بخلفية حسنة لحجة غيره، وأخيرا، وهو الأهم ربما، على الخصمين الخاضعين في حوارهما لقواعد أن يجعلا التوافق والإجماع أفقا لنقاشهما. وهكذا، فإن أخلاقيات التواصل تتأطر داخل الأفق اليوتوبي لإمكانية تقاسم الكلام، الإمكانية التي هي في الوقت ذاته قاعدة منظمة للمناقشة المفتوحة بلا حدود ولا موانع. وبدون افتراض هذا التوافق اللازم، لا يمكن أن تكون هناك حقيقة في الحقل العلمي-وبهذا الصدد، فإن هابرماس يؤكد بقوة على الخاصية المعرفية لأخلاقياته. ها هنا لا يوجد فرق بين العقل العملي والعقل النظري في الحجة الضرورية للحقيقة عند المناقشة وتقاسم الكلام. ويمكننا بدون عناء أن نلاحظ قوة حجة أخلاقيات التواصل بمواجهة ثلاثة خصوم محددين: أولهم الداعين إلى أخلاق حالية Une morale décisionniste تشتغل حالة بحالة (فلكل حالة حكمها الخاص الذي لا يندرج تحت قاعدة عامة) مطوّعين لذلك المفهوم اليوناني للحكمة العملية phoronêsis الذي صيغ لمعالجة الحالات الفردية المستعصية. والفرضية المسبقة لهابرماس بهذا الصدد هي أن كل الحالات الفردية يمكن أن تخضع للقواعد العامة الموجهة لنقاش منظم.
وأما الخصم الثاني فيتمثل في دعاة الأخلاق الانفعالية أو العاطفية التي تكون فيها المشاعر النبيلة والرفيعة -كالرحمة والشفقة والاحترام والتوقير- هي معاير العدل. وأما العصر الأخير الذي يستهدفه هابرماس باستمرار فهو النزعة الوضعية في الأخلاق والقانون positivisme moral et juridique القريبة من النزعة التواضعية Conventionnalisme للسفسطائيين اليونان التي تقول بأن القواعد المحكمة في النزعات الاجتماعية خاضع لقاعدة منفعية عامة تقررها باستمرار السلطات الفعلية وقوانينها.
وكما هو بين، فإن أخلاقيات التواصل تأخذ في اعتبارها بشجاعة مختلف الوضعيات الصراعية القابلة للإعلاء إلى مستوى الخطاب، وأفضلها تلك التي تجري في إطار مؤسساتي شبيه بذلك الذي توفره المحاكمة القضائية.
أخلاقيات التواصل تفترض من جانب الخصوم إرادة متساوية للعثور على اتفاق ورغبة في التوفيق الذكي بين مخططاتهم وانشغالا بتغليب التعاون على الصراع في كل وضعيات الاختلاف.
- III -
علينا الآن عرض المبررات التي تجعل إضافة بعد ثالث للفلسفة الأخلاقية ضروريا. وقد أسميت هذا البعد بالحكمة العملية اعتبارا لما أسماه هيغل بsittlichkeit في مبادئ فلسفة القانون وللنظرية الأرسطية لـphronêsis (الحكمة العملية) المترجم إلى اللاتينية بـprudentia (الحذر) والمبسوطة في الفصل السادس من كتاب l’ethique à Nicomaque.
لماذا إضافة بعد ثالث لفلسفة الأخلاق؟ للإجابة نقول بأنه إذا كان الصراع والعنف هما اللذان يحتمان المرور من المستوى القيمي للحياة السعيدة إلى المستوى الأخلاقي للإلزام والمنع فإن ما يمكن أن نسميه بمأساة الفعل Le tragique de l’action هو الدافع لإكمال المبادئ المجردة العامة للأخلاق بقواعد للتنزيل والتطبيق مستجيبة لاختلاف السياقات التاريخية الثقافية.
والمقصود بمأساة (أو تراجيديا) الفعل حالات نموذجية ذات خصائص مشتركة هي الآتية: هي أول حالات صراع بين الواجبات كما في التراجيديا اليونانية مثلا. وبهذا الصدد فإن تراجيديا أنتيغون Antigone نموذجية تماما. ففي هذه التراجيديا يُمثِّلُ Antigone وCréon واجبات متعارضة تفضي إلى صراع لا يُغتفر. وحتى لو كان صحيحا أنه من الزاوية المجردة يبدو أن واجب الصداقة والأخوة الذي يحرك Antigone يتوافق تماما مع الخدمة السياسية للمدينة التي تحرك الأمير Créon، فإن المحدودية الإنسانية تجعل كلا منهما غير قادر على خدمة الهدف الذي يتبناه خارج الحدود الضيقة للولاء العاطفي الذي لا يبصر حدوده. والمأساة تتمثل تحديدا في الاستبعاد -الناتج عن التصلب والعناد- لأي اتفاق بين خصمين يخدم كل منهما واجبا مقدسا ومطلقا. يمكن أن نسوق وضعية مأساوية أخرى يمثلها تعقد العلاقات الاجتماعية المضاعف للحالات التي تدخل فيها القاعدة الأخلاقية والقانونية في صراع مع واجب العناية بأشخاص مستحقين للرعاية - لقد رأينا في الصياغة الكانطية للواجب الأخلاقي الثاني لدى كانط كيف أن احترام الأشخاص مسيّج (سياجا منيعا) باحترام الإنسانية. وليس المقصود بالإنسانية نا مجموع الناس وإنما الخاصية المشكلة لإنسانية الإنسان والمشتركة بين كل الناس في كل الثقافات التاريخية. غير أن الممارستين الطبية والقضائية لا تتوقعان عن وضعنا أمام حالات لا يمكن فيها احترام الأشخاص والقاعدة القانونية في آن واحد. ويمكننا بهذا الصدد استعراض المشاكل الصعبة المعروضة على أخلاقيات الطب والمتعلقة بالحالات المستشكلة لبداية ونهاية الحياة.
فبالنسبة لبداية الحياة هناك أسباب كافية للقول بأن كل حياة تستحق الحماية منذ مراحلها الجنينية بما أن للجنين منذ خلقه شفرته الوراثية code génétique المتميزة عن والديه. ولكن لا أحد يجهل الوضعيات الخطيرة التي تجعل حياة الأم أولى من حياة الجنين. نحن هنا إذا أمام مشكل معروض للمناقشة العامة ولحجاج يأخذ في اعتباره فرادة مثل هذه الحالات. وبعدها يكون القرار ثمرة مناقشة نزيهة.
علينا أيضا استعراض الحالات التي لا يكون فيها الاختيار بين الخير والشر وإنما -لو جاز القول- بين الرمادي والرمادي. فهل نخضع لنفس القواعد الجزائية مثلا المراهقين المنحرفين والكبار المعتبرين أكثر مسؤولية؟ في أي سن يبدأ الرشد القانوني؟ والسياسي؟
مشكل آخر أكثر التباسا: حين يكون الاختيار -لا بين الخير والشر- ولكن بين السيء والأسوأ منه، ومن ذلك أن قوانيننا المتعلقة بالبغاء وببغاء الأطفال خاصة تجسد هذه الثنائية المأساوية حقا. ويمكنني أن أقول بأن قوانيننا المنظمة للإجهاض تنتمي إلى هذه الوضعية الأخلاقية التي يكون فيها الاختيار بين السيء والأسوأ منه، وعديد هي القرارات الأخلاقية التي يكون هدفها هو دفع الضرر لا جلب المنفعة. لا أريد أن أقول بأن أخلاق الحكمة العملية لا تعرف إلا الوضعيات المأساوية كالتي استعرضنا، بل إن الهدف من الحالات الآنفة هو جلب الانتباه لمشكل أعم بكثير مفاده أن المبادئ المشرعة لقاعدة قانونية أو أخلاقية ما لا تمس مشاكل التطبيق والتنزيل. الأمر يتعلق إذا باعتبار مشكل التطبيق في مداه الأوسع وبالموازاة مع مشكل شرعية القاعدة القانونية (المتعلق بمصدر عمومها وتجريدها) الذي تناولناه آنفا. ومشكل التطبيق هذا يأتينا من مصدر آخر غير القانون والأخلاق هو تأويل النصوص وخاصة منها الأدبية والدينية. فلقد تشكلت فكرة التأويل في حقل تفسير التوراة والفيلولوجيا الكلاسيكية متمايزة في ذلك عن الفهم والشرح. ومنذ نهاية القرن الثامن عشر وخاصة مع شلاير ماخر ولاحقا مع ديلتاي بلغ التأويل مداه متجاوزا في ذلك التفسير التوراتي والفيلولوجيا الكلاسيكية بطرح قواعد عامة للتأويل صالحة لكل أصناف النصوص.
ويمكننا القول كذلك بأنه لم يغب أبدا عن الوعي أن تطبيق النصوص القانونية يستدعي ضربا ثالثا من التأويل هو التأويل القانوني l’herméneutique juridique الذي سنرى حالات تطبيقية له نستحضرها عند مناقشة أطروحات راولس بخصوص العدالة التوزيعية وأطروحات هابرماس بخصوص المناقشة العامة. في الحالتين، مشكل تطبيق النصوص المجردة على حالات فردية يدخل في الاعتبار البعد التاريخي والثقافي للموروثات المشكلة لسياق التطبيق.
لنعد إلى الحجج التي استبقنا بها آنفا مناقشة راولس؛ يرى ميكائيل فالزير Michael Walzer في كتابه "Shères de justice"(7) بأن نظرية العدالة التوزيعية لا تستطيع أن تقتصر على الرؤية المسطرية لسؤال العدالة وأن تغفل الطبيعة المختلفة للمنافع المعروضة للتوزيع، فلا يمكننا أن نناقش بنفس الكيفية المنافع التجارية والمنافع غير التجارية، ومن بين هذه الأخيرة منافع غير متجانسة كالصحة والتعليم والأمن والمواطنة، الخ... كل هذه المنافع -يقول فالزير- يخضع لفهم مشترك من قبل جماعة ما في عصر ما، والأمر كذلك أيضا بالنسبة لمفهوم المنافع (أو القيم) التجارية الذي يتبع المواضعة الاجتماعية على ما هو قابل للبيع وما هو غير قابل له. وبتعبير آخر، فإن مفهوم القيم التجارية يتبع ما يسميه الكاتب (أي فالزير) بالرمزية المشتركة Le symbolisme partagé التي تتخذ بحسب السياق الاجتماعي-الثقافي. ومن هذه الرمزية المشتركة ينتج منطق متميز يتحكم بكل الحالات المنتمية لنفس الحقل ويسمى فالزير الحقل الخاضع لمنطق واحد بالمدينة cité أو العالم. وهكذا ففي الموضع الذي يطرح فيه راولس قواعد عامة للتوزيع يرى فالزير عوالم متعددة من المنافع متصارعة الحدود لا يمكن لأي حجة مجردة أن تقوم بالتحكيم بينها. كما أنه لا يمكن إخضاع صراع هذه العوالم (من المنافع والمصالح) إلا لتوافقات هشة تعبر عما أسميناه آنفا بالحكمة أو الحذر، والنتيجة هي أننا أمام اتجاه لتعويض المفهوم الموحد والمسطري procédural للعدالة بتعدد قانوني لدى فالزير.أما أنا فأتساءل: هل يعوض التعدد القانوني المفهوم المجرد للعدالة أم يكمله ويتممه؟ يمكنني القول أنه في غياب مشروع عام وشامل للعدالة لا يمكننا العثور على المبررات الكافية لأخلاقيات الإجماع بما أن غاية هذه الأخلاقيات هي الاتفاق على تعيين المنفعة المشتركة.
بهذا المعنى، الخصومة التي أثارها مشروع راولس في وضع نظرية شاملة للعدالة تحيل إلى الخليط المعقد بين الكونية والتاريخية الذي تعرفنا عليه في المستوى الأولي للتخلق أي المستوى القيمي للحياة السعيدة.
في كتاباته اللاحقة لنظرية العدالة اعترف راولس نفسه بالحدود التاريخية لنظريته، فهي فاعلة فقط فيما يسميه بالديمقراطية الليبرالية أو الدستورية أي في دول القانون المؤسسة على ما يسميه بالإجماع التقاطعي çonsensus par recoupement بين موروثات متعددة متوافقة تتمثل أولا في صيغة مستنيرة للتراث اليهودي المسيحي، وثانيا في استعادة ثقافة الأنوار ضدا على الاختزال النفعي والاستراتيجي الصرف للعقلانية، وأخيرا في ظهور الرومانسية في شكل رغبة في التعبير التلقائي متناغمة مع المنابع العميقة للطبيعة المبدعة. بهذا المعنى فإن عموم نظرية العدالة لراولس لا يكتمل إلا بالشروط التاريخية لتفعيلها. ويبدو لي أن أخلاقيات التواصل تتجه إلى نتيجة شبيهة. فمن الممكن أن نعترض عليها بكونها تبالغ في اعتبار دور المناقشة وتعقيد الحجاج في العلاقات بين الناس، في حين أن البحث عن المبررات (المشرعة لنمط من الفعل) لعبة اجتماعية بالغة التعقيد والتنوع تتخفى فيها الرغبات المختلفة تحت مظهر الحياد. الحجاج يمكن أن يكون مجرد أسلوب متخيل في مواصلة المعركة.
وبتعبير آخر، يمكن الاعتراض بأن شرعية اعتماد أخلاقيات التواصل على الوساطة اللغوية كقاعدة مرجعية (لضبط الصراعات الاجتماعية) لا يمنع أن هذه الوساطة يمكن أن تقضي إلى نتيجة أخرى غير التحكيم عن طريق الحجاج.
إن التفكير في تنوع اللغات كمظهر أساسي لتنوع الثقافات يمكن أن يقود إلى تحليل مفيد للكيفيات التي تحل بها المشاكل الناجمة عن الظاهرة الثقيلة التبعات لتشتت اللغات وغياب لغة كونية واحدة. غير أن غياب مثل هذه اللغة لا يعجزنا بما أن لدينا موردا آخر (للتواصل الكوني) هو الترجمة وعلينا أن لا نعامل الترجمة على أنها مجرد ظاهرة ثانوية تمكننا من نقل الوسائل من لغة إلى أخرى.
الترجمة ظاهرة كونية تتمثل في قول نفس المعاني بكيفية أخرى، وفيها ينقل المخاطب روح خطابه إلى عالم لغوي لنص أجنبي كما يستقبل في عالمه اللغوي كلام الآخرين، وظاهرة الضيافة اللغوية هذه تصلح نموذجا لكل عمليات الفهم التي يغيب فيها التبادل على قاعدة عليا مشتركة وتستدعي بالاستتباع أدوات النقل والاستقبال. غير أن الميدان الذي يتعين فيه أكثر من غيره التطبيق المبدع لأخلاقيات التواصل هو ميدان القضاء. وقد حاول كُتَّاب مثل ألكسي Alexy اشتقاق نظرية للحجاج القانوني من أخلاقيات التواصل، وهو مسعى شرعي تماما بما أنه لا يمكننا تخيل قاضي يقدر بأن الحكم الذي نطق به غير صالح وبهذا المعنى، فإن صلاحية حكم قضائي فردي تعبر جزئيا عن الفكرة العامة للصلاحية التي تبسط أخلاقيات التواصل نظريتها. والسؤال الذي يتبادر هو، أيمكن لهذه الصلاحية أن تنطبق على الحالات التي لا تستجيب للفرضيات الأكثر أساسية لأخلاقيات التواصل، أي على الحالات التي لا تتوفر فيها شروط الوضعية الحوارية المفتوحة غير المحددة والخالية من الإكراهات؟
إنه من المفترض أن يصدر قرار القاضي في إطار قانوني يخضع فيه تبادل الكلام لمسطرة صارمة يتكلم بمقتضاها كل طرف في وقت محدد لا يتعداه. ومداولة الحكم نفسها تشرك عددا محددا من القضاة في مهمة محددة تماما. وأخيرا، فإن القرار النهائي أي الحكم ينبغي أن يتخذ في وقت محدد لا يحق للقاضي فيه أن يتنصل من مهمة الفصل. بل أن مصطلح الفصل في النزاع نفسه يجسد هذه المسافة بين شروط الحوار في إطار المحاكمة وبين الضرورة المفتوحة اللامحددة للنقاش المتوخى للإجماع في أخلاقيات التواصل. غير أن هناك ما هو أهم من هذه الإكراهات ويتمثل في بنيات الحجاج القانوني المفترض لتقنيات تأويلية شبيهة بما هو جار في التفسير التوراتي والفيلولوجيا. ومن ذلك أن الحالات المستحدثة غير المسبوقة التي يسميها Dworkin بـHard cases تستدعي تأويلا مزدوجا: تأويلا سرديا للوقائع ولعلاقاتها العلية، وتأويلا للقاعدة القانونية القابلة للانطباق على الجريمة. والاستدلال هنا غير قابل للاختزال إلى قواعد القياس العملي بل إنه يستدعي مسارا معقدا من التكييف المتبادل بين التأويل السردي للأحداث والتأويل القانوني للقاعدة القانونية. وفي نقطة التقاء هذين المسارين (تعليل الوقائع وتأويل القاعدة القانونية) يتم ضبط إحكام التكييف القانوني للقضية.
هذا الخليط المثير من الاستدلال الشكلي والتأويل الملموس في إطار المسطرة الجنائية يؤيد تماما الأطروحة التي أدافع عنها والمتمثلة في أننا ملزمين بالاختيار بين طرفي ثنائي عموم القاعدة وفرادة الحكم، ذلك أن مفهوم التطبيق يفترض خلفية معيارية مشتركة بين الأطراف المختلفة.
ومناقشة أطروحات راولس تفضي إلى نتيجة شبيهة، فهل من الممكن الحديث عن دوائر للعدالة (فالزير) إذا لم تكن هناك فكرة أعم للعدالة تسهر على منع ادعاءات كل من هذه الدوائر من التحدي على غيرها؟
ويمكننا أن نقول نفس الشيء في إطار مناقشة الأخلاقيات الشكلية للتواصل؛ إذ كيف لا نسقط في العنف إذا استبعدنا التفاهم والتوافق كأفق؟ وبأكثر أساسية، كيف نحجز الصراع عن العنف إذا فقدنا الأمل في إمكانية إفضاء نقله إلى مستوى الخطاب إلى ضرب من الاتفاق حتى وإن كان اعترافا عقلانيا بعدم إمكانية الاتفاق، أي اتفاقا على الاختلاف؟
وفي النهاية ألخص بطرح ثلاث اعتبارات:
1- النزوع للشمول والعموم يمكن أن يعتبر أن فكرة موجهة تمكننا من الاعتراف بالصفة الأخلاقية للواقف المتباينة المعترفة باشتراكها في تأسيس الحقل العام الناتج عن إرادة العيش المشترك.
2- لا يمكن لأي قناعة أخلاقية أن تكون فاعلة وقوية إذا لم تدّع العموم (أي عمومها لكل الذين يقعون في دائرة اختصاصها). غير أنه ينبغي أن تقتصر في البداية على منح ادعاء العموم صفة العموم المفترض فحسب، والمقصود بالعموم المفترض الادعاء المطروح للمناقشة العامة في انتظار اعتراف الجميع.
وفي هذا الحوار والسجال يطرح كل طرف ادعاءه للعموم بحثا عن الاعتراف. ومسار هذا الاعتراف بدوره توجهه فكرة الوصول إلى توافق له قيمة العموم الملموس (لا المفترض المزعوم). هاهنا العموم كفكرة موجهة -كما سبق في الخلاصة الأولى- يمكننا من التوفيق على صعيدين مختلفين صعيد الأخلاق المجردة وصعيد الحكمة العملية- بين ضرورة العموم وظرفية وسياقية التطبيق والتنزيل.
3- إذا كان صحيحا أن الإنسانية لا توجد وجودا فعليا إلا منقسمة بين ثقافات ولغات مختلفة -وهي الأطروحة الأساسية لمعارضي راولس وهابرماس من دعاة الخصوصيات الجماعية- فإن الهويات الثقافية المفترضة من قبل هؤلاء لا يحميها من عودة التعصب وعدم التسامح سوى فهم بعضها البعض، والترجمة نموذج لهذا الفهم المتبادل.
يمكننا أخيرا أن نجمع الخلاصات الثلاث الآنفة في البيان الآتي: إن النزعتين الكونية والسياقية لا تتعارضان على نفس الصعيد بل إنهما تنتميان إلى مستويين أخلاقيين مختلفين، مستوى الإلزام المفترض عمومه ومستوى الحكمة العملية الذي يأخذ في اعتباره تنوع الموروثات الثقافية. ولا نجانب الدقة إذا قلنا بأن العبور من المستوى العام للإلزام إلى المستوى التاريخي للتطبيق ينبغي أن يرجع باستمرار إلى مصدر أسبق أي إلى قيمة الأمل في العيش السعيد، إن لم يكن من أجل حل التعارضات المتولدة من المتطلبات المغالية (المشطة) لنظرية العدالة ولأخلاقيات التواصل المقتصرتين على شكلية المبادئ ودقة المساطر، فمن أجل التخفيف من حدتهما.
الهوامش
· كل الهوامش وكل ما هو بين قوسين من إضافة المترجم للإيضاح.
1) هذا النص نقل مختصر لمحاضرة ألفاها بول ريكور في المعهد الجامعي الفرنسي لموسكو في 1 أبريل 1996 وقد نشرته مجلة Magazine Littéraire في عدد سبتمبر 2000.
2) Jürgen Habermas et John Rawls, Débat sur la justice politique, les éditions du CERF, Paris, 1997, P.9.
3) أنظر مثلا:
John Rawls, (la théorie de la justice comme équité une théorie politique et non métaphysique). In justice et démocratie, Seuil, 1993, coll. La couleur des idées.
Jürgen Habermas, (Notre programmatique pour fonder en raison une éthique de la discussion) in, Morale et communication, champs, Flammarion, 1999.
4) J. Habermas et J. Rawls, Débat sur la justice, op.cit., P.10.
5) أنظر الدراسات الثلاثة:
(Le Soi et la visée ethique), (le soi et la norme morale) et (le soi et la sagesse pratique) in, Soi-même comme un autre, Ed. du Seuil, coll. L’ordre philosophique, 1990.
6) عقلنة الصراع والإدارة السلمية للاختلاف والتعدد هما جوهر الممارسة السياسية الحديثة ولا اختلاف بين هابرماس وراولس وريكور في أن الإمكانية الوحيدة لنزع الفتائل العنفية للصراع ولتثميره في خط المصلحة العامة تتمثل في إفراز الاختيارات الجماعية من مسطرة المناقشة والإرادة العامين، بمعنى أنه لا يمكن تصريف الصراعات تصريفا سلميا مثمرا خارج الحسم الشكلي المسطرتي الصرف لقضايا العيش المشترك، لذلك فإن أي فكرة -مهما كانت أحقيتها- تسعى للتسلل من الأبواب الخلفية ولفرض نفسها على الحقل العام قبل المرور من مسطرة المناقشة العامة التي لا تستثني أحدا من الفرقاء فكرة تصدر عن عقل سلطوي عنيف. واختلاف هؤلاء الثلاثة في طريقة عرض أفكارهم في هذه النقطة فقط- فهابرماس في انتصاره للمقاربة الشكلية المسطرية لسؤال الأخلاق ضدا على المقاربة الغائية المجددة للتراث الأرسطي يقول أننا نلاقي في مجتمعاتنا الحديثة تعددا متنوعا سواءا للمشاريع الفردية للحياة أو لأشكال العيش الجماعية أو التصورات التي تبطنها هاته وتلك للحياة السعيدة، وإننا إزاء هذا التعدد أمام ثنائية صارمة علينا اختيار أحد طرفيها، فإما أن ننتصر للمقاربات الفلسفية الكلاسيكية لسؤال الأخلاق القائمة على ترتيب التصورات المتنافسة والمتعددة لنموذج العيش الأفضل ترتيبا هرميا نعلي فيه إحدى هذه التصورات ونجعلها في قمة الهرم، وحينها لا معنى لقيمة التسامح كقيمة مهيكلة ومنظمة للاجتماع الحديث، وإما أن نلتزم قيمة التسامح التي تساوي بين كل التصورات في أحقيتها في الوجود وفي المنافسة على الاعتراف وعلى تحصيل التوافق عليها... وإذا كان علينا أن نأخذ التعدد الحديث مأخذ الجد، فإن علينا التخلي عن مسعى الفلسفة الكلاسيكية لتشريف نمط من الحياة إعلائه المسبق ومنحه الامتياز على ما سواه.. وأن الوفاء للمقاربات الغائية (الأرسطية أو غيرها) لا يعني سوى التخلي عن الإمكانات التحررية والعقلانية المذخورة في المقاربة الشكلية المسطرية لسؤال الأخلاق- أنظر:
J. Habermas, De l’éthique de la discussion, Ed. Champs Flammarion, 1999, P.82-84.
وأما جون راولس وفي نفس الخط فيذهب إلى أن الديمقراطية تمكننا من تضييق شقة الاختلاف ومن نوع فتائل العنف حتى من أكثر الانقسامات الاجتماعية حدة، أي من تلك المتجذرة في خلافات أساسية حاسمة. والديمقراطية تقوم بهذا الدور لأنها توفر أولا مجموعة من القناعات المشتركة حول طرائق إدارة الخلاف وتصريف الصراع، ولأنها ثانيا تمكن عن طريق المناقشة العامة من التغيير التدريجي للقناعات المتصلبة، ولأنها ثالثا، تمكن عن طريق التواصل والمواجهة بين المقاربات والتصورات من تعديد المرايا التي يرى الإنسان فيها أفكاره ومن التعويد على رؤية الرأي الخاص في دوائر إضاءة أخرى- أنظر: J. Rawls, Justice et démocratie, Op.cit., P.212-215. وأما ريكور فيرى أن الصراعات الاجتماعية وكذا القناعات القوية Les Convictions fortes تنحو باستمرار نحو الشطط والعنف وأن معالجة أدواء القناعة والتصريف السلمي المثم وللصراع يتمان أولا بتغيير الديمقراطية كثقافة للطريقة التي ننظر بها إلى ذواتنا ونتعرف وفقها على أنفسنا وثانيا بحياد الدولة تجاه مفهوم الحقيقة واحترامها للثوابت الشكلية والمسطرية للحياة العامة.
فأول وجه لعقلنة العيش المشترك والإدارة السلمية للاختلاف يتمثل في التسامح، والتسامح ليس منة ولا منحة ولكنه بينة للقناعة، فأن أكون متسامحا هو أن أعثر من داخل قناعاتي الخاصة على أسباب الاعتراف بغيري وأن أعي محدوديتي وأن الحقيقة مشتركة بين الجميع- P.Ricoeur, L’évenement du jeudi, 30 Nov au 6 decembre 1999 التسامح يُعلمني كيف أميز بين النظر إلى قناعاتي من الداخل وهو حق شخصي، وكيف أنظر إليها من الخارج على أنها رأي من بين أراء أخرى وإمكانية من بين إمكانيات أخرى متنافسة في الحقل العام. والنظر إلى القناعة من هو خارج الثمن الأغلى الذي يفرض علينا الاقتناع بالديمقراطية دفعه -ومهما كانت نوعية انتماء الآخرين- أي حتى وإن غلبت عليه العناصر التراثية الاإرادية فإن عقلنة الصراع تبدأ حين ننظر إليه في الحقل العام على أنه مظهر من مظاهر الحرية- أنظر: P.Ricoeur, Lecture 1, Seuil, 1991, P.304-306 والوجه الثاني لعقلنة العيش المشترك يتمثل في حياد الدولة تجاه مفهوم الحقيقة، واللامتسامح فيه يبدأ حين تخلط مؤسسات الدولة بين العدل والحقيقة أي حين تتجه إلى توجيه الإمكانيات العامة ضد بعض الخطابات وتتخلى عن المساواة المجردة أمام القانون وعن دور التحكم. هاهنا العدل المتجسد في حماية الحرية والمساواة أمام القانون يعني أن الدولة حكم بين الخصوم لا محكمة للحقيقة، بل إن ميلاد دولة القانون لم يكن ممكنا دون تقويض التصور الذي يجعل الدولة سلطة على الحقيقة IBID. P.300-301. وحياد الدولة هذا ليس مطلقا، أي ليس معناه أنها لا تنفذ برنامجا ذا لون معين وإلا لما كان للاختلاف والصراع السياسي معنى، ليس حيادا برنامجيا ولكنه حياد مسطري شكلي من وجهين: أولهما أن تطبيق برنامج معين لا يعني تخريب الوظائف والمؤسسات أو التمييز في القانون. فالناس متساوون أمام القاعدة العامة المجردة. والثاني: أن القادم إلى السلطة ليس له الحق في التدخل في الثوابت الشكلية والمسطرية للحياة العامة أي ليس له الحق في التدخل في القواعد الدستورية أو غيرها المنظمة للحياة العامة إلا من المداخل التي تخولها هذه الثوابت نفسها.
وما يؤيد هذا الفهم لحياد الدولة لدى ريكور هو أنه لا يستبعد كهابرماس المقاربة الغائية لسؤال الأخلاق، بل إنه يرى -خلافا لهذا الأخير- أن نظرتنا للقيم والمنافع ليست مصلحية صرفة ولكنها تخضع باستمرار لرمزية مشتركة تتدخل في نسجها عناصر مختلفة (انظر القسم الثالث من النص المترجم)، فليس من حقنا المصادرة على المطلوب وفرض مدخل دون غيره لسؤال الأخلاق. غير أن حق مختلف الاختيارات والتصورات للعيش السعيد في الوجود لا يمنع أنها في مرحلتها تلك ليست سوى مشاريع مفترضة وأن مرورها إلى مستوى الإكراه والإلزام واكتسابها لقوة التنفيذ مشروط بمرورها من مسطرة المناقشة العامة وتحصيلها للتوافق الذي يمنحها خاصيتي العموم والتجريد انظر: P. Ricoeur, Soi-même comme un autre, Seuil, 1990, P.200-201 et 237-238.
هوامش النص:
1) يقول هابرماس أنه بالنظر للتغيرات الحديثة في مفهوم النظرية والعلم فإن العقل العملي قد احتاج إلى تحديد جديد. وقد اتجه التفكير في الأخلاق في ثلاث وجهات: الأولى تستبعد سؤال الحكم الأخلاقي من ميدان العقل لاعتبارات تجريبية، والثانية تختزل الاستدلال في ميدان الأخلاق إلى الربط بالنتائج والمآلات، ووحده كانط (الذي يمثل الوجهة الثالثة) منح الحكم الأخلاقي مكانا داخل العقل العملي وبالاستتباع منحه حقه في الادعاء المعرفي- حسب كانط، كل القضايا التجريبية والأخلاقية أو الجمالية لها الحق في ادعاء الصلاحية المستند إلى مبررات معرفية كافية قابلة للتمحيص والنقد العقليين J. Habermas, De l’éthique de la discussion, Ed. Champs Flammarion, 1999, P.77..
2) المذهب النفعي L’utilitarisme الذي يجعل المبدأ أو المعيار الأنسب لتحديد مصلحة المجموعة مجرد توسيع لمدى وحدود صلاحية المعيار المحدد لمصلحة الفرد- أو بتعبير آخر فإن تحديد مصلحة المجموعة يخضع لنفس قاعدة تحديد مصلحة الفرد ولكن بتوسيع حقل تطبيقها- أنظر: John Rawls, Théorie de la justice, Ed du Seuil, coll. La couleur des idées, 1987, P.50-52.
والمقصود هنا هو أن كانط بصياغته لقاعدة التعميم انطلاقا من الفرد يكون قد ضمنها إيحاءا نفعيا من حيث لا يدري بما أنه لم يكن يرى سوى التعارض المنطقي المتجسد في الاستثناء الذي يمكن أن يحطم هذه القاعدة (بمعنى أن القاعدة الأخلاقية تفقد عمومها لو استثنيت نفسي منها) وقد تجاوز هابرماس وراولس هذا الإيحاء النفعي المبطن بجعلهما التواصل أو الاشتراك بين الذوات مسطرة لإفراز المصلحة العامة، معنى ذلك أن للمصلحة العامة منطقها الخاص وشروط صلاحيتها الخاصة وأنها غير قابلة للرد إلى مصلحة فردية مكبرة. ويذهب راولس مرارا إلى أن المذهب النفعي يفضي إلى مبدإ اللذة أو إلى ضرب من الشهوانية الأنانية hédonisme هذا مع أن كانط نفسه قد عدل وحور قاعدة التعميم كما هو في النص.
3) كل راولس وهابرماس ينطلق من مفهوم الاكتفاء (أو الاستقلال) الكانطي l’autonomie، ولكن ليحوله إلى مفهوم تواصلي قائم على الاشتراك بين الذوات. يعرف كانط الاكتفاء على النحو الآتي: لقد أرادت الطبيعة أن يستمد الإنسان من ذاته كل ما يتجاوز وجوده الحيواني الآلي- الطبيعة لا تفعل شيئا بدون معنى. ولأنها قد وهبت الإنسان عقلا وحرية إرادة مستمدة منه فإنها قد صممت سلفا ميزة الإنسان وخاصيته. على الإنسان أن لا يخضع للغريزة وأن لا يستمد العون من معرفة فطرية موهومة وأن يستمد كل شيء من ذاته. انظر: E. Kanr, « Idée d’une histoire universelle au point de vue cosmopolitique » in, Opuscules sur l’histoire, GF Flammarion, 1990 الاكتفاء إذا نقيض لآلية الغريزة ولغائية الفطرة المحددة سلفا ومعناه أن الطبيعة قد صممت الإنسان وذخرت فيه من الاستعدادات ما يجعله قادرا على استمداد كل شيء من ذاته. وقد ترجم كانط مبدأ الاكتفاء في الفلسفة العملية إلى نزعة شكلية formalisme تشترط صلاحية المبادئ والقواعد الأخلاقية باستجابتها للمواصفات الشكلية للتعميم التي صاغها في القواعد الثلاثة المعروضة في النص. ومعنى ذلك أن سؤال الأخلاق يتبع مسطرة التعميم المعبرة عن خاصية الاكتفاء ولا يخضع لأي تحديد غائي قبلي أو لأي فكرة عليا مسبقة عن الخير كما هو الشأن في المقاربات الغائية أو في مفهوم القانون الطبيعي الخ...
ولقد أخذ كل من راولس وهابرماس من كانط مفهومه للاكتفاء ونزعته الشكلية ولكن مع تحريرهما من أسر فلسفة الذاتية ومن قبضة مفهوم سلطة العقل في صيغته الأنوارية ومع منحهما معنى تواصليا مشركا بين الذوات- الاكتفاء والشكلية هنا انتقال إلى مفهوم العقل التواصلي وإلى اعتبار المناقشة العامة الموجهة إلى غاية التوافق المصدر الوحيد لعموم القيم وتجريدها.
4) مصطلح Le formalisme يؤدي معنيين. وقد ترجمته إلى صيغتين: فحينا يتعلق بمسطرة صدور وإفراز القاعدة الأخلاقية أو القانونية وفي هذه الحالة ترجمته إلى: الشكلية، وحينا آخر يتعلق بلا تعين القاعدة القانونية أو الأخلاقية وشمولها للكافة وهي الخاصية المعبر عنها في الاصطلاح القانوني بالتجريد (نقول أن القاعدة القانونية عامة ومجردة) وفي هذه الحالة إلى هذا المعنى -أي التجريد- ترجمتها.
5) الترجمة الفرنسية لهذا المبدء هي الآتية: "chaque personne doit avoir un droit égal au système le plus étendu de libertés de base égales pour tous, qui soit compatible avec le même système pour les autres"
والصيغة كما هو واضح توحي بالتكرار غير أن المقصود منها -كما في شروح راولس لهذا المبدأ- هو أن هناك أنساقا جزئية للحريات الأساسية المتجسدة في حقوق وواجبات علائقية وهناك النسق العام لهذه الحريات الذي هو ثمرة التنسيق بينها وحد بعضها بالبعض الآخر Le système total des libertés de base.
فبالنسبة لراولس، العدالة والحرية قيم مؤسساتية تتحدد باستمرار تحديدا علائقيا، والفرد منظور إليه باستمرار كشريك partenaire في شبكة العلاقات، لذلك فإن الأنساق المؤسساتية الجزئية لتنظيم الحقوق والواجبات يمكن أن تكون عادلة دون أن يكون النسق العام للحريات كذلك، هذا النسق لا يكون عادلا إلا إذا كان ثمرة تنظيم العلاقات بين مختلف الأنساق الجزئية بما يكفل عدالة النظام ككل. وفي هذا التنظيم والادماج للمستويات الجزئية في النسق الكلي لا يحد الحرية سوى الحرية، بمعنى أنه لا يحق لنا حد حرية من الحريات الأساسية إلا من أجل الحفاظ على حدود أخرى.
في شرح المبدأ الأول انظر: J. Rawls, Théorie de la justice, Op. cit., p.89-88 et p.241-237 وأيضا: (Les liberté de base et leur priorité) in, Justice et démocratie, op. cit., p.155-202.
6) في نقد ريكور لنظرية العدالة لراولس انظر: P. Ricoeur
1- Une théorie purement procédurale de la justice est-elle possible ?
2- Après Théorie de la justice de John Rawls, in : Le justice, Edition ESPRIT, 1995.
أنظر أيضا: P. Ricoeur
1- John Rawls : de l’autonomie morale à la fiction du contrat social.
2- Le cercle de la démonstration, in Lecture 1, Seuil, 1991, coll. La couleur des idées.
7) Michael Walzer, Sphères de justice, Seuil, 1998.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق