ترجمة: محمد حبيدة
يترقب قارئ النص التاريخي من المؤرخ أن يقترح عليه "سردا حقيقيا" لا خياليا. فكيف يمكن لكتابة التاريخ، وإلى أي حد، أن تشرِّف هذا الميثاق الضمني للقراءة. من هنا المسألة التي أعرضها في هذا المقال حول تمثل الماضي في التاريخ.
في نظري لا يبدأ المشكل مع التاريخ، بل مع الذاكرة. وإذا كنت أدافع هنا عن أسبقية مسألة التمثل الذاكري بالمقارنة مع تمثل الماضي في التاريخ، فإنني لا أقف إلى جانب محامي الذاكرة ضد محامي التاريخ. فالأمر لا يهمني في شيء. يكمن السبب في أن مشكل التمثل الذي يشكل هما للمؤرخ، يتموضع منذ مدة على مستوى الذاكرة، بل ويستقي منها حلا محدودا وعارضا يصعب إسقاطه على التاريخ. على هذا الأساس، يكون التاريخ وريثا لمشكل يطرح من تحت، إذا صح القول، على مستوى الذاكرة والنسيان، وبذلك تنضاف صعوباته الخصوصية لصعوبات التجربة الذاكرية.
لم يكن القديس أغسطين أول من قام بصياغة المشكل الصعب لتمثل الماضي. لقد مهد حقا في البابين 10 و11 من الاعترافات(1) لتأمل تاريخي حول العلاقة بين ماضي الأشياء المتذكرة وحاضر الأشياء الظاهرة ومستقبل الأشياء المنتظرة، لكن أفلاطون وأرسطو هما أول من تنبها للمفارقة التي يحتويها مفهوم "أشياء الماضي" على النحو الذي يظهر به في اللاتينية. أما في مجال الإغريقية الكلاسيكية فقد برزت المسألة تحت اسم "السالف" للدلالة على المأزق، أي القضية المحيرة.
إن المأزق مزدوج. فهو أولا وقبل كل شيء لغز لصورة حاضرة وغائبة في ذات الوقت. لقد طرح سقراط هذا المشكل في "تياتيتوس" عند جوابه على أمر محير: هل بالإمكان أن نفهم شيئا دون أن نحس به؟ وكيف ياسقراط، يرد تياتيتوس. ما تقوله فظيع"(2). لغز إذن للحاضر في صورة الغائب. لكن، لا يتعلق الأمر إلا بالنصف الأول من اللغز المشترك بين الخيال والذاكرة. أما السمة الزمنية للسالف والتي تفصل مبدئيا بين الذاكرة والخيال، فتظل ناقصة.
ويعود الفضل لأرسطو في تفحص هذه السمة المميزة للذكرى، والتي تظهر في مبحثه الموجز "الذاكرة والتذكر" ضمن الطبيعيات الصغرى(3). فكما يشير العنوان إلى ذلك، تتوفر الإغريقية على مفردتين لنعت الذاكرة: الذاكرة والتذكر. ويمنح هذا الانفصال بين الذاكرة، بالمعنى الأصيل للكلمة، والتذكر؛ بين البحث الجاد والمثمر للذاكرة ومجرد استحضار الذهن للذكرى وتذكرها العفوي، فرصة تحديد سمة السالف على شيء الماضي. يقول أرسطو: "الذاكرة فرع من الزمن". بعبارة أخرى شديدة: "نحن نتذكر بمعزل عن الأشياء"، لكن "صحبة الزمن". فمع الذاكرة، وعلى خلاف الخيال، تظهر سمة السالف واللاحق على الشيء المتذكر. لكن لا تنفي هذه السمة اللغز الأول، لغز حضور الغائب، بل تستعرضه في الزمن، إذا صح القول. فأرسطو يعلم، شأنه شأن سقراط، أن الصورة، كرسم حيوان مثلا، تتكون من عنصرين في نفس الآن: فهي في حد ذاتها وعلاوة تمثل لشيء آخر –تخيل آخر – أي أن الصورة هي في نفس الوقت رسم راهن ورمز للغير. فعلى هذه الغيرية يضع الزمن سمته المميزة على الذاكرة. هنا يبرز المرادف الثاني للذاكرة: التذكر، لكن ذكرى الشيء ليس معطى على الدوام. يجب البحث عنها. وهذا البحث هو التذكر، الاستحضار، إعادة التنظيم. فإلى جانب السؤال الأولي: ماذا؟، الذي يستهدف الذكرى، ينضاف سؤال آخر، كيف؟ ليحرك "قوة البحث"، تارة على نحو أكثر ميكانيكية، كما فضله في وقت لاحق مذهب "الترابطية"، وتارة أخرى أكثر عقلانية كما تشهد على ذلك أساليب الاستذكار التي وزعها المحدثون بين الجمع وجهد التذكر العزيز على بيرغسون.
مع هذين العنصرين، استحضار الذكرى والبحث عن الذكرى، نضع الإطار العام لفينومينولوجيا الذاكرة، ونحن نعلم، منذ البداية، مسألة الائتمان التي قد تطرح على النحو التالي: إذا كانت الذكرى صورة، فكيف يمكن تجنب خلطها مع الخيال والوهم والهذيان؟ وعليه، تظهر، على هامش الإشكالية التي تذهب بالذاكرة نحو التاريخ، أداة ثقة في تجربة رئيسية في هذا المجال، أي تجربة الاستعراف: فهذه الأخيرة تأخذ شكل حكم تصريحي، مثل نعم: هي بعينها، هو بعينه! لا. لا يتعلق الأمر باستيهام، بل بتخيل. لكن من يضمن لنا ذلك؟ لا شيء ماعدا التمثل الذاتي للسالف باعتباره صورة غائب على الصفة الزمنية لما هو ماضي. فهل في الأمر خدعة؟ من دون شك. لكن وأقولها صراحة، ليس لدينا أفضل من الصورة-الذكرى في لحظة الاستعراف. ثم، هل لدينا اليقين من أن شيئا ما حصل فعلا بالشكل الذي يعرضه الذهن عند الاستحضار؟ هنا تكمن رواسب المشكلة. هنا أيضا تنخرط إشكالية الذاكرة في مجرى محفوف بالمخاطر، مجرى التشابه الذي لم ننته ضمنه بعد من فصل الاستيهام عن الصورة-النسخة، دون أن ينفسخ، من هذا الجانب أو ذاك، الإحساس بصلة تطابق الصورة-الذاكرة وتوافقها مع الشيء المتذكّر. إن طبيعة هذه الصلة وهيئتها الإبستيمية تشكلان رهان هذا البحث. الرهان الذي ننعته بالإخلاص، إخلاص الذاكرة التي سنقابلها فيما بعد بالتعهد بالحقيقة في التاريخ ضمن جدلية لا متناهية.
قبل الدخول في صلب الموضوع، أي التمثل التاريخاني للماضي، أود إضافة نقطتين لهذا المشهد الموجز لإشكالية الذاكرة، وتهمان معا الانتقال من الذاكرة إلى التاريخ.
أولا، ذات الذاكرة: من يتذكر؟ من يتمثل أشياء الماضي؟ قد نجيب بسرعة: أنا، أما وحدي.
لقد أصبح السؤال ملحا منذ أن ظهر على الواجهة مفهوم الذاكرة الجماعية في السوسيولوجيا، كما نعلم مع الكتاب الشهير لوريس هلفاكس الذاكرة الجماعية(4). لقد ذهب في أطروحته إلى حد التشكيك في الذاكرة الفردية. فهذه الأخيرة في نظره ليست سوى حثالة للذاكرة الجماعية. ومع ذلك، ظلت تعاني مقولة الذاكرة الجماعية من الهجانة على المستوى المفاهيمي. بل لم تكن حتى مقبولة بما فيه الكفاية لدرجة أنها ظهرت وكأنها تسند الادعاء الهيمني للسوسيولوجيا في مواجهة التاريخ نفسه. ومن جهتي، فقد وصلت، بعد حيرة طويلة، إلى قناعة مفادها أن الذاكرة كحضور إلى الذهن لشيء من الماضي وكبحث عن هذا الحور يمكن أن تنسب مبدئيا لكل الضمائر النحوية: أنا، هي/هو، نحن، هم، الخ. إن القول بالانتساب المتعدد للذكرى لا يختلف، برأيي، عن الانتساب المتعدد الذي يحتمله أي فكر أو شعور أو وجدان. وإذا كانت أطروحة الانتساب المتعدد تشكل مشكلة في حالة الذاكرة، فلأن مسألة الهوية الفردية، أو مسألة الذات، تظهر فيها على نحو فريد، وذلك على عكس الوقائع الملموسة الأخرى، وكأن التملك للأنا يمثل امتيازا حصريا للذاكرة. لكن، علينا أن لا ننساق مع مثل هذا الاستدلال. والواقع أن مسألة الذاكرة والذات هي نتاج تبصر فلسفي وطويل الأمد. هنا يظهر أغسطين على الساحة. فقد جر الذاكرة إلى بؤرة الذات سيرا على تجربة الاعتراف والمجاهرة. ومن جهته زايد جون لوك على هذه الذاتانية الحيوية حينما جعل من الذاكرة معيارا مفضلا للهوية الفردية: الذاكرة إذن هي ما يخصني. أما هوسيرل، فقد دفع بالمسألة بعيدا عندما وحد بين الذاكرة والوعي الذاتي بالزمن: فقد صارت الذاكرة، كما استبق إلى ذلك جون لوك، مجرد تفكير الذات في الذات عبر الزمن. وأخيرا مع هايدغر ستبتلع الزمنية تجربة الذاكرة. لكنها زمنية تمتصها، هي كذلك، جاذبية الوجود المتناهي التي يطبعها الاستبدال والتعتيم. في نهاية المطاف، يبدو انتساب الذاكرة للذات، حصرا، كثمرة لذاتانية متصاعدة تتم على حساب جوهر المسألة: فحوى الذكرى بدل المتذكر(5).
بعد التحقق من هذه الحجج المتباينة أجدني بجانب الانتساب المتعدد للذكرى لمختلف الضمائر النحوية. لقد عثرت على سند لهذه الأطروحة في تفسير وارد لدى الفلسفة التحليلية لمقولة "الانتساب" لظاهرة طبيعية ما عموما، والقائمة على المسلمة التالية: انتساب حالة طبيعية ما لذاتها، من حيث المبدأ، ملازم لانتساب متزامن مع الآخر غير الذات، كما هو معمول به في إطار السرد المبني على الضمير الغائب: "لقد تذكر أو تذكرت فجأة مشهدا من الماضي". إن ما يكتسبه الانتساب إلى الذات من شكل للتملك الخاص وما يلحق الانتساب إلى الغير من تأويلات، أمران لا يستهان بهما، بل يتطلبان تحليلا دقيقا. لكن هذا اللاتماثل الانتسابي يتلاءم جيدا مع الصيغة المتعددة لانتساب الظواهر الذاكرية لتعدد الضمائر النحوية.
ويهم هذا الموقف المؤرخ الذي يقوم دون تردد بمقابلة الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية المتداخلتين غالبا في الأعياد والاحتفالات. وبإمكان التاريخ، علاوة على ذلك، أن يجد فائدة في تفاصيل نظرية الانتساب، لأنه يصادف، هو الآخر، مشاكل الانتساب إلى فاعلين اجتماعيين، جماعيين أو فرديين.
أضيف إلى هذه اللمسة التكميلية الأولى، لمسة ثانية تمكن هي أيضا، وبدقة، من الانتقال من الذاكرة إلى التاريخ. لنعد إلى انفصام مسألة الذاكرة بين سكونية الذكرى، كصورة آنية لشيء غائب حدث في الماضي، وديناميتها الكائنة في التذكير، تلك العملية المعقدة التي قد تنجح أو لا تنجح. والنجاح هو الاستعراف الذي جعل منه بيرغسون تجربة رئيسية في دراسته القيمة المادة والذاكرة(6) التي سرعان ما تم تركها جانبا. والحال أن الاستعراف يبدو كأعجوبة صغيرة، أعجوبة الذاكرة الموفقة، إذا ما قورن مع كل الصعوبات المرافقة لمسار التذكير. ويمكن تصنيف هذه الصعوبات، التي تشكل مادة لذرائعية الذاكرة، إلى ثلاثة أبواب: ذاكرة محظورة، ذاكرة مدَبَّرة، ذاكرة مرغمة. بالنسبة للذاكرة المحظورة، يمكن إيراد نصوص فرويد حول الكبت والتحمل والتكرار، والتي يقابلها بمخاض الاستذكار. أما بخصوص الذاكرة المدبرة، فيجب إثارة تقاطع مشكلة الذاكرة ومشكلة الهوية ووصف الأساليب المتعددة للتلاعب بالذاكرة عبر السرد بعمومياته وتفاصيله، بتأكيداته وإهمالاته. وأخيرا الذاكرة المرغمة: هنا تبطؤ الخطى. أريد أن أحذر من الوقوع في مأزق واجب الذاكرة. لماذا؟ لأن كلمة واجب تفترض إدخال صيغة الأمر، في الوقت الذي لا وجود فيه أصلا لإرشاد ضمن نسب ما، على مدى أجيال: "ستحكي لابنك..." ثم لأننا لا نضع في المستقبل عملية الاستذكار، أي الاستعادة، دون أن نتعسف على الاشتغال ذاته للذاكرة. أيضا، وخصوصا، لأن واجب الذاكرة أصبح اليوم مدعوا عن طيب خاطر لاختزال العمل النقدي للتاريخ مخافة حبس ذاكرة جماعة تاريخية ما في معاناتها الفريدة، تجميدها في مزاج النكبة، استئصالها من روح الإنصاف والعدل. لذلك، أقترح القول بعمل الذاكرة عوض واجب الذاكرة.
تنقل ذرائعية الذاكرة صعوبات التذكير هاته إلى ابيستيمولوجية التاريخ. ذاكرة محظورة، ذاكرة مدبرة، ذاكرة مرغمة: إنها مواضيع متعددة ترن كالناقوس في أذن المؤرخ. فعلى ضوء هذا الخليط من الذاكرة العسيرة يشيد التاريخ إكراهاته وأيضا الحصانات والتوسعات التي سأفصل القول فيها، ويعمل على دمجها ضمن إشكالية التمثل التاريخي. لكن، عليَّ أن أنبه، عند هذا المنعطف من دراستي، أن الذاكرة تملك امتيازا لا يتقاسمه التاريخ معها. إنه حظ الاستعراف: "هي بعينها! هو بعينه" يا له من جزاء، بالرغم من مرارة ذاكرة شاقة وشائكة! وبما أن التاريخ لا يتوفر على هذا الحظ، فهو يملك إشكالية فريدة حول التمثل ويجعل من بناءاته المعقدة إعادات بناء بهدف الاستجابة لميثاق الحقيقة مع القارئ. هنا أتعجل. لنتأمل لحظة شكلا واردا لدى بيرغسون. نحن نعرف صورته الشهيرة للمخروط المقلوب نحو الأسفل: بالقاعدة، أي في الأعلى، توجد كتلة الذكريات، وبالرأس، أي في الأسفل، تظهر صورة الذكرى الخالصة وهي تطفو على سطح الحاضر الحي. إنها لحظة استعراف الماضي في هذه الصور. أتبنى إذن هذا الرسم كما أتبنى مظهر المشكل الذي أقدمه ي هذا المقام. إنه أيضا مخروط واقف على رأسه. بالقاعدة، في الأعلى: مأزق افتتاح الذاكرة، مأزق حضور الغائب والماضي؛ وعلى طول منحدر المخروط: صعوبات الذاكرة المحظورة والمدبَّرة والمرغمة؛ وبالرأس يلامس السنان، على مستوى المعرفة التاريخية، توفق الاستعراف، الدليل الوحيد والعارض لإخلاص الذاكرة. من هذه الزاوية يمس هذا الحظ التاريخ. لكن هذا النقص هو الذي أغنى إرادة البحث عنه، وفق ما نعته بذلك هيرودوت. وعليه يشمل البحث التاريخي، القائم مقام التذكير الذاكري، مجموع العمليات الاستغراقية على طول المسار الأفقي الممتد من المرحلة الوثائقية إلى المرحلة الكتابية. في نهاية هذا المطاف تطرح مسألة التمثل التاريخاني في كل أشكلتها، والذي أقترح نعته من الآن فصاعدا ب"التمثُّليَّة" للدلالة على الجهادية والنقصان بدل الاستعراف الذاكري الانتقائي.
تبدأ مصاعب المعرفة التاريخية مع القطيعة التي تمثلها الكتابة. من هذا المنظور، تتحدث الاستغرافية: فالكلمة لا تشير فقط إلى مرحلة الكتابة، ولا إلى مرحلة التأمل، الابستيمولوجية من الدرجة الثانية، بل إلى كل العملية الاستغرافية، كما سماها ميشيل دوسيرتو(7)، والتي أقسمها، بدوري، إلى ثلاثة أطوار لا تشكل مراحل متعاقبة ولكن مستويات لسانية وإشكالية متداخلة: طور وثائقي، طور تفسيري-إدراكي، طور أدبي أو كتابي تبلغ فيه مسألة التمثل حدتها القصوى.
أولا، يوضع مآل تمثل الماضي، في الأصل، على طريق الأشكلة، من خلال المسافة التي يكونها التدوين بالنظر إلى حقل الذاكرة الخاصة والعامة. لكن لا تصير هذه المسافة فعلية إلا عندما يتأسس الأرشيف. فهذا الأخير يعد، بالفعل، "مقصدا" لعملية معقدة يمثل فيها "المنطلق" التجسيد الأول للذاكرة في مستواها البوحي والسردي. فالذي يتذكر شيئا يقوله، يحكيه ويستشهد به. فأول ما يقوله الشاهد: "كنت هناك". يؤكد لنا بينفنست أن كلمة "شهد" في اللاتينية تنحدر من "الثالث"(8). فالشاهد يتموقع إذن كشخص ثالث بين الفاعلين أو بين الفعل وموقع الشاهد من شهادته دون أن يكون طرفا فيه. هذا التصريح هو إثبات لأمر واقع يعتبره شاهد هاما، وفي ذات الوقت تصديق على ما يبوح به. ثم إنه، وهو يقدم شهادته قد ينادي على شهاد آخر: "لقد كنت هناك"، لكنه يضيف "ثقوا بي، إذا لم تثقوا فاسألوا شخصا آخر". يفتح هذا الاعتماد الباب أمام تعاقب الثقة والشك. هكذا تتأسس البنية الائتمانية للشهادة. فالشاهد، وهو مهيأ لترديد شهادته، يعتبرها تعهدا حول الماضي. وبذلك تتحول الشهادة إلى مؤسسة. فينطلق تقابل الشهادات، ومن ورائه، خلاف المؤرخين. وعلاوة على الاعتراض، يشكل نقد الشهادة قاعدة للاختلاف ولقيمته التربوية على مستوى النقاش العمومي حيث يستكمل التاريخ مجراه المعرفي. يتم كل هذا، شريطة التدوين، المتحول إلى أرشيف. فيتابع الشيء المكتوب مساره خلف الشاهدين وشهاداتهم. ونظرا لانعدام مقصد محدد، يظهر النص "يتيما"، كما يرى أفلاطون في فدرس. ومهما كانت درجة ائتمان الشهادة فإننا لا نتوفر على أفضل منها لكي نقول إن شيئا ما حصل في الماضي وإن شخصا ما شاهده. لكن هل يطابق القول الواقع؟ إنها مسألة ثقة، اختيار حقيقة، يبدأ معها شغف البحث عن الحجة الوثائقية.
الوثيقة، إنها كلمة السر. نعلم منذ مارك بلوخ الأهمية البالغة للشاهدين على الرغم منهم(9). لكن هذه الشهادات تندرج، هي الأخرى، ضمن آثار محددة، آثار مصدرية، لكن ليست شهادة بالضرورة: مخلفات، مؤشرات مادية أو رموز مجردة كبيانات الأسعار أو المداخيل وأشياء أخرى، قابلة للتكرار والتكميم. ذلك ما يسميه كارلو غانزبورغ "الأنموذج البياني"(10) الذي تشترك فيه كل أصناف المعرفة الملتوية والتخمينية من الطب والطب النفسي إلى الرواية البوليسية. تحت هذه المظلة، تجري جدلية دقيقة بين الشهادة والوثيقة، وتتجاوز، علاوة على ذلك، الوثيقة والصرح. وعليه، تصير الوثيقة وحدة حسابية للمعرفة التاريخية التي تجرأ مارك بلوخ على وضعها في زاوية الملاحظة وهو الفالق للمدرسة التي كان يلقبها بالوضعية والتي يجب نعتها، إنصافا، بالمنهجية. في الواقع الوثيقة ليست معطى. إنها شيء مُسْتَبْحَثٌ، مُهَيَّءٌ، مُؤَسَّسٌ. تدل الكلمة، إذن، على كل ما يمكن مساءلته من طرف المؤرخ بهدف العثور على خبر حول الماضي، على ضوء فرضية تفسير وفهم. هكذا تتحدد أحداث لم يكن يتذكرها أحد، لكن تساهم في بناء ذاكرة، يمكن نعتها، تمشيا مع هلفاكس، بالذاكرة التاريخية لتمييزها حتى عن الذاكرة الجماعية. فالغاية من استنطاق الوثائق، كما يقول مارك بلوخ، لا تكمن في خلطها بل في فهمها.
هكذا ندرك كيف كان التاريخ أن يتبنى في مواجهة العلوم الطبيعية، نبرة ائتمانية، تنطوي بالنظر إلى مسألتنا، على ثقة قوية بقدرة التاريخ على توسيع الذاكرة وتعديلها ونقدها، مجازفا بتقليص منزلتها من سجل للتاريخ إلى موضوع للذاكرة، كما سنرى بعد لحظة.
لكن، قبل ذلك، تجد العملية الاستغرافية نفسها، في ضبطها الأصلي على مستوى المصدر، ومواجهة قضية الوضع الابيستيمولوجي للحجة التي يمكن أن تدعيها وقائع حقيقة، لا تقوم على أساس الحدث ذاته، بل على ما تزعمه هي، أي العروض، من مضمون على النحو المذكور. عروض مكونة من مختلف حجج المواجهة والاعتراض. في هذا الصدد، تنبثق فلسفة المؤرخ العفوية من واقعية نقدية على واجهتين.
على الواجهة الأولى، يفترض المؤرخ واقعية الحدث بمعناه الواسع المتضمن أيضا للشهادة الواردة في المصادر. بهذا المعنى الأولي، لا يمكن للمؤرخ الاعتماد إلا على سند ضعيف يتمثل في اللسانيات السوسيرية التي تقلص الرمز في ازدواجية الدال والمدلول، باستثناء المرجع. لكنه في المقابل، يجد ملاذه في لسانيات الخطاب على طريقة بينفينست وجاكوبسون اللذين يعتبران أن وحدة المعنى على مستوى الخطاب تكمن في الجملة، حيث يقول شخص ما شيئا ما لشخص ما حول شيء ما، وفق قواعد تأويلية مقننة. وعليه، تظل الثلاثية قائمة من حيث المبدأ: الدال، المدلول، المرجع.
على الواجهة الثانية، يعرف المؤرخ أن حجته تقوم على منطق الاحتمال أكثر مما تقوم على الضرورة المنطقية. لكن الاحتمال لا يهم الطابع الصدفوي للأحداث بقدر ما يهم درجة مرونة الشهادة وتدريجيا، كل عروض الخطاب التاريخي. فكون شيء ما حصل على ما يقال يظل من باب الاحتمال. وتنبثق هذه السمة الاحتمالية للحجة المصدرية، أي "مقصد" عملية سير الحبكة، في نهاية المطاف، عن البنية الائتمانية للشهادة، أي "منطق"، كل السيرورة. وقد تبقى هذه البنية خفية بواسطة المكتومات ارتباطا بالوضع الاجتماعي للتاريخ وبالموقع الذي يتكلم منه المؤرخ. ومهما يكن من أمر يظل من الصعب تجاوز هذه البنية الدلالية. في هذا الصدد، مكن الكتاب الشهير للوررينزو فالا، "حول هبة قسطنطين الكاذبة"(11)، الاستغرافية من قطع شوط حاسم. على هذه الواجهة الثانية، يدرك المؤرخ أن طبيعة حجته مغايرة لحجة علوم الطبيعة: فنقد الشهادة يبقى مثالا لمجموع الحقل الوثائقي النابع من الأنموذج البياني، الملتوي والتخميني.
ثانيا، يبدو، ونحن نبتعد الآن عن المرحلة الوثائقية للتاريخ ونغوص في سمك عمليات التفسير والفهم، وكأننا ندير ظهرنا لمسألة التمثل، ألا يمكن، فعلا، رهان هذه العمليات في بلورة مختلف الإجابات في صيغة "لأن" ردا على "لماذا"؟ ألا تحتل منذ الآن إشكالية المعنى الملازم للخطاب وأيضا إشكالية تماسكه المشوه كل الميدان؟ يمكن، في البدء، التسليم بذلك والتركيز، حصرا على تنوع أنماط تفسير التاريخ وفهمه. لقد قيل في هذا الصدد إن التاريخ لا يملك منهاجا محضا. فهو يوفق، في الوقت المناسب من جهة بين استعمالات السببية والشرعية الأكثر شيوعا لدى علوم الطبيعة، على النحو الذي نراه خصوصا في التاريخ الاقتصادي، ومن جهة ثانية، التفسير عبر المنطق المعمول به في التاريخ السياسي والعسكري والديبلوماسي، أو على مستوى النقاشات المهيأة من طرف رواد التاريخ المجهري. في التاريخ لا وجود لثنائية معقدة بين التفسير والفهم.
وعلى الرغم من هذا التغير في مجرى التحليل، في اتجاه أنماط التفسير والفهم، فإن مسألة تمثل الماضي تظل حاضرة. فهي تعود على الواجهة، في مرحلة أولى، عند تقطيع مجالها، أي عند تحديد "ما يجب تفسيره". وفي مرحلة ثانية، تعود بصورة غير منتظرة، تحت ما يسمى بالعقليات التي أصبحت تعرف بالتمثلات، لأسباب سنذكرها بعد قليل. تمثلات كمواضيع للتاريخ. هذه العودة المزدوجة القوية لمسألة التمثل مترابطة. فالأمر يتعلق أولا بالتحديد الصوري للمرجع اللاحق للخطاب التاريخي ومضمونه، وثانيا بالتحديد المادي لحيز من مرجع هذا الخطاب، أي التمثلات التي يشتغل عليها التاريخ، زيادة على التمثلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للواقع الاجتماعي.
لنتوقف لحظة عند هذين الإشارتين المتصلتين بالتمثل في نطاق إبستمولوجية التفسير في التاريخ. في البدء، يظهر نوع من الارتباط بين تقطيع مجال الوقائع التاريخية والمواد المرجعية للتاريخ. فكل النماذج التفسيرية المعمول بها اليوم لدى المؤرخين تشترك في الاستناد إلى الواقع البشري كواقع اجتماعي. في هذا الصدد، لا يعتبر التاريخ الاجتماعي قطاعا كباقي القطاعات، بل مفهوما، يختار من خلاله التاريخ حقله، أي حقل العلوم الاجتماعية. لقد انصب اهتمامي على التيار الفكر الذي ركز، بعد المرحلة البروديلية، على الأنماط العملية لتكون الصلة الاجتماعية، وعلى مشاكل الهوية المرتبطة بها. على هذا النحو، تندرج المثلات ضمن الأغراض المفضلة في البحث التاريخي، وذلك بالعلاقة مع التفاعلات. وتحديدا، تكمن خاصية التاريخ، بالنظر إلى باقي العلوم الاجتماعية ولاسيما السوسيولوجيا، في تركيزه على التغيير وعلى الاختلافات أو الفوارق التي تصيب التغييرات. والحال أن التغييرات والاختلافات أو الفوارق تتضمن بعدا زمنيا واضحا. في هذا السياق، الكل يعرف اليوم جدلية البنية والظرفية والحدث، وأيضا تراتبيات الأمد التي ابتكرها بروديل ومدرسته(12). إنها فعلا بناءات بالقياس إلى التجربة الحية التي لا تكون عفويا فكرة الآماد المتعددة وسلاليم الأمد. فما يمثل البناء هو العلاقة القائمة بين طبيعة التغيير المعلوم، الاقتصادي أو الاجتماعي، بالمعنى المحدود للكلمة، وأيضا السياسي والثقافي من جهة، والسلم الذي ندرك من خلاله التغيير من جهة ثانية، والوتيرة الزمنية الخاصة بهذا السلم، من جهة ثالثة. ويتضح بالخصوص، الطابع المحكم لهذه التراتبيات حينما تصير مفاهيم السلاليم ومفاتيحها مواضيع في حد ذاتها وتمتد إلى ما وراء فكرة سلم الأمد، أي إلى سلم الفعالية والإلزام للقواعد الاجتماعية، إلى سلم الرفعة في التقدير العمومي(13). لكن يبدو أنها بناءات خاصة بطبيعة الظاهرة المعنية وبالتالي تظل بعيدة عن كل ما هو اعتباطي، أي وهمي. هذه البناءات هي ضمنيا إعادات بناء للظروف التاريخية للبشر، ذلك المرجع النهائي للبحث التاريخي، الذي تعمل، بالقياس إليه، التفاعلات التي من شأنها خلق الصلة الاجتماعية، على تأسيس المرجع اللاحق. على هذا المستوى الأول، الصوري إذن لتقطيع مواد المرجع، تتأكد ضمنيا فكرة تمثيل الماضي.
لكنها، في المقابل فكرة بينة، ماديا أو جوهريا، إذا صح القول، حينما يتعامل التاريخ مع التمثلات كأحد الأغراض المفضلة ويجعل منها مرجعا مميزا إلى جانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. كما نعلم، طرح هذا المبحث في البداية تحت اسم تاريخ العقليات، ثم فرض نفسه إلى أن جاء الوقت الذي تأكدت فيه نقائصه: الضبابية، الالتباس، التشوه، وخصوصا خبليته البدئية بمفهوم العقلية البدائية الموروثة عن ليفي برول(14). في السياق، حلت فكرة التمثلات محل فكرة العقليات لتجنب غموض جديد. وعليه، يشير مصطلح التمثلية، في مفهومنا، من جهة إلى علاقة الذاكرة بالماضي تحت ما يمكن نعته بالصورة-الذكرى، ومن جهة أخرى، إلى علاقة التاريخ بالماضي، أي القصدية ذاتها للخطاب التاريخي. إن هذا التزاوج مع تفاعلات الحقل الاجتماعي هو الذي يحدد هذا الاستعمال لمفهوم التمثلية قصد الإشارة إلى المعتقدات والضوابط التي تمنح وُصْلَةً رمزية لتشكل الرابطة الاجتماعية وتكون الهويات. في هذا الصدد، يمكن الحديث عن ممارسة التمثلية، مما يْمكِّن من إدماج مكتسبات ما تكلمنا عنه بخصوص مفتاح السلاليم في الحقل الرمزي للفعل. لكن، وبخاصة، من الممكن إغناء مفهوم التمثل الاجتماعي بالتمييزات المبلورة على مستوى السميوطيقة العامة للتمثل، مثلا بين تمثل الغائب أو الميت والحضور القوي للصورة الحالية، على النحو الذي بينته تحاليل لويس ماران الدائرة حول موضوع صورة الملك. وتثبت هذه التفاعلات بين سيميوطيقة التمثل وتاريخ التمثل الاجتماعي، لاسيما في دائرة السلطة، خصوبتها الهائلة فيما يخص سلط الصورة كما جاء في عنوان الكتاب الأخير للويس ماران(15).
علينا في نطاق الحديث عن التمثلات ومرحلة التفسير-الفهم المرافقة لها، أن نتناول تاريخ الذاكرة بالتحديد، كتمثل خاص وعام للماضي: ليس تمثلي، ليس تمثلنا، ولكن ذلك التمثل الموضوعي الذي يهم كل هؤلاء الآخرين والذين نشكل، نحن أيضا، جزءا منهم، أي تمثل الماضي كموضوع للتاريخ. ونضيف إلى هذا التاريخ المميز تاريخ القراءة ومفعولها، والمتأثرة، اليوم، بالتغيرات الحاصلة في إعادة إنتاج النصوص، بل وبالثورة الإلكترونية التي تمس دعائمها. هنا، أوقف حديثي عن التمثلات، التي جعل منها التاريخ مادة معسولة.
ثالثا، ونحن نغادر النطاق الجاف للترتيبات التي تمنح تناسقها الخالص والمتنوع للخطاب التاريخي، ندخل فضاء التشكلات السردية والبلاغية التي تنظم المرحلة الأدبية للاستغرافية. على هذا المستوى، تتركز أقوى المصاعب المتصلة بتمثل الماضي في التاريخ. والحال، أن هذا المكون الكتابي لا ينضاف فقط إلى باقي العمليات الاستغرافية: فهو يلازم كل أطوارها على قدر ارتباط كل هذه العمليات بالصنف العام للتدوين. ما يهمنا الآن، إذن، هو بالتحديد، الكتابة كمعطى يجعل المؤرخ يقدم للقارئ نصا سلسل وواضحا. هنا يصير ميثاق القراءة، الذي تكلمنا عنه في البداية، جليا، وتعود المسألة الأولية بقوة: هل وَفِيَ الميثاق بغرضه وإلى أي حد؟
تتجلى الصعوبة العظمى في كون التشكلات السردية والبلاغية هي إكراهات قرائية: هذه التشكلات وهي تؤطر القارئ بصفة لا إرادية، تقوم بدور وسائطي مزدوج في اتجاه الواقع التاريخي والستائر التي تواجه بعتامتها الشفافية المفترضة للوسائط. هكذا، تظهر على الواجهة علامات الأدبية. ما أعثر عليه، في هذا المقام، هي أولا التشكلات السردية التي اشتغلت عليها في كتابي الزمن والسرد(16) منذئذ، قادني هاجس الجمع بين التناسق السردي والصلة التفسيرية إلى إرجاء معالجة الحكي في التاريخ إلى غاية أخذ علامات الأدبية بعين الاعتبار. ويلعب هذا التراجع النسبي دورا في ردي على محاولات التشويش الخاصة بحدود ما بين الخيالي والتاريخي. صحيح، أنني لا زلت أعتقد أن السردي لا يتاخم الحدثي، بل يتعايش مع كل مستويات التفسير وكل مفاتيح السلاليم. وعلاوة على ذلك، إذا كانت الأسْنُنُ السردية لا تمثل بديلا للأنماط التفسيرية، فإنها تضيف إليها لمسة السلاسة والوضوح، المذكورة. إن تشكيل شبكات الكتابة هاته والتي تحولت إلى شبكات للقراءة وظلت خفية، هي التي تخلق المصاعب التي سنتحدث عنها. فإذا كان حقا أن البنيات السردية لا تنحصر في تأمين نقل الخطاب إلى مرجعه، بل تواجه عتامتها الخاصة بالمبتغى المرجعي للخطاب التاريخي، فإن ذلك يصير امتيازا للسيموطيقي لكي يفرز الإكراهات التي ترشد الكاتب في عرضه للواقع. من المثير إذن أن نقول بأن هذه الإكراهات نفسها، التي يضطلع بها القارئ على نحو لا إرادي، تجعل منه أسير مآزق الإثبات التي لا يكشف عنها سوى السيميوطيقي. نحن نعرف مقولة "أثر الواقع" و"الانخداع المرجعي" التي بلورتها السيموطيقة البنيوية ضمن مخلفات اللسانية السوسيرية، كما ذكرنا ذلك من قبل، حيث يزاح المرجع مبدئيا من البنية الثنائية للدلالة المختزلة في زوجي الدال والمدلول. ذلك هو الشك الذي عززته المدرسة السيموطيقية على المستوى السردياتي والحجة النابعة منها على المستوى الاستغرافي.
لكن، مع التحليل البلاغي للخطاب التاريخي اتسع المشكل الذي طرحته الإكراهات وأدى إلى هجوم جبهوي ضد ما أسميته من قبل بالواقعية التي اضطلع بها أغلب المؤرخين المحترفين لكن دون أن تأخذ بعدا موضوعاتيا حقيقيا. وعليه تتأطر التشكلات السردية المحضة المتعلقة بتيبولوجيا الحبكات داخل هندسة معقدة من الأسنن إلى جانب الاستعارات وأشكال أخرى، خطابية وفكرية، أشكال هي بمثابة بنيات باطنية لمخيال يغطي كل فصيلة "التخيلات الشفهية" حسب عبارة هادين وايت. في هذا الباب، يعد الكتاب العلمي لهذا الباحث المنظر لـ"المخيال التاريخي"، عملا نموذجيا(17). غير أن إمكاناته المدمرة التي استهدفت الإثبات التاريخي لم تكن لتصل إلى غايتها لولا ارتباطها بالحركة الهائلة ال"مطلع حداثية" حيث تسقط العقلنة التاريخانية في الزاوبعة التي تهز القناعات الموروثة عن عصر الأنوار والتي تم الأخذ بها لقياس الحداثي. هكذا، ينكشف الفهم الذاتي لمرحلة بأكملها إثر النقاش الدائر حول الحقيقة في التاريخ.
وتعود هذا المناقشة، التي يتهددها الضياع في مطارحات إيديولوجية دون معيار معلوم -فكرة المعيار هي نفسها في المحك-، لملامسة الخلاف التأويلي المحدد في المعرفة التاريخية تحت نقاش مركز. ويكمن الرهان في تلقي المؤلفات المتعلقة ب"الحل النهائي"، ولاسيما الكتاب الجماعي المعنون بجدال المؤرخين المرتبط بخلاف الباحثين الألمان حول هذا الموضوع(18). فمن المشادة اللامحدودة حول مطلع الحداثة تحول الاهتمام إلى مسألة شائكة، لكن متزنة: كيف يمكن الحديث عن المحرقة والنكبة، الحدث الذي ميز أواسط القرن 20؟ لقد ظهرت المشكلة وأحاطها سؤالان كبيران من آفاق متعارضة، بل ومتواجهة: سؤال طرحه المتشككون تحت شعار الانخداع المرجعي، وآخر ساقة المنكرون تحت شعار الأكذوبة الرسمية.
ويشهد على هذه المواجهة كتاب سول فريدلاندر، ذو العنوان الإيحائي ما وراء حدود التمثل(19) إنه الكتاب الوحيد الذي اعتمدته في هذا المقام بحكم دلالته الرمزية بالنظر لكل الإشكالية. يلاحظ فريدلاندر أن: "إبادة يهود أوربا كحالة قصوى للجرائم الجماء تتطلب من منظري النسبية التاريخية مجابهة لازمات المواقف المتداولة على مستوى آخر، من الناحية التجريدية". ويرد هايدن وايت بشجاعة على هذا التحدي، مرددا برهنته ومصرحا بأن بلاغته المجازية لا تمنحه أي معيار ملازم للخطاب لتمييز الواقع من الخيال. وهو تمييز، يجب أن ينبثق في نظره من "نطاق آخر ضمن طاقتنا الاستيعابية غير ذلك الذي ترعرع في ثقافتنا السردية". وبالنظر إلى هذه الأخيرة، يقترح توسيع مجال أنماط التمثلات إلى ما وراء الإرث الثقافي الذي كادت أن تقضي عليه الكليانية.
وبقدر ما يظهر هذا القول مشروعا، والذي يجد صدى بالإضافة إلى ذلك في مجالات تجديد أشكال التعبير الناجمة عن قطيعة الوسائط المعلومة، فإنه لا يجيب عن السؤال الجوهري المتعلق بالتلائم المفترض لأشكال التعبير الغنية هاته والرامية إلى تمثل النكبة. وإذا سلمنا بما قاله ستينير من أن "عالم أوشفيتش يكمن خارج الخطاب والعقل"(20)، فمن أين يأتي للخطاب المعنى ذاته للا تمثل؟ إنها قوة الشهادة، حتى قبل أن تدون في الأرشيف. ذلك ما أثاره كارلو غانزبورغ في دراسته المثيرة، الشهادة الفريدة(21). والحال أن الشهادة، بدورها، تحيل إلى عنف الحدث نفسه وبعده الأخلاقي والذي ينعته فريد لاندر، بلباقة، "غير المقبول". لكن التجربة الحية للجرح العالق بالمدْرَج نفسه ل"صنع التاريخ"، هي التي تقف كحد ظاهري للتمثل وتثير الانحباس الباطني لأنماط التمثل السردية والبلاغية وحتى السينمائية وغيرها. إن "منتهى الحدث" على حد تعبير فريد لاندر هي الصدمة التي يلحقها التاريخ الفعلي بالذاكرة الجماعية والفردية، والتي تنظم، على غرار الأحداث الطارئة العنيفة للتراجيديا الإغريقية والإليزابيثية، مرجع "قول التاريخ". لقد حدث شيء فظيع قد يجعل الشنيع موازنا سلبيا للبديع، لكنه شيء يتطلب الذكر حتى لا يطاله النسيان. ثم إن وقوع الحدث يتداخل فيه موقف الفرقاء إزاء، وهم المنفذون والضحايا أو الشاهدون (المتفرجون). إنها ثلاثة أصناف من التاريخ الحي، لا أحد منها قادر على تحمل الحساب.
ومع ذلك، يجب الاحتراس من أي تخويف جديد نابع من هالة الواقعة وما يواكبها من شكاوي، والذي قد يشل التبصر حول العملية الاستغرافية. فالقاضي هو الذي يحكم ويعاقب، والمواطن هو الذي يناضل ضد النسيان ومن أجل إنصاف الذاكرة، أما المؤرخ فمهمته تكمن في الفهم دون اتهام أو تبرئة.
إذا كان الأمر على هذا النحو، يجب إذن، على الحدث، على حالته القصوى، أن يساعد على الأقل في إعادة طرح الإشكالية التي يثيرها التحليل البلاغي للخطاب. وبرأيي، يمكن للنقاش أن يسير في اتجاهين: في سافلة النص، من جانب التلقي لدى القارئ؛ وفي العالية، من جانب الأطوار الأولية للمَدْرج الاستغرافي.
من جانب التلقي، يستقبل القارئ النص التاريخي بترقب، كي لا "نحكي له أي شيء"، بل بتجربة كطرف في التاريخ المعاصر. فهو الذي يتقابل مع خطاب يشتهر بكونه ملتقي بين الحاضر والماضي. بمعنى أدق، إنه مواطن، فاعل تاريخي، يطلب من المؤرخ خطابا حقيقيا كفيلا بتوسيع ذاكرته ونقدها، وحتى مخالفتها. وإذا تعذر تقديم خطاب حقيقي، بالمفهوم الذي يحمله النعت في العلوم الطبيعية، فعلى الأقل خطاب يجد موقعا في مستوى قصد الحقيقة.
لهذه الغاية، يجب الأخذ بعين الاعتبار قصد الحقيقة من المرحلة الكتابية للمعرفة التاريخية إلى المراحل الأولية، أي التفسيرية والإدراكية والتوثيقية. هذا ما يغيب عادة في النقاشات المركزة على بلاغة الخطاب التاريخي. من الخطأ، هنا، أن ننتظر من السردية والمجازية ملء ثغرات برهنة مشغولة بتعليل مختلف الترابطات بين الوقائع الحقيقية. وعليه فإن الأهم لا يكمن في المستوى الكتابي، ولا في مستوى التفسير والفهم، بل في مستوى الحجة الوثائقية التي يجب الاستناد إليها مع احتمال مراجعة تدريجية لكل سلسلة العمليات الاستغرافية. يبدو أن الإثبات ليس حكرا على البلاغة. إنه ملتقى الإقناع والإرضاء على النحو الذي نلمسه في درس الاختلاف الذي لقنتنا إياه الجدالات بين سقراط والسفسطائيين. هنا يعمل منطق الاحتمالات الملموسة، المطبق في درجة مرونة العلوم الإنسانية، على احتواء التحاليل المنتجة تحت شعار الشك، وذلك لأجل الإسهام في التشويش على الحدود بين الخيال والواقع - كونه شعار الغائب في التاريخ، بل لكي يلاحق الإثبات في حيله على الطريقة التي استعملها أفلاطون في "المحاورات السقراطية" لتمييز الطب عن التجميل.
مع قرب لحظة الاستنتاج، أعود إلى مسألتي الأولية: هل يمكن لميثاق القراءة الذي يفترض أن تقوم عليه كتابة التاريخ أن يفي بغرضه، وإلى أي حد؟ لن يفاجأ قرائي إذا أجبت: نعم، إلى حد ما. ولكي لا يظهر جوابي من باب الثرثرة أو الانسلال عليَّ بالبرهة.
إن الإجابة بنعم هي وقوف بجانب القصدية المنتظمة للبحث التاريخي: السعي إلى الحدث والوصول إليه إذا أمكن. لقد اقترحت في الزمن والسرد مصطلح "التَمَثُّليَّة" للدلالة على متانة القصد-الادعاء.
فالفكرة التي تتضمنها الكلمة تعني في ذات الوقت الإنابة والقرب. الإنابة، على النحو الذي يحويه المصطلح في اللاتينية، كما كان مطبقا في العهد الهيلينستي ثم البيزنطي على وظيفة الشخص المؤهل لتمثيل العاهل في غيابه. وهو نفس المعنى الذي نجده في الألمانية للدلالة على الوكيل والملازم، وكذلك في الإنجليزية، بل وأيضا في التعبير الفرنسي حيث "ممثلو الشعب" و"التمثيلية الوطنية". إنها وظيفة نيابية، إذن، تتكامل مع وظيفة القرب، وظيفة الهدف: إنه جانب ادعاء القصد، لكنه ادعاء ذو منفذ، ذو إقدام.
عقد تام، إذن. لكن إلى أي حد؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال المتصل بدرجة الاحتمال والتشابه للنص التاريخي إلا عبر حكم مقارن. لكن بين ماذا وماذا؟ هناك جوابان ممكنان على هذا السؤال.
الأول يتعلق أيضا بالحقل التاريخي ذاته، أي المقارنة بين نصين أو أكثر حول نفس الرسم. في هذا الصدد أقترح الاستدلال بواقع إيحائي على نحو مذهل في نظري، ألا وهو "إعادة الكتابة" في التاريخ. فإعادة الكتابة كإعادة الترجمة. والحال أنه في إعادة ترجمة نفس النصوص الأصلية تنكشف، كما يقول أنطوان بيرمان، الرغبة في الترجمة وما يرافقها دون شك أيضا من معاناة ونشوة(22). كذلك، في إعادة الكتابة تظهر رغبة المؤرخ في التقرب أكثر من هذا الأصل الغريب، أي الحدث في كل حالاته. فالحقيقة لا يدعيها كتاب واحد، بل، إذا صح القول، ملف الجدال بأكمله. ذلك ما نلمسه بخصوص الثورة الفرنسية عندنا وما أثارته من خزانة هائلة.
الجواب الثاني على المسألة المطروحة بخصوص حكم المقارنة ينقلنا خارج التاريخ عند نقطة التقاء التاريخ والذاكرة. يطيب لي أن أختم بهذه المواجهة التي تمكنني من الربط بين فكرتي النهائية وفكرتي الأولية، والتي مفادها أن مسألة تمثل الماضي لا تبدأ مع التاريخ، بل مع الذاكرة. فالقضية التي طرحت ليست فقط لغزا، لغز التمثل الراهن لشيء غائب وقع في الماضي، أي قبل أن يُحكي، بل، فضلا عن ذلك، رسما لتصميم محدود وعارض للغز، على نحو غير متوازي مع التاريخ، أي التوفق في الاستعراف وما إليه من حس واعتقاد فوري. في التاريخ، بناءاتنا هي في أفضل الحالات إعادات بناء. انطلاقا من إعادات البناء هاته، ذكرنا فيما قبل القصد والادعاء والرغبة، والتي نقوم الآن بقياس درجة مرونتها، رابطين بين التأويل وقصد الحقيقة. هنا تطرح صعوبة كلمة تأويل. لكن افتراض الترابط بين التأويل والحقيقة في التاريخ والاضطلاع بهذا الترابط، يعني أكثر من مجرد استناد الموضوعية على الذاتية، كما قيل منذ وقت قريب. إذا لم نرد فقط نفسنة القصد التاريخاني أو تخليقه، بالتركيز مثلا على مصالح المؤرخ وأحكامه الجاهزة وانفعالاته، أو بتمجيد فضائل صدقه واعتداله وحتى تواضعه، حينئذ يجب تحديد السمة الإيبستيمية للتأويل. بمعنى: إيضاح المفاهيم والدلائل، تحديد نقاط الخلاف، بسط الخيارات المعلنة، من خلال مثلا طرح مسألة ما على وثيقة ما، اختيار نمط تفسيري ما عوض نمط آخر، من حيث سبب الفعل أو محركه، بتفضيل مفتاح لغوي ما على مفتاح آخر. فعلى كل مراحل العملية الاستغرافية يحدد التأويل رغبة الحقيقة في التاريخ، وذلك في مواجهة تعهد الذاكرة بالإخلاص.
على هذا النحو يمكن للتاريخ أن يطمح، عبر سلسلة وسائطه، في تعويض نقص لحظة الاستغراف التي تجعل من الذاكرة قالبا للتاريخ في الوقت الذي يجعل منها هذا الأخير أحد مواضيعه.
هكذا تبقى مفتوحة مسألة المزاحمة بين الذاكرة والتاريخ في تمثل الماضي. فالذاكرة تمتاز باستعراف الماضي كشيء موجود ومنعدم في ذات الوقت، أما التاريخ فيحظى بالقدرة على توسيع النظرة في المكان وفي الزمان، بقوة النقد ضمن تسلسل الشهادة والتفسير والفهم، بالتحكم البلاغي للنص، بل وخصوصا، بإقرار الانصاف بالنظر إلى الادعاءات المتنافسة للذاكرات المجروحة وأحيانا اللامبالية بمأساة الآخرين. فبين تعهد الذاكرة بالإخلاص وميثاق الحقيقة في التاريخ يبقى نظام الأولوية متذبذبا. فالقارئ، وبداخله المواطن، هو المؤهل الوحيد لحسم النقاش.
الهوام**********ش
1 – SAINT AUGUSTIN, CONFESSIONS, LIVRES VIII-XIII, PARIS, DESCLEE DE BROUWER, 1962, ŒUVRES DE SAINT AUGUSTIN, 14, PP.556-572 ET 572-591.
2 – PLATON, THEETETE, PARIS, FLAMMARION, 1994, TRAD M.NARCY, PP.182, 190.
3 – ARISTOTE, PETITS TRAITES D’HISTOIRE NATURELLE, PARIS, LES BELLES LETTRES, 1953, PP.53-63.
4 – M. HALBWACHS, LA MEMOIRE COLLECTIVE, PARIS, P.U.F., 1950.
5 – E.HUSSERL, PHANTASIE, BILDWUSSTSEIN, ERINNERUNG, EDITTITON ETABIE PAR EDUARD MARBACH, LA HAYE – BOSTON – LONDRES, MARTINUS NIJHOFF PUBLISHERS, 1930.
6 – H.BERGSON, MATIERE ET MEMOIRE, ESSAI SUR LA RELATION DU CORPS A L’ESPRIT, PARIS, F. ALCAN, 1896.
7 – M.DE CERTEAU, L’ECRITTURE DE L’HISTOIRE, PARIS, GALLIMARD, 1975.
8 – E. BENVENISTE, LE VOCABULAIRE DES INSTITUTIONS INDO-EUROPEENNES, PARIS, ED. DE MINUIT, 1969.
9 – M. BLOCH, APOLOGIE POUR L’HISTOIRE OU METIERE D’HISTORIEN, PARIS, A. COLIN (1949), 1997, PP.74-86.
10 – C.GINZBURG, (TRACES, RACINES D’UN PARADIGME INDICIAIRE), IN MYTHES, EMBLEMES, TRACES : MORPHOLOGIE ET HISTOIRE, PARIS, FLAMMARION (1986) 1989, PP.139-180.
11 – L.WALLA, SUR LA DONATION DE CONSTANTIN, PARIS, LES BELLES LETTRES, 1993.
12 – F. BRAUDEL, (HISTOIRE ET SCIENCES SOCIALES), LA LONGUE DUREE, ANNALES ESC, 1958, PP.725-753.
13 – J. REVEL (ED), JEUX D’ECHELLES, LA MICRO-ANALYSE A L’EXPERIENCE, PARIS, GALLIMARD/LE SEUIL, 1996.
14 – L. LEVY – BRUHL, LA MEMOIRE PRIMITIVE, PARIS, F.ALCAN, 1992.
15 – L. MARIN, LE PORTRAIT DU ROI, PARIS, ED. DE MINUIT, 1981; ID, DES POUVOIRS DE L’IMAGE, PARIS, LE SEUIL, 1993.
16 – P. RICOEUR, TEMPS ET RECIT, PARTS, LE SEUIL, 1993.
17 – H. WHITE, THE CONTENTS OF THE FORM : NARRATIVE DICOURSE AND HISTORICAL REPRESENTATION, BALTIMORE-LONDRES, JOHNS HOPKINS UNIVERSITY PRESS, 1987, ID., TROPICS OF DISCOURSE: ESSAYS IN CULTURAL CRITIICISM, BALTIMORE-LONDRES, JOHNS HOPKINS UNIVERSITY PRESS, 1990.
18 – R. ANGSTEIN ET ALII, DEVANT L’HISTOIRE : DES DOCUMENTS DE LA CONTROVERSE SUR LA SINGULARITE DE L’EXTERMINATION DES JUIFS PAR LE REGIME NAZI, TRAD ; FR., PARIS, ED.DU CERF, 1988.
19 – S. FRIEDLANDER (ED), PROBING THE LIMITS OF REPRESENTATION, CAMBRIDGE, HARVARD UNIVERSITY PRESS, 1992.
20 – G. STEINER, CITE DANS H. WHITE, (HISTORICAL EMPLOY MENT AND THE PROBLEM OF TRUTH), IN S. FRIEDLANDER (ED), PROBING…, P.43.
21 – C. GIZBURG, IN S. FRIEDLANDER (ED), PROBING…, PP.82-96.
22 – A. BERMAN, L’EPREUVE DE L’ETRANGER, PARIS, GALLIMARD, 1984.
* ) Paul RICOEUR, (L’écriture de l’histoire et la représentation du passé), Annales Histoire, Sciences sociales, juillet-août 2000, pp.731-747.
استفادت هذه الترجمة من ملاحظات الأساتذة الأجلاء جاك لونغاد وأحمد العلمي ومحسن أعمار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق