احدث المواضيع

الأحد، 13 ديسمبر 2009

الـغـيـر

1 ـ مدخل (من الدلالات إلى الإشكالية)

2 ـ وجــود الغـــير

3 ـ معـرفة الغــير

4 ـ نموذجان للعلاقة مع الغير: الصداقة والغرابة

يتخذ مفهوم الغير في التمثل الشائع معنى تنحصر دلالته في الآخر المتميز عن الأنا الفردية أو الجماعية (النحن). وتكون أسباب هذا التميز إما مادية جسمية، وإما إتنية (عرقية) أو حضارية، أو فروقا اجتماعية أو طبقية ؛ …الخ. ومن هذا المنطلق، ندرك أن مفهوم الغير في الاصطلاح الشائع يتحدد بالسلب، لأنه يشير إلى ذلك الغير الذي يختلف عن الذات ويتميز عنها، ومن ثمة يمكن أن تتخذ منه الذات مواقف، بعضها إيجابي (كالتآخي، والصداقة، …الخ) ؛ وأخرى سلبية (كاللامبالاة، والعداء ..الخ). وهكذا، يتضح أن معنى الغير والآخر واحد في التمثل الشائع. وهذا ما يتيح لنا فرصة استباق هذا المفهوم في دلالته المعجمية.

ففي الدلالة المعجمية العربية، يظهر أن مفهوم الغير مشتق من كلمة غير التي تستعمل عادة للاستثناء (بمعنى سوى). ومن ثم يتخذ مفهوم الغير معنى التميز والاختلاف، كما يلاحظ ترادف بين معنيي الغير والآخر.

أما في الدلالة المعجمية الفرنسية، يلاحظ بعض التمييز بين مصطلحي الغير Autrui والآخر L’autre ، حيث يتخذ مفهوم الآخر معنى أوسع يفيد كل ما يختلف عن الموضوع والذات، فيشمل الاختلاف كذلك مستوى الأشياء… أما مفهوم الغير، فهو تضييق لمعنى الآخر، حيث يحصره في مجال الإنسان فقط، ويقصد به الناس الآخرين.

أما على مستوى الدلالة الفلسفية، فنجد التنوع والاختلاف في تحديد مفهوم الغير. فإذا حددنا الأنا فلسفيا باعتبارها ذاتا مفكرة أو أخلاقية ؛ فإن مفهوم الغير يكتسي أبعادا متنوعة يمكن حصرها في المماثلة أو الاختلاف. فقد نجد كانط ـ مثلا ـ يماثل بين الأنا والغير، باعتبار الوجود الإنساني وجودا يتسم بالحرية والإرادة. أو يمكن أن يكون الغير أنا أخرى ليست أناي الفردية، كما يرى سارتر، أو يمكن أن يكون الغير مقابلا للهوهو كما هو الأمر عند أرسطو خصوصا واليونان على وجه التعميم.

إن هذا التنوع الدلالي هو الذي يفتح أمامنا فرصة بناء الإشكالية العامة لهذا الدرس، والتي تمكن ترجمتها من خلال التساؤلات التالية :

  • كيف يتحدد وجود الغير بالنسبة للأنا ؟

  • كيف تمكن معرفة الغير ؟

  • ماهي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تجمع الأنا بالغير ؟

2. وجـود الـغير

يرجع بنا تأسيس مفهوم الغير، في صورته الأولية، إلى الفلسفة اليونانية التي كانت فلسفة يغلب عليها الطابع الأنطولوجي في تحديد مفهوم الغير..، فكان مفهوم الهوهو هو المعيار المسيطر على الفكر اليوناني في تحديد كل كينونة أو تميزها عن غيرها، وسيصوغ أرسطو هذا المفهوم صياغة منطقية في شكل مبدأ الهوية (أو الذاتية). ومعنى ذلك : إما أن يكون الشيء هو هو، وإما أن يكون مخالفا لذلك. فهو بالنسبة إلى كينونته هوهو، وبالقياس إلى الغير مخالف له.. وهذا يفسر قيام الفلسفة اليونانية على كثير من التقابلات : كاللوغوس في مقابل الميتوس/ الإثبات في مقابل النفي/ البارد في مقابل الساخن (الحار)/ الإنساني في مقابل الإلهي/ …الخ.

ولما كان الفكر الفلسفي اليوناني يقوم على نوع من النزعة القومية (اليونان في مقابل الشعوب الأخرى) ؛ فإن إشكالية الغير كأنا متميزة عن الأنا الفردية لم تظهر إلا مع الفلسفة الحديثة.

فكان ديكارت أول فيلسوف حاول إقامة مفارقة بين الأنا الفردية الواعية وبين الغير ؛ حيث أراد ديكارت لنفسه أن يعيش عزلة إبستيمية، رافضا كل استعانة بالغير في أثناء عملية الشك. فرفض الموروث من المعارف، واعتمد على إمكاناته الذاتية، لأنه يريد أن يصل إلى ذلك اليقين العقلي الذي يتصف بالبداهة والوضوح والتميز… فوجود الغير في إدراك الحقيقة ليس وجودا ضروريا، ومن ثمة يمكن أن نقول : إن تجربة الشك التي عاشها ديكارت تمت من خلال إقصاء الغير… والاعتراف بالغير لا يأتي إلا من خلال قوة الحكم العقلي حيث يكون وجود الغير وجودا استدلاليا… وهذا ما يجعل البعض يعتقد بأن التصور الديكارتي يقترب من مذهب الأنا وحدي Le Solipsisme .

وقد تجاوز هيجل هذا الشعور السلبي بوجود الغير، لأنه رأى أن الذات حينما تنغمس في الحياة لا يكون وعيها وعيا للذات، وإنما نظرة إلى الذات باعتبارها عضوية. فوعي الذات لنفسها ـ في اعتقاد هيجل ـ يكون من خلال اعتراف الغير بها. وهذه عملية مزدوجة يقوم بها الغير كما تقوم بها الذات. واعتراف أحد الطرفين بالآخر لابد أن ينتزع. هكذا تدخل الأنا في صراع حتى الموت مع الغير، وتستمر العلاقة بينهما في إطار جدلية العبد والسيد. هكذا يكون وجود الغير بالنسبة إلى الذات وجودا ضروريا…

إن ما سبق يظهر التناقض الحاصل بين التمثلين الديكارتي والهيجلي ؛ ففي الوقت الذي يقصي فيه ديكارت وجود الغير، يعتبره هيجل وجودا ضروريا. وهذا يتولد عنه السؤال التالي : هل معرفة الغير ممكنة ؟ وكيف تتم معرفته؟

3 ـ معرفة الغير

إن المعرفة تشكل علاقة " إبستيمية " بين طرفين، أحدهما يمثل الذات العارفة والآخر يمثل موضوع المعرفة. إن هذا ما يدفعنا إلى طرح التساؤل التالي : هل نعرف الغير بوصفه ذاتا أم موضوعا ؟

يطرح سارتر العلاقة المعرفية بين الأنا والغير في إطار فينومينولوجي (ظاهراتي) متأثرا في ذلك ب " هوسرل " Husserl فالغير في اعتقاد سارتر " هو ذلك الذي ليس هو أنا، ولست أنا هو ". وفي حالة وجود علاقة عدمية بين الأنا والغير، فإنه لا يمكنه " أن يؤثر في كينونتي بكينونته "، وفي هذه الحالة ستكون معرفة الغير غير ممكنة. لكن بمجرد الدخول في علاقة معرفية مع الغير معناه تحويله إلى موضوع (أي تشييئه) : أي أننا ننظر إليه كشيء خارج عن ذواتنا ونسلب منه جميع معاني الوعي والحرية والإرادة والمسؤولية. وهذه العلاقة متبادلة بين الأنا والغير : فحين أدخل في مجال إدراك الآخر، فإن نظرته إلي تقيدني وتحد من حريتي وتلقائيتي، لأنني أنظر إلى نفسي نظرة الآخر إلي ؛ إن نظرة الغير إلي تشيئني، كما تشيئه نظرتي إليه. هكذا تبدو كينونة الغير متعالية عن مجال إدراكنا ما دامت معرفتنا للغير معرفة انطباعية حسية.

إن هذه أطروحة لا يتفق معها ميرلوبونتي، حيث يقول : " إن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع " ؛ إلا في حالة واحدة وهي أن ينغلق كل واحد في ذاته وتأملاته الفردية. مع العلم أن هذا الحاجز يمكن تكسيره بالتواصل : فبمجرد أن تدخل الذات في التواصل مع الغير حتى تكف ذات الغير عن التعالي عن الأنا، ويزول بذلك العائق الذي يعطي للغير صورة عالم يستعصي بلوغه.

إلا أن هذا ليس هو تمثل المدرسة الشعورية التي تعتقد أن الغير يظل حياة نفسية باطنية يستعصي بلوغها دون منهج الاستبطان. إن المشاركة الوجدانية للغير (الحزن لحزنه أو الفرح لفرحه ..الخ) لا تكفي وحدها للشعور بما يشعر به … فبدون إرادة من الغير للإفصاح عن ذاته بكل صدق وأمانة تكون معرفته غير ممكنة.

أما المدرسة اللاشعورية فترى أن هذه الرغبة الصادقة وحدها لا تكفي، لأن الأنا تجهل جانبا مهما من حياتها النفسية (أي خبايا اللاشعور)، والوصول إلى مكامن النفس الخفية هذه يكون مستحيلا دون اللجوء إلى التحليل النفسي (الحاجة إلى الغير).

إن هاذين التصورين لا يحظيان بالإجماع، لأن هناك من يرى أن معرفة الغير ممكنة عن طريق البرهان بالمماثلة، أي أن الغير ليس بأنا غريب ومتعال : إنه صورة من أناي. ومن ثمة، حين أعرف ذاتي أستطيع أن أسقطها على الغير. لكن ألا يمكن اعتبار الإسقاط جهلا بالذات، ما دامت المدرسة اللاشعورية تعتبره نوعا من الميكانزمات الدفاعية ؟

إن الاختلاف الحاصل حول معرفة الغير يمكن أن يتجاوز، في نظرٍ شيللر Scheller ، في الاعتقاد أن الغير لا يتشكل من ثنائية، جزء منها خفي وآخر ظاهر ؛ أو شطرين " أحدهما مخصص للإدراك الداخلي والآخر للإدراك الخارجي "، لأنهما في العمق مترابطين، فالغير كلية تتمثل من خلال مظاهره الخارجية، ونستطيع معرفته معرفة كلية ، فالغير " ليس بأنا غريب".

أما دولوز Deleuze فيرى أن الغير ليس هو ذلك الموضوع المرئي، وليس ذلك الشخص الآخر. إن الغير بنية الحقل الإدراكي، كما أنه نظام من التفاعلات بين الأفراد كأغيار. فحين تدرك الذات شيئا ما، فإنها لا تستطيع أن تحيط به في كليته إلا من خلال الآخرين ؛ فالغير هو الذي يتمم إدراكي للأشياء، وهو الذي " يجسد [مثلا] إمكانية عالم مفزع عندما لا أكون بعد مفزوعا، وعلى العكس إمكانية عالم مطمئن عندما أكون قد أفزعت حقيقة ". إن الغير إذن بنية مطلقة تتجلى في الممكن الإدراكي وهي تعبير عن عالم ممكن، ومعرفة الغير يجب أن تكون معرفة بنيوية.

لا يمكن اختزال العلاقة مع الغير في علاقة إبستيمية /أو معرفية/ من أي نوع. إن العلاقة مع الغير يمكن أن تكون علاقة أكسيولوجية قيمية تحكمها ضوابط أخلاقية كالأنانية، والغيرية، والظلم، والتسامح …الخ. وهذا ما يضطرنا إلى الوقوف عند نموذجين للعلاقة مع الغير هما : الصداقة والغرابة.

4 ـ نموذجان للعلاقة بالغير: الصداقة والغرابة

(ا) الغير كصديق

يمكن اعتبار الصداقة من العلاقات الإيجابية التي تربطنا بالغير، حيث يمكن أن تسمو بالأفراد إلى علاقات من الود تصل إلى التآخي والتضحية والإيثار… فما هو الدافع إلى الصداقة ؟ هل هو دافع المنفعة ؟ أم دافع الفضيلة ؟

يرى أفلاطون أن الصداقة علاقة من المحبة والمودة، لا يمكنها أن توجد بين الشبيه وشبيهه، ولا بين الضد وضده. فالطيب لا يكون صديقا للطيب، ولا يكون الخبيث صديقا للطيب. فلكي تكون هناك صداقة بين الأنا والغير، لابد أن تكون الذات في حالة من النقص النسبي الذي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من هو أفضل. ولو هيمن الشر على الذات فإنها ستكون في حالة نقص مطلق لا تستطيع معه أن تسمو إلى الخير. ولو كانت الذات في حالة خير مطلق لعاشت نوعا من الاكتفاء الذاتي. فالدافع إلى الصداقة هو الرغبة في تحقيق سمو الذات وكمالها من خلال الغير.

أما أرسطو فهو أكثر واقعية من أفلاطون، حيث يرى أن الدوافع إلى الصداقة ثلاثة هي : المنفعة، والمتعة، والفضيلة. لكن الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة لما تتسم به من نبل أخلاقي، وخصوصا لأنها تحقق التلاحم الاجتماعي بين أفراد المجتمع، باعتبار الإنسان "حيوانا مدنيا" ؛ لذا يقول أرسطو : "إن المواطنين لو تعلق بعضهم ببعض برباط الصداقة لما احتاجوا إلى العدالة". إن صداقة الفضيلة هي ذلك الوسط الذهبي الذي لا يمنع تحقق المنفعة والمتعة، في حين أن الصداقة القائمة على المنفعة أو على المتعة صداقة زائلة بزوال نوعية الرغبة في الغير…

إن قيام هذا النوع من الصداقة التي يدعو إليها أرسطو، قد يكون سهل التحقق في مجتمعات صغيرة، ويصعب تحققه في المجتمعات المعاصرة حيث تكثر الكثافة السكانية، ويسود فيها الشعور بالغرابة. فمن هو الغريب ؟

(ب) الغير كغريب

تحدد كريستيفا الغريب في مفهومين أساسين ؛ أحدهما ذلك الذي يفيد الافتقار إلى حق المواطنة. وهذه دلالة حقوقية تحاول بها الجماعة أن تمنع انحشار الغير الغريب في شؤونها الداخلية. وهذا في اعتقادها تعريف سطحي للغريب، لأنه هو تلك القوة الخفية التي تسكننا جميعا والتي تعبر عن التناقضات والاختلافات الداخلية التي غالبا ما يتم السكوت عنها، لأن هذا الغريب " يجعل ال"نحن" إشكاليا وربما مستحيلا ". إن الغريب إذن يوجد فينا، " إن الغريب يسكننا على نحو غريب ".

ومن هذا المنطلق تكون الغرابة شعورا قد يدفع الأنا (الفردية والجماعية) إلى إقصاء الغير أو تدميره أو الشعور بالعدوانية تجاهه أو على الأقل مقابلته باللامبالاة والتهميش… إن الدوافع نحو الغريب هي في الغالب دوافع سلبية… إنها تلك المواجهة الدائمة التي تؤدي إلى إذابة الاختلاف لصالح الذات، وقد كان آخر ما التجأت إليه المجتمعات الغربية في إقصاء الغير هو الاستعمار والاستيعاب الثقافي. هكذا أصبحت "عملة الغيرية" عملة مفقودة. وهذا فيما يرى كل من جيوم Guillaume وبودريار Boudrillard وضع لابد من القضاء عليه. حيث لابد أن يعيش كل "كائن مبدأ نقص وعدم كفاية"، لأن الشعور بالنقص يولد بالضرورة "الغيرية الجذرية". فالاحتفاظ بهوية الغير ينعش وعي الذات لنفسها. وهذا يستدعي ـ حسب ليفي ستروس ـ احتفاظ الكل بهويته الثقافية، ويجب القضاء على أسطورة التفوق القومي القائمة على اعتبارات إتنية كالتي نلمسها في بعض الطروحات الإستشراقية (عند إرنست رينان مثلا) أو الأنتروبولوجية (عند ليفي برول L. Bruhl مثلا).

فالتراكم الثقافي ليس ملكا خاصا لبعض الإتنيات ولا لبعض الثقافات، فليس هناك ثقافة معزولة. ومن ثمة لابد أن تنشأ بين الأنا والغير علاقة من الاحترام المتبادل وبالتالي الاعتراف للغير بخصوصيته الثقافية ونوعيتها وتميزها. أي لابد من الاعتراف بشرعية الاختلاف حتى في الحالة التي لا ندرك فيها طبيعة ذلك الاختلاف.

كتخريج عام نقول : إن الغير مفهوم فلسفي مجرد وإشكالية فلسفية حديثة، حاول التفكير الفلسفي في إطارها أن يتعامل مع مفهوم الغير كوجود عقلي يتم بناؤه من خلال فردية الأنا أو الدخول معه في صراع من أجل الوعي بالذات ؛ بل الدخول معه في علاقة إبستيمية تتنوع بين تشييئه واعتباره موضوعا، أو باعتباره ذاتا، أو كلية، أو بنية… إن تحديد طبيعة العلاقة مع الغير تدعو إلى الانفتاح على علاقات أخرى، أهمها : علاقتا الصداقة والغرابة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق