محمد الشيكر*
شعرية هايدغر في "زمن الشدة":
من اليسير جدا أن نقرر، بدون توجس، بأن فكر الوجود عند مارتن هايدغر ينهض على شعرية فلسفية بعيدة الغور، جذرية الرؤية. فلا مراء، أم محاورته لأشعار كل من هولدرلين Hِlderilin وريلكه Rilke وتراكل G.Trakl كانت من القوة، وبعد الرؤية بحيث إنها لم تشأ أن تكون مجرد "قراءة" تحوس في دائرة "الدوكسا الشعرية"، وبالتالي، لا تبرح مجال ما هو متداول من وسائط للقراءة، وذرائع لامتطاء القول الشعري، وإنما كانت محاورته تلك، مسعى لتدشين شعرية أصيلة تتغيا النفاذ إلى "ماهية الشعر" وتلمس جوهر اللغة.
ومؤكد أن اهتمام هايدغر بالشعر، لم يكن اهتماما فنيا بحتا، إنما كان ينخرط في سؤال مركزي يمس انشغاله بمهمات الفكر الجسيمة، في أفق نهاية الفلسفة. سؤال الشعر حسب هايدغر ليس سؤالا استقطابيا فحسب، إنما هو، في العمق، سؤال أنطولوجي يمليه فكر الوجود. فبين الشعر والفكر قرابة ملتبسة، وعشق ممتنع، وتعالق معتاص على البيان. ورغم أن جوار الشاعر الشادي هو جوار صعب وجارح لنرجسية المفكر، فإنه مع ذلك، جوار أقل خطورة(1) من جوار الفيلسوف ذاته. إن القول الشعري يسوق الفكر إلى التفلت من قبضة المفهوم وإلى التحليل من سياج النسق الفلسفي، وبالتالي يسوقه خارج تخوم الفلسفة، بعيدا عن ذيولها وظلالها الميتافيزيقية. من ثمة فالفكر، أو بنحو خاص، فكر الوجود، ينتسب إلى الأفق الذي يشعره القول الشعري وهو أفق نداء الكينونة أو داعي الوجود. فبقدر ما تتحدد الفلسفة الغربية في ماهيتها الأفلاطونية كنسيان لحقيقة الوجود ولمعنى الكينونة، بقدر ما يطمح القول الشعري، على خلاف القول الفلسفي، إلى رفع سجوف النسيان عن حقيقة الوجود وإلى الإفصاح عن هذه الحقيقة عبر فسحة اللغة. "لهذا فقد آن الأوان، كما يقول هايدغر، أن نكف عن المغالاة في الرفع من شأن الفلسفة، ومن هنا، أن نكف عن المبالغة في مطالبتهما بما لا تستطيعه. إن ما نحتاجه في الخواء الراهن للعالم: هو قليلا من الفلسفة وكثيرا من إيلاء العناية للفكر"(2).
ففي زمن الشدة المتنفذة، وفي "ليل أفول الآلهة"، وانسحاب "الوطن الأصلي"، بحسب تعبير هولدرين، يصبح فكر الوجود هو الملاذ، وهو السبيل الملكي الذي يلزم تنكبه للإصغاء لداعي الوجود وفي نفس الوقت، هو السبيل الملكي أيضا، للخروج من الخواء الذي يمتد في ليل الأزمنة الحديثة، ولتدشين "بداية أخرى". بيد أن هذا الفكر الموعود الذي يبشر به هايدغر ويستبق حلوله، ليس لحظة امتلاء ضد خواء مفترض، وليس حكمة للعالم تعلو على ما عداها، أو معرفة مطلقة -بتعبير هيجل- تَجُبُّ ما قبلها(3)، بل إن فكر الوجود، على خلاف كل ذلك، سيعانق أصوله ماقبل السقراطية في دعتها وبساطتها معا، "وسيعود أدراجه إلى خصاص ماهيته المؤقتة، حيث سيستجمع اللغة من أجل الإفصاح (عن الكينونة) على نحو بسيط. وبذلك تصير اللغة هي لغة الكينونة، مثلما إن السحب هي سحب السماء"(4). على هذا الأساس، ففكر الوجود لا يزعم لنفسه أنه بديل عن فلسفات خلت من قبله، ولا يعنيه أن يكون أسمى عتبة لنضج المفهوم الفلسفي واكتمال إمكانياته الثانوية. يقول هايدغر: "إن فكر أفلاطون ليس فكرا فلسفيا أكثر اكتمالا من فكر بارميندس- كما أن فلسفة هيجل ليست أتم من فلسفة كانط لأن لكل عصر فلسفي ضرورة خاصة به"(5). إن فكر الوجود ليس بديلا للفلسفة، ولا استعاضة عنها، ذلك لأنه لا ينتسب إلى تاريخها ولا يضطلع الموجود L’etant، في ماهيته وخاصيته، أو في جوهره وكيفية كينونته. في حين أن قضية فكر الوجود الرئيسية، تظل هي حقيقة الوجود ذاته. وإن فكر الوجود يريد أن يمنح نفسه القدرة التاريخية الأصيلة، على أن يكون إفصاحا عن هاتيك الحقيقة واستجابة لنداء الكينونة، ومن جهة ثانية يبتدئ تاريخ الفلسفة، حسب هايدغر، كنسيان لحقيقة الوجود ولمعنى الكينونة، أي يبتدئ كتاريخ أنطو-تيولوجي، ميتافيزيقي، في حين يقدم تاريخ فكر الوجود ذاته كتاريخ لاستعادة تلك الحقيقة، واستذكار ذلك المعنى. هكذا فخلف الفلسفة تثوي جنيالوجيا للنسيان وتاريخ لإنجاب حقيقة الوجود. في حين أن خلف فكر الوجود، تثوي جنيالوجيا للاستذكار، وتاريخ لاستعادة الذاكرة المنسية(6). إن فكر الوجود، يفكر خارج الفلسفة، وخارج حدودها ومسائلها وانغلاقها. كما أنه يفكر بمنآى عن سطو النسق، وعن قبضة المفهوم وانتظام الحجج. وإذا كان غرانجي G.G.Granger يقول بأن الفلسفة ليست شعرا لأنها خطاب مفهوم ومعرفة حجاجية- فيصح أن نقول مع هايدغر، بأن فكر الوجود هو إلى الشعر أقرب منه إلى الفلسفة لأنه يعلن تفلته من المفهوم والمحاججة والمنطق، ومن كل عتاد الفلاسفة المنطقي والحجاجي(7).
إن أصالة الفكر القادم، كما يستبقه هايدغر تقوم في كونه ينزل ذاته منزلة فكر للوجود وينزل الوجود بحد ذاته منزلة قدر للفكر. فالفكر يأتي شر الكينونة من ظل قدر الوجود، الوجود يأتي إلى الفكر عبر فسحة اللغة. ذلك لأن اللغة كما يقول هايدغر هي "مسكن الوجود. ففي حماها يسكن الإنسان. والمفكرون والشعراء هم الذين يذودون عن هذا الحمى"(8)، وحقيقة الوجود، إذ تنكشف في فسحة اللغة، فإنها لا تنكشف "إلا شعرا أو فكرا" أي لا تنكشف إلا في شعر الكينونة أو في فكر الكينونة. وداخل هذا الأفق الشعري والفكري ترتسم معالم شعرية أنطولوجية، تطمح أن تكون صهيلا أبيض ضد النسيان، وشغبا عاريا في "زمن الشدة" وفي ليل العالم الطويل، كما تطمح إلى أن تكون عنوانا على التحام عائق بين الفكر والشعر، وحوار سادر بين بعدين أو نمطين لإنتاج المعنى وتأسيس الحقيقة. فكيف نباشر شعرية هايدغر العصية على المباشرة؟ وما هي معالم هذه الشعرية؟
شعرية (ضد) الحداثة:
للشعر حضور معطاء، وموقع باذخ في فلسفة هايدغر، وهذا ما يضعه، رأسا في مجابهة صريحة لأفلاطون، وفي مسافة نقدية بالنظر إلى تاريخ الميتافيزيقا الغربية، من جهة ما هو تاريخ "أفلاطون في ماهيته"، فإن كان أفلاطون، كما هو معلوم، يزج بالشعراء ويلفظهم خارج مدينته الفاضلة لأن الشعر، برأيه، خصاص، واستقالة إزاء الحقيقة، وإنتاج للوهمي والشائه واللامعقول، فإن هايدغر على خلاف ذلك، يجعل من الشاعر الشادي الأصيل "راعي الوجود" و"حامي حمى الكينونة"(9). بل إن هايدغر "يجوهر" الشعر، ويرتفع به إلى مقام الماهية، ويمضي باستفهامه الأنطولوجي شطر ماهية شعر تكمن في تجاربه، واختلاف حساسياته ولغته، وتباين عوامله واستعاراته، ويقوم الميتاشعري خلف الشعري، ويسكن اللاشخصي خلف التجارب الشخصية. وهكذا فحين تحتفي شعرية هايدغر بأشعار كل من بندار Pindare أو هولدرلين Hِlderlin أو ريلكه Rilke أو تراكل Trakl أو ستيفان جورج S.Georg، فإنها تنفذ إلى اللاشخصي خلف الشخصي وإلى الماهوي حول الإشراقات الآبقة والصور الهاربة، وإلى شعر الشعر أو مظان الشعر الأولى خلف ما هو اختيار خلف ما هو تجريبي. إن شعرية هايدغر تطمح إذن إلى "الإصغاء إلى الكلام الشعري، من موقع إنصات وإصغاء مغاير لموقع شخص (هاو للأشعار) (حسب تعبير فاليري)، أي من موقع فكر ما كان بالإمكان أن يوجد حتى الآن، إلا كفلسفة"(10). بمعنى أن شعرية هايدغر حينما تنصت إلى ماهية الشعر، وتصغي إليه في حقيقته المحايثة، فإنها لا تتعدى على الدرس اللساني ولا تصدر عن مرجعية نقدية محددة، إنما تحاور الشعر بصوت أبيض، وبلغة هيرمينوطيقية عارية، لا تبحث عن شيء ما في الشعر، وإنما عن ذاتها فيه. النفاذ إلى الميتاشعري، والعبور السري إلى ماهية الشعر لا يجري عبر قراءة انطباعية أو هاوية لشعر شاعر أيضا، ولا أيضا من خلال قراءة مؤسسة إبستمولوجيا، ومدججة ميتودولوجيا. فالشعر الأصيل معتاص جواره، بعيد غوره، "طويل سلمه"، لا تأتي إلى جوهر الفلسفة لأنها متمسكة بمسكة المفهوم، ولا ينفذ النقد الأدبي واللساني إلى غوائله السحيقة، لأن النقد معياري وقيمي في مرجعيته. فمادام الشعر الحقيق والأصيل تسمية للكينونة، وكشفا لحقيقتها، فيتعين أن نأتي إلى هذا الشعر على مقربة من الكينونة ذاتها، وأن نفكر في ماهيته بفكر الكينونة، أي بفكر يفكر في الوجود. ففكر الوجود، وحده، يملك قدرة العبور إلى ماهية الشعر، وبالتالي الاحتفاء بالميتا-شعري، حيث يلتحم الفكري والشعري والأنطولوجي واللغوي في "لحمة واحدة" وحيث يعانق "ليل هيرودياد الأبيض، ليل سؤال الميتافيزيقا المشرق"(11)، عناق الأصل أو البدء الأول. لكن لا يتيسر، مع ذلك، أن نستوعب حديث هايدغر عن الشعر بما هو شعر، أو عن الميتا-شعر أو عن ماهية الشعر إلا إذا ربطنا حديثه ذاك بثلاثة أبعاد متعالقة وموصولة فيما بينهما وهي: العمل الفني، واللغة والمقدس(12).
1- إن العمل الفني، برأي هايدغر، ليس تجربة ذات مبدعة، تدشن الجمال كقيمة، وتنتج أثرا استطيقيا يحمل نفس تلك الذات المبدعة، وحساسيتها وتاريخها الشخصي، ذلك أن فيلسوف الغابة السوداء يرفض كل تحديد للعمل الفني في علاقته بالذات أو الأنا الاستطيقية كما تذهب إلى ذلك الاستطيقا الحداثية. فالفن برأيه، لا يتعين إلا في مجاورة الوجود، وفي جوار الكينونة. إن الفن حسب تعبير ستاينر "يحفظ حقيقة الوجود، ويهب الكينونة مسكنا تسكنه، ومفزعا قدسيا تفزع إليه"(13). والفن لا يستحق أن يسمي فنا أصيلا، ولا يكون قمينا بتلك التسمية، إلا حين يكون فسحة، وحين يدع الوجود يوجد داخل تلك الفسحة. كما أن الشعر لا يكون فنا، حسب هايدغر، إلا بمقدار ما هو "تسمية مؤسسة للوجود ولماهية كل الأشياء"(14) ولا يكون فنا أيضا إلا بمقدار ما يدشن "إمكانيات اللغة ذاتها".
2- واللغة ليست، فغي هذا المنظور، مادة للشعر وأفقا للتجريب الشعري. وليست من منظور سوسيري محض، نسقا من العلامات عليه مناط التواصل. يقول جان بوفري: "أن اللغة ليست منظومة من الدلائل والعلامات، إنها علاقة بالعالم ليس من خلال توسط عالم لساني بيننا وبين الأشياء كما يريد هومبولت Humboldt بل من خلال انفتاح العالم ذاته"(15). فما لا يمكن أن يفقهه الدرس اللساني، حسب هايدغر، هو أن اللغة مسكن للكينونة، وأن الكلام معبد للوجود. يقول بيرو H.Birault: "إن تجربة الفكر هي تجربة الكلام والكلام هو الوجود، والوجود هو الكلام. ومعبد الوجود هو معبد الكلام. ثم إن الإنسان يوجد في العالم مثلما يوجد في الكلام"(16). إن اللغة، منظور إليها من زاوية ماهوية وميتالسانية، لا تصبح ذريعة لشطحات الشعراء وفتوحاتهم البلاغية، بل هي ذلك الكلام البدئي الذي يتكلمه كل شاعر ويملي عليه كلامه الأصلي. والشعر في نفس الآن، هو الذي يقود الشاعر إلى أرض اللغة. إن اللغة هي بيت الشاعر، وجغرافيته الأنطولوجية، والشعر هو الكلام البدئي في خلوصه وبياضه الشفيف، وهو اللغة في طراوتها ونقائها الأول. اللغة في ماهيتها الشعرية، ليست وظيفة أداتية، وليست محض وساطة للتواصل. اللغة هي كشف للأشياء، وتسمية لأعيان الموجودات والكلمات لا تمثل الأشياء أو تعبير عنها، إنها تؤسس عبور الأشياء إلى العالم، وكلمات الشاعر "لا تعكس" تجربة الشاعر إزاء العالم، بل تخلق عالم الشاعر، وتدشن كونه الشعري، وتدشن وجود الأشياء.
3- هكذا فالشاعر لا يؤسس لغته الشخصية بناء على تجربة شخصيته، إنما يضطلع به كقدر يشرعه على الانمحاء كصوت شخصي وعلى التشظي كذاتية حرة، مريدة. إن الشاعر الحق "لا يعبِّر" عن تجربته الخاصة، بل "يُعبِّر" عن المقدس ويعبر إليه، ويسمى الوجود في ماهيته على نحو قدري. وبذلك تنمحي الذات إزاء الوجود، وينسحب الشاعر كتجربة ذاتية، وكمقام تلفظي إزاء شعر اللغة، وإزاء كلام بدئي يغمر كلامه على نحو لا شخصي. لكن حين ينمحي "حضور الشاعر" وحين تصير اللغة قدره والمقدس وزره الأنطولوجي، يصبح الشعر "حجة ضد الحداثة" حسب تعبير هنري ميشونيك(17).
شعرية "ضد" الحداثة، أو ما بعد دي سوسير:
إذا نظرنا إلى شعرية هايدغر من خلال راهن الدرس اللساني والشعري، فستبدو لنا، بلا ريب شعرية "سجالية" ونقدية، إن لم نقل، إنها ستبدو لا شعرية، بحسب تعبير هنري ميشونيك(18). إنها "تخيب" الانتظار الراهن، لأنها تفكر خارج ما يفكر فيه الفكر الراهن، ولأنها تفكر خارج فكر الحداثة ذاته.
إن شعرية هايدغر تستضيفنا إلى أفق أكثر جذرية، وأكثر تفلتا مما هو راهن، وتقتادنا إلى انتظار آخر أي إلى انتظار ما لم نفكر فيه بعد. يقول هايدغر: "يبدو، في عصرنا الذي يبعث على التفكير، أن الوضع الأكثر نقدية يكمن في كوننا لم نعمل فكرنا، ولم نفكر بعد"(19). وقد يعن للبعض أن يقول بأن راهن الدرس اللساني والشعري هو راهن أكثر "علمية" وأكثر "موضوعية"، وهو راهن كاف للضرب بالصفح عن "شعرية" هايدغر والزج بها في زمن "قبل سوسيري" وبالتالي في "زمن لغوي، تقليدي وماقبل حداثي". ولكن الحقيقة أن التذرع بعلمية اللغويات المعاصرة ليس سببا كافيا لنقد شعرية هايدغر بالجملة أو صرفها بالجملة. فمعلوم أن هايدغر، لم يتورع عن القول بأن العلم نفسه لا يفكر، أو أنه بنبرة ألطف، لما يعمل فكره بعد. إن الأفق الذي تتنزله شعرية هايدغر هو أفق أنطولوجي وليس أفقا "استطيقيا" أو أدبيا بحتا. كما أن السؤال الذي يحدو تلك الشعرية، ليس هو سؤال تجنيس أدبي أو تحديد لأنماط الإنتاج الأدبي، بل هو سؤال الكينونة، وسؤال حقيقة الكينونة بين الخفاء والتجلي. لهذا يمكن القول بأن شعرية هايدغر هي شعرية ما بعد سوسيرية وما بعد حداثية، بمعنى أنها تمضي بالألسنية الحديثة وبالشعرية الحديثة إلى مفازات لم تطأها من قبل وإلى أفق نقدي "لم تفكر فيه" سلفا. إنها، إذن، شعرية تفتحنا على الكشف وعلى الرؤيا "الهرمسية" وعلى الاستبصار الذي يتجاوز عتبة الرؤية العلمية. إنها شعرية هرمينوطيقية لأنها تمضي إلى المعنى بلا مرجعية خارجية، بل بصوت أبيض وبذاكرة تتغيا "التحلل" من الإرث الميتافيزيقي الغربي. وهي شعرية أنطولوجيا لأنها تضطلع بسؤال الكينونة إلى درجة المس. وعلى هذا، فشعرية فيلسوف الغابة السوداء هي شعرية تتحرك في أفق لا تعنيه تعاقدات وأوفاق ومواضعات الدرس اللساني والشعري المعاصرة، ولا يهتم بفتوحاته الإبستمولوجية الرائدة، والتي تفتقت عن معطف فرناند ذي سوسير. فالمفهوم الذي يكونه هايدغر عن اللغة وعن الكلام هو مفهوم ما بعد سوسيري، إن لم نقل إنه مفهوم مضاد لكل تحديد سوسيري، ولكل تحديد يدور في فلك الحد السوسيري، بل إنه "مضاد، كما يقول هايدغر، للألسنية التي تنتشر في كل مكان، والتي تضع ماهية اللسان في خدمة عالم محدد تكنولوجيا، أي عالم العقول الإليكترونية والنواظم الآلية، وهي بذلك إنما تواصل في الحقيقة عملية تدمير اللغة"(20). الألسنية، بمعنى مبتذل، علم الأنساق اللغوية أو علم الألسن، بما هي أنساق من العلامات اللفظية أو الدلائل اللسانية هي، الدالة، ولكنها مع ذلك، لم ترق بعد إلى اللسان في ماهيته، ولم تدرك تلك الوشيجة السرية بينه وبين سؤال الكينونة وحقيقة الوجود. إن اللسانيات كعلم لما تفكر بعد في جوهر اللسان، وفي ماهية الكلام، وأنها بذلك تضاعف وتجذر النسيان المتافيزيقي لحقيقة الكينونة، وتبخس اللغة حقيقتها وحقيتها. لكن، "إذا كان استعمال اللغة قد صار مبتذلا بالنسبة للإنسان الحديث، فلا ينبغي أن نبحث كما يقول ريشاردسون Richardson عن علة ذلك الابتذال على صعيد أخلاقي أو إستطيقي، بل ينبغي أن نلفيها في كون الطبيعة الحقيقية للإنسان وعلاقته الماهوية بالكينونة مازالتا طي النسيان"(21). إن اللسانيات العلمية لا تفكر.
في انتظار هولدرلين:
لا مراء، في أن شعرية هايدغر، هي شعرية عصية على الموضعة، ممتنعة على كل تصفيف متعجل أو تبسيط. لهذا يجمل بنا أن نكف عن التفكير فيها انطلاقا من الدرس الشعري واللساني الراهن. لأنها ستبدو لنا مجرد تَفَيْهُق(22) أو فذلكة كلامية لا أقل ولا أكثر. يلزم برأينا أن نقصر نظرنا إلى شعرية هايدغر بما هي أنطولوجيا شعرية، ويلزم مباشرتها في حدود تعلقها بفكر الوجود. إن هذه الشعرية تأتي زمنيا بعد مشروع هايدغر المركزي، نعني مشروع الوجود والزمن. كما أنها تلفي مسوغ ولادتها في انقطاع هذا المشروع وفي امتناعه وعدم وفائه بوعوده وإمكاناته المفترضة. لقد كان هايدغر نفسه على وعي بأن مشروع الوجود والزمن، على قوة تيمته وجسارة لغته، لا يستطيع الفكاك من أحابيل التراث الميتافيزيقي الغربي، ولا يستطيع أن يلغي انتسابه إلى تاريخ الميتافيزيقا الذي يطمح إلى "تدميره" و"هدمه"(23). كما كان هايدغر على وعي بأن "اللغة" الفلسفية التي يتكلمها كتاب الوجود والزمن هي لغة متأبية متوجسة لا تفي بالمراد، كما لو كان بهايدغر "حبسة" أو كان "لسانه معقودا". لقد كانت "لغة" هايدغر "الشاب" ينقصها "الترسل" الكافي وتعوزها السلاسة والرشاقة اللافتة، والتي تميز "لغة الشعراء". ولقد وجد هايدغر في الشعر سلاسة متأبية على الفيلسوف، ورشاقة لماحة، ليس فيها كلفة وأوضح في اصطلاح أو نحت لمفاهيم جديدة. وفي أشعار وترانيم شاعر ألماني كبير، بحجم ووزن هولدرلين وجد هايدغر ضلته. وهذا الشاعر الكبير هو الذي "حل عقده لسانه" كما يقول غادامير (Gadamer(24 وهو الذي ساق هايدغر إلى إدراك أن "الأوبة" إلى اللغة في طراوتها وبساطتها هي أوبة إلى "مسكن الكينونة" بعد وعثاء الرحلة إلى مفازات المفهوم. إن هولدرلين، ليس مجرد شاعر علا كعبه في المشهد الشعري الألماني للقرن 19، بل إن كعبه أعلى من ذلك بكثير، وصوته أعمق وأنقى من أن يعدله صوت شعري آخر. يقول هايدغر: "ان هولدرلين، برأيي، هو الشاعر الذي يومئ شطر المستقبل، وهو الشاعر الذي ينتظر الإله"(25). ففي ليل العالم، وفي ليل غياب الآلهة، وحينما يصير "زمن ليل العالم هو زمن الشدة"(26) يصبح الشعر ملاذا، ويصبح هولدرلين، يعيني هايدغر، هو الانتظار الأخير. هكذا يتحول هولدرلين من مجرد صوت شعري متميز، إلى صوت فيتيشي، وإلى أسطورة مقدسة، وبالتالي يدخل التعلق بشعره مقام العبادة ومقام الزلفى إلى معنى الكينونة وحقيقتها. إن إسم هولدرلين لا يرد على لسان هايدغر، وفي مجمل كتاباته المتأخرة، إلا على جهة التبجيل والتقديس. ونعجب، إذ نلمس أنه يذكره ويتبتل بشعره "كما يتبتل المؤمن بنص من نصوص الكتاب المقدس"(27)، ونعجب من هذه الغواية التي يمارسها شاعر على فيلسوف يزعم "تدمير" تاريخ الميتافيزيقا برمته.
إن هولدرلين، برأي فيلسوف الغابة السوداء، هو شاعر المقدس، وشاعر ماهية الشعر(28)، وصناعة الميتاشعري، وهو بآن واحد، فارس الكينونة وحارسها في زمن نسيان حقيقة الكينونة، وهو الانتظار الأخير: انتظار امتلاء المعنى، وانتظار فجر الآلهة في ليل عالم الحداثة الطويل. يخيَّلُ إلينا حينما يحيلنا هايدغر على شعر هولدرلين بأننا بصدد عملية يمكن تسميتها حسب ميشونيك "بعملية هولدرلين"(29)؛ وهذه العملية "تجعل من الشعر ماهية اللغة، ومن هولدرلين ماهية هذه الماهية وماهية الشعر"(30). إن "عملية هولدرلين" التي يضطلع بها هايدغر، بامتياز، هي تحول الزمني إلى ميتا-زمني، والواقعة إلى أسطوري، ويحل هولدرلين الأسطورة، محل هولدرلين الشخص التاريخ، ويحل الميتا-شاعر محل شاعر من لحم وعظم. إن هولدرلين الذي يتحدث عنه هايدغر هو شاعر مجرد متعال على أقرانه الشعراء علوا كبيرا، فهو شاعر الميتافيزيقا، وشاعر الماهيات بلا منازع: أي شاعر ماهية اللغة، وماهية الشعر، وماهية الوطن الأم، وماهية الأمة، وماهية الحضور وماهية الماهية عينها. وشعره يحبل بشعر الشعر، وشعر الباروسيا Parousie الذي يصغي لنداء الكينونة، ونشيد زمن الأوبة إلى نقاء الأشياء وإلى بهاء أعيان الموجودات، ونشيد أوبة الآلهة في زمن الشدة والأقوال(31). وتوظيف هولدرلين لا يقف عند هذا المستوى الشعري-الماهوي، بل يحمل ملمحا سياسيا لا يخفى على عين حصيفة. وهذا ما أشار إليه لاكو لابرت Ph. Lacoue Labouthe وميشونيك H.Mschonnic، حيث يقول الأول: "إن التبشير الهولدرليني، هو بدون ريب مواصلة واستئناف للخطاب الفلسفي والسياسي الذي تبناه هايدغر سنة 1933"(32)، ويقول ميشونيك من جهته: "إن توثين هولدرلين عند هايدغر قد أناب رأسا مناب التزامه السياسي منذ سنة 1934"(33). ونفهم من القولين، معا، بأن حضور هولدرلين في شعرية هايدغر ذو مقصد سياسي ثاو، أو على الأقل هو حضور جاء ليقنع خطابه السياسي المباشر: فهولدرلين هو مغني الأمة الألمانية الميتافيزيقية، ومغني اللسان الألماني بما هو لسان الألسن أو ميتا-لغة، ومغني الوطن وأرض الميلاد. حينما انتخب هايدغر، في أواخر شهر أبريل من سنة 1933، بإجماع ساحق، عميدا لجامعة فريبورغ، كان طموحا سياسيا كبيرا يتجلى في كونه كان "يعتقد حسب بوفري، بأن ألمانيا تشهد ميلادها وحضورها مع النازية"(34) وكان يدعم النظام الفاشي بدون أن يتنازل عن الدفاع عن استقلالية الجامعة. وحين اضطر لتقديم استقالته في فبراير سنة 1934، حفاظا على استقلاليته وعلى اتساق مواقفه، ظل مع ذلك يحمل نفس الطموح في "عودة" ألمانيا "كوطن" عميق وكوطن أم. وقد ألفى هايدغر، منذ سنة 1936، وبنحو دقيق منذ محاضرته (هولدرلين وماهية الشعراء)، في شعر هولدرلين مكمنا للكينونة، ونشيدا للوطن الأم، وترنيمة خالدة لأوبة الآلهة من زمن الأفول.
هوامش:
1) يقول هايدغر في "تجربة الفكر": "ثمة ثلاث مخاطر تهدد الفكرة: الخطر الخلاصي والمجدي وهو مجاورة الشاعر الشادي، والخطر الذي ينطوي على قدر أكبر من الدهاء والتنفذ وهو الفكر ذاته، حيث يتعين أن يفكر ضد نفسه، الشيء الذي لا يستطيعه إلا لماما، وأخيرا الخطر المؤدي، الخطر الملتبس، وهو خطر التفلسف".
Voir : M.Heidegger : Questions III, Gallimard, 1990, p.29.
2) M.Heidegger : (lettre sur l’humanisme), Questions III, op. cit, P.129.
3) M.Heidegger : Ibidem.
4) Ibidem.
5) M.Heidegger: (La fin de la philosophie et le tournant), in Questions IV, Gallimard, 1990, P.283.
6) M.Heidegger : Nietzsche II, Gallimard, P.391.
7) يقول غرانجي: "إذا لم تكن الفلسفة شعرا، فذلك لأن خطابها يريد أن يثبت ويحاجج" G.G.Granger « Système philosophique et Métastructures », Hommage, Fischbacher 1964, P.139.
8) G. Steiner: M.Heidegger, Flammarion 1981, P.167.
9) M.Heidegger : (lettre sur l’humanisme), Questions III, P.67-68.
9) M.Heidegger : op. cit, P.68.
10) J.Beaufret : Dialogue avec Heidegger IV, Ed. Minuit, 1985, P.118.
11) J.Beaufret : De l’existentialisme à Heidegger, Vin 1986, P.96.
12) « Une idée neuve de la poedi », M. Haar, Magasine litteraire, (sur Heidegger), P.38, (oct.1986).
13) G. Steiner: Martin Heidegger, trad par Denys de corona, Flammarion, 1978, P.174.
14) M.Heidegger : Approches de Holderlin, Gallimard, 1962, p.55.
15) J.Beaufret : Dialogue avec Heidegger I, 1969, Ed. Minuit, P.12.
16) H.Biroult : Heidegger et l’expérience de la pensée, Gallimard, 1978, P.394.
17) H.Meschonnic : le langage Heidegger, PUF, 1990, P.350.
18) Ibidem.
19) M.Heidegger : Essais et conférences, Gallimard, 1988, PP.154-155.
20) Cité in Meschonnic, Ibid, P.351.
21) Cité in G.Steiner, Ibid, P.166.
22) مارتن هايدغر، في الفلسفة والشعر، ترجمة عثمان أمين، الدار القومية للطباعة والنشر، ط1، 1962، ص11.
23) M.Heidegger : Etre et temps, Gallimard, 1986, PP.48-49.
24) M.Heidegger : Questions IV, Gallimard, 1990, P.439.
25) M.Heidegger : Approches de Holderlin, P.98.
26) M.Heidegger : Chemins qui ne ménent nulle part, Gallimard, 1990, p.324.
27) Cité in Meschonnic, op.cit, P.361.
28) Ibid, P.355.
29) Ibidem, P.354.
30) Ibid.
31) M.Heidegger : Approches, …. P.50.
32) PH. Lacoue Labarthe, La fiction du politique…, Bourgeois, 1987, P.27.
33) H. Meschonnic, op.cit., P.354.
34) J. Beaufret : cité F. Fédier in « La Question politique » Magazine littéraire (sur Heidegger), Octobre 1986, P.51.
* ) أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي، وادي زم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق