احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

عناصر لرؤية للفكر الفلسفي العربي في المستقبل*

عبد الرزاق الدواي

1- عن الخطاب حول المستقبل في الفلسفة

        إن التفكير في المستقبل والتخطيط له والعمل من أجله والإيمان بأن ذلك في متناول ومقدرة الإنسان، يكاد يكون خاصية من خاصيات عصرنا الحالي. ونحن نلاحظ بالملموس أن حقل التفكير في المستقبل يتسع باستمرار في أيامنا هاته، ولم يعد اليوم كما كان بالأمس مجرد محاولات لاستطلاع للغيب، بل إذا ينطلق من دلائل ومؤشرات حاضرة لها قدر كبير من المصداقية. ولقد أصبح بمكنة الإنسان صنع المستقبل في كثير من الميادين بفضل طرائق التوقع والتنبؤ والإدارة العقلانية للعمل.

        وعندما نلقي نظرة فاحصة على التوجهات الأساسية للفكر العربي المعاصر في مجالاته المختلفة وخاصة في العقود القريبة الماضية، سنكتشف بدون عناء كبير أن الاهتمام باستقراء المستقبل قد تعاظم فيها بكيفية مستمرة، كما أن الأهداف من استشراف آفاقه أضحت طموحة جدا، وهي تميل حاليا إلى أن تطال جميع الميادين تقريبا حتى تلك التي تخص الثقافة والفكر والفلسفة.

        وإذا كان الحديث عن المستقبل وحتى في ميادين العلم ذاتها، لا يخلو في كثير من الأحيان من إغراءات الانسياق والانجذاب نحو ما ليس موثوقا به ومتحققا بعد، إذ المسألة تتعلق قبل شيء باستكناه أمور تدخل في دائرة التخمين والاحتمال فقط، فكيف يكون الأمر بالأحرى في الفلسفة وهي ميدان نظري ليست فيه بالقطع أية معايير قادرة للتحقق من مصداقية الخطابات المتداولة فيه؛ ميدان يتميز بغياب الثوابت وبكثرة المتغيرات كما يظهر ذلك بجلاء في اختلاف التيارات وتعارض الآراء والمواقف فيه، وتعدد الرؤى والأطروحات المصاغة حول العالم والمجتمع والإنسان والقيم.

        وبالنظر إلى هذه المعطيات فإن الحديث عن مستقبل الفكر الفلسفي العربي عموما، حتى وإن لم يكن المقصود به التعبير عن إرادة إنشاء وتحقيق كل ما قد نرغب فيه أو نتطلع إليه أو يخطر على البال من طموحات في هذا المجال؛ بل فقط وصف ما يكشف لنا التقصي اليقظ للمعطيات والتوجهات الراهنة أنه ممكن التحقيق؛ إن هذا الحديث لا يعدو كونه محاولة لتلمس الطريق وللاستكشاف عن بعد، من المحتمل جدا أن تكون محفوفة بمكامن عديدة للخطأ.

        وعلى أية حال ومهما كانت صعوبات إمكان هذا الحديث قائمة، فهناك أمر واحد على الأقل لا يخامرنا بصدده أدنى شك: إن اهتمامنا بمستقبل الفكر الفلسفي العربي، نحن محبي الفلسفة والمشتغلين في ميدان العمل الفكري، ليس مبعثه فينا دوافع الفضول وحب الاستطلاع وهي أمر وارد؛ ولكن يكمن وراءه بالتأكيد وعينا الحاد بواقعنا الراهن المفعم بالتناقضات: تناقض بين المعتقد والسلوك، تناقض بين مطلب العدالة والحرية ومظاهر القمع والقهر، فضلا عن الشعور المقلق بوطأة الفارق الكبير الذي لا يزال يفصلنا عن المستوى الحالي للأمم المتقدمة. ولعل معاناتنا لهاته التناقضات هي التي تثير فينا رغبة ملحة في التحرر من الواقع الراهن والهروب منه نشدانا للتغيير في غد نأمله أفضل وتطلعا إلى "بديل" لما هو قائم. ولاشك أن كلمة "بديل" هاته جذابة وذات وقع خاص وهي لذلك ما فتئت تتردد في خطابنا الفكري والسياسي منذ الخمسينات وكأنها طوق للنجاة نسعف به دائما في حالات التأزم، فنشحن كل مرة مضمونها شحنا بطموحاتنا.

        وفي مجال الفكر تطرح إشكالية التطلع إلى معرفة معالم المستقبل، ولو بشكل ضمني، مشكلة نوعية خاصة تتعلق بشكل التغيير المأمول الذي ينبغي أن يطرأ على الفكر السائد بصفة عامة والفكر الفلسفي بصفة خاصة، حتى يتمكن من مواجهة مستجدات الحياة المعاصرة، ومواكبة الواقع الذي يكون عادة في مثل هذه الحالات أسرع تطورا من الفكر ذاته. وهذه المشكلة النوعية تبدو لنا وكأنها مشكلة دائمة تطرح باستمرار في تاريخنا ويعاد طرحها من جيل إلى جيل كلما عكرت الأفق سحابات أزمة حضارية جديدة ذات طابع حاد. ويتم ذلك الطرح في غالب الأحيان بواسطة صيغ وحجج تتبدل حسب ما تتسم به ظروف ومعطيات العصر من خصوبة الإبداع وسعة الاجتهاد.

        ونفترض أنه في المجال الفلسفي الذي يهمنا في الدرجة الأولى يكاد يكون من المستحيل على الفلسفة أن تأتي في المستقبل بما هو جديد إطلاقا، أو أن تحصل في ميدانها وفي تاريخها قطيعة جذرية مع ماضيها، أو أن تندثر "أخطاؤها" ويُتخلى عنها بصفة نهائية كما هو الشأن مثلا في الميدان العلمي. وإنما فكرنا الفلسفي، وككل فكر فلسفي آخر، يعيد إنتاج ما تم إنتاجه في السابق من إشكاليات نظرية في صيغة أزواج مفاهيمية تتقابل وتتنازع داخل خطابات تتطلع باستمرار إلى أن تتكلم لغة العصر وتتقمص روحه وتتصف بسماته وتعكس مواجهاته التي تحدث في المجتمع والتحديات المفروضة عليه. فتلبس تلك الإشكاليات لباسا جديدا يتلاءم مع طبيعة المرحلة والاهتمامات المتصارعة السائدة فيها.

        ولا نظننا اليوم ونحن نعبر عن انشغالنا بمستقبل الفكر الفلسفي العربي إلا أمام صيغة أخرى جديدة من الإشكاليات ذاتها. ويتقوى لدينا هذا الاعتقاد عندما نلقي نظرة فاحصة على الدراسات المنجزة حتى الآن عن موضوع إشكالية المستقبل في الفكر العربي المعاصر، وهي دراسات اكتست في السنوات الأخيرة مظهرا بارزا في الحوار والجدال الدائر بين المفكرين والمثقفين العرب. سنلاحظ أن أغلبيتها يهتم بمناحي التغيير المأمولة في المستقبل على ضوء التوجهات والمشاكل الراهنة، ويفكر في هذه المسألة من خلال نقاش نقدي لمضامين أزواج مفاهيمية تعبر عن إشكالات قائمة بين خيارات وبدائل ولكن بدون أن يتم الحسم فيها أبدا وبشكل نهائي. ومن النماذج المشهورة لتلك الأزواج نذكر: العقل والنقل، الدين والعلم، الأصالة والمعاصرة، الإبداع والإتباع، التقليد والحداثة، الاستقلال والتبعية، التقدم والتخلف، الأنا والآخر، الوحدة والتجزئة، الديموقراطية والاستبداد...(1).

        وإذا بحثنا عن ناظم عام يحكم المواقف من تلك الإشكالات الثنائية فلنقل إنه رهانات تحيل جميعها في نهاية المطاف إلى قضية الهوية: هناك فئات من مفكرينا تراهن على الهوية الخالصة التي لم تنل منها عوارض الزمن وبالتالي لا ترى المستقبل إلى في العودة إلى الماضي. وهناك فئات أخرى ترى الهوية الحقة في التحديث الشامل والقطيعة التامة مع الماضي. وفئات ثالثة تراهن على إمكانية التوفيق بين الموقفين بحيث تظل رؤيتها للمستقبل رؤية مدعومة بجانب من جوانب تاريخنا. وبصفة عامة فقليلون هم أولائك المفكرون العرب الذين يفكرون في المستقبل بدون ذاكرة تاريخية عربية إسلامية. ولذلك يمكن القول بإجمال مع محمد عابد الجابري أن الفكر العربي المعاصر أضحى "ميدانا للصراع لا يهدأ إلا ليشتد، بين مرجعيتين: مرجعية تراثية تنتمي إلى الماضي، ومرجعية نهضوية تنتمي إلى المستقبل... والنتيجة هي ما نراه من تنازع بين خطابين يقدم كل منهما قراءة خاصة لما هو كائن ولما ينبغي أن يكون"(2).

2- المستقبل وإشكالية الهوية

        يوجد من بين مفكرينا العرب المعاصرين إذن من يعتبر أن الرؤية المستقبلية الحقة والجديرة بهذا الإسم تتطلب الجرأة والقدرة على التحرر من الآراء المتحكمة في نظرتنا الحالية إلى الأمور، وبصفة خاصة التحرر من التبعية المطلقة للماضي وقيمه؛ وأن ذلك لن يتأتى إلا بإحداث قطيعة مع الرؤى التقليدية التي لا تطمح إلى أكثر من أن يتخذ المستقبل شكل الماضي البعيد، بحجة أن عطاء الماضي كاف وحده لبناء المستقبل. ومن منظور هؤلاء أننا إذا كنا نتطلع حقا أن يكون فكرنا المعاصر فكرا مستقبليا فلا مناص لنا اليوم من الدخول في معركة داخلية مع الذات وتصفية الحساب نهائيا مع تلك الرؤى التي تنظر إلى المستقبل كامتدادا للماضي وتفكر فيه وكأن مسار التاريخ قد توقف. ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن قطيعة من هذا القبيل لم تتحقق بعد في أي مجال؛ لأنه ما من قضية من قضايا الفكر العربي المعاصر إلا والماضي بثقله حاضر فيها كطرف. حتى ليبدو أن هذه معركة "تؤجل دائما ولا يُجرأ حتى الآن على خوضها خوفا من قتل الأب أو اغتيال التراث!" (3).

        ومما يعزز موقف هؤلاء أن الحديث عن الهوية والخصوصية في فكرنا العربي المعاصر أضحى يرتبط في غالب الأحيان بالماضي أكثر مما يرتبط بالمستقبل. ويتجلى الأمر في أننا حتى عندما نعبر عن حاجتنا إلى التحديث والانخراط في الحداثة، فإن ذلك يقترن عندنا عادة بتعاظم هواجس الخوف من ضياع هويتنا كثمن يجب بذله مقابل هذا التحديث نفسه. ذلك لأن الاعتقاد راسخ بأننا ورثنا فيما ورثناه من الماضي وعن السلف تراثا غنيا متجانسا مؤتلفا، كاملا مكتملا، قادرا على أن يوقع بختمه على شخصيتنا وذاتنا مرة واحدة وإلى الأبد. إذ هو يشتمل على منظومة قيم ثابتة ومطلقة متحررة من قيود المكان والزمان، تصلح للإنسان العربي بغض النظر عن العصر والمواقف والمشكلات؛ قيم تتحدى التمايزات بين المجتمعات والفوارق النوعية بين العصور، وتسقط من حسابها التغيرات الطارئة على العالم باستمرار.

        وهكذا يطغى مطلب تأكيد الهوية والذات على تفكيرنا في المستقبل، وتقفز حاجتنا لحماية خصوصيتنا الثقافية إلى الصف الأول وتصبح هي المتصدرة لقائمة الاهتمامات، في زمن نعتقد أننا نغيره، بيد أنه هو الذي يغيرنا عمليا، فنحن لا نستطيع ملاحقته ولا الإسهام في تحولاته ولا حتى التأثير في مساره. لقد أصبح مفروضا علينا فيه أن نفكر بطريقة مغايرة لما تعودناه من قبل وطيلة عقود من السنين، مفروض علينا ذلك حتى نتمكن من مسايرة واستيعاب إيقاعاته وتحولاته المتسارعة وآثارها. بل لقد غدونا مضطرين في أحيان كثيرة إلى التكيف مع الظروف الجديدة، وبالتالي إلى تقديم التنازلات تلو الأخرى حفاظا على ما نرى أنه أساسي؛ وإلى تكييف أفكارنا ومشاعرنا مع ما رفضناه من قبل مرارا وتكرارا باسم مشاريع ثقافات مضادة.

        وهكذا أيضا تضحى جهود معظم مفكرينا موجهة لحماية الذات عن طريق الاستنجاد بالتراث الثقافي والديني لغايات دفاعية محضة، وللمراهنة على هوية أصيلة وخالصة نركن إليها للتخلص من قلق التشتت ومعاناة التناقض؛ هوية مطلوب منا أن نحييها ونثبت عليها في عالم لا ثابت فيه سوى التغير، وكأن الإحياء والتجديد هو الأمل الأكبر أما التجاوز فمستحيل. وهل ننسى أن خصوصية ثقافتنا العربية المعاصرة بروافدها المختلفة تقوم في كون سماتها ومعالمها البارزة تكونت في جو غلب عليه دائما منطق المواجهة مع الغرب وغزوه الثقافي، كما يؤكد ذلك عبد الله العروي، ويتفق معه جل مفكرينا المعاصرين مهما اختلفت مشاربهم؟(4).

        ولكن الخطاب عن الهوية في فكرنا العربي المعاصر لا يُنسَجُ دائما على نفس المنوال. فهو يتميز أحيانا ببعد مستقبلي واضح المعالم وخاصة عند أولائك الذين يرون أن ما نصطلح على تسميته بالهوية إذا كان في جزء معين منه يورث ويتنقل بالفعل، فإنه في جزئه الآخر المتفتح يصنع صنعا وباستمرار. فالهوية مشروع مستقبلي أكثر منه مشروعا للاسترداد وللتملك من جديد. فالقضية هنا لا تتعلق باسترداد هوية مفقودة تنتظر استعادتها والتطابق معها من جديد، بقدر ما تتعلق بالأحرى بالسعي إلى إعادة تشكيلها اعتمادا على الإمكانيات الواقعية التي توفرها عناصر ومعطيات المرحلة المعاصرة للتطور البشري والمعرفي. وكون الهوية مفهوما مستقبليا ونضاليا فذلك يعني أنه مفهوم مفتوح ولا يمكن إلا أن يظل مفتوحا وقابلا لاكتساب سمات جديدة. وستأخذ نظرتنا إلى الهوية بعدا هاما يوم تستطيع الفلسفة العربية أن ترسم معالم وعناصر تصور حديث عن الإنسان العربي وعن حقوقه وتطلعاته، كمشروع له مصداقية ويتوجب النضال من أجل تحقيقه(5).

3- المستقبل وإشكالية التفاعل الثقافي

        ومن العوامل المفضية إلى فقدان الهوية الثقافية كما يقولون التبعية للغرب في مجال الفكر والثقافة. ولقد دأبنا بالفعل على سماع وقراءة أن هذه التبعية تظهر بقوة في كون فكرنا الحديث أصبح يعتمد اعتمادا كبيرا على الثقافة الغربية ويستقي منها أدواته النظرية من مفاهيم ومناهج وأفكار وقيم إجرائية. وهذا الواقع يكشف أنه ليست لدينا فلسفة أصيلة وأن فلسفتنا هي امتداد لمذاهب فلسفية غربية، وثقافتنا هي مجرد "وكالات حضارية للثقافة الغربية". ولقد أضحى تداول هذا النوع من الانتقاد مألوفا وهو يتبلور بشكل مستنير ومتميز بصفة خاصة في كتابات حسن حنفي حول إشكالية "موقفنا الحضاري"(6). وقد يكون البعض من تلك المآخذ مصيبا في كثير من الحالات المتسمة بالإفراط في المغالاة. بيد أن ذلك لا يمنع بتاتا من إبداء التقدير لوجهة نظر أخرى مغايرة ترى أن التفكير في المستقبل لا يمكن أن يكون مجديا ومثمرا إلا من خلال علاقة مقارنة بالآخر أي الغرب، الذي لولا مواجهتنا له لما كان هناك تفكير حقيقي في المستقبل بالنسبة إلينا خاصة في فترتنا الحديثة والمعاصرة. فالمقارنة بالآخر تتيح دائما إمكانيات للفهم والنظر، وتغدو مناسبات لتوسيع الآفاق الضيقة والتحرر نسبيا من أسر المنظور القطعي والوثوقي. أليس هذا الآخر هو المثال الذي لا نستطيع التفكير في مستقبلنا بدون الارتباط به بكيفية ما رغم شعورنا في الوقت ذاته بأنه يلغينا؟(7).

        ومن باب مكاشفة النفس يتحتم الاعتراف بألا أحد الآن يستطيع أن ينكر، إلا ادعاء أو جهلا وتجاهلا وعنادا، أن الثقافة الغربية وفي كثير من عناصرها الإنسانية المشتركة، أضحت أحد المصادر الأساسية المباشرة لثقافتنا العلمية والسياسية والفلسفية، بل وواحدا من الروافد الأساسية لوعينا. وكيف يمكن الاستغناء عن المثاقفة ورفض مبدأ الاستفادة من بعض مكونات الثقافة الغربية والحال أنها صارت كما نرى واقعا فعليا يفقأ الأعين، ومصدرا لإمدادنا بما يساعد على تحديث الفكر بروح التحليل والفهم والنقد؟ وليس أمام الفكر العربي المعاصر إن هو أراد أن يكون حاضرا وفاعلا في زمانه إلا أن يفتح عينيه على هذه الحقيقة الصارخة: إن التبادل بين الثقافات غدا أمرا موضوعيا وظاهرة عالمية لا يمكن التغاضي عنها، بحيث لم يعد هناك أي حاجز قادرا على الصمود أمام سرعة انتقال المعرفة والمعلومات والأفكار والقيم والمكتسبات الإنسانية الحالية.

        ولا مناص لنا من افتراض أن ثقافة الآخر ستظل حاضرة في مشاريعنا المستقبلية شئنا أم أبينا؛ وسيستمر هذا الحضور بالضرورة ولفترة طويلة آتية، وربما في نفس الشكل المزدوج: حضور كخصم نخشاه وفي ذات الوقت حضور كمثال ونموذج تفرض علينا مرحلة التطور الحالي للبشرية الاستعانة به والاستفادة منه، خاصة في ميادين العلم والتكنولوجيا، ولماذا لا الفلسفة أيضا التي نعلم أن إشكاليتها لها علاقة متينة ومتميزة بهذين الميدانين؟ وهل بمقدورنا مثلا غض الطرف عن مسألة أن ما يجعل "القراءات الجديدة" للتراث واجتهاداتنا في التأويل ذاتها في أعيننا شيقة وخصبة هو كونها تنتعش باستمرار كلما ظهرت أدوات منهجية حديثة في الثقافة الغربية؟

        ولا نخفي هنا شعورنا بأنه لمن الصعب حقا أن نتصور إمكانية قيام خطاب فلسفي عربي في المستقبل يملك خصوصية مستقلة، ومعزولا بحيث يقطع صلاته بالعلم ولا يستلهم من روحه ولا يتفاعل مع الحركة العلمية في عصره، في حين أننا نعلم أن المذاهب الفلسفية الكبرى في التاريخ كانت دائما على علاقة وثيقة وحوار مستمر مع علم من العلوم، بل أحيانا لم تكن سوى ردود فعل على ما يستجد من مكتشفات وثورات في الميدان العلمي؛ نقول إنه لمن الصعب حقا قيام خطاب فلسفي من هذا النوع يحقق قطيعة جذرية مع الفكر الفلسفي الغربي عموما، ومع موضوعات وقيم أساسية في الثقافة الغربية كالحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان ولمجتمع المدني...، إلا إذا أصبح من سمات الخطاب الفلسفي الهذيان والظاهر أن هذا ليس بالأمر النادر! (8).

        وعندما نحيل الآن في خطابنا الفلسفي المعاصر إلى تلك الموضوعات والقيم الأساسية ونجعل منها إشكاليات حية تغذي فكرنا المعاصر، فإننا لا نكاد نفكر ولو للحظة واحدة في أصولها وسياقات نشأتها الأولى. ومن المرجح جدا أن مسألة نسيان الأصول هاته ستتقوى بالأحرى في فكر الغد: سيزداد اهتمامنا بتلك الموضوعات بغض النظر عن ظروف وملابسات نشأتها التاريخية، لأنها ستقترن في أذهاننا بكونها صارت مفاهيم وأدوات نظرية نقدية فعالة ساهمت في نمو وعينا الجديد بالإنسان وبالعالم، وبالتالي في تبديد الهالات المقدسة عن الأشخاص وعن المؤسسات، وهي لتلك الأسباب أمست تستجيب بالفعل لما نواجهه حاليا في مجتمعاتنا وفي ثقافتنا من مشاكل تتعلق بالحقوق وبتوسيع مجال الحريات، بل ولما سنواجهه مستقبلا ولفترة طويلة في هذا الميدان بالذات.

4- عن علاقة الفلسفة بالسياسة في المستقبل

        ويقودنا خيط الأفكار السابقة إلى صلب إشكالية علاقة الفكر الفلسفي العربي المحتملة في المستقبل بالسياسة. ونحن نرجح في ها المجال أن هذه العلاقة ورغم ما تراكم حولها من كتابات سلبية طيلة العقود الماضية، مرشحة لأن تزداد أهميتها بل وربما ستكتسي أبعادا وتوجهات جديدة. وفي الأفق أمارات دالة على ذلك: فعلى الرغم من كون عصرنا شهد انحسار إيديولوجيات كبرى ظلت حتى الأمس القريب تنعش الأمل وتلهب الحماس وتشحذ العزائم، وانهارت فيه أمام أنظارنا المذهولة أنظمة اجتماعية ونماذج فكرية بدت لنا من قبل وكأنها ذات طابع كوني؛ وغدت فيه مبتذلة وفارغة ومستنفذة عديد من القيم الإنسانية النبيلة؛ على الرغم من ذلك فإن طوفان السياسة يطال جميع الميادين: فهو يغمر دقائق الحياة اليومية للمواطن العربي وتفاصيلها ويتسرب إلى مقدساته وشعائره، ويخترق جميع أجناس الخطاب الفكري والوجداني ولم يبق الخطاب الفلسفي بالطبع بمنجاة من ذلك.

        وفضلا عن هذا، فعلى الرغم من كون العقدين الأخيرين من الألفية الثانية شهدا على ساحة الفكر بروزا ملحوظا لتيارات مناوئة للعقلانية وللعلم، فقد صرنا نلاحظ في الخطاب الفلسفي العربي المعاصر في الوقت ذاته وعن كثب تراجعا بينا لأصوات المنادين بحياد الفلسفة والداعين إلى إبقائها في منأى عن أية اهتمامات سياسية. وبموازاة مع ذلك تجدد الاهتمام بالدور التنويري للفلسفة بحيث بدا جليا في أيامنا هاته أن مما يحرك الكثير من الباحثين ويذكي حماسهم، سواء منهم المشتغلون بالتراث أو المهتمون بالبحث الفلسفي، اقتناعهم التدريجي بأن من مهام الفيلسوف العربي في هذا العصر تحديث فكرنا ومده بقيم النقد والمسؤولية، والمساهمة في النقد الاجتماعي والبحث عن أسس ديموقراطية لتنظيم المجتمع وصياغة المثل والأهداف.

        وقد لا نكون هنا في حاجة ماسة إلى التذكير من جديد بالعلاقة الصميمية التي جمعت بين الفكر الفلسفي والسياسة في مختلف العصور؛ وبأن انتشار القيم الفكرية والاجتماعية قد ساير في جميع العصور خط تطور ميزان القوى السياسي، فالمسألة أمست من قبيل الكلام المعاد. ولكننا نود مع ذلك التنويه مرة أخرى بما كتب حول هذا الموضوع من أبحاث سابقة قدمت إلى المؤتمر الفلسفي العربي الأول المنعقد بعمان في أواخر سنة 1983؛ فالجزء الكبير من أفكارها ومضامينها لا تزال له فائدة وراهنية. وعلى سبيل المثال نذكر في هذا السياق دراسة عادل ضاهر حول "دور الفلسفة في المجتمع العربي" التي جاء فيها: إن "الحياد الفلسفي" خرافة تحجب عن فلاسفتنا العرب الوظائف الإيديولوجية لكتاباتهم الفلسفية وترسخ في أذهانهم أن القضايا الأساسية التي تستأثر باهتمامهم هي قضايا من النوع الإبستملوجي والمعرفي فحسب؛ وبأن ما يقومون به هو شيء شبيه بالعلم؛ وأن فلاسفتنا ينكرون أن الخلافات الفلسفية تنطوي على خلافات إيديولوجية وسياسية ضمنية بالفعل"(9). ومن الواضح أن هذه الأفكار العميقة والثاقبة تلتقي مع نظريات معاصرة معروفة حول علاقة الفلسفة بالسياسة لعل أبرزها نظرية الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير.

        وفي أيامنا هاته حيث بدأت تنكشف بسرعة كبيرة نسبية القيم وتاريخيتها إلا بالنسبة لمن كانت على عينيه غشاوة... في هذه الفترة إذن وبصدد علاقة الفلسفة بالسياسة نتوقع أن يكون الفكر الفلسفي العربي في المستقبل، بالنظر إلى ما يمكن استقراؤه من شروطه وتوجهاته الحالية، أكثر استعدادا وتأهيلا لرعاية الاهتمام بقيم أصبحت الآن أساسية وضرورية بالنسبة إلينا مثل قيم النقد والمواجهة النقدية مع الذات ومع الآخر بوصفها خطوة مهمة في عملية الوعي بضرورة التغيير؛ وقيم التسامح في الحياة الثقافية والسياسية وقيم التعددية وحق الاختلاف. وليس ذلك فحسب لأن روح العصر عموما أصبحت تفرض تلك القيم؛ بل لأنها صارت بالنسبة إلينا قضايا حيوية. فلم يعد سرا الآن أن مستوى التسامح الفكري في وطننا العربي قد تدهور في السنوات الأخيرة تدهورا ملحوظا، بحيث أصبحت تعد من المحظورات كثير من الموضوعات التي كانت تناقش من قبل بسماحة وسعة أفق. وكأن مجتمعنا العربي المعاصر كما يقول فؤاد زكرياء أصيب بالانتكاس بفعل نمو القابلية للتعصب والموجات الجارفة من التيارات المتطرفة، وبدأ ينأى عن المناخ الذي يسمح بازدهار الفكر الفلسفي والعقلانية والديموقراطية(10).

        ولما كان الفكر الفلسفي في ماهيته محبة للحكمة، وحافزه الأول مبدأ البحث الدائب عن الحقيقة بإمكانيات إنسانية مع التسليم بنسبيتها ورفض كل ادعاء لاكتمالها ولامتلاكها نهائيا، فإن ذلك يفترض مقدما تعدد الآراء والتيارات فيه، ورفض فكرة "السلطة المطلقة التي لا تناقش"، وهي كما نعلم المسلمة الأولى لكل الاتجاهات المتطرفة. مما يعني بالتالي ضرورة احترام الرأي الآخر المخالف. ومما يزكي التفاؤل أن الكتابات الفلسفية العربية المعاصرة أصبحت تتميز في كثير من نماذجها بتوجهاتها النقدية الواضحة. ونستطيع أن نتبين ذلك في الجدل الذي نشهده منذ سنوات في فكرنا العربي المعاصر حول القيم والمفاهيم السابق ذكرها والتي يظهر بوضوح أن لها علاقة في الوقت ذاته بالفلسفة وبالفكر عموما وبالسياسة. وهذا يدل على أننا بدأنا نعي الأهمية التي تكتسبها مضامين تلك المفاهيم في حياة مجتمعاتنا.

        ولم يعد مطلب احترام الرأي الآخر المخالف مطلبا مقصورا على الفلسفة لأن خصوصيتها تفرضه؛ بل إنه أصبح من بين المطالب التي تتصدر في أيامنا الخطاب العام في صيغة مطلب حق الاختلاف. ولاشك أن حق الاختلاف يرتبط ارتباطا وثيقا بمسألة التعددية بأنواعها المختلفة كالتعددية السياسية والفكرية والاقتصادية، وهي مسألة بات من الصعب جدا نكرانها وغض الطرف عنها في الواقع العربي، رغم ثقل الميراث المتراكم الحائل دون ترسيخ قواعد الحوار والقبول بالواقع التعددي. وغني عن البيان أن المسألة بدأت تشغل تدريجيا حيزا مهما من قناعات المثقفين العرب المعاصرين الذين أضحوا الآن ميالين إلى الاقتناع بأنه خارج مناخ التعددية وحق الاختلاف الذي تنظمه قواعد الديموقراطية، ويستمر في إطار وفاق يتجدد بالوسائل الديموقراطية، لا يمكن أن يزدهر فكر أو تقوم مناظرة ويستقيم حوار.

        وفي سياق الحديث عن حق الاختلاف يجدر بنا هنا إبراز مفارقة ما فتئت تسكن تفكيرنا: فلقد تعودنا على الرفض الصريح لمبدأ هذا الحق على المستوى الإيديولوجي باسم قيم قيل بشأنها إنها مطلقة، رغم أن الاختلاف يظل دائما على أرض واقعنا حقيقة صارخة(11). ألا يؤكد المؤرخون أن تاريخنا هو ككل تواريخ شعوب العالم ميدان للخلاف وللاختلاف، مما يتناقض طبعا مع ما تذهب إليه فئة مهمة من مفكرينا ومنظرينا المعاصرين تصر على أن الحقيقة كانت دائما واحدة بل ومتجسدة دائما في التراث الذي تفضل الحديث عنه بالمفرد طامسة حيويته الكامنة في تعدده واختلافه؟

        ولأن الفكر الفلسفي في ماهيته إعمال عقل وتحليل ونقد ومساءلة، فهو يجد نفسه غالبا في صف معارضة الآراء السائدة، ولذلك لا يمكن أن نؤمل كثيرا في حلول يوم قريب تخمد فيه نهائيا الأصوات المنادية بتحريم الفلسفة. ستظل تلك الأصوات بالتأكيد تنبعث وترتفع بين الفينة والأخرى؛ ذلك لأن التاريخ يذكرنا بأن التيارات المتعصبة ومنذ نكبة ابن رشد وربما قبلها، نجحت مرارا في إقصاء الفلسفة وتهميشها. وقد ألفنا عندما تكون الظروف الاجتماعية مواتية لأن يطغى التعصب والتطرف أن تنزوي الفلسفة، وكتبها إذا لم يكن مصيرها الحرق أمام الملأ امتصاصا لغضب العامة واستعداء ضد الفكر المستنير، فإنها تمنع وتسحب من التداول ويحاكم مؤلفوها بالتهم المعروفة؛ أما تعليمها فيحارب أو تستبدل فيه قضاياها الحيوية والهامة ببرنامج هزيل لا يؤدي إلا إلى التعتيم وإجداب الفكر.

        وتلك مظاهر قد تفضي إلى تثبيط العزائم، ولكننا نتمسك بالأمل بأن فرص وحظوظ نمو وتطور تلك القيم والمبادئ في فكرنا العربي في المستقبل ولو بإيقاع بطيء، هي أكثر من فرص وأدها وانتكاسها، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار التطور الحاصل في عالمنا المعاصر، والدينامية المبشرة التي تشهدها مجتمعاتنا على مستويات الوعي والتطلعات وحركة التحديث والتنوير. فمهما كان مناخنا الفكري تقليديا وبطيء الإيقاع فإن التغير لابد أن يلحقه، و"صدمة" المستقبل آتية ولاريب في ذلك. لقد بدأت تلك المجموعة من المبادئ والقيم تزرع زرعا في بيئتنا الفكرية العربية ويتكون لها صدى لا يفتأ يتقوى، ولكن بنسب مختلفة ومتفاوتة حقا. ولاشك أن مساهمة الفكر الفلسفي في توضيحها وتعميقها والتوعية بها تندرج في نهاية المطاف ضمن جهود ونضال سائر مكونات المجتمع المدني العربي من أجل العدالة والديموقراطية ذاتها، وبالتالي من أجل المواطن العربي.

        وهناك مؤشرات ترجح استمرار هذا التوجه: ففضلا عن كون الحقائق الجديدة لا تنتصر في الغالب عن طريق إقناع معارضيها فحسب وجعلهم يضطرون إلى الاعتراف بها، وإنما بالأحرى لأن معارضيها يضعفون في النهاية أو يموتون وينشأ جيل جديد قد تعود عليها؛ فضلا عن ذلك، ليس من الأكيد أن تستمر أجيال المستقبل في قبول إرجاء النضال من أجل إرسائها إلى أجل غير مسمى، وهي جملة من الحقوق غدت اليوم بالنسبة للبشرية المضطهدة جمعاء واقعا سياسيا وعمليا وإمكانية تاريخية حقيقية... ليس ذلك من المعقول مهما برز الإرجاء بإسم أهداف أخرى تعلن من وراء ستار المصلحة العامة أو مواجهة خطر خارجي. لقد اعتبرنا مرارا وتعلمنا أنه خلف الأهداف النبيلة غالبا ما تكمن إرادة إنتاج وإعادة إنتاج علاقات الخضوع والامتثال.

        وفي تاريخ الفكر يلاحظ عادة أن الفلسفة عموما تعود في أوقات الأزمات الكبرى وفي زمن التحولات الحاسمة إلى الاهتمام بالإنسان. ولا نظن أن الفكر الفلسفي العربي المعاصر سيشذ وحده عن ذلك. لقد أضحى من واجب فلاسفتنا أن يجعلونا أكثر وعيا بالمشكلات المصيرية وبالمسائل الحاسمة المتعلقة بالإنسان العربي. وهم لذلك سيظلون لفترة طويلة غير قادرين على الاستغناء عن الموضوعات الحيوية للفلسفة الحديثة: الوجود والحياة والمعنى والسياسة، والحرية والنضال والالتزام، تلك الموضوعات التي تقول عنها أصوات التيارات العدمية والتفكيكية داخل حقلنا الثقافي العربي المعاصر، أنها أضحت موضوعات ميتافيزيقية تقليدية ومتجاوزة.

        إن قيمة الفكر والفلسفة، من وجهة نظرنا، تستمدان من مدى صلتهما بالإنسان وبمستقبله وبالمعاني التي تعطي مغزى ودلالة لحياته. ذلك أن الاهتمام بالإنسان حتى لو صح أنه أيضا من مسؤوليات العلم والسياسة، فهو بالأحرى موكول إلى الفلسفة لأنها وحدها التي يرجع إليها أساسا فضل مواصلة التساؤل المهتم بالإنسان وتجديده: ذلك لأن مصيرها ارتبط على الدوام بمدى اهتمامها به، وهي تفقد بالتأكيد كل معنى إذا لم تكن خطابا يتوجه إلى بشر، وثيق الصلة بحياتهم وبتطلعاتهم وآمالهم. وهل نبتدع شيئا جديدا عندما نقول إن في الفلسفة أيضا يذهب الزبد هباء وما يرتبط بالإنسان وينفعه يمكث في الأرض؟

        وليس هذا الاهتمام بالإنسان في رأينا إلا التعبير الممكن اليوم لدلالة معاصرة لمفهوم الفلسفة كحكمة: إن المعنى الذي يبدو أنسب لحكمة الفلسفة في عصرنا هو محبة الإنسان والاهتمام به. ومن هذا المنظور نفضل ألف مرة حكمة أولائك الفلاسفة البسطاء الذين ارتبطوا بالإنسان ودافعوا منذ ما ينيف عن ألفي سنة، ربما في تلقائية وسذاجة، عن فكرة أن الفلسفة التي لا تذهب حزنا في النفس، ولا تساعد على التخفيف من ألم في الجسم، ولا تحضن أملا ورجاء إنسانيا، إنما هي ضرب من اللغو والثرثرة(12).

        الهوامش:

1) من أجل الاطلاع على عينة من تلك الدراسات المستقبلية في الفكر العربي المعاصر، يمكن مراجعة مقال أحمد جدي: "الفكر العربي والمستقبل..."، مجلة الوحدة، عدد 1991/81، ص92.

2) محمد عابد الجابري، وجهة نظر... نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992، ص11.

3) هاشم صالح، "الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات"، مجلة الوحدة، عدد 101/102، مارس 1993، ص26.

4) عبد الله العروي، "قضية التراث والانبعاث الحضاري"، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 12، 1981.

5) عبدالرزاق الدواي، موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 1992، ص26.

6) حسن حنفي، "المشروع الحضاري الجديد: الماضي والحاضر والمستقبل"، مجلة الوحدة، عدد 106، 1994، ص9.

7) محمد عابد الجابري، مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1995، ص140. وفي نفس السياق أنظر كذلك هاشم صالح في "الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات"، مرجع سبق ذكره، ص22.

8) وقع بين أيدينا ونحن بصدد تحرير هذه الدراسة، كتاب صدر في مصر يحمل عنوانا يبدو جديا هو "مستقبل الفلسفة في مصر"، واستبشرنا به خيرا وقلنا لعله يفيدنا في التعرف على وجهة نظر أساتذتنا وزملائنا في مصر حول هذا الموضوع الحيوي. ولكننا وبعد أن تصفحناه لم نصدق أن ما ورد فيه صادر عن أستاذ في الفلسفة، سبق أن أطلعنا على بعض أعماله وخاصة في ميدان ترجمة النصوص الفلسفية. لقد بدا لنا مضمون هذا الكتاب نموذجا للخطاب الهذياني عن مستقبل الفلسفة المصرية. فالمؤلف لا يحيل فيه تماما إلى أية فلسفة عربية معاصرة كانت أم لا، ولا إلى أي فكر فلسفي عربي في أي قطر عربي آخر حتى في مصر! بل الأغرب أنه يصر فقط على الحديث صراحة عن مستقبل الفلسفة المصرية وحدها بنفس معنى كلامنا عن أغنية مصرية أو سينما مصرية! وكأن تلك الفلسفة قائمة الذات ومفصولة عن أي سياق عربي وإسلامي وعالمي. ويبدو خطابه عن الفلسفة المصرية المجهولة وكأنه خطاب ليس من هذا العصر بل وليس من أي عصر ثقافي معروف. فهو يضرب صفحا عن خصوصية الفكر الفلسفي ولا يتقيد بالدلالات المثبتة لمصطلح الفلسفة، فضلا عن تجاهله لتاريخ الفلسفة وأحوالها في عالمنا المعاصر وعلاقتها بالعلوم وبالتقنيات وبالسياسة؛ ولا يكترث بالتاريخ ومعطيات الزمن الحاضر وبمنطق التفاعل الثقافي.

        لقد كانت مصر حقا، ومنذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية الستينات، مركزا فعليا للتنوير في العالم العربي، ساهمت فيه الكتابات الفلسفية بفعالية في تشكيل الثقافة المصرية الحديثة ذاتها... أما اليوم، وكما يمكن أن يلاحظ الجميع من خلال ما يكتب وينشر فيها، فقد بدأت تتخلى وتتنازل باستمرار عن مكاسب كثيرة حققتها الثقافة العربية المعاصرة. ولا نكاد نصدق أنه يوجد في عصرنا الحالي من يفكر بكل جدية في اقتراح "مشروع أولي للفلسفة المستقبلية" في مصر يجزم فيه بأن بالإمكان بناء تلك الفلسفة انطلاقا مما يسميه ب"الصفر المنهجي"! وهذه بعض الأفكار المثيرة التي يعرضها الكتاب المذكور:

1- من أجل تسمية الفلاسفة والباحثين والمهتمين بالفلسفة من العرب يقترح اسم له دلالة خاصة هو: "الجماعة الفلسفية"، 2- يؤكد أنه "ليس في مصر فلسفة وليس لمصر فلسفة، فلا توجد فلسفة مصرية... الفلسفة الحالية في مصر هي فلسفة الغرب" 3- يقترح التخلي التدريجي عن كلمة "فلسفة" وتبني كلمة "الأصوليات"، تأكيدا لرفض التبعية لثقافات أخرى من جهة، وضمانا للتوجه الإبداعي... في بحث الأصوليات المصرية الجديدة، من جهة أخرى.

4- يصر على ضرورة البداية المطلقة للفلسفة الجديدة: "لن نبدأ من أحد في الغرب أو في الشرق، في الحاضر أو في الماضي، بل من الوجود ومن أنفسنا". 5- من أجل بناء فلسفة المستقبل يقترح البداية من الصفر، ويرى أن "... الحل يقوم في مفهوم منهجي... يكون في مبتدأ قواعد بناء ثقافتنا الجديدة في كل ميادينها، وليس في ميدان الفلسفة فحسب: ذلك هو مفهوم "الصفر المنهجي". 6- ويؤكد أنه يتوجب على "الفيلسوف المصري الجديد أن يبدأ من الوجود مباشرة ويكون إطاره المرجعي بنفسه وشيئا فشيئا". عزت قرني، مستقبل الفلسفة في مصر، القاهرة، عالم الكتب، 1995، صص5، 282، 296، 298.

9) نقرأ لعادل ضاهر في هذه الدراسة: "لا يمكن للفلاسفة أن يخلعوا قناع التجريد عن المفهومات التي يتعاملون معها بدون الاستعانة بالعلوم الاجتماعية لأن أدواتها هي، بين الأدوات المتوافرة، الوحيدة التي يمكننا بواسطتها أن نبين كيفية تغلغل التأثيرات الإيديولوجية في مفهوماتنا، وكيف أن ما نتصوره أنه حقيقة أو عقلاني قد يكون مجرد ستار تتستر وراءه مصالح فئوية من نوع أو آخر... يجب أن تقترب الفلسفة من العلوم الاجتماعية بعامة، وعلم اجتماع المعرفة بخاصة لتحقيق غرض أساسي هو تزويد الفلسفة بما يلزم من أدوات للكشف عن الجذور الاجتماعية للفكر". عادل ضاهر: "دور الفلسفة في المجتمع العربي"، ضمن كتاب الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985، (صص88-90).

10) فؤاد زكرياء، "الفلسفة والدين في المجتمع العربي المعاصر"، ضمن الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، تأليف جماعي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985، صص56، 58. وتأتي الأحداث لتزكي هذا الموقف وتمنحه مصداقية. فقد تصادف مع وقت تحريرنا لهذه الدراسة أن كانت الصحافة والمنابر الفكرية العربية تتحدث باستغراب عن وقائع محاكمة غريبة جرت في القاهرة وانتهت بإصدار حكم يقضي بالتفريق بين الدكتورة ابتهال يونس الأستاذة بجامعة القاهرة وزوجها الدكتور نصر أبوزيد الأستاذ بنفس الجامعة، بدعوى ردة هذا الأخير استنادا على أفكار قيل أنها متضمنة في كتبه: مفهوم النص، نقد الخطاب الديني، تأسيس الإيديولوجية الوسطوية. وذلك كله إرضاء لسلطة تأكد بالملموس الآن أنها قادرة على انتهاك الضمائر وتفتيشها إرهابا للفكر؛ بل وعلى أن تطال الناس في حياتهم الشخصية بقسوة نادرة وهم في عقر دارهم وحميميتهم. وهذا نموذج نادر للغلو في التطرف المفضي إلى إلغاء عنيف للحوار وصراع الأفكار، في انتظار غد ربما تقام فيه مجتمعات قد تصبح فيها المحاكم وقراراتها المجال الوحيد لتنظيم حق الاختلاف!

11) علي أومليل، في شرعية الاختلاف، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط، 1991، ص95.

12) عن فكرة للفيلسوف اليوناني أبيقور (270-241ق.م) بتصرف.


*  نص ينشر لأول مرة وهو تنقيح وتعديل لبحث ألقي في المؤتمر الفلسفي العربي الرابع المنعقد في عمان في أكتوبر 1995، تحت شعار "مستقبل الفكر الفلسفي العربي في عالم متغير".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق