ترجمة : أحمد العلمي
سبق أن نشرنا في أعداد سابقة الدرسين الأولين من دروس الصوربون التي ألقاها فردنان ألكيي حول سبينوزا. وننشر في هذا العدد ترجمة الدرس الثالث.
ستأستحضر، أولا، نتائج الدرس الأخير، مع تلخيصها. تحدثنا عن نظرية سبينوزا في أجناس المعرفة. ورأينا أنها تطورت من «الرسالة القصيرة» إلى مؤلف «الإيتيقا». أكيد أن العروض الثلات التي لدينا عن المسألة، وهي عرض «الرسالة القصيرة» وعرض «رسالة لتقويم الفهم» وعرض مؤلف «الإيتيقا»، تتضمن تراتبًا واحدًا لأجناس المعرفة، ومماثلا لنفسه: هناك أولا الرأي، الذي يمكنه أن يتولد من مجرد الخبر أو التجربة، لكنه دائمًا تعميم متسرع لحدث، أو لبعض الوقائع. إنه الجنس الأول للمعرفة. ثم هـناك، في الأعلى، المعرفة بـواسطة العقل. وهناك أخيرًا المعرفة الحدسية.
إلا أن علاقة المعرفة العقلانية بالعِلم الـحَدسي قد تنوعت، عند سبينوزا، تنوعًا كبيرًا، ونعاين هنا شكلاً من أشكال الإعلاءِ لهذه المعرفة القائمة على العقل، كما وضَّحْتُ ذلك في الدرس الأخير.
كانت المعرفة العقلية في «الرسالة القصيرة»، وهي أقدم نص لسبينوزا حول المسألة، بمثابة مجرد اعتقاد. إنها اعتقاد مستقيم، كما يقول سبينوزا، لكنها في نهاية المطاف اعتقاد. وإذا قادتنا إلى الحقيقة، فإنها تقودنا إليها بشكل غير مباشر. فالشيء يعرف بـ«شيء آخر»، كما يقول سبينوزا. ففي العلم الحدسي فقط، الذي يمثل، بلا شك، المثل الذي انطلق منه سبينوزا، يصل الذهن إلى الشيء ذاته، وإلى حق يكون علامة ذاته.
وفي «رسالة في تقويم الفهم»، الذي يشكل، بصدد النظرية العامة للحقيقة، تقدمًا واضحًا مقارنة مع نظرية «الرسالة القصيرة»، مازال سبينوزا يقول إن ماهية شيء تستنتج، في المعرفة بواسطة البرهان، من شيء آخر، لكنها تستنتج بشكل غير مطابق. هنا، بدون شك، يمكننا القيام باستنتاج دون خوف الوقوع في الخطإ. لكننا هنا أمام خلاصات مجردة، وغير مباشرة. وفي ما وراء مثل هذه الخلاصات، يؤسس سبينوزا جنس المعرفة الذي يُدرِك الماهية «المطابقة» للشيء، كما يقول. وعلى كل حال، يعترف سبينواز أنه لم يستطع بعد أن يعرف إلا أشياء قليلة بواسطة هذا الصنف من المعرفة.
وهكذا يعتبر سبينوزا المعرفة بواسطة العقل، كما نرى ذلك في «الرسالة القصيرة» وفي «رسالة في تقويم الفهم»، بمثابة معرفة صالحة، لكنها أساسًا معرفة غير مطابقة. ونحن لا نصل إلى المعرفة الحقيقية بكل ما للكلمة من معنى إلا مع المعرفة القائمة على الجنس الثالث، أي المعرفة الحدسية.
أما في مؤلف «الإيتيقا»، فإن الأمور تغيرت. لا لأنه لم يعد هناك أجناس ثلاثة، وإنما المعرفة بواسطة العقل تمر إلى جانب الحقيقة. فهناك دائمًا الجنس الأول من المعرفة، الذي هو الرأي، والخيال؛ إنه العلة الوحيدة للخطإ. وبصدد هذه النقطة، لم يغير سبينوزا من موقفه. لكن المعرفة بواسطة الجنس الثاني يقال عنها، هذه المرة، إنها تعمل بواسطة المعاني المشتركة والأفكار المطابقة (لم يكن الأمر على هذا الشكل في «رسالة في تقويم الفهم»). لم تعد المعرفة العقلية تختلط بالعلم الحدسي. فهي صائبة، وتامة الصواب. وهي تهيء، شأنها في ذلك شأن المعرفة الحدسية، حرية الذهن، وتساعد على امتلاك الحكمة. وهي بالخصوص، شرط العلم الحدسي ذاته.
والحال أنه بدا لنا أن هذا الامتياز الذي يمنح للمعرفة المقالية كان له كشرط، عند سبينوزا، بلورة نظرة المعاني المشتركة وانفاصلها التام عن الأفكار العامة. فالأفكار العامة تترتب على الجنس الأول من المعرفة. فهي من طبيعة خيالية. وهي تجد أصلها في التباس الانطباعات والآثار العالقة بالدماغ. أما المعاني المشتركة، فإنها مبادئ استنتاج مستقلة عن التجربة. وهي تسمح للفكر ببناء بواسطة ماهيةٍ، ماهيةً أخرى، دون الحاجة إلى شيء آخر من الخارج، وبمجرد بلورة قواها الطبيعية. وبفضلها، يمكن للمعرفة أن تكون فاعلة ومقالية دون أن تكون ذاتية، ويمكنها أن تتبع نظام الوجود الذي هو في الآن الواحد نظام الأشياء ونظام العقل.
يبدو أننا نمتلك، حسب ما قلنا قبل قليل، تفسير هذا النظام المتبع في مؤلف «الإيتيقا»، وهو نظام عوض أن ينطلق، كما تعرفون، من الكوجيطو، كما يقوم بذلك ديكارت، أو من المونادا، كما يقوم بذلك لابنتز، ينطلق من الله1. والكتاب الأول من مؤلف «الإيتيقا» يحمل عنوان بصدد الله. وهكذا يبدو أن المنهج يختلط بالنسق.
بإمكاننا تمييز فلاسفة المنهج وفلاسفة النسق. ففلاسفة المنهج هم أولائك الذين يعتقدون أنه من الواجب الانطلاق من وجهة نظر الإنسان؛ ويرتقي الإنسان شيئًا فشيئًا إلى المعرفة، والمنهج هو الطريق، والمسلك (كما يشير إلى ذلك اسمه، ومادام، فوق ذلك، أن الكلمة الإغريقية تفيد الطريق) الذي يقودنا إلى ذلك.
أما بالنسبة لسبينوزا، ليس من الممكن الإنطاق من منظور الإنسان، كما سيُبين لكم درس هذا المساء. ينبغي، على العكس، الانتقال أولا إلى مستوى الحقيقة السامية. فالفكرة الأكثر مباشرة، والأكثر بداهة، وأيضًا الأكثر غنًى والأكثر قابلية للفهم هي فكرة الله. فمنها ينبغي الانطلاق. ونعاين هنا إحدى أصالات النظام السبينوزي، أصالات يجب التركيز عليها قبل كل شيء.
أود، قصد إبراز هذه الأصالة، مقارنة فلسفة سبينوزا بفلسفة ديكارت بصدد بعض النقط. مما لا شك فيه أنه من الممكن أن نلاحظ أن مفهوم اللاتناهي، عند ديكارت، هو أول فكرة لدينا وأكثرها وضوحًا. وديكارت يثبت ذلك. وأنتم تعرفون أنه يعلن أن فكرة الله سابقة على فكرة ذاتي، وأنه إن لم تكن لدي فكرة اللاتناهي فلن تكون لدي فكرة التناهي، مادامت فكرة التناهي فكرة سلبية، فكرة أكونها بالانطلاق من فكرة اللاتناهي، وبتحديد هذه الأخيرة. وبالتالي، يمكن اعتبار سبينوزا هنا تابعًا لديكارت. ويمكننا القول أيضًا إن فكرة اللاتناهي، عند ديكارت وعند سبينوزا، هي الأساس المعقول للأشياء، مادام من دون معرفة الله، لا يمكنني أن أعرف شيئًا.
لكن في الواقع، إن أمعنَّا النظر، فإننا سنلاحظ بشكل بَيِّنٍ الاختلافات العميقة التي تفصل سبينوزا عن ديكارت.
أولاً، إن فكرة اللاتناهي، عند ديكارت ـ وهنا يتعلق الأمر بالاختلاف الأول ـ إن كانت، كما ذَكَّرْتُكم بذلك قبل قليل، تتمتع بسبق أونطولوجي ومنطقي بالمقارنة مع كل الأفكار الأخرى، فإنها ليست أوَّلَ فكرة يتم التوصل إليها. إنها ليست أولية بالنسبة لنا. فإثبات الله عند ديكارت يتم بعد الأنا المفكرة. فحجج وجود الله تأتي بعد إثبات «الأنا أفكر». فإثبات وجود الله يأتي بعد إثبات وجود الأنا المفكرة، وانطلاقًا من الأنا. إذن فالأمر الذي يكون أولا في ذاته لا يكون أولا بالنسبة لنا، وبالنسبة لنظام المنهج.
ثانيًا، وهكذا فالله، عند ديكارت، لا يكون، في الحقيقة، موضوع المعرفة. فهو، كما يردد ذلك ديكارت دون توقف موضوع تصور لا موضوع فهم. فهو موضوع إدراك الذهن. والصور التي يستعملها ديكارت هنا هي صورة متميزة. فهو يقارن، مثلا، بين تصور الله ورؤية البحر. فالبحر أمامي. لكنني عندما أكون مبحرًا، لا أستطيع رؤية مجموع البحر، و«فهم»2 البحر. وأيضًا، إذا وقفت أمام جبل، فإنني أدركه، لكنني لا أشمله، لأنني لا أدور حوله.
إذن، فالله بمثابة حضور لا يمكن إقامة تصور بصدده، فإنه حضور يستوقف ذهننا. فهو الكائن الذي يتجاوز فكري. وتكمن النقطة الحساسة لبراهين ديكارت بالضبط في إبراز هذا اللاتطابق بين اللاتناهي والكوجيطو، وفي البحث عن علل ذلك. وستتم البرهنة على وجود الله انطلاقًا من كونه علة فكرته التي تكون لدينا عنه.
ثالثًا، إن إله ديكارت هو إله يضمن، من الخارج، الحقائق التي خلقها؛ ويجب التذكير أنها حقائق كان بإمكانها أن تكون مخالفة، وكان بإمكان الله أن يخلقها بشكل مخالف. وبالتالي، فهي أولا أفكار يدركها ديكارت وكأنها افتراضية، وأساسية. فوجود الله، بعد إثباته، هو وحده الذي يستطيع إرساءها، ووضعها في الوجود وجلعها أفكارًا وجوديةً. لكن، هنا بالضبط، يظل الوجود نوعًا من الوجود الفعلي، ويترتب على عملية الخلق الحر. فهناك عند ديكارت جواز للإفكار الواجبة ذاتها، أي أن الله لو أراد، لخلق العالم بشكل مخالف، ولخلق بشكل مخالف الحقائق المنطقية ذاتها، بل حتى الحقائق الرياضية. فلو أراد الله أن يكون مجموع اثنين واثنين يساوي خمسة، لفعل ذلك. قد يبدو لناهذا أمرًا غريبًا، لكن ديكارت يفكر بهذه الكيفية. لا لكون الله قد «علم» أن 2 زائد 2 تساوي 4، أصبحت بالفعل 2 زائد 2 تساوي 4؛ بل لأنه قرر أن تكون 2 زائد 2 تساوي 4، أصبحت 2 زائد 2 تساوي 4 وليس 5.
وبالتالي، لا شيء فوق الله، ولا شيء يفرض ذاته على الله. ولا شيء، بما في ذلك الحقائق المنطقية ذاتها، يكون على نفس المستوى الذي يوجد فيه الله. فالحقائق المنطقية قد خلقها الله. ويَدَّعِي ديكارت أن جعل الله يكتشف الحقائق المنطقية، هو أن نجعل من الله، لا إله حقيقيًا، وإنما كوكب المشتري أو كوكب زحل، سيكون خاضعًا Styx وللأقدار.
أما عند سبينوزا، فإن النقط الثلاثة التي أشرت إليها، تقابلها تيمات أساسية.
أولا، كون فكرة الله فكرة أولى بكل معنى الكلمة، لا بشكل أونطولوجي ومنطقي فحسب، وإنما أيضًا بشكل منهجي. فإثبات وجود الله هو الأمر الذي ينبغي الانطلاق منه. فهي أكثر الأفكار بداهة، وهي الفكرة الواضحة من حيث هي. ولهذا السبب فإنها موجودة في بداية «الرسالة القصيرة»، وبداية مؤلف «الإيتيقا».
وكذلك الحال بالنسبة للدليل القبلي، أي الدليل الأونطولوجي (وبعبارة أخرى الدليل الذي يثبت وجود الله بفكرته وحدها، أي انطلاقًا من فكرته وحدها) الذي يتقدم على الدليل البعدي تقدمًا كبيرًا، أي الدليل الذي يثبت وجود الله بمثابة علة كل ما نلاحظه.
إلا أن الأمر ليس على هذا المنوال عند ديكارت. هناك بالتأكيد نقاش عند ديكارت بصدد الترتيب الحقيقي الذي على دلائل وجود الله أن تكون عليه. يدَّعِي البعضُ أن الدليل الأونطولوجي، عند ديكارت، يتوقف على الدليل القائم على أفعال الله. بينما يعتقد آخرون أن هذين الدليلين مستقلان. لكن ذلك ليس هو السؤال المطروح هنا. فمهما كان التأويل الذي نعطيه لنظام الدلائل الديكارتية، وهو تأويل أثار العديد من النقاشات، فمن الثابت أن الدليل الأونطولوجي ليس دائمًا هو الدليل الأول. فلا يوجد هذا الدليل، في كتاب التأملات، إلا في التأمل السادس، في حين أن الدليل القائم على أفعال الله يوجد في التأمل الأول. أما عند سبينوزا، فالدليل الأونطولوجي هو الأول، ولا يمكنه إلا أن يكون هو الأول.
من الواضح إذن أن سبينوزا، عكس ديكارت، لا ينطلق من الأَنَا. إنه يتموقع أولا في الله، وهكذا يريد أن يثبت أن الفكر ذاته ليس هو فكر الإنسان، وإنما هو فكر الله. لم يعد هناك إذن انتقال من وجهة نظر الإنسان إلى وجهة نظر الله.
بدأ ديكارت بتوضيح أن كل أفكاري تنتمي إليَّ، أي هي الغلاف العقلي وهي أفكار الإنسان. فهي، بالنظر إلى حقيقتها الصورية، أحوالُ الأَنَا. وهنا تكمن خاصية الشك. ما هو الشك عند ديكارت؟ إنه يتمثل في القول: «لديَّ انطباع أنني هنا، أنني أرى العالم، وأنني جالس بجانب النار، ومرتديًا مِبْذَلَة». لكن من الممكن أن أكون في حلم. والحال أنني عندما أحلم فإنني أكون في حالات مماثلة. فأفكاري ليست إلا أفكاري. والأمر الوحيد الذي أنا على يقين منه، هو أنني أنا الذي أفكر، موجود. وعلى ديكارت، بعد ذلك، بذل جهد كبير كي يخرج من الأنا، والانتقال إلى الله، إلى الوجود، وإلى الخارج. أما سبينوزا، فإنه يقتصد، إن أمكن القول، في هذا الجهد. فهو بسرعة، ودون معاناة عملية الشك، ودون التحديد الذي تمارسه فكرة «أنا أفكر»، يجد نفسه خارج الأنا. فهو يوجد مباشرة على مستوى الماهيات الحقيقية. هاهو إذن الاختلاف الأول الأساسي بين الفيلسوفين.
الاختلاف الثاني: ويترتب على ذلك أن الوضوح الذي ينسب إلى فكرة الله ليس من نفس الشكل عند سبينوزا وعند ديكارت. فالفكرة الواضحة، عند ديكارت، هي الفكرة الحاضرة. لكن طبيعة الله تظل طبيعة غامضة وغير قابلة للفهم. إنها هوة دون قعر. بل إن ديكارت يذهب إلى القول إن غير قابلية فهم طبيعة الله هو أمر مُتضمَّن في السبب الصوري للامتناهي. ولا أقول هنا إن فكر سبينوزا يدعي الوصول إلى كُلِّ الله. لا وجود لشيء من هذا القبيل. لكن فكرة الوجود، عند سبينوزا، هي فكرة بسيطة، تُعرَفُ مـن أول وهلـة بكيفية مطابقة. وبهذه الصفة تصبح هي السبب الأخير لكل معقولية. وهي، في هذا، مبدأ كل استنتاج. وباسم المبادئ التي درسنا سابقًا في الدرس الأخير، وباسم نظرية عن الحق، لا يتصور سبينوزا بالفعل موجودًا حقيقيًا لا يكون في الوقت نفسه معقولاً، وقابلا للفهم. ويمكن القول إنه يجعل من المعقولية مقياس الوجود.
وبالتالي فالله هو الموجود الأعظم معقولية، والأعظم قابلية للفهم. فهو شديد القابلية للفهم، والمعقولية، بحيث هو الموجود الوحيد الذي يوجد بشكل ضروري، أي أن ماهيته تنطوي على الوجود. كيف يمكن لموجود أن يكون أكثر معقولية من هذا؟ وما الأمر الذي يجعل الموجودات الأخرى موجودات غير معقولة؟ ذلك أنها تقدم لنا بمثابة أفعال. لماذا يوجد هنا مصباح؟ لا أدري. أو بالأحرى، لمعرفة سبب ذلك عليَّ أن أعود من علة إلى أخرى، وأن أتسائل: من صنع هذا المصباح؟ وأولئك الذين صنعوا هذا المصباح، ماهي العلة التي أنتجتهم هم أنفسهم؟ ينبغي عليَّ أن أعود إلى آبائهم، وإلى أجدادهم، وأسلافهم. وبالتالي لن أستطيع أن أفسر شيئًا. ولماذا؟ لأنني لا أستطيع من ماهية المصباح أن أستنتج أن مصباحًا موجودًا. أما بالنسبة لله، فيكفي أن أعرف ماهية الله كي أستنتج أنه موجود. وبالتالي فهو كائن سامي المعقولية. إنه موجود لا ينطوي وجوده على أي جواز. فهو الموجود الأكثر معقولية، لأنه يوجد بفضل ماهيته ضرورةً.
وأخيرًا، إن إله سبينوزا لم يخلق الحقائق بشكل اعتباطي واختياري. فالحقائق تترتب عليه. ويمكنها، على الأقل من جهة المبدأ، أن تُستنتج منه. ويجب التأكيد على أن لسبينوزا عن الاستنتاج تصورًا تحليليًا. الاستنتاج تحليل. وهو لا يخلق شيئًا. وبالتالي، فعندما أطرح فكرة الله، فإنني أطرح كل شيء، وليس علي بعد ذلك سوى أن أستخرج من هذه الفكرة كل ما تنطوي عليه، أي كل الموجودات.
الحال أنه كي تصبح فكرة مطابقةٌ مطابقةً بالفعل، أي أن تُعبِّر عن موضوعها، لا بد لهذا الموضوع أن يكون مرتبطًا بالمطلق الذي يتوقف عليه. فليس هناك إذن (كما تفهمون ذلك، وكل شيء يقودنا إلى هذه الفكرة المركزية) من واجب أمام الفكر الإنساني سوى أن يتطابق مع فكر الله، ومتابعته أثناء بلورته، ولا يمكن لهذا أن يتم سوى انطلاقًا من فكرة الله ذاتها. أو، إن فضلنا التعبير بطريقة أخرى سنقول: تطابق الوجود - كل موجود، وكل ما يمكنه أن يوجد في كل شيء من وجود ومن حقيقة- مع وحدة الجوهر، على أساس أن هذا التطابق هو شرط كل استدلال حقيقي. تلك هي البداهة السامية. يتعلق الأمر بحقيقة معروفة بذاتها، تكون هي شرط كل الحقائق الأخرى.
هذا هو السبب، بصفة عامة - وسنفهم ذلك بوضوح أكثر بفحصنا لبعض النصوص- الذي من أجله يسمِّي سبينوزا الكتاب الأول من مؤلف «الإيتيقا»، بصدد الله. فمن فكرة الله ينطلق سبينوزا.
وكي نضبط كل ذلك بشكل أفضل، فمن الواجب اعتبار نصوص سبينوزا المتعلقة بإثبات وجود الله، وإبراز مدى اختلاف هذا الإثبات عما كان عليه عند ديكارت.
سندرس أولا «الرسالة القصيرة». وكما قلت لكم في الدرس الأخير، يجب التزام الحذر فيما يتعلق بهذا الكتاب، مادمنا لا نعرفه إلا من خلال النسخ الهولاندية، ومادام يتعلق في غالب الأحيان بنصوص حررها تلامذة سبينوزا، باعتماد الملاحظات التي كتبوها أثناء عروض سبينوزا، وأن النص لم يراجعه سبينوزا بنفسه. وللفصل الأول من «الرسالة القصيرة» العنوان التالي: «في أن الله موجود». وذلك يشير إلى أن سبينوزا كان يفكر، منذ سنة 1660، في الانطلاق من مفهوم الله.
يقدم هذا الفصل الأول ثلاثة براهين لوجود الله. برهانان قبليان. وهما يقولان (ولن أركز على جزئيات البراهين) إن الوجود ينتمي إلى طبيعة الله. وهناك أيضًا برهان بعدي لا يعدو أن يكون، في صيغته الحَرفية، سوى برهان ديكارت. للإنسان فكرة الله، وتستدعي هذه الفكرة الله من حيث هو علتها الصورية. وعلينا ألا ننسى أن كلمة صوري تعني واقعي، وأن كلمة صوري، التي تشير إلى كل ما هو موجود في الأشياء ذاتها، تقابل، في القرن السابع عشر، كلمة موضوعي، التي تشير إلى ما يوجد في التمثل.
وبالفعل، يبين البحث في براهين «الرسالة القصيرة» أنها كلها تقوم على مبدأ بموجبه يكون «كل ما نعرفه بوضوح وتمييز منتميًا إلى طبيعة شيء، نستطيع أيضًا أن نثبته حقيقةً للشيء نفسه».
هذا النص الذي قدمت لكم هو نص سبينوزا ذاته. ويجب أن نستخلص من ذلك أنه عِوَضَ أن يُؤسس إلَهُ سبينوزا حقيقةَ الفكر تأسيسًا أونطولوجيًا، فإن إثبات وجوده، في «الرسالة القصيرة»، يتم هو ذاته انطلاقًا من إثبات لا مشروط لهذه المشروعية ذاتها. ولذلك السبب يقول سبينوزا إن الفكرَ، كما سنفهم ذلك فيما بعد، صفةُ الله. لم يعد الله، كما هو الشأن عند ديكارت، ضامن خارجي لحقيقة الفكر، بل ولفكري أنا. إنه هو ذاته موجود في الفعل الذي من خلاله يوجد فكري، أو الفكر، من حيث هو فكر مشروع.
في حين تقوم براهين ديكارت على سمو فكرة الله بالمقارنة مع كل ماهية، مادام الله خلق الماهيات خلقًا حرًا، وأنه كان بإمكانه أن يخلقها بشكل مخالف، تقوم البراهين السبينوزية، على العكس، على حقيقة الماهيات. «فماهيات الأشياء، يقول سبينوزا، موجودة وجودًا أزليًا، وستظل ثابتة بشكل أزلي».
أركز على هذه النقطة تركيزًا قويًا، فلو فهمتم ذلك جيدًا، ستدركون الاختلاف الأساسي بين سبينوزا وديكارت. فالماهيات عند ديكارت يخلقها الله. وبالتالي لا يمكنني الاعتماد، في البرهنة على وجود الله، على الحقيقة التي تُثْبَتُ أولاً للماهيات. أما هنا فإن الماهيات هي ماهيات حقيقية. ولم يشك سبينوزا أبدًا في أن المعرفة الواضحة لا تدرك بذاتها الحقيقة، وأنها لا توافق الشيء.
ماذا يصبح الله آنذاك؟ ضامن الماهيات؟ بالتأكيد لا، مادامت ليس في حاجة إلى ذلك. إنه يصبح من بين كل الماهيات، الماهيةَ الأكثر وضوحًا. فالله هو الماهية الأولى التي تأتي في الترتيب الوجودي. فالله هو الماهية التي ينبغي الانطلاق منها لفهم الماهيات الأخرى، لكنه من نفس طبيعتها، إن أمكن القول، وهو ليس متعاليًا عليها. ولذلك فأحد المبادئ التي تعتمدها، في فلسفة سبينوزا، براهين وجود الله، هو بالضبط مبدأ حقيقة الماهيات.
وأيضًا يثير سبينوزا في البرهان البعدي كون «الأشياء القابلة للمعرفة هي أشياء لا متناهية»، وأنه (مازلت أورد النص) «إذا كانت القدرة التي للإنسان على صياغة (أي إنتاج) الأفكار، هي وحدها علة أفكاره، فلن يكون من مقدوره أبدًا أن يتصور شيئًا من الأشياء».
وكما ترون، لا يتأسس البرهان على العلاقة الوحيدة للكوجيطو والله، بقدرما يتأسس على العلاقة العامة للفهم وللأشياء التي هي موضوع معرفة، وبالتالي على كون الفهم بإمكانه أن يتموضع بشكل مسبق قلب الحقيقة ذاتها.
من الضروري إذن التمييز تمييزًا دقيقيًا بين كيفية تفكير ديكارت وكيفية تفكير سبينوزا. وأود تدقيق هذه النقطة بالرجوع إلى البرهانيين القَبْلِيَيْنِ. وإذا نظرنا، مع أغلب الشارحين لفلسفة ديكارت، إلى البرهان القبلي على أنه برهان مستقل وغير تابع لغيره، أي إذا اعتقدنا أنه يكتفي بذاته وأنه برهان قاطع، فإنه لا يفترض بشكل أولي أن ما يكون حقيقة بالنسبة للفكرة يجب أن يكون حقيقة بالنسبة للشيء. بل العكس، فإنه يدعي تأسيس هذا المبدأ ذاته. وهذا هو الأمر الذي يفسر لكم أن المصداقية الإلهية، عند ديكارت، يتم استدعاؤها في نهاية التأمل الخامس، وبالتالي بعد هذا البرهان. وذلك هو السبب الذي يجعل البرهان القبلي، إذا طرحنا كل الاعتبارات جانبًا، يعتمد المبدأ القائل إنه من الممكن ممارسة التفكير الحقيقي على الفكرة.
كيف يرسم ديكارت نهجه؟ فسواء وُجِد الله أو لم يوجد، فإنه من الثابث أن تعريف الله هو التعريف القائل بأنه كائن كامل. والحال أنه مثلما أنني من تعريف مثلث أو دائرة، أستطيع استنتاج خصائص هذا المثلث أو هذه الدائرة، فإنني من تعريف الله، أستطيع استنتاج أن الله موجود، مادام أنه من البديهي، بطبيعة الحال، أن حالة الله هي الحالة الفريدة مطلقًا التي أستطيع أن استنتج من مفهومٍ وجودًا. وبالتالي لا أفترض، أولا، أن هناك توافقًا بين الفكرة والوجود. إنني أنطلق من الفكرة، ويمكن، في حالة ديكارت، أن يقودنا هذا النهج في البرهان إلى إثبات الوجود الإلهي.
أما سبينوزا، فإنه عندما يعرض هذا البرهان، فإنه يفترض كمبدأ للبرهنة أن ما يكون حقيقيًا للفكرة يكون حقيقيًا للشيء. وهذه الواقعية التي تمنح للماهية، أي هذا التعريف الذي يقدم للماهية كشيء واقعي، ستظل أمرًا ثابتًا عند سبينوزا.
وهنا أيضًا، سنجد الأصل المزدوج المشار إليه في الدرس الأول، لفكر سبينوزا:الدينامية الطبيعية والتوجه الرياضي. فالماهية في الحقيقة قوة وقدرة؛ إنها قوة إنتاج؛ إنها فاعلة، وهي قوة. وبإمكان القضية الرابعة والثلاثين من الكتاب الأول من مؤلف «الإيتيقا» أن تقول إن قدرة الله هي ماهيته عينها. وبالتالي فمعرفة شيء من خلال ماهيته، هي أن نحصل على معرفة بعلة خصائصه. ويمثل الله الحالة الفريدة لماهية تضع وجودها.
وذلك هو الأمر الذي يفسر لكم التعريف الأول في مؤلف «الإيتيقا»، وهو التعريف المتعلق بعلة ذاته. وبالفعل يبدأ مؤلف «الإيتيقا» بالكلام التالي:« بعلة ذاته، أعني ما تكون ماهيته مُنطوِيةً على الوجود، وبتعبير آخر ما لا يُمكن لطبيعته أن تُتصور إلا موجودة».
لنفهم ذلك فهمًا جيدًا. ليس من السهل إدراك معنى ذلك، بل تبدو القضية محالاً. كيف يمكن القول إن شيئًا علة ذاته؟ يبدو أنه من الضروري، عندما نتحدث عن علة ومعلول، من وجود العلة أولا كي يوجد المعلول. كيف يمكن لموجود أن يكون علة ذاته؟ فإما أنه موجود سلفًا، وفي هذه الحالة فهو ليس في حاجة كي يُعلل. وإما أنه ليس موجودًا، وفي هذه الحالة لا نرى كيف يمكنه أن يكون علة ذاته. يبدو أن هذا لا يوافق الحس السليم. وبالتالي ففكرة علة ذاته فكرة شديدة الغموض. لنحاول معرفة ما تعنيه.
أثير الانتباه إلى أن كلمة علة ذاته ليست كلمة جديدة. فنحن نجدها عند ديكارت، بل عند بعض المدرسيين. لكن هنا ينبغي القيام بتمييز. فالله، عند المدرسيين، ليس علة ذاته3،وإنما هو موجود بذاته4 .فهناك القوة التي تجعل الإلهية موجودة بذاتها وهذه القوة التي تجعل الإلهية موجودة بذاتها هي التي ينبغي نسبتها إلى حقيقة قصوى، بفضل المبدإ الكلاسيكي القائل:5 لابد من التوقف. الموجودية بالذات بالإلهية هي نقطة وصول ضرورية. ونحن نصلها انطلاقًا من أشياء ليست علة ذاتها؛ والتي ترغمنا على الصعود إلى الله، بفضل المبدأ العلِّي.
أعتقد أن هذا أمرًا شديد الوضوح. هناك أشياء ليست علة ذاتها. فهذا المصباح ليس موجودًا بذاته، وكذلك الشأن بالنسبة لهذه الطاولة. وكل الأشياء الموجودة أمامنا ليست موجودة بذاتها. ولفهم ذلك، ينبغي إذن الصعود من علة إلى علة أخرى. فنحن سنبحث عن علتها، ثم عن علة علتها، وأيضًا عن علة هذه العلة. إلا أنه من الواجب التوقف في هذا التسلسل. ونحن نتوقف عند الله، أي عند موجود لا علة له. ونحن هنا نقول إنه لا علة له، عوض القول إنه علة ذاته. ولو سألنا عن الكائن الذي صنع العالم، سنجيب:«إنه الله». ولو سألنا من صَنَعَ الله، فإننا سنعلن: لا أحد، فالله علة ذاته.
سيتحول المفهوم عند ديكارت. فهذه القوة التي تجعل الإلهية موجودة بذاتها هي قوة كائن يوجَدُ بفضل قدرته. والحال أن هذا المفهوم هو الذي نجده عند سبينوزا، مادام يتحدث عن علة ذاته. وبالتالي، فنحن هنا على طريق النظرية السبينوزية القائلة إن الماهية فاعلة.
لكن من الواضح، كما قلت لكم في السابق، أن مفهوم علة ذاته سيكون أمرًا محالا ومتناقضًا إذا أخذنا كلمة علة بالمعنى العادي والقائل: إن «المُقَدَّم يكون متبوعًا بفعل». فحد علة ذاته لا يمكن أن يكتسي معنًى إذا احتفظنا بفكرة علاقة خارجية بين العلة والمعلول. وبالتالي على كلمة علة أن تأخذ، هنا، معناها العقلاني، أي الرياضي. وينبغي علينا التركيز على شيء وهو أن العلة تكون متزامنة مع معلولها. فالعلة هي الأمر الذي يمكننا من فهم شيء من خلال الجانب الأزلي والضروري الذي ينطوي عليه.
وإذا أخذنا أمثلة رياضية، فإننا سنرى أنه لا توجد «أولا» الدائرة، ثم مختلف خصائصها، التي ستكون طبيعة الدائرة علة لها داخل الزمن. فليس هنا «أولا» تعريف الدائرة ثم الخصائص المترتبة على هذه الماهية. أكيد أن خصائص الدائرة تترتب على تعريف الدائرة. لكنها لا تترتب عليها في الزمن، إنها لا تتلوها زمنيًا. فلا وجود لأي انفصال، ولا لأي مسافة زمنية، بين العلة والمعلول.
وإذا كان الأمر بهذا الشكل، فمن الممكن الحديث عن موجود يكون علة ذاته. يمكننا الحديث عن علة ذاته عندما تنطوي ماهية شيء على وجود ذلك الشيء. وبالتالي، لا يعمل مؤلف «الإيتيقا» سوى على استرجاع وعقلنة الحدس الحاضر في «الرسالة القصيرة». فالتوجه الرياضي يسمح، إن أمكن القول، بالبرهنة على وجود الله. فمحل فكرة موجود يكون فقط دون علة، والذي يوجد دون معرفة سبب وجوده، سيُحِلُّ سبينوزا فكرةَ موجودٍ يكون علة ذاته، موجودٍ يوجد بفضل ماهيته، وتنطوي ماهيته على الوجود.
وبالتالي يمكن القول إن سبينوزا أحَلَّ مكان موجود يتجاوز الفكر، موجودًا سامي المعقولية. لكن يمكننا التساؤل، من خلال ذلك، ما إذا كان هناك، في كتاب «الإيتيقا»، برهان حقيقي لوجود الله، مادام التعريف الأول في هذا المؤلف هو تعريف علة ذاته، وهو تعريف يبدو أنه ينطوي مسبقًا على الوجود. إلا أننا سنرى أن القضايا الإحدى عشر الموجودة في مؤلف «الإيتيقا» تقدم شيئًا شبيهًا ببرهان وجود الله. لكن الحقيقة أنه لن يكون هدف هذه القضايا، التي من خلالها يثبت الله وجوده، سوى الاندماج والاختلاط مع ثلاثة مفاهيم تم تحديدها، أولا، بشكل منفصل، وهي مفهوم علة ذاته، ومفهوم الجوهر ومفهوم الله.
أنتقل الآن إلى «رسالة في تقويم الفهم». تصبح المسألة معقدة. ويبدو أن هذه الرسالة، بمعنى ما، تناقض النظرية التي أعرضها منذ بداية هذا الدرس. ينطلق هذا المؤلف بشكل صريح من وجهة نظر الإنسان. وذلك، لا لأن سبينوزا، في بداية النص، يعلن لنا، على شكل اعتراف، قراره للبحث عن الخير الحقيقي، الذي لم يمنحني إياه لا الثراء، ولا الأمجاد، ولا متعة الحواس، ويركز على صعوبة الاختيار، وعلى قلقه في الاختيار. من الأكيد أن «رسالة في تقويم الفهم» تبدأ بهذا الشكل. لكنني لا أود الحديث عن هذا الأمر. إنني أريد أن أتحدث عن مشكل أكثر خطورة، وهو مشكل المنهج. يبدو أن منهج «رسالة في تقويم الفهم» يختلف عن منهج مؤلف «الإيتيقا».
وبالفعل، ينطلق منهج الرسالة، الذي يقابل منهج مُؤَلَّفِ «الإيتيقا»، من المعرفة المحدودة كي يرتقيَ إلى الله. ويعلن سبينوزا أنه ليس من الضروري من أجل أن نعرفَ، أن نعرفَ أننا نعرف. فليس من الضروري، لامتلاك معرفة تلقائية، الحصول على معرفة انعكاسية. لكن في مقابل ذلك، من الضروري، من أجل أن نعرف أننا نعرف، أن نعرف أوَّلاً.
سيصبح المنهج هنا إذن تراجعيًا وانعكاسيًا. وهو يرتقي إلى الله، ومن أجل ذلك، فهو في حاجة إلى الانطلاق من فكرة صادقة، ويبدو أنه يريد الانطلاق من أية فكرة صادقة. وسيسعى، بعد ذلك، إلى الارتقاء، بشكل انعكاسي، إلى منبع الفكرة الصادقة، أي إلى الله. والنص الذي كان عليه أن يكمل الرسالة (مادامت رسالة غير مُتْمَمة) قد يشبه، على الأرجح، في مجراه نص مُؤَّلف «الإيتيقا». يبدو من الأكيد أن «رسالة في تقويم الفهم» ليست إلا الجزء الأول لمؤَلَّف أكثر تمامية، حيث أننا نرتقي، في الجزء الأول، بشكل انعكاسي من فكرة مهما كانت إلى الله، وحيث أن ربما سيكون علينا، في الجزء الثاني، (لو قُدِّر له أن يُكتبَ) أن ننزل من الله إلى العالم، باتباع المجرى الحقيقي، والفيض الحقيقي للوجود.
هل من الضروري، إذن، اعتبار مؤلف «الإيتيقا» مسبوق بلحظة ديكارتية بكل معنى الكلمة، لحظة سنجدها في «رسالة في تقويم الفهم» ؟ وهل من الضروري أن هناك، خارج هذا المنهج، الذي ينطلق من الله، وهو منهج مؤلف «الإيتيقا» ، منهج آخر يرتقي إلى الله؟ لا أعتقد ذلك. أكيد أن نص «رسالة في تقويم الفهم» يتضمن نصوصًا عديدة ذات طابع ديكارتي. ومع ذلك، فإن الانتقال إلى الله لا يتضمن أي كوجيطو، ولا شيء من الشك. فالفكرة الصادقة التي ينطلق منها سبينوزا هِيَ أَوَلاً فكرة تُقبَل كفكرة صادقة. ينطلق سبينوزا من معرفة ذات طابع موضوعي لا انعكاسي، ويرتقي، من هذه المعرفة، إلى معرفة انعكاسية تصبح هي حَكَمَ هذه المعرفة ومعيارها. فهو ينتقل، كما يعبر عن ذلك، من فكرة إلى فكرة الفكرة. فهو يُضَعِّفُ فكرة صادقة بفكرة هذه الفكرة. وبهذه الكيفية نفهم أن الأفكار الأولية، تلك التي تنير الفهم، هي أفكار مطلقة ولا متناهية. لكن لا يتدخل أبدًا الكوجيطو والوعي، كما يفهمهما ديكارت.
وبالفعل، كيف نرتقي، حسب ديكارت، إلى الله؟ بقلب تام للمنظور. فهذا القلب التام للمنظور هو الذي يؤسس «الأنا أُفكِّر». فنحن ننطلق، في فلسفة ديكارت، من بعض الأفكار التي نعتبرها صادقة بشكل تلقائي. ثم نبين بعد ذلك أن هذه الأفكار، التي نعتبرها صادقة، هي أفكار مشكوك فيها. وبفعل كوننا نبين أنها أفكار مشكوك فيها ننتقل من حقيقة اعتبرناها أفكارًا موضوعية إلى إثبات الأَنَا. ثم من إثبات الأنَا، نرتقي إلى إثبات الله.
لا وجود هنا، عند سبينوزا، لأي أثر شبيه بهذه الطريقة، ولا لأي أثر لقلب المنظور الذي يؤدي عند ديكارت إلى اكتشاف الكوجيطو، ولا لأي أثر لهذا الجدل الذي يقودنا إلى الله انطلاقًا من الأنا التي لها فكرة عنه، ولا لأي أثر لهذه الطريقة التي تأخذ كموضوع تأمل هذا الجنس الخاص من الوجود الذي هو وعيي، أو وعي ما. إننا، هنا، ننطلق من الصادق، ننطلق من الفكرة الصادقة من حيث هي، ونسأل ما هي شروط الفكرة الصادقة، ونكتشف شروطها.
هناك عند ديكارت ارتباط أساسي بين الفكرة والتناهي، أي تناهي الأنا، وفكرة الوعي، التي هي فكرة منفعلة. فكل هذه الأفكار، مثل وجود الأنا، والوعي كإحالة على شيء آخر، والتناهي والخلق، هي أفكار ثابتة عند ديكارت.وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الله خارج الأنا، وإذا كان الله يضعني خارجه ويضع العالم خارجه،فمن البديهي أننا لن نستطيع اكتشاف الله إلا بفضل سلسلة من السُّبُل التي ستضع وجود العالم موضع شك كي تصل إلى الوجود الإلهي.
أما سبينوزا، فهو المفكر الذي يعتبر الانتقال من الفكر إلى الوجود لا يطرح أي مشكل، وبالأحرى الانتقال من فكري إلى الوجود. وهو لا ينظر في الوعي من حيث هو، وهو فوق ذلك لا يرى في الوعي من حيث هو إلا فكرة فكرة، كما يقول ذلك، فليس الوعي إلا فكرة فكرة.
فإذا كانت الـ«أنا أفكر»، التي يقول بها ديكارت، تُظهر دُفعة واحدة أن هناك، في العالم الذي الموجود حولي، شيئًا لا يمكنه أبدًا أن يُختزل في أفكار العالم الأخرى، وهو الذات، فإن الوعي، هنا، عند سبينوزا، ليس إلا فكرة فكرة.
ولا ينظر سبينوزا أيضًا في الأنا. وبالتالي، لن يعود الفكر وعيًا، ولن يعود صفة للأنا، بل سيصبح، كما قلت لكم منذ البداية، صفة من صفات الله. بحيث أننا نجد في «رسالة في تقويم الفهم»، على الرغم مما يبدو ظاهريًّا، وجهة نظر لا تختلف، في نهاية المطاف، اختلافًا كبيرًا عن تلك التي نجدها في مؤلف «الإيتيقا». فإذا كانت الرسالة تختلف عن مؤلف «الإيتيقا» بالنظر إلى نظامها المحدد، فإنها لا تختلف عنه اختلافًا أساسيًا فيما يتعلق بمسألة الفكرة.
أنتقل الآن إلى كتاب آخر، وهو مبادئ فلسفة ديكارت مبرهن عليها هندسيًا، كتاب يعود تاريخ تأليفه إلى سنة 1663، وأقتصر هنا على الجزء الأول والثاني. سيبين لكم هذا الكتاب بوضوح ما أحاول إثباته هذا المساء، وهو أن مشكل إثبات وجود الله لا يمكنه أن يطرح بالحدود ذاتها عند كل من ديكارت وسبينوزا. وسنعثر في هذا المؤلف على برهان آخر.
يدرس سبينوزا النقد الذي تم توجيهه إلى ديكارت والذي يتهمه بكونه وقع في حلقة مفرغة. وهاهي الكيفية التي تمت بها صياغة هذه الحلقة المفرغة. إنني لا أتسائل، هنا، هل هذه الحلقة المفرغة موجودة عند ديكارت، بل إنني أعرضها مباشرة كما يدركها سبينوزا. يعلن سبينوزا أننا في الفلسفة الديكارتية لسنا على يقين من شيء قبل البرهنة على وجود الله. والحال أن وجود الله، حسب ديكارت، لا يُعرَف بذاته، مادام ينبغي البرهنة عليه. وبذلك فليس وجود الله حقيقة معروفة بذاتها6. وبذلك، فإننا لا نرى الوسيلة التي تمكننا من الخروج من الصعوبة. سجن ديكارت نفسه في مأزق لم يتمكن من الانفلات منه. وبالفعل، كيف يصوغ ديكارت برهانه؟ يقول: إنني لست على يقين من شيء، وبالتالي ينبغي عليَّ أن أشك، وأنا لست على يقين إلا من شيء واحد، وهو أنني، أنا الذي أفكر، موجود. وكي تصبح أفكاري سليمة، من الواجب أن أعرف الله، الذي هو خالق ذاتي وخالق أفكاري. والحال أن هناك إلَه، ويثبت ديكارت ذلك. ولا يمكن لهذا الإله أن يكون إلهًا خادعًا. وبالتالي فأفكاري سليمة. لكن الواقع أن ديكارت لم يستطع إثبات وجود الله إلا لكونه قد اعتبر، سلفًا، أفكاري بمثابة أفكار سليمة. هناك إذن حلقة مفرغة.
إننا هنا إذن أمام الصعوبة التالية: من المستحيل معرفة شيء ما، إذا لم نعرف الله. لكن كيف نثبت وجود الله ذاته إذا لم نستطع معرفة شيء يقيني قبل معرفته؟ وإذا لم نستطع إقامة برهاننا، على وجود الله، على شيء متين سابق على الله، فلن نستطيع الخروج من الحلقة. من الهام جدًا أن نرى الكيفية التي يعتقد بها سبينوزا إمكانية الخروج من هذه الصعوبة.
إنه يتجاوز هذه الصعوبة في نص يكتسي أهمية خاصة، وهو واحد من النصوص النادرة التي يقدم فيه، أثناء عرضه لفكر ديكارت، رأيه الشخصي. إنه يتجاوز هذه الصعوبة بالضبط بالتوقف عن طرح السؤال المتعلق ببراهين وجود الله.
إنا لا نستطيع، بالنسبة لديكارت، معرفة شيء قبل معرفة أن الله موجود. أما سبينوزا فإنه يقتصر على فكرة الله. ويعني الشك الديكارتي بالنسبة إليه أننا لا نستطيع معرفة شيء معرفة يقينية ما لم تكن لدينا عن الله فكرة واضحة متميزة. وبالفعل، لماذا يشك ديكارت، في التأمل الأول، في وجود الأشياء؟ لأنه يتسائل ما إذا لم يكن الله إلهًا خادعًا. لكن افتراض أن الله بإمكانه أن يكون خادعًا، معناه امتلاك فكرة غامضة عن الله. فلأننا نفتقر لفكرة واضحة عن الله، نستطيع اعتبار أن بإمكان الله أن يكون خادعًا. أما، إذا حصلنا على فكرة واضحة عن الله، فكرة تقول إن الله ليس خادعًا، فإن اليقين الذي لدينا يصبح يقينًا مضمونًا. لأننا، يقول سبينوزا، لن نستطيع، بمجرد ما ننظر في فكرة الله، الاعتقاد أنه إله خادع، مثلما أننا لا نستطيع، أثناء نظرنا في فكرة المثلث، الاعتقاد أن زواياه الثلاث تختلف عن مستقيمين. (إننا نجد دائمًا مثال مساواة زوايا المثلث، وهو مثال يستعمله باستمرار كل من ديكارت وسبينوزا بإيثار لم تكذبه الكتب الحديثة).
وبالتالي ها أنتم ترون ذلك مرة أخرى. فسبينوزا لم يمر حقيقة عبر الشك الديكارتي، عبر هذه اللحظة المتمثلة في الانعزال المطلق حيث أن الفكر ينغلق في ذاته، وينبغي عليه، للخروج منها، إدراك وجود مغايرٍ لوجوده. لا يتعلق الأمر، بالنسبة لسبينوزا، بالارتقاء إلى الوجود الإلهي انطلاقًا من فكرة الله. لا يتعلق الأمر بالارتقاء انطلاقًا من التناهي، أو من الأنا الذي لا يوجد بذاته، إلى إله موجود بذاته. يتعلق الأمر فقط بالارتقاء إلى حقيقة فكرة الله، وهو أمر مختلف اختلافًا تامًّا. يتعلق الأمر بالتمييز، داخل مجال الوجود، بين الأمر الذي لا يمكنه الوجود إلا بشيء آخر، وهو الحَالُ، كما سنرى ذلك فيما بعد، وبين الأمر الذي يوجد بذاته، وهو الله.
وبالتالي، لا يشك سبينوزا أبدًا في الوجود. إنه يتموقع في الوجود، ويقسم الوجود إلى ما هو الله وما هو ليس الله. فالتطهير والانتقاء يحصلان داخل الوجود الذي يتم إدراكه ووضعه. ولذلك، فإله سبينوزا، وأذكركم بهذا مرة أخرى، ليس إلَهًا متعاليًا ومتواريًا، إلهًا قد خلق العالم. إنه إله محايث، إنه موضوع العالم، بل إنه العالم ذاته. ينطلق ديكارت من طبيعة ومن عالم ومن أنا ينقصها الوجود، ثم يرتقي جدليًا، وبشكل شبيه بالتناقض، إلى الله. أما سبينوزا فإنه ينطلق من الوجود. وبالتالي، فعندما يقول كل من ديكارت وسبينوزا إن الله علة ذاته، فإنهما يعلنان إثباتين مختلفين اختلافًا كبيرًا. وبالفعل، عندما يقول ديكارت إن الله علة ذاته، فإنه يعلن أيضًا أن الله علة العالم. لكن ذلك يتم بفعلين متميزين ودون علاقة بينهما وهما إن الله علة ذاته، وأنه علة العالم. لا يصلح البرهان الأونطولوجي إلا لله وحده، الذي يظل هو الموجود الضروري الوحيد؛ لا إلى الطبيعة، التي تظل طبيعة جائزة.
إن الله، بالنسبة لديكارت، علة ذاته وعلة العالم، لكنه علة ذاته ضرورة، أي أنه يوجد بالضرورة، وهو يخلق العالم بكيفية جائزة. وكان بإمكانه ألا يخلقه. أما عند سبينوزا، فإن الله علة العالم مثلما أنه علة ذاته، إنه علة محايثة للعالم الذي هو موجود في داخله. والبرهان الأونطولوجي، الذي كان لا يصلح عند ديكارت إلا لله، يصلح أيضًا للعالم، وهو يضع وجود العالم ذاته. فإثبات الله هو بكل بساطة الإقرار أنه لا يمكننا البرهنة عليه إلا انطلاقًا من الوجود، ولا يمكننا البرهنة عليه انطلاقًا من الإنسان، وأنه لا يمكننا البرهنة عليه انطلاقًا من الأمر الذي لا ينطوي على سببه الحقيقي، وإنما فقط انطلاقًا من الوجود المطلق، من الأمر الذي ينطوي على سببه الخاص، سبب كل الأشياء، وسبب الإنسان ذاته.
ذلك هو السبب الذي من أجله أثْبَتت لازمة القضية الرابعة من تذييل « الرسالة القصيرة » إثباتًا مسبقًا أن «الطبيعة تُعرفُ بذاتها، وليس بأي شيء آخر». أود التركيز على هذه النقطة، لأنني أعتقد أنها إحدى المفاتيح التي تُمَكِّنُ من ولوج النسق السبينوزي. تُعرَفُ الطبيعة بذاتها، وليس بشيء آخر. أما عند ديكارت، فالهيمنة تكون لمعنى الذات ولمعنى الله، أي لإله مفارق. ولا تعرف الطبيعة بذاتها. وتكمن الطريقة الأساسية عند ديكارت في القول: إن هذه الطبيعة التي أُوجَدُ بها، ربما أنها حلم، ولا أستطيع معرفتها «بذاتها». أما الطريقة الأساسية عند سبينوزا فإنها تكمن في القول: إنني موجود داخل الوجود، والفكرة الصادقة صادقة، والصادق شاهد على نفسه7، وليس عليَّ سوى الارتقاء إلى الله، مادام هو الكائن المعقول، وسيصبح هو نقطة انطلاق كل استنتاج.
وعلى الرغم من ذلك، يبقى علي فحص بداية مؤلف «الإيتيقا». لا يمكن فهمه إلا من خلال الفرضية المنهجية التي عرضتها مقدمًا. ينطلق سبينوزا من علة ذاته. وبعد ذلك يعرف الجوهر. وهو يعرفه كالتالي :«بِالجَوْهَرِ، أَعني مَا يَكونُ فِي ذَاتِهِ وما يَكُونُ متصوَّرًا بِذَاتِهِ، أَي مَا يَكُون مَفهومُهُ غَيرَ محتَاجٍ في تَشكِيلِهِ إلَى مَفهومِ شَيءٍ آخرَ». وهنا أيضًا، ينطوي التعريف، في آن واحد، على إثبات استقلالية فعلية (الجوهر هو الأمر الذي في ذاته) واستقلالية منطقية (هو الأمر الذي يتم تصوره بذاته). ولا نعرف ما إذا انطلق سبينوزا من جوهر تم إثباته كأنه واقعي أو من مجرد تعريف. لذلك كان سمون دو فري، وهو تلميذ عهد إليه سبينوزا بمقدمة مؤلف«الإيتيقا»، مشغول البال، منذ سنة 1663، في رسالة بعثها إلى سبينوزا بتاريخ 24 فبراير، لمعرفة كيف يمكن فهم تعريفات سبينوزا، أي هل ينبغي فهمها على أنها تعريفات اسمية أو واقعية، وما علاقتها بالبديهيات.
انطلقنا إذن من علة ذاته، ومن الجوهر، من جهة أخرى. ثم، هناك تعريف ثالث بصدد الله. ومن الصعب علينا أن نفهم أن الله، الذي هو فكر في الحقيقة، يبدو هو الوجود، وأنه، في نهاية المطاف، هو الأمر الذي سميناه دائما باسم الطبيعة. فتعريف الله ـ وهو التعريف السادس ـ هو تعريف كَائنٍ لاَ مُتَنَاهٍ إطلاَقًا، أي جَوهَرًا يَتَكَون مِن صَفَاتٍ لاَ مُتناهِيَة، تُعَبِّرُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَنْ مَاهِيةٍ أَزليةٍ لا مُتناهيةٍ.
وعندما تطرح هذه التعريفات الثلاث، تعريف علة ذاته، وتعريف الجوهر، وتعريف الله، فإنها تلتقي، والتقاؤها هذا يشكل هدف القضايا الإحدى عشر الأولى من مؤلف «الإيتيقا». يلتقي تعريف الله بتعريف علة ذاته وبتعريف الجوهر. إذ لا وجود إلا لجوهر واحد، إلا لعلة ذاته واحدة، وإلا لإله واحد. وكل ذلك يعني الأمر ذاته. وليس لبداية مؤلف «الإيتيقا» معنى مغايرًا.
ماذا يعني إذن هذا النص؟ إذ من الممكن أن يقدم نفسه بشكل مخالف ـ ويطلق على الله اسمًا مماثلا لما يسميه الجميع إلهًا ـ إما لإثباته وإما لنفيه. لماذا ينطلق سبينوزا من هذه التعريفات الثلاث؟ ذلك أن كل تعريف من هذه التعريفات يترجم موقفًا مخالفًا للذهن. فتعريف علة ذاته، تعريف رياضي، كما قلنا ذلك قبل قليل؛ إنه تعريف الأمر الذي تنطوي ماهيته على الوجود. ينادى هنا على الفكر الرياضي. أما تعريف الجوهر، فإنه يُحيي فينا تأثيرات أرسطية، وديكارتية وتأثيرات تنتمي إلى الفكر الشائع. لأن كلمة جوهر توحي بالأمور التي نسميها أشياء. فالأشياء التي نشاهدها نعتبرها جواهر فردية. إنها الأمور الذي نطلق عليها خصائص الموضوعات. وهي تشكل العالم. لدي انطباع أن العالم يتكون من جواهر، فهذا المصباح، هذه الطاولة، والناس الذين التقي بهم كلهم جواهر. أما الله، ففكرته لها منبع آخر. إنها غاية الأديان، والفكر الديني. غير أن اختزال سبينوزا لهذه المفاهيم الثلاثة في الوحدة، وهي خاصية الجزء الأول من مؤلف «الإيتيقا»، يبين لنا بالضبط أن مجموع المقتضيات الرياضية، من جهة، والمقتضيات الطبيعية والواقعية، من جهة أخرى، وأخيرًا مجموع المقتضيات الدينية، ستصبح مُستجابةً بفلسفته، مادامت المفاهيم التي تعتمدها، إذا ما فكرنا في حقيقتها، تبرز لنا الكائن ذاته، أي كائنًا معقولاً وواحدًا، يكون على كل فكر الانطلاق منه.
وبتعبير آخر، لا تنطوي بداية مُؤَلَّف «الإيتيقا»، إن أردنا الحديث بدقة، على براهين لوجود الله. توجد هذه البراهين بعد القضية الحادثة عشر، لكنها عندئذ براهين ثانوية. ولبداية النص هدف أساسي يتمثل، لا في الانتقال، كما كان يفعل ديكارت، من فكر يشك في الوجود إلى إثبات الوجود، وإنما يهدف إلى تبيان أن كل أمر تمكن الفكر من العثور فيه على الوجود هو نفس الكائن الواحد. وتعني بداية مُؤَلَّف «الإيتيقا» الأمر التالي: فسواء بحثتم عن الوجود من خلال الرياضيات، أومن خلال الفزياء، أو من خلال الدين، فإنكم ستصلون إلى الوجود الواحد نفسه. فهو هذا الكائن الذي ينبغي الانطلاق منه لإدراك كل شيء.
ويحدث كل هذا فوق مستوى فريد، فوق مستوى حقيقة موضوعية، ولا يحدث كبحث انتقل، كما هو الأمر عند ديكارت، من الشك الحقيقي، ليضع وجود الله موضع سؤال، ليرتقي من الشك في وجوده إلى إثبات وجوده.
ومع ذلك، فالقضية الإحدى عشر من مُؤَلَّف«الإيتيقا»، التي تعلن، كما قلت لكم قبل قليل، أن الله موجود بالضرورة، هي قضية متبوعة ببراهين عديد، تدعي كونها براهين لوجود الله.
ويتخذ البرهان الأول من هذه البراهين شكلاً سبينوزيًا، وهو البرهان الأونطولوجي. والبرهان الثاني هو البرهان ذاته بشكل معكوس: «إذَا لَم يوجدْ إذن أَيُّ سببٍ أَو أَيُّ عِلةٍ تَمنَعُ وجودَ اللَّهِ، أَو تَنزَعُ عَنهُ الوجودَ، فََلاَ بدَّ مِن استِخلاَصِ أَنهُ...». ويبدو البرهان الثالث برهانًا بعديًا: «عدمُ القدرَةِ عَلَى الوجودِ عَجزٌ؛ أمَّا القدرَةُ عَلَى الوجودِ فقوةٌ (كَمَا هوَ بَدِيهِيٌ بذاتِهِ)· فإذا كانَ ما هو موجودٌ بِالضرورةِ الآن، لَيسَ سوَى مَوجودَاتٍ متناهِيَةٍ، فذلكَ يَعنِي أَن الموجودَاتِ المتنَاهِيَةَ أَقدَرُ منَ المَوجودِ اللامُتنَاهِي على الإطلاَق : لَكِنَّ ذلك محال (كَمَا هُوَ بديهي بِذاتِه)· إذَن، إما أَنهُ لاَ يوجَدُ شيءٌ، وَإما أَن الموجودَ اللامتَنَاهِي على الإطلاق مَوجودٌ بِالضرورَةِ كَذَلِك· وَالحالُ أَننَا مَوجودونَ، إما في ذَوَاتِنَا وَإما في شَيءٍ آخرَ مَوجودٍ بِالضرورَةِ (انظر البديهِية الأولى وَالقضيةَ السابعة)· وَبِالتالِي فَالموجودُ اللاَّمتَنَاهِي على الإِطلاق، أَي الله (حَسبَ التعرِيفِ السادس)، مَوجودٌ بِالضرورَةِ8».
ويعيد التعليق على القضية السابقة بَحْث هذا باستنتاج برهان وجود الله من قوته. «كلما كانت أَكْبَرُ نسبة مِنَ الحقيقة لِطبِيعَةِ شَيءٍ مَا، امتَلَكَ بِذَاتِهِ قُوًى على الوجودِ؛ وَبِالتالِي فَالموجودُ اللامتنَاهِي على الإطلاَق، أي الله، لَهُ بِذَاتِهِ قُدرَةٌ على الوجود لاَ مُتنَاهِيَةٌ على الإطلاَق، وَبِالتالِي فَهوَ مَوجودٌ بِالضرورَةِ». يتلتقي البرهان القائم على القوة بالبرهان الأول، أو البرهان القائم على الماهية. وبالتالي، فالماهية والطبيعة والقوة، وكل هذا ليس إلا شيئًا واحدًا، وعندما تكون ماهيةٌ ماهيةً لا متناهية، فإنها توجد بشكل ضروري.
ولكن وبناء على ذلك، هل تقدمنا ـ ومن هنا أود أن أختم هذا الدرس ـ بالمقارنة مع مجرد تعريف علة ذاته؟ يمكننا أن نشك في ذلك. إننا لم نبرهن على وجود الله، ولم نشرح فكرة الله. وهذا هو السبب الذي يجعل سبينوزا يعترف هو نفسه بأنه لم يثبت شيئًا، إذا أمكن القول، في التعليق الثاني على القضية الثامنة، عندما يعلن بأن القضية السابعة، أي القضية القائلة: «لِطبيعةِ الجوهر الوجودُ»هي بكل احتمال بديهة وليست قضية.
نرى أنه من المستحيل فهم كل هذا بلغة ديكارتية. إننا مع سبينوزا في عالم مغاير تمامًا. ولا شك أن عبارات سبينوزا، كما أشرت إلى ذلك، هي في غالب الأحيان عبارات ديكارت. وديكارت قد شبه مسبقًا الله باسم الجوهر. وليست كلمة جوهر كلمة متواطئة، فيما يتعلق بالله وفيما يتعلق بالكائنات المخلوقة، مادام الله وحده موجود بذاته. وتحدث ديكارت نفسه عن إله هو علة ذاته. وهو الأمر الذي يجعل قراءة فلسفة سبينوزا وفهمها أمرًا صعبًا. وهي فلسفة مليئة بعبارات ديكارتية، بل هي تعيد كلمات ديكارت، مثل كلمة جوهر وكلمة علة ذاته، إلخ. وهي توجد في ذلك التقليد الهولاندي الذي حافظ، منذ رحيل ديكارت، على الديكارتية باعتبارها الفلسفة الحقة التي تبناها المحدثون. لكن هذه الديكارتية الرياضية، كما حاولت أن أبين لكم في الدرس الأول، لا تصلح لسبينوزا إلا للتعبير عن حدسه الأول، وهو حدس الوجود، الذي لم يكن عنده أبدًا موضع شك. ففي الوقت الذي نجد عند ديكارت تجربة وعي يشك حقيقة في الوجود، ويتساءل ما إذا كان العالم حلمًا، وما إذا كانت الحياة وهمًا، وعيٌ ينبغي عليه، من أجل تأسيس أفكاره انطلاقًا من هذا الشك ومن هذه الأنا، العثور على وجود آخر غير الوعي، وجود سيكون ضامن العالم، نجد عند سبينوزا فكرًا يضع ذاته سلفًا كفكر حق، فكر يظل ثابتًا كذلك، وليس له سوى همُّ واحد وهو معرفة جذور الحق، وبأي أمر ينبغي عليه أن يبدأ حقيقة.
ذلك هوالسبب الذي من أجله يبدأ ديكارت بالأنا، ويبدأ سبينوزا بالله. ذلك هو السبب الذي من أجله يُعتبَر ديكارت فيلسوف المنهج، وسبينوزا فيلسوف النسق. فديكارت فيلسوف المنهج بمعنى أن البحث الذي يقوم به هو الطريق الذي يقودني إلى الوجود. وسبينوزا هو فيلسوف النسق. إنه يحاول وضع الفكر أمام أصل كل حقيقة، أصل، وفق ذلك، متجانس، أصل محايث للعالم، يكون الكلُّ مُستَنتَجًا منه. التأمل الأول عند ديكارت يدور حول الشك، والثاني حول الأنا، والثالث حول الله. أمَّا «الإيتيقا»، فإنها تبدأ بالله شأن «الرسالة القصيرة».
الهوامش:
1- انظر انتقادات جيل دولوز بصدد هذه النقطة، في كتاب سبينوزا ومشكل التعبير.
2- تفيد كلمة comprendre معنيين: الفهم والشمولية. ففهم الشيء هو كون الذهن يشمل جميع معانيه.
3- وردت هذه الكلمة باللاتينية: per se.
4- وردت هذه الكلمة باللاتينية: ase.
5- كلمة بالإغريقية.
6- وردت هذه الجملة باللاتينية veritas per se nota.
7- وردت هذه الكلمة باللاتينية: verum index sui.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق