احدث المواضيع

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

من مدرسة "الروح القدس" إلى إعادة الاكتشاف الفلسفية للخطابة: غادامر

عميد الفلسفة الألمانية يحتفل بعيد ميلاده المائة

   عبد السلام حيدر*

        لم يمتد العمر بأحد الفلاسفة الكبار مثلما امتد به. ففي الحادي عشر من شباط (فبراير) الماضي بلغ هانس-جورج غادامر عامه المائة. لم تجد الفلسفة طريقها إلى غادامر إبان نشأته. فوالده كان أستاذا للكيمياء الحيوية في جامعة بريسلا وفيما بعد في ماربورغ ولم يكن سعيدا عندما انخرط ابنه في دراسة الفلسفة. وذلك لأن يوهانس غادامر، وهذا هو اسم الأب، لم يكن يُقدر الفلسفة أو العلوم الإنسانية ويرى أن المشتغلين بالفلسفة من زملائه ثرثارون متحذلقون. لقد ذكر هانس-جورج غادامر في ترجمته الذاتية، التي نشرها عام 1977 عن سنوات دراسته للفلسفة، إنه لم يكن في تقدير والده حتى وفاته سوى ابن ضال فاشل.

        وقد بدأ هذا الغضب يجتاح الأب عام 1918 فبعد أن أنهى هانس-جورج غادامر سنوات التلمذة في مدرسة "الروح القدس" في مدينة بريسلاو (تتبع بولندا الآن لذا ينطقها البولنديون برشلاو)، التحق بجامعتها واختار دراسة الفلسفة مما أزعج والده بشدة. وعندما قام الأب بقطع المصروف اشتغل هانس-جورج غادامر في أحد دور النشر الصغيرة وواصل الدراسة على حسابه الخاص. وفي السنوات الثلاث التالية تنقل هانس-جورج غادامر بين جامعتي ماربورغ وميونيخ وقد تأثر في هذه الفترة وبشدة بالكانطيين الجدد. وفي عام 1922 أنهي رسالة الدكتوراه عن "لذة المعرفة في محاورات أفلاطون". وكانت دراسته لتحاورات أفلاطون ذات تأثير كبير عليه مما جعله طوال حياته من دعاة الحوار. وكان عام 1923 عاما حاسما في حياة هانس-جورج غادامر حيث تعرف إلى كل من ادموند هوسرل (1859-1938) ومارتن هيدغر (1889-1976) وواظب على محاضرتهما في جامعة فراييورغ ومنذ ذلك بدأ يفتن بهيدغر ويتخلى عن الكانطيين الجدد. وكان ضمن ما فتنه بهيدغر أنه كان يعتبر سقراطي انقى المفكرين لأنه لم يكتب جملة واحدة وأنه أقام منهجه الفكري على الحوار دون غيره.

        وفي عام 1924 بدأ هانس-جورج غادامر دراسة علم اللغة الكلاسيكي على يد باول فريدليندر الذي أشرف إلى جانب هيدغر على رسالة الأستاذية لهانس-جورج غادامر التي واصل فيها دراسته لأفلاطون. وبعد الأستاذية عين هانس-جورج غادامر أستاذا للفلسفة في جامعة ماربوغ. ولكن هذا لم يغير من مواقف الأب تجاه ابنه، وكذلك لم تغيره محاولات هيدغر إقناعه بأهمية الفلسفة أو العلوم الإنسانية. وعندما كان يهانس غادامر على فراش الموت قام هيدغر بمحاولته الأخيرة حيث اقترب منه وبكل اهتمام سأله: هل مازلت ترى أن الفلسفة لا يمكن أن تكون "رسالة الحياة" التي تنقذ ابنك من الناحيتين المادية والروحية؟ ويذكر هانس-جورج غادامر في حزن أن والده لم يغير رأيه حتى وهو في مواجهة الموت.

        لقد كان يوهانس غادامر يرى منهجا واحدا لمعرفة "الحقيقة" هو منهج العلوم الطبيعية لما يتميز به من دقة. والعجيب في الأمر أن ابنه هانس-جورج غادامر هو الذي وضع فيما بعد احتكار المنهجية من قبل العلوم الطبيعية موضع الشك والمساءلة. وفي مايورغ عاش هانس-جورج غادامر حياة فكرية ثرية مما جعله يصفها في ترجمته الذاتية بأنها كانت "عاصمة عالمية صغرى للفكر" حيث اجتمع فيها آنذاك كثيرون من مفكري ألمانيا ونقادها الكبار مثل: هيدغر ونيو كلاي هارتمان وارنست كورتيوس واريش اورياباخ صاحب كتاب "الإيماء".

        وفي عام 1946 انتقل هانس-جورج غادامر إلى جامعة ليبزغ؛ وفي عام 1947 إلى جامعة فرانكفورت حيث عمل لمدة عامين إلى جانب فيلسوفي "مدرسة فرانكفورت" "ماكس هوركهايمر (1895-1973) وتيودور ادورونو (1903-1969). ولكن غادامر لم يتواءم مع منطلقات النظرية النقدية. وأخيرا استقر به الأمر عام 1949 في جامعة هايدلبرغ العريقة خلفا للفيلسوف الألماني كارل ياسبرز (1883-1969). والغريب في الأمر أن أهم فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية الآن يورغن هابرماس عمل مساعدا لغادامر في جامعة هايدلبرغ. ولعله لهذا السبب يعتد بفلسفة هيدغر على خلاف أستاذيه ادورنو وهوركهايمر.

        في عام 1950 وبعد أن أشرف هانس-جورج غادامر على إصدار كتاب تذكاري بمناسبة عيد ميلاد هيدغر الستين، عزم غادامر على العمل على إصدار علم تجديدي لفلسفة التأويل. بعد عشر سنوات من العمل المضني أصدر هانس-جورج غادامر عمله الرئيسي "الحقيقة والمنهج: مبادئ فلسفة التأويل" (1960). ورغم أن "الحقيقة والمنهج" يثير إلى حد كبير تطويرا وتطبيقا للمعطيات التأويلية في كتاب هيدغر الرئيسي "الوجود والزمن" (1927)، إلا أنه وكما يقول كارلهاينز شتيرل قد أخرج غادامر بصفة نهائية من ظل هيدغر". وحقيقة فإن هانس-جورج غادامر وحتى الستين من عمره لم يكن قد كتب، عدا رسالة الأستاذية التي نشرها عام 1931، كتابا مؤثرا، وكما يذكر ديتبر بورشماير أن غادامر كثيرا ما كرر أن الكتابة كانت تبدو له قبل "الحقيقة والمنهج" عزيزة صعبة المنال "ليسفقط لأنه يملك ذلك الإحساس المميت أن هيدغر يراقب ما يكتبه وإنما أيضا لأنه مادته الحقيقية كانت هي التواصل عن طريق الحوار. لأجل ذلك عرف غادامر طوال حياته كمتحدث ومستمع أكثر منه ككانب. أما أغلب مؤلفاته التي صدرت حديثا في عشرة مجلدات فقد كتبها بعد أن تقاعد عام 1968. ففترة تقاعده، التي سافر خلالها إلى أغلب القارات، كانت فترة نتاج فكري جعله، خاصة بعد موت هيدغر عام 1976، أشهر الفلاسفة الألمان المعاصرين.

        كان طبيعيا أن يبدأ في الجزء الأول من "الحقيقة والمنهج" بدراسة نتاجات التأويين الألمان الكبار مثل: فريدريش شلاير ماخر (1768-1934) وفيلهم ديلثاي (1833-1911) وأستاذيه هوسرل وهيدغر. وقد عالج غادامر نفس القضايا التي عالجها هؤلاء الكبار ولكنه وقف من آرائهم موقف الناقد. ولأن فلسفة التأويل كانت تهتم بالإجابة عن سؤالين هما: كيف نفهم النص؟ وما هو المنهج الملائم لذلك؟ فقد اهتم غادامر في هذا الجزء بكيفية معالجة هؤلاء الكبار لمشكلة "الفهم" ولمفهوم "الحقيقة" ومشكلة الوصول إليها في الفن والتاريخ والفلسفة.

        اهتم غادامر على نحو خاص بعملية "الفهم" وكيف أنه فعل تاريخي مرتبط بواقع المفسر وآفاقه المتنوعة وكذلك بدور "الأحكام المسبقة" التي لا يمكن تجنبها. فبخلاف فلاسفة عصر التنوير ومتابعته لهيدغر يرى غادامر أنه لا يمكن تجنب الأحكام المسبقة في الفهم، وأن علينا الاعتراف بأن هناك "تقاليد موروثة" مؤثرة مثل "شروط الفهم". وهذا تهتم به فلسفة التأويل عند غادامر. فمن ينكر الشروط التاريخية الضرورية للفهم فهو رأي غادامر منحاز وغير منصف. وهنا ينبغي القول بأن تأويلية غادامر تنقلب على التنوير كما قال غادامر "يرفض أن يتحول هو نفسه إلى عقيدة جامدة".

        أما دور اللغة في عملية "الفهم" فهو مركيز. فالعالم يقول "يمكن فهمه فقط عن طريق اللغة". فاللغة هي الوسيط الأوحد في الموضوع التأويلي. وعلى هذه الفكرة الرئيسية، التي يتطابق فيها مع هيدغر، يقيم غادامر مشروعه التأويلي في "الحقيقة والمنهج". وبالنسبة لغادامر فإن كل ثقافة كبرى تملك نصوصا مرجعية، تحاول بمرور الوقت أن تتأبى على التفسير، ووظيفة المفسر أن يحول ويكرر محاولة فك شفرات هذه النصوص.

        أما منهج فهم هذه النصوص -وبالتالي النصوص الأقل أهمية- فيتم لديه عبر إقامة علاقة حوارية بين ماضي وحاضر المفسر. وواجب المفسر هو محاولة الوصول إلى المعنى الأصلي المفترض الذي أنتج النص للتعبير عنه، ولا يوجد طريق غير أن يلاحق المفسر النص بالأسئلة المتتالية. فالأمر يرتبط في المهاية بالمفسر وأدواته والأسئلة التي يمكن أن يطرحها على النص. وهذه هي نقطة الضعف الرئيسية في نظرية التأويل وفي كل النظريات النقدية. وكما قال غادامر نفسه في معرض تفريقه بين الكلمة المكتوبة والكلمة المنطوقة "إن لا أحد يمكنه أن يمد العون إلى النصوص المكتوبة إن هي وقعت ضحية لسوء الفهم". فموقف المفسر وزمنه لا يمكن استبعادهما عند محاولة فهم النصوص القديمة. ومن ثم فإن محاولة إعادة بناء سياقات هذه النصوص كمدخل دقيق لفهمها -وهو ما دعانا إليه شلاير ماخر- لن تتم على نحو دقيق أو مقارب للسياقات التي انتجب خلالها هذه النصوص ومن ثم أيضا يصبح الادعاء بإمكانية فهم المعاني الحقيقية للنصوص مجرد وهم وكذلك أيضا اعتقاد دلثاي إمكانية تجاوز "الحلقة التأويلية".

        ومصطلح "الحلقة التأويلية" يعود إلى شلاير ماخر وقد شرحه غادامر بأن المفسر "يمكنه أن يفهم الكل/النص من خلال جزئياته وأن يفهم هذه الجزئيات عن طريق فهمه للكل/النص". وبذلك يجد المفسر نفسه يدور في حلقة تأيولية مغلقة. وقد اقترح كل من شلاير ماخر وديلثاي وكثيرين ممن جاء بعدهما عدة اقتراحات لتجاوز هذه الحلقة وكان أهمها: أن يبدأ المفسر بدليل ينتقل منه إلى اقتراح ثم إلى دليل فاقتراح حتى تتحقق له فكرة مسبقة عن الكل تمكنه منفهم جزئياته أو العكس.

        كان نجاح "الحقيقة والمنهج" باهرا وكان تأثيره على مجالات الفنون والفلسفة والنظرية الأدبية صاعقا، وقد حاز لصاحبه الشهرة الدولية. وبفضله دخلت فلسفة التأويل مرحلة ازدهار جديدة، مما جعل الفلاسفة والمنظرين في العالم أجمع يقرنون اسمه بها. وبقدر ما حاز من إعجاب بقدر ما أثار من المناقشات الحامية داخل ألمانيا وخارجها. وقد كان أثيره على النقد الألماني خصبا. ومن هذا تدين له "دمرسة كونستانس لجماليات التلقي" بسبب النشأة وبما كان له من تأثير على إعلامها خاصة -ولفغانغ ايزر وهانس روبرت ياوس (1921-1998). وكذلك مجموعة عمل "الشعرية والتأويل" التي ماكانت اتنشأ عام 1962 لولا إيعازه وتشجيعه.

        وما يعد لغادامر أيضا في إعادة الاكتشاف الفلسفية للخطابة التي كانت منذ العصر اليوناني وحتى القرن الثامن عشر أداة ربوية وثقافية شاملة. ولكن ومنذ ذلك الوقت وضعت في وضع ضدي أو تقابلني مع الفكر العلمي الحديث الذي اعتمد على التجريب والبرهان العقلي اليقيني. ومع الوقت تخلفت الخطابة عن ركب العلوم الإنسانية التي أصبحت تعاني لهذا السبب أكثر مما قبل.

        والخطابة ليست فقط مدرسة أو مذهبا لفن الكلام ولكن أيضا وسيلة فلسفية لبناء الفكر من خلال ممارسة علمية وعملية. وهي تعتمد على ما يسمى بالألمانية الفطنة والألمعية. وقدرة الخطابة كفن وعلم تنحصر في أنها تركز على اللحظة الآتية التي تتنوع بسبب التغير المستمر في المواقف الحياتية الملموسة تنوعا يجعلها أحيانا غير خاضعة لأي من قواعد الفهم.

        كمدرس شغوف ومحاور قديم مازال غادامر لا يكف عن السفر والتنقل وعن إلقاء محاضراته الفلسفية في حلقته الدراسية القديمة في جامعة هايدليرغ التي ابتهجت في الحادي عشر عن شباط (فبراير) الماضي وهي تحتفل ببلوغ عنيد الفلسفة الألمانية عامه المائة.


* ) باحث مصري في جامعة بامبرج في ألمانيا (عن جريدة القدس).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق